Print this page

غزوة تبوك واستخلاف الإمام علي (ع) في المدينة(29 / رجب/ السنة 9 هـ)

قيم هذا المقال
(0 صوت)
غزوة تبوك واستخلاف الإمام علي (ع) في المدينة(29 / رجب/ السنة 9 هـ)

لقد كان لانتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية، وفتوحات المسلمين المشرقة في الحجاز صداه في خارج الحجاز، وكان ذلك يُرعب الأعداء، ويدفعهم إلى التفكير في حيلة.

وهذا ما دفع إمبراطور الروم إلى أن يحشد جموعاً كبيرة، ويتهيأ بكل ما أوتي من قوة لمهاجمة المسلمين وغزوهم بغتة، ليحدّ من انتشار الإسلام، ومن قوته التي أخذت تتعاظم، ومن انتشار نفوذه السياسي، الذي بات يزلزل سلطانه.

فحشد ما يقارب أربعين ألف فارس وراجل، وكان مجهّزاً بأحدث الأسلحة والتجهيزات، وقد استقرّ على الشريط الحدودي لأرض الشام([1])، في منطقة (تبوك)، التحقت به قبائل عديدة تسكن الحدود مثل قبيلة (لخم) و(عاملة) و(غسان) و(جذام)، وتقدمت طلائع ذلك الجيش حتى منطقة (البلقاء).

ولما حملت الأنباء هذا الخبر إلى النبي (ص) أمر أصحابه بالتهيؤ لغزوهم، فجهّز جيشه وعسكر في (ثنية الوداع)، وكان يتألف من عشرة آلاف فارس، وعشرين ألف راجل، وقد أمر رسول الله (ص)  أن تتخذ كل قبيلة راية لنفسها([2]).

المتخلفون عن القتال:

تخلّف البعض عن المشاركة في هذه الغزوة، فمنهم الجدّ بن قيس - وكان من الشخصيات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة - حيث قال (ص)  له: يا أبا وهب هل لك العام تخرج معنا؟

فقال: يا رسول الله أو تأذن لي، ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما أحدٌ أشدُّ عجباً بالنساء مني، وإني لأخشى أن رأيتُ بنات بني الأصفر (الروم) لا أصبرُ عليهنَّ. فأعرضَ عنه رسول الله(ص)  بعد أن سمع منه ذلك العذر الصبياني، وقد نزل فيه قول الله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ»([3])، كما تخلّف عن النبي ثلاثة حتى يفرغوا من القطاف والحصاد، ثم يلتحقوا به، فوبّخهم القرآن.

وتخلّف جماعة ممن تظاهروا بالإسلام والإيمان، فأخذوا يثبّطون الناس عن رسول الله(ص) ، وقالوا لهم: يغزو محمدٌ بني الأصفر مع جهد الحال والحرّ، والبلد البعيد إلى ما لا قِبَل له به، يحسب محمدٌ أن قتال بني الأصفر اللعب، فنزل قوله تعالى: «وقالوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»  ([4]).

وعلى إثر هذه الأحداث التي أوجدها المنافقون اكتشف النبي (ص)  شبكة جاسوسية في المدينة تجلس في بيت (سويلم اليهودي) ويحيكون المؤامرات ليثبطوا المسلمين، فبعث إليهم من أحرق الدار عليهم فلاذوا بالفرار.

ومن جانب آخر أتى رجال إلى النبي (ص)  يرغبون في الخروج مع رسول الله، وطلبوا منه ما يحملهم عليه من دابّة، فقد كانوا أهل حاجة فقراء، فقال لهم: لا أجد ما أحملكم عليه. فتولوا وهم يبكون لعدم تمكنهم من المشاركة في الغزو مع النبي (ص) ، ونزل فيهم قوله تعالى:« وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ»  ([5]).

استخلاف الإمام علي (ع) في المدينة

لم يغزو النبي (ص)  غزواً إلاّ كان علي(ع) معه وحامل لوائه، غير أن النبي(ص)  في هذه المرة منع علياً من الخروج من المدينة معه، لأنه (ص)  كان يدرك جيداً أن المنافقين والمتربصين والمتحينين الفرص من رجال قريش سيستغلون فرصة غيبة النبي القائد عن المدينة فيثيرون فيها فتنة، ويجهزون على الحكومة الإسلامية الفتية بانقلاب أو ما شابه ذلك، وأن هذه الفرصة إنما تسنح لهم إذا قصد رسول الله(ص)  مكاناً نائياً، وانقطع ارتباطه بالمدينة، ولقد كانت تبوك أبعد نقطة يخرج إليها النبي (ص)  من جميع غزواته، فخوفاً من أن يقلبوا الأوضاع في غيابه ترك فيها علياً، على الرغم من أنه استخلف على المدينة (محمد بن مَسْلَمة)، حيث قال لعلي: «أنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي، يا علي إن المدنية لا تصلح إلاّ بي وبك»([6]).

ولقد استاء المنافقون من إبقاء علي(ع)  في المدينة، وحاولوا بثّ الدعايات والشائعات الخبيثة بغية تحريض علي(ع)  على الخروج من المدينة والالتحاق بالنبي (ص) ، فقالوا: ما خلّف رسول الله علياً إلا استثقالاً له وتخفيفاً منه، أو أنه دعاه إلى الخروج لتبوك، ولكن علياً امتنع من الخروج بحجة الحر الشديد، وبُعد الطريق، وإيثاراً للدعة والراحة والرفاهية، أو أنه خلفه مع النساء والأطفال.

ولإبطال مثل هذه الشائعات توجّه علي(ع)  إلى النبي(ص)  وقال له: يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلّفتني أنك استثقلتني، أو تخففت مني، أو خلفتني مع النساء والأطفال. فقال له النبي(ص): كذبوا، ولكنني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي - أو قال له: لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي([7]).

النبي (ص)  في طريقه إلى تبوك:

تحرك النبي (ص)  من معسكره إلى تبوك، وفي طريقه راسل كلاً من قبيلة تميم، وغطفان وطي، التي كانت تسكن في مناطق بعيدة عن المدينة، بغية الاشتراك في هذا الغزو الاستثنائي، وقد استجاب لدعوته الكثير من الفدائيين الغيارى.

وقد واجه جيش الإسلام في طريقه إلى تبوك مصاعب كثيرة، ومشاقاً بليغة حيث الرياح الشديدة والسامّة، والعواصف القوية بحيث ربما تحتمل البعير بصاحبه، وتلقيه في واد آخر، ولهذا فكان النبي (ص)  قد نبههم بعقل آبالهم، وأن لا يخرج أحد منهم في تلك الليلة وحده من خبائه.

كما أن الجيش واجه في الطريق أزمة العطش، وعدم وجود الماء حتى حمل ذلك البعض على نحر إبلهم ليشقوا أكراشها، ويشربوا ماءها، بينما صبر آخرون.

ولم يدم صبرهم طويلاً حتى أغاثهم الله تعالى بسحابة ممطرة، أروت جيش الإسلام، واحتملوا ما يحتاجون إليه.

حلّ جيش الإسلام في أرض تبوك في غرة شعبان في السنة التاسعة للهجرة، ولكن لم يرَ أثراً لجيش الروم، وكأن جيش الروم لما علموا بكثرة جنود الإسلام، وكانوا قد سمعوا عن شجاعتهم وتضحياتهم الفريدة، رأوا أنه من صالحهم الانسحاب، وعدم دخول حرب قد تكسر شوكتهم وكبريائهم وعظمتهم([8]).

وهنا كان النبي (ص)  أمام خيارين، فإما أن يقفل راجعاً إلى المدينة، وكأنّ شيئاً لم يقع، وإمّا أن يهاجم الروم عبر الدخول في أراضي الشام، فاستشار النبي (ص)  أصحابه، فقالوا: إن كنت أُمرت بالسير فسر، فقال (ص) : لو أمرتُ به ما استشرتكم فيه. فأشاروا عليه بالرجوع إلى المدينة، فقبل النبي اقتراحهم وأقفل راجعاً بجيشه([9]).

قطاف غزوة تبوك:

هب أن هذا المسير الطويل لم ينتج غزواً ولا فتحاً، ولكن كانت له قطاف مهمة جداً، وإليك بعضها:

أولاً: كانت هناك قبائل من النصارى كأيلة، وأذرح والجرباء ودومة الجندل، وكان من المحتمل أن يستغل الروم قواهم ضد الإسلام، ويحملوا بمساعدتهم على الحجاز، فعقد النبي أثناء رجوعه من تبوك معاهدة عدم اعتداء، وأن لا يعينوا على المسلمين أحداً، فحصل النبي (ص)  على أمن واسع على الحجاز من الحدود الشامية.

ثانياً: ارتقاء سمعة الجيش الإسلامي، وازدياد عظمته في قلوب سكان الحجاز، وعرف الصديق والعدو أن المقدرة العسكرية الإسلامية بلغت من القوة والعظمة بحيث أصبح بمقدورها أن تواجه أكبر القوى في العالم، وهذا ما أدّى أن يتخلّى الكثير من القبائل عن التفكير في التمرد والطغيان.

ثالثاً: كان هذا السفر بمثابة التمهيد لفتح الشام، فقد تعرّف قادة هذا الجيش طرق هذه المنطقة ومشاكلها، وتعلموا كيفية تجييش الجيوش الكبرى في وجه القوى العظمى، ولعله لذلك، كانت الشام أول منطقة فتحها المسلمون بعد وفاة النبي(ص) .

المنافقون يخططون لاغتيال النبي(ص) :

لدى عودة النبي(ص)  إلى المدينة تآمر (12منافقاً) منهم ثمانية من قريش، والباقي من المدينة لاغتيال رسول الله (ص)  في أثناء الطريق، وذلك بتنفير ناقته ليطرحوه في واد كان هناك، حيث كان بين الشام والمدينة عقبة لما وصل الجيش إليها قال لهم النبي (ص): من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم، فأخذ الناس بطن الوادي، بينما
أخذ (ص)  طريق العقبة، فيما يسوق (حذيفة بن اليمان) ناقة النبي، ويقودها (عمار بن ياسر) فبينما هم يسيرون إذ التفت النبي إلى خلفه، فرأى في ضوء ليلة مقمرة فرساناً ملثمين لحقوا به من ورائه لينفروا به ناقته، وهم يتخافتون، فغضب النبي (ص) ، وصاح بهم، وقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم. فأرعبوا وهربوا وخالطوا الناس كيما يعرفوا.

يقول حذيفة: فعرفتهم برواحلهم، وذكرتهم للنبي (ص) ، وقلت: يا رسول الله ألا تبعث إليهم لتقتلهم. فأجابه: إن الله أمرني أن أعرض عنهم، وأكره أن يقول الناس إن محمداً دعا أناساً من قومه وأصحابه إلى دينه، فاستجابوا له، فقاتل بهم حتى ظهر على عدوّه، ثم أقبل عليهم فقتلهم، ولكن دعهم يا حذيفة فإن الله لهم بالمرصاد([10]).

هذا وقد منع النبي (ص)  حذيفة من إذاعة أسمائهم، والعجيب أن عمر بن الخطاب كان يكرر على حذيفة قوله: أقسمت عليك بالله أأنا منهم؟([11]).

 

 

 

([1]) حيث كانت تحت سيطرة إمبراطورية الروم.

([2]) السيرة لابن هشام 2: 515-517.

([3]) سورة التوبة: الآية 49.

([4]) سورة التوبة: الآيتين81 و82.

([5]) سورة التوبة: الآية 92.

([6]) بحار الأنوار 21: 207، والسيرة النبوية لابن هشام 2: 520.

([7]) مسند أحمد 1: 709/3062، والسنن الكبرى للنسائي 5: 119 ح8429، وغيرهما كثير.

([8]) المغازي للواقدي 3: 1019.

([9]) السيرة الحلبية 3: 142.

([10]) المغازي للواقدي 3: 1042-1045، وعنه في إمتاع الأسماع 1: 477.

([11]) السيرة النبوية لابن كثير 4: 34، وشرح النهج لابن أبي الحديد 6/ باب 83/385.

قراءة 3966 مرة