Print this page

الامام علي بن أبي طالب(ع) وهموم الأمة

قيم هذا المقال
(4 صوت)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحديث عن دور الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) مع الاُمة الإسلامية وعلاقته بها وحرصه على مبادئها ورسالتها لا تستطيع أن تلم به هذه المقالة القصيرة لذا حاولنا أن نقتصر على بعض نماذج من أنشطته في هذا المجال بعد العرض لصورتين: الاُولى واقع الاُمة التي عاصرها الإمام أيام الرسول(صلى الله عليه وآله)، والثانية بعده لتكونا بمثابة مقدمة يتّضح من خلالها جهد الإمام الذي سلطنا الضوء عليه من خلال طريقين، الأول الطريق النظري أي اعطاء المبادئ الكلية التي جاء من أجلها الإسلام، والطريق الثاني يمثّل واقعية تلك المبادئ وموضوعيتها في حياة الاُمة لتشكل معايير أخلاقية وسياسية واجتماعية من أجل أن تقي الاُمة من الانحراف والضياع في عصره وعلى مدى العصور التالية.

الصورة الاُولى

إنّ الذي يقرأ تاريخ الاُمة الإسلامية في عصر الرسول(صلى الله عليه وآله) تبهره أنوار الأعمال الصالحة والتضحيات الكبيرة وما حدث من تطوّر كبير في مجال الفكرة والسلوك وفي مجال الجهاد والتضحية والايثار. لقد اقتدت الاُمة برسول الله(صلى الله عليه وآله)وعاشت معه وهو الأكمل في تاريخ الإنسانية ـ كما نعتقد ـ. ولقد اكتسبت عن طريق هذا القائد الربّاني درجة عالية من الطاقة الإلهية حتى صنعت المعاجز والبطولات عبر التضحيات التي لم يحدثنا التاريخ بمثلها قط. حتّى قال تعالى في حقهم: (أشدّاء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل...)(1).

وقال عنهم أمير المؤمنين(عليه السلام) :

((لقد كنا مع رسول الله نقتل آبائنا وابنائنا واخواننا، واعمامنا، مايزيدنا إلاّ ايماناً وتسليماً ومضيّاً على اللقم(2)، وصبراً على مضض الألم وجدّاً في جهاد العدو .فلما رأى صدقنا أنزل بعدونا الكبت(3) وأنزل علينا النصر حتى استقرّ الإسلام ملقياً جرّانه(4) ومتبوّءاً أوطانه. ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود ولا أضمر للإيمان عود)) (5).

وقال(عليه السلام) يصفهم ويذكر بعظمة منزلتهم ويأسف على فقدهم:

((لقد رأيت أصحاب محمد ما أرى أحداً يشبههم منكم. لقد كانوا يصبحون شعثاً غُبراً وقد باتوا سجّداً وقياماً بين جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم)) (6).

وقال وهو يتحرق شوقاً اليهم:

((أين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ واين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من اخوانهم الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبروا الفرض فأقاموه أحيوا السنة وأماتوا البدعة، دعوا الى الجهاد فأجابوا ووثقوا بالقائد فاتّبعوه)) (7).

هذه صورة الاُمة مع رسول الله كما وصفها أخوه أمير المؤمنين، ولكن يحدثنا التاريخ عن صورة ثانية بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) سوف نطالعها فيما سيأتي.

الصورة الثانية

المتتبع لحياة الاُمة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) يلاحظ أنها بدأت تفقد جذوتها ولهيبها الإيماني وأخذت تنحدر تدريجياً حتى بدأت تدب الى السطح مظاهر جديدة لم تكن مألوفة فى السابق من خصومات واضطرابات سياسية وادارية مما أفقد الاُمة ارادتها فلم تقف أمام تلك المظاهر الدخيلة في جسم الاُمة موقف المسؤول، فتجرأ معاوية حتى قال بمنطقه القبلي بخصوص المسلمين من غير العرب .

إنّ هذه الحمراء ـ يقصد الموالي الذين أسلموا حديثاً ـ وقد كثرت وكأني أنظر الى وثبة منهم على العرب والسلطان، فقد رأيت أن أقتل شطراً وأدع شطراً لإقامه السوق وعمارة الطريق... ثم عدل عن ذلك ، وانطلاقاً من الشعور بالفوقية كان الاُمويون لم يسمحوا للموالي بركوب الخيل في الحرب معهم وكانت رواتبهم دون ما يأخذ الخيالة العرب(8).

وأخذ هذا المنطق ينخر في جسم المجتمع الإسلامي ويأكله من الداخل، فقد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) آنذاك في مواجهته لهذا المنطق الجاهلي شديداً، وإنطلاقاً من أثره البالغ في حياه الاُمة وما يحدثه من فجوة بين النظرية والتطبيق نجده مراقباً حذراً لكل ما لاح ممّا يذكر بهذه العصبية، فحينما اختصم رجلان واحد من المهاجرين والآخر من الأنصار فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: ياللأنصار، قال النبي(صلى الله عليه وآله) : يا معشر المسلمين الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله الى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من لكفر وألف به بينكم ترجعون الى ما كنتم عليه كفاراً فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان..(9) وغضب لذلك غضباً شديداً.

ولهذا يشير طه حسين في حديثه عن تلك الفترة ، وعن معاوية على وجه الخصوص بقوله:

إنّ عمرو بن العاص ألحّ على معاوية لكي يخلي بين أصحاب علي وبين الماء حين منعه عليهم في صفين، ولكن عصبية بني اُمية غلبت مشورة أصحاب الرأي وانقاد معاوية لهذه العصبية(10).

وأكد سيد قطب هذا المعنى بقوله:

مضى عثمان الى رحمة الله وقد خلّف الدولة الاُموية قائمة بالفعل بفضل ما مكّن لها في الأرض وبخاصة في الشام وبفضل ما مكّن للمبادئ الاُموية المجافية لروح الإسلام من إقامة الملك الوراثي والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع ممّا أحدث خلخلة في الروح الإسلامي العام(11).

والغريب أنّ الاُمة قد عاشت إحياء القيم الجاهلية وحاكميتها ، حتّى أدى النهج الاُموي الى اقصاء جميع الذين حاربوا بني اُمية الى جانب النبي(صلى الله عليه وآله) عندما كانوا مشركين وأبرزهم الأنصار، ولهذا يقول ابن خلدون : كانت عصبية قريش في اُمية.

فالملاحظ للتشكيلة السياسية الاُموية أنّها قد كرّست الإمرة بيد الاُمويين ، فمعاوية كان والياً على دمشق وحمص والاردن ، وغدت الكوفة تحت إمرة الوليد بن عقبة الاُموي أيضاً، كما ولّي البصرة عبدالله بن عامر الاُموي، وولي مصر عبدالله بن أبي سرح الاُموي المهدور الدم من قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله).

في الوقت الذي يُهمل فيه المهاجرون والأنصار وهم أصحاب التضحيات عن تلك المواقع، والمثير في المسألة نجد سعيد بن العاص الاُموي الذي عيّن كأمير للكوفة بدلاً من الوليد بن عقبة السكران في صلاة الجماعة الذي اُقيم عليه الحد بسببها، يردّ على مالك الأشتر المعترض على سياستهم بخصوص العراق قائلاً: إنّما هذا السواد بستان قريش(12).

وإنطلاقاً من تلك الروح وهذا النهج الجديد نرى أن الغنائم التي بلغت ألفي دينار في غزوه افريقيا سنة 27 هجرية تعطى كلّها لمروان(13) . واستشرت تلك الظاهرة في كيان الاُمة، حتى بنى الزبير بن العوام عدة دور في البصرة ومصر والكوفة والاسكندرية وبلغ ماله حينذاك خمسة آلاف دينار، وخلّف ألف فرس وألف عبد وأَمَة، وكذلك هو الآخر طلحة بن عبيدالله التميمي الذي كانت غلّته من العراق في كل يوم ألف دينار وقيل أكثر ، أما عبدالرحمن بن عوف فقد ملك مائة فرس وألف بعير وعشرة آلاف شاة، وهكذا سعد بن أبي وقّاص وزيد بن ثابت الذي خلّف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس ومن الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار، فشكّل الاستئثار بالأموال ظاهرة مألوفة في حياة الاُمة. وهذا ما يؤكد عودة الجاهلية وقيَمِها حتى صرّح معاوية يوماً بأنه وكيل لله في ماله(14).

على أية حال فلو وقفنا مرة اُخرى على سبب العداء للإمام علي(عليه السلام) ، لظهر من أنه كان ناشئاً من جذور قبلية جاهلية، إذ بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بايعه المسلمون إلاّ أن البعض منهم كمروان بن الحكم وسعيد بن العاص والوليد بن عتبة، امتنعوا عن البيعة بدافع العصبية باعتبار أن آباءهم في الجاهلية قد قتلوا بسيف الإمام علي بن أبي طالب في جهاده مع رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقد عبّر الوليد للإمام قائلاً: يا أبا الحسن إنّك قد وترتنا جميعاً، أمّا أنا فقتلت أبي يوم بدر صبراً وخذلت أخي يوم الدار بالأمس ، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب ، وأما مروان سخّفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه(15).

هذه بعض مظاهر الفساد في تلك الفترة، لنلاحظ نهج الإمام علي(عليه السلام) وسيرته مع الاُمة ومخططه الذي أراد من خلاله أن يعيد للاُمة دورها المنشود ويعالج في حياتها المظاهر الطارئة عليها لتكون حياتها بعد الرسالة امتداداً لما كانت عليه في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لذا حرص كل الحرص وجاهد بقوة لحفظ كيانها وهويتها، ولترفض بالتالي كل مظاهر الفساد والانحراف الجاهلي، انطلاقاً من عدّة خطوات تبيّن اهتمامه بشؤون الاُمة وقضاياها اجتماعياً، وبالتالي غرسه للقيم والمبادئ التي خطّها صاحب الرسالة(صلى الله عليه وآله)، في طريقين:

الطريق النظري:

سعى الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) ضمن خطّه النظري لحماية مبادئ الاُمة، لئلا تتعرض للتحريف والتضييع ، فأخذ يخط لها تلك المبادئ في حياتها ويعمّق ما جاء به النبي(صلى الله عليه وآله) ، ويذكّرها بماضيها الأصيل يغذّي قيمها بأساليب متعددة، فمرّة عبر تفسير القرآن الكريم، ومرّة بدعاء واُخرى بخطبة، وثالثة برسالة منتقداً الحالة غير السليمة تحسّباً لخطرها وتفاقمها ، واُخرى مرشداً للسلوك، وما الى ذلك من تنبيهاته وارشاداته الإلهية العملاقة ، نذكر على سبيل الاختصار صوراً منها لتبيّن لنا وضوح مواقفه العملية التي جاءت منسجمة مع ما كان يدعو إليه.

لقد وضّح الإمام(عليه السلام) مسألة المساواة في المنطق الإسلامي، قائلاً لطلحة والزبير اللذين اعترضا عليه، حينما ساوى في العطاء :

((قديماً سبق الى الإسلام قوم نصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضلهم رسول الله في القسم ولا أثرهم في السبق ... الى أن قال : وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلاّ هذا)) (16)..

كما لم يفصل الإمام علي(عليه السلام) بين سلوك الإنسان وانشطته الاجتماعية والسياسية عن قاعدتها الأخلاقية حيث يقول:

((إياك والمنّ على رعيتك باحسانك أو التزيّد فيما كان من فعلك ، أو أن تعهدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الاحسان والتزيّد يذهب بنوع الحق والخلف يوجب المقت))(17).

ووضع القاعدة الأخلاقية كمنطلق لنشاط المسلم لتعم مسؤولياته المخلوقات الاُخرى فقال له(عليه السلام):

((اتّقوا الله في عباده ، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم))(18).

ولم يسمح الإمام(عليه السلام) بأن تقتصر العلاقات مع ذوي الجاه والمال والحسب بقوله(عليه السلام): ((إلزموا السواد الأعظم)) (19).

كما أشار (عليه السلام) الى المستوى العاطفي عند أداء المسؤولية مع الاُمة بقوله(عليه السلام):

((تفقّد اُمورهم ـ أي الاُمة ـ ما يتفقد الوالدان من ولدهما)).

وقال: ((واعط ما أعطيت هنيئاً، وأمنع في إجمال واعذار)) (20).

ثم أسس(عليه السلام) لمسألة حماية الاُمة والشريعة حتى للفرد الذي أساء إليها وتعرّض لاقامة الحد مثلاً ليعطي بذلك صورة المجتمع الإسلامي ومسؤولياته الإلهية التي تنطلق من روح عالية لا تفرّط بالانسان وتبتغي إصلاحه لتعيد في نفسه الثقة ولا تعمد الى اخراجه من حظيرة الإيمان ، فأشار الى ذلك بقوله(عليه السلام) :

((وقد علمتم أن رسول الله رجم الزاني المحصن ، ثم حمل عليه ورثة أهله وقطع السارق وجلد الزاني غير المحصن ، ثم قسم عليهما الفيء، ونكحا المسلمات فأخذهم الرسول بذنوبهم وأقام الله فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج اسمائهم من بين أهله)) (21).

وفي نفس الاتجاه نبّه الاُمة الى حماية الآخرين من أهل الكتاب الذين عاشوا مع الاُمة قائلاً :

((دم الذمي كدم المسلم حرام)) (22).

ولازلنا مع الإمام في خطه النظري من أجل رفع وعي الاُمة وتثقيفها وحمايتها عن طريق عرض وإحياء قيم السماء في مشاعرها ، ومن ذلك المجال القانوني حتى قال لمالك الأشتر: «إن ظنّت الرعية فيك حيفاً فاصحر لهم بعذرك ـ بمعنى كن على أمر واضح لا غموض فيه وبيّن لهم أسباب فعلك والدواعي التي ساقتك إليه ـ باصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك ورفقاً برعيتك واعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويهم على الحق»(23).

ولا نريد أن نستقصي كامل مخطط الإمام النظري وتحقيقه العدالة في هذا المجال، لذا نكتفي بقوله المشهور:

((أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألاّ يقاروا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز))(24).

الطريق العملي

قدّم الإمام(عليه السلام) نظريته الاصلاحية للاُمة بقالبها العملي حيث لم يطرحها معلقة في عالم المفاهيم الذهنية فقط بحيث لا تكون لها صلة بالواقع وإنّما دمج (عليه السلام) النظرية بالتطبيق وحرص بأن تكون اُطروحته التربوية بعيدة المدى كاملة الأبعاد، فقد رسم للاُمة المعاصرة له وللأجيال المقبلة معالم عملية تتمتع بصورة حية ترجع إليها الاُمة ، وبالتالي تكون حاكمة تسقط ما حولها من ممارسات دخيلة على الرسالة وتستهدف حياتها لذا تعددت خطواته في هذا الميدان، فطبّق المساواة بين السيد والعبد ، والعربي والأعجمي، حتى قال أحدهم: (لقد سويت بيننا وبين من لا يماثلنا). وقال الآخر: (فلمّا بلغ منا ما أراد، جعل ـ أي الإمام ـ فوقنا من كنّا فوقه)(25)

وحاول الإمام(عليه السلام) أن يشرك الاُمة في مسؤولية الحكم والقيادة ، وباقي المسؤوليات لتكون بمستوى المسؤولية وبالتالي لتقوى على حمل الأمانة والقيمومة على باقي الاُمم وان لا تستجيب لإرادة الظالمين وشهوات المستبدين، فقد روي أنّه أول من اتّخذ بيتاً لسماع مشاكل الناس ـ كما يقول ابن سيرين: اتّخذ عليّ بيتاً يلقى فيه القِصص، حتى كتبوا شتمه فألقوه فيه فتركه وكان هذا البيت معد لمعرفة الظلامات التي تقدم فيه(26).

وقال(عليه السلام): ((من كانت لـه إليَّ منكم حاجة فليرفعها في كتاب لأصون وجوهكم عن المسألة)) (27).

ومنها طرح طريقته في التعامل مع بيت المال، ذات البعد الإلهي فقال أحدهم: (رأيت عليّاً دخل بيت المال فرأى فيه مالاً فقال هذا هاهنا والناس يحتاجون؟ فأمر به فقسم بين الناس فأمر بالبيت فكنس وصلى فيه)(28).

وهكذا أخذ يُبيّن المعالم القانونية والاجرائية التي تساهم في اعادة ثقة الاُمة بالإسلام والاعتزاز بمبادئها وتاريخها قائلاً: لأحد الولاة حينما جاء الى الإمام بجراب فيه مال، فقال: يا أمير المؤمنين إن قوماً كانوا يهدون لي حتى اجتمع منه مال فها هو ذا، فإن كان لي حلالاً أكلته وإن كان غير ذاك فقد أتيتك به، فقال علي(عليه السلام):

((لو امسكته لكان غلولاً فقبضه(عليه السلام) وجعله في بيت المال))(29).

ومن تلك الصور التي حدد فيها الإمام(عليه السلام) تلك الأحكام المالية وصلاحيات الحاكم الإسلامي ، وأثّر ذلك في بناء الاُمة ومعرفة حقوقها، أنه جلس ذات يوم وهو يقسّم مالاً بين المسلمين، فوقف أمامه شيخ كبير فقال : يا أمير المؤمنين إنّي شيخ كبير كما ترى وأنا مكاتب فأعنّي من هذا المال فقال والله : ما هو بكد يدي ولا تراثي من الوالد، ولكنها أمانة أرعيتها فأنا أودّيها الى أهلها ، ولكن أجلس فجلس. والناس حول أمير المؤمنين فنظر إليهم فقال: رحم الله من أعان شيخاً كبيراً منشغلاً فجعل الناس يعطونه.(30).

ويروى عنه(عليه السلام) انّه حمل ذات يوماً قوصرة تمر وجراب دقيق وشيئاً من الشحم والارز والخبز على كتفه، الى امرأة مسكينة فلماوصل باب المرأة استأذن عليها، فأذنت له في الدخول فأرمى شيئاً من الارز في القدر ومعه شيئاً من الشحم فلما فرغ من نضحِه عرّفه للصغار وأمرهم يأكلوا فلما شبعوا أخذ يطوف بالبيت ويبعبع لهم فأخذوا في الضحك.

فلما خرج ، قال له قنبر: يا مولاي رأيت الليلة شيئا عجباً، قد علمت سبب بعضه هو حملك للزاد طلباً للثواب، أما طوافك بالبيت على يديك ورجليك والبعبعة فما أدري سبب ذلك؟ فقال: يا قنبر اني دخلت على هؤلاء الأطفال وهم يبكون من شدة الجوع، فأحببت أن أفرج عنهم وهم يضحكون مع الشبع فلم أجد سوى ما فعلت(31)

نكتفي بهذا القدر الملخّص عن أنشطة الإمام وأدواره الاجتماعية التي لا تنفصل عن أنشطته الاُخرى في مجال حماية القرآن والسنّة، وأساليبه التي انتهلها من النبي ا لكريم(صلى الله عليه وآله)... وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين

 

الهوامش

(1) الفتح: 48.

(2) اللقم: معظم الطريق أو جادته.

(3) الكبت: الاذلال.

(4) القاء الجران: كناية عن التمكّن.

(5) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 91 ـ 92 .

(6) المصدر السابق: 97 ـ 143 .

(7) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 182 ـ 264 .

(8) تاريخ اليعقوبي: 2/150.

(9) جامع البيان، ابن جرير الطبري: 4/33 .

(10) الفتنة الكبرى: 889 .

(11) العدالة الاجتماعية ، سيد قطب: 217 ط 6 سنة 1979 .

(12) تاريخ الطبري : 4 / فقرة 2916 .

(13) تاريخ الطبري: 2/165.

(14) الإسلام وفلسفة الحكم ، محمد عمارة: 107 .

(15) شرحه نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 7/38 .

(16) نهج البلاغة: 7/37 .

(17) نهج البلاغة، الرسالة: 53 .

(18) نهج البلاغة، الخطبة : 167 .

(19) لنهج البلاغة، الخطبة 167 .

(20) نهج البلاغة، الرسالة: 53.

(21) نهج البلاغة، الرسالة: 53 .

(22) روح الاسلام، سيد أمير علي: 257 .

(23) نهج البلاغة، الخطبة : 53.

(24) نهج البلاغة، الخطبة : 3 .

(25) نهج البلاغة: 7/42.

(26) الأوائل لأبي هلال: 142 .

(27) العقد الفريد: 1/203.

(28) أنساب الأشراف: 2/371.

(29) أخبار القضاة: 1/59.

(30) دعائم الإسلام: 2/31.

(31) كشف اليقين: 136.

قراءة 7758 مرة