Print this page

على مفترق طرق

قيم هذا المقال
(0 صوت)
على مفترق طرق

يضع الرئيس الأميركي دونالد ترامب العالم برمّته على مفترق طرق وسط تساؤلات عما إذا كانت أوروبا قادرة على اتخاذ خط مستقلّ لنفسها عن السياسة الأميركية.

بعد مضيّ بضعة أشهر على رئاسته الولايات المتحدة، والأوامر التنفيذية التي يباهي بتوقيعها، رغم تناقضها مع كلّ المواثيق والأعراف الدولية، وضع الرئيس الأميركي دونالد ترامب العالم برمّته على مفترق طرق.

والصفّ الأول من الدول على هذا المفترق هم حلفاؤه التقليديون في أوروبا لأنّ شكل العالم وتحالفاته سيعتمدان على الموقف الذي سوف تتخذه وتستقرّ عليه هذه الدول الأوروبية. ولا شك في أن العدوان الذي شنّه الكيان الصهيوني على المواقع العسكرية السورية، وادعاءات هذا الكيان السريعة والكاذبة بأن عدوانهم كان ردّاً على هجموم إيراني، لا شك في أن هذا العدوان يهدف أولاً، وقبل كلّ شيء، لجرّ الأوروبيين إلى تبنّي بعبع الخطر الإيراني وضرورة انسياقهم وراء السيد الأميركي في انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني، وتكريس حالة سطوة القوّة الغربية.

السؤال هنا هو ما إذا كانت القيادات الأوروبية تتمتّع بالجرأة والشجاعة لتتخذ خطاً مستقلّاً في سياساتها، أم أنها لا تجرؤ إلا أن تكون تابعاً كما درجت على ذلك منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الصفّ الثاني على هذا المفترق تقف الولايات المتحدة ذاتها بحزبيها وكونغرسها الواقعين تحت ابتزاز وضغينة اللوبي الصهيوني، كما هي حال ترامب نفسه. هل سيستمرّ الأميركيون بالتزام الصمت تجاه سياساتٍ الهدف الوحيد منها هو دعم الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي، أم أن يقظةً ما ستشهدها الولايات المتحدة كي تعلن أنها دولة مستقلة عن الاحتلال الصهيوني في قرارها السياسي، وأنها قادرة على صنع قراراتها بما يتناسب ومصالح شعبها، بعيداً عمّا خطّط له الصهاينة لتحقيق أهداف الصهيونية العدوانية التوسّعية.

لقد كان لافتاً أنّ ردود الفعل الصادرة عن الكيان الصهيوني كانت احتفالية بامتياز، وصلت إلى درجة التمجيد بهذا القرار، ولم يكن خافياً على أحد أنّ الكيان الصهيوني اعتبر قرار انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني بما يناقض إرادة كلّ الأطراف الذين فاوضوا للتوصّل إلى هذا الاتفاق، اعتبر هذا القرار انتصاراً للكيان الصهيوني نفسه، ربما حتى على الذين يعتقدون أنهم يحكمون في واشنطن. وتبع هؤلاء حكّام الخليج الذين عبّروا عن ارتهانهم للإرادة الصهيونية في مناسبات سابقة، وأعادوا تأكيد ذلك بعد إعلان ترامب انسحابه. ولكن، ومقابل هؤلاء، وقفت أوروبا وروسيا والصين، والأهمّ وقفت إيران، معلنةً تمسّكها بهذا الاتفاق بكلّ حكمة ورباطة جأش من منظور مَن يرى التاريخ بماضيه ومستقبله أهمّ من حضور ترامب الطارئ على هذا التاريخ. لقد خسرت الولايات المتحدة في هذا الانسحاب قيمة دولية مهمة، ألا وهي مصداقيتها. فمن ذا الذي سيثق بعد اليوم بتوقيع الوزراء والرؤساء الأميركيين على أيّ وثيقة دولية، أو باحترام أيّ اتفاق يمكن أن يُبرَم معهم، إذا كان هذا الاتفاق الذي فاوضت من أجله ستٌ من كبرى دول العالم، وتمّت المصادقة عليه بقرار من مجلس الأمن قد تمّ التنكر له بهذه الطريقة التي لا تليق بأيّ دولة أو أيّ طرف، حتى لو كان صغيراً أو هامشياً، بينما استوعبت إيران الصدمة بسرعة مذهلة، وتصرّفت كدولة تحترم شركاءها، وتحترم توقيعها، وتحترم التزاماتها الدولية، وبهذا فقد ربحت إيران مصداقية حتى داخل الولايات المتحدة نفسها، بينما خسرت الولايات المتحدة مصداقيتها في العالم أجمع، وحتى داخل الولايات المتحدة أيضاً.

إذا استذكرنا أنّ الكيان الصهيوني هو الذي روّج للحرب على العراق، وهو الذي نشر الأكاذيب والافتراءات حول امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، إلى أن ورّط الولايات المتحدة في حرب خاسرة على كلّ الصعد، وهو ذاته اليوم الذي يروّج للأكاذيب حول سوريا وإيران، فلا شك في أن الشعب الأميركي أو بعضاً منه، على الأقلّ، بدأ برؤية خطورة هذا الكيان عليه، والسياسات التي لا ينفكّ يورّط فيها الولايات المتحدة، مرةً تلو أخرى، ولذلك فإنّي أعتقد أنّ هذا الكيان يقف على مفترق الطرق أيضاً في الولايات المتحدة الأميركية، ولن أستغرب إذا ما عبّر الشعب الأميركي في انتخاباته النصفية المقبلة عن استيائه الشديد من سياسات ترامب، وارتهانه لسياسات الكيان الصهيوني، وانسياق الصهاينة الجمهوريين وراء ترامب، واضعين بذلك خضوعهم لابتزاز اللوبي الصهيوني في درجة أعلى من مسؤولياتهم تجاه الولايات المتحدة، ومصالحها، ومصداقيتها.

في السياسة تستغرق الظواهر وقتاً حتى تنضج، وحتى يتحوّل الشعور أو الفكرة إلى عمل ملموس، ولذلك فإني أرى ما حدث في الثامن من أيار عام 2018، والتوقيع الذي فاخر به ترامب أمام كاميرات التلفاز، أراه مفترقاً خطِراً لمَن كان وراءه ولمن قام به، ومفترقاً عظيماً لمَن استوعبه، وسيطر على ردود فعله، واستمرّ في دراسة الحالة قبل أن يتخذ قراراً بالتحرّك. التحدّي الأول والأهم الذي تواجهه أوروبا اليوم هو إما أن تثبت أنّها دول مستقلّة ذات سيادة، وأنها مساهمة حقيقية وموثوقة في السياسة الدولية، وإمّا أن تبرهن للمرة الأخيرة أنها مجرّد تابع للولايات المتحدة وإسرائيل، وبهذا لن يقيم لها أحد بعد ذلك وزناً في الحسابات الدولية. القادة التاريخيون هم الذين يرَون ما الذي سيسجّله التاريخ، وليس فقط ماذا يصنع اليوم أو غداً، ولا أعلم كم من هؤلاء يقود اليوم في أوروبا أو العالم. سؤال مفتوح نترقّب الجواب عليه من خلال متابعة تداعيات مواقف الدول على قرار ترامب.

بثينة شعبان  مفكرة عربية

قراءة 1049 مرة