Print this page

الأوروبيون والاتفاق النووي.. انعدام قدرة أم انعدام رغبة؟

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الأوروبيون والاتفاق النووي.. انعدام قدرة أم انعدام رغبة؟

نور الدين اسكندر

في المقابل، يبدو الوقت عامِلاً مُحايداً في هذه المسألة، فهو مثلما يلحّ على طهران، يُلحّ بالمِثل على باريس ولندن وبرلين وواشنطن وغيرها. بل إنه يمكن أن يكون أكثر إلحاحاً على الدول الغربية، نظراً للفروقات في طبيعة الأنظمة السياسية بين إيران وبينهم.

 

من لقاء سابق بين روحاني وماكرون

تبدو الصورة المُستجدّة لتطوّرات الاتفاق النووي الإيراني أكثر وضوحاً منها خلال الأشهر الماضية، ويعود هذا الوضوح المُتزايد إلى الموقف الأوروبي من التطوّرات الأخيرة تحديداً. ففي وقتٍ سابقٍ كان تحليل الموقف الأوروبي يُعيد الازدواجية بين الموقفين الأوروبي والأميركي إلى ضعف الأوروبيين وعدم قدرتهم على مواجهة الخيارات الأميركية واندفاعة ترامب الجنونية. لكن نقاطاً عديدة تكشّفت خلال الأسابيع الأخيرة توضح أن الأوروبيين ليسوا غير قادرين على التأثير بقدر ما هم غير راغبين بتغيير الموقف الأميركي من الاتفاق، وأن كل دورهم في العملية الجارية يتلخّص بتكتيف إيران عبر التزاماتها في الاتفاق النووي ومنعها من ردود فعلٍ موجِعة لأميركا، وفي المقابل تتابع العقوبات الأميركية خنقها رويداً رويداً، طمعاً بتقويض سلطة القيادة الإيرانية على الإمساك بالحُكم، وبالتالي انفجار الفوضى المُدمِّرة للبلاد، تمهيداً لتطبيق الرؤية الواسعة بخصوص مشروع كوشنر للشرق الأوسط، وعنوانه الأول تصفية القضية الفلسطينية والقضاء على حقوق العرب في صراعهم التاريخي مع العدو الإسرائيلي.

لقد بدا في السابق أن الدول الأوروبية كانت عاجزةً عن تنفيذ التزاماتها في الاتفاق النووي مع إيران، وأنها كانت تُراهِن على أن يؤدّي عدم انخراطها مع ترامب في معسكر الحرب، إلى إيجاد مخرج بين أميركا وإيران. لكن هذا المخرج لم يتحقّق، فيما تصرّ إيران على إلزام الأوروبيين بما يخصّهم هم من الاتفاق، وهي لم تطالبهم بدور معيّن لإقناع ترامب أو ثنيه عن موقفه تجاهها. بل بتنفيذ تعهّداتهم بشراء النفط منها، وآلية للتبادلات المالية، وهم الذين سارعوا بشراهةٍ للاستثمار فيها يوم أعلن عن الاتفاق عام 2015، حيث فتحت لهم إيران أبوابها ورحّبت بشركاتهم التي وصل حجم استثماراتها المُعلنة عشرات مليارات الدولارات التي كانت ستغيّر بالتأكيد من حال معظم دول أوروبا المُتأزّمة اقتصادياً، والتي يخرج مواطنوها إلى الشارع مُطالبين بفُرَصِ عملٍ وتقديماتٍ اجتماعيةٍ، وأبعد من ذلك، مُطالبين باستقلالية دولهم في قراراتها السيادية المُترجمة بمعاهداتٍ اقتصاديةٍ هدفها المواطن الأوروبي وليس الأفكار الأيديولوجية التي تتوالى على البيت الأبيض.

ومع اتّضاح الموقف الأوروبي اليوم، يتزايد الضخّ الإعلامي في وسائل الإعلام الأوروبية ضدّ إيران، الذي يتضمَّن مُغالطاتٍ حادّة تعبّر عن بروباغندا مُنظّمة تستهدف تغيير الحقائق ووضع طهران في موقف الخارج عن القانون، فيما الحقيقة تقول عكس ذلك تماماً.

تقوم البروباغندا الجديدة على ترويج أن تجاوز إيران للتخصيب بنسبة 3،67 % يُعدّ خروجاً عن القانون الدولي وكأن إيران أصبحت كياناً سياسياً يعيش خارج القوانين التي تحكم علاقات الدول، وأنها تعمل على بناء مشروع نووي مُتفلِّت من كل الضوابط والقيود. فيما الحقيقة تقول أن إيران قامت حتى الآن بتخفيف التزامها بالاتفاق بخطوةٍ واحدةٍ فقط، بينما هي ملتزمة ببقية النقاط. وحين فعلت إيران ذلك، قامت القيامة في أميركا والآن في أوروبا، وأدان ماكرون الخطوة، فيما عبّر قادة دول أوروبية آخرين عن قلقهم منها ودعوا إيران إلى العودة عنها.

وفي المقابل، لم يظهر الأوروبيون الموقف نفسه من الولايات المتحدة الأميركية التي خرجت من الاتفاق برمّته، وتسبّبت بتوتّراتٍ إقليمية ومُخاطرة بالأمنين الإقليمي والدولي. وهذا الخروج الأميركي هو المُسبِّب الأول لكل الحال الراهنة التي يحدث الجدل حولها الآن. وبالتالي فإن موقف أميركا هو الذي يجب أن يُشار إليه على أنه تراجُع عن التزامات صدرت بقرارٍ أممي واكتسبت قوّة القانون الدولي، وقد أراحت الأجواء في المنطقة حين أعلنت.

لكن المُغالطة الأكبر تخفي حقيقة أن إيران لم تخرج من الاتفاق حتى، بل تحاول إعادة الآخرين إليه، وإلزامهم بتنفيذ ما ألزموا أنفسهم به في الاتفاق. والأهم من ذلك أنه حتى لو خرجت إيران نهائياً من الاتفاق النووي فهي مُلتزمة بمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، وهذه ناحية يتمّ التعتيم عليها في الإعلام الغربي الموجّه للتعتيم على التزام إيران بالقانون الدولي، فيما يتلذَّذ ترامب بالانسحاب من المُعاهدات الدولية الواحدة تلو الأخرى، وليس مع إيران فقط، بل مع روسيا ومع ما يُسمَّى بالمجتمع الدولي برمَّته، ومنها على سبيل المثال معاهدة الحدّ من الأسلحة الاستراتيجية التي وقّعت لتخفيف التوتّر ومَنْع العودة إلى سباق التسلّح بين القوى العالمية الكبرى، وهي مُعاهدات فائِقة الأهمية للأمن والسلم الدوليين.

وتثير دوافِع الأوروبيين لعدم الالتزام بتعهّداتهم تجاه الاتفاق مع إيران الريبة من المصالح المُتشابكة بين القيادات السياسية في الغرب برمّته ومجالس إدارة الشركات العابرة للقارات التي التقت مع ترامب على مصلحة تقويض النظام الدولي. فإجراءات ترامب المُتراكِمة منذ وصوله إلى السلطة تحمل في مضامينها العميقة اتجاهاً لتقويض النظام الدولي برمَّته، والعودة إلى نظامٍ عالمي يرفض التعدّدية ويحتكم إلى القوّة العارية الفجّة التي لا تقيم لكل ما حقّقته الإنسانية من معايير وزناً.

وإن كان نقاش مصلحة أميركا في هذا الخيار مفهوماً كونها القوّة العظمى عسكرياً واقتصادياً ولها مكانتها المُتقدّمة علمياً وتكنولوجياً، فهو غير مفهوم في الحال الأوروبية، حيث أنهم بحُكم المنطق الصريح متضرّرون من الأحادية الأميركية كدولٍ وكشعوب، إنما المصلحة التي يراها حكّامهم المتحالفون مع الشركات الكبرى تقول غير ذلك، وتنفّذ غير الذي ترى فيه الشعوب مصلحة لها.

هذه الحال من الإنكار الواضح لمسار التاريخ التي يقودها ترامب، ويتبعه فيها القادة الأوروبيون الذين جلسوا مع إيران واتفقوا معها على عناوين تحقّق الاستقرار في الشرق الأوسط وتُريح الاستقرار العالمي، لا تبدو قابلة للاستمرار طويلاً، فإيران لديها مقوّمات كبيرة تستطيع من خلالها الحفاظ على حقوقها المُتماهية مع مضامين القوانين الدولية، والمُستندة إلى مطالباتٍ شعبيةٍ في الداخل، توحّدت حولها التيارات المختلفة كما لم تفعل من قبل.

والسؤال المطروح في مواجهة السلوكين الأوروبي والأميركي حيال إيران اليوم، لماذا تمّ الانتقال من الحديث عن اتفاقٍ نوويٍ متعلّق ببرنامج إيران النووي، إلى الحديث عن نفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط، وقُدراتها العسكرية؟ ربما يكون الجواب مُرتبطاً بالدور الإيراني في إفشال المُخطّطات الأميركية في غير دولة في المنطقة. فالدور الإيراني كان له دور أساس في إفشال التصوّرات الأميركية لمستقبل سوريا، وتقسيمها، والقضاء على المقاومة التي هي عنوان سياستها الخارجية، وخنق المقاومة اللبنانية عبر قطع إمداداتها بالسلاح والمال. وهو كان له الدور الأساس أيضاً في إفشال المُخطّطات الأميركية والإسرائيلية للقضاء على المقاومة الفلسطينية، ومثل ذلك في اليمن والعراق وأماكن أخرى وصولاً إلى تركيا التي تبدو الخيارات الأميركية فيها فاشلة. وهذا ما جعل ترامب يُعيد النظر بالاتفاق الذي يرى فيه راحة لإيران مَكّنتها من التفرّغ لدعم قوى المقاومة التي تلتقي معها على العداء لإسرائيل ومواجهة الصفقات الأميركية المُتكرِّرة في الشرق الأوسط.

وربما يلتقي بعض القادة الأوروبيين اليوم مع ترامب على ضرورة إضعاف إيران من أجل تصفية القضية الفلسطينية، والوصول إلى "صفقة" على حساب الشعب الفلسطيني، وإراحة القوى الغربية من مسؤولياتها التي التزمت بها بحُكم المقاومة العربية التي ثبتت في الكثير من القرارات الدولية، والتي لا الغربيين يسعون إلى دعم تطبيقها، ولا هم قادرون على التراجع عنها أمام العالم، فيأتي الحل وفق تصوّرهم بدعم الصفقة التي أمّنوا لها بعض الدعم العربي لتمريرها في زحمة الملفات المُشتعِلة، مع مُسهّلات مالية عبَّر عنها جاريد كوشنر في مؤتمر المنامة قبل أيام.

ويعود السؤال المُلحّ على الأوروبيين إلى واجهة الاهتمام اليوم، فهم اليوم يقفون في زاويةٍ حادّةٍ أمام العالم، تطلب منهم إيران فقط الالتزام بالجانب المُتعلّق بهم من الاتفاق الموقَّع معها، وهم لا يستطيعون الإجابة عن ذلك بصورةٍ مُقنِعة. فيهربون إلى التركيز على خطوة إيران بتخفيف التزامها بالاتفاق ورفع التخصيب إلى فوق 3،67%، ويلوّحون في إعلامهم بلازِمةٍ واحدة سياسية غير قانونية تقول: إذا خفَّفت إيران من التزاماتها فهي تُخاطر بثقتها معنا، وتدفعنا إلى التعاطُف مع ترامب. وفي ذلك انتهاك صارِخ للمنطق البسيط للأمور، حيث الأوْلى أن يقوم الأوروبيون بوضع آلية للتبادلات المالية مع إيران تحقّق مصلحتهم بالدرجة الأولى وتتّفق مع تعهّداتهم، وأن يشتروا من جانبهم النفط الإيراني أيضاً وفق ما التزموا به. فالسلوك الذي ينتهجونه حيال هذا الملف يضرب ثقة الدول الأخرى بهم وبالتزاماتهم ويؤثّر على مستقبل علاقاتهم مع العالم.

ودول الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) التي لا تزال تتحدّث عن مناقشة خطوات لإنقاذ الاتفاق وأهمها آلية "أنستكس" المالية والتجارية التي لم تتقدَّم خطوة واحدة منذ أكثر من سنة حين حاولت أوروبا تأسيس آلية مدفوعات، لا تبدو جدّية على الإطلاق في الإفراج عن هذه الآلية التي لا تحتاج إلى الكثير من الجهود لتتم. إلا إذا كان الأوروبيون خاضعين لإرادة ترامب من دون نقاش، وهو ما لا يبدو أكيداً في ملفات أخرى وهو الذي هدَّدهم عبر مبعوثه الخاص بإيران براين هوك حين وضعهم بين احتمالين: "الاختيار بين التعامل مع أميركا أو التعامل مع إيران"، لكن يبدو الأقرب إلى الحقيقة أن نقول إنهم سعداء بأداء ترامب حيال الاتفاق الإيراني.

وقد أبرزت الخطوة البريطانية بالإعلان عن توقيف ناقلة نفط تعمل لصالح إيران في جبل طارق تطوّراً لافتاً في سياق الموقف الأوروبي، ومع أن فوارِق عديدة يمكن لحظها بين الموقف البريطاني الأقرب إلى الموقف الأميركي، وبين المواقف الأوروبية الأخرى التي تختار كلماتها بدرجةٍ أعلى من العناية، إلا أن النوعين المُختلفين من المواقف يخدمان نتيجةً واحدة، وهي محاولة حَشْر إيران وإضعافها من خلال المُراهنة على الوقت.

في المقابل، يبدو الوقت عامِلاً مُحايداً في هذه المسألة، فهو مثلما يلحّ على طهران، يُلحّ بالمِثل على باريس ولندن وبرلين وواشنطن وغيرها. بل إنه يمكن أن يكون أكثر إلحاحاً على الدول الغربية، نظراً للفروقات في طبيعة الأنظمة السياسية بين إيران وبينهم. فقدرة المجتمع الإيراني على مواجهة الضغوطات أكبر بكثير من قدرة المجتمعات الغربية. ومراهنة إيران على الوقت قد تكون أكثر نجاعةً من مُراهنة ترامب عليه على سبيل المثال. وهو الذي تنتظره معركة انتخابية في خريف 2020 وهي تبدو محمومة منذ الآن. وقد يكون الموقف الأوروبي المُراعي للموقف الأميركي على حساب الاتفاق النووي مُحرِجاً له في هذه الانتخابات، لأنه يدفع بالأزمة إلى المزيد من التصعيد، وهو أمر يستبطن مخاطر كبيرة، منها اندلاع مواجهات عسكرية فُجائية وغير مُخطَّط لها في الخليج.

لذلك، فإيران تقول إنها سترفع نسبة التخصيب إلى حدود 5%، وستُعيد في مراحل مقبلة تفعيل معمل "آراك" للمياه الثقيلة، وهي خطوات ستترك أثرها في الموقف الأوروبي لأنه يؤشِّر إلى عودة الأمور إلى نقطة الصفر، الأمر الذي يؤزِّم المواقف الداخلية لترامب والقادة الأوروبيين ويضعهم أمام مسؤولية ما قد ينجم عن توتّرات "غير محسوبة"، وهذه الصفة الأخيرة ، ومن غير صدفة، تلازم سياسات ترامب جميعها.

المصدر : الميادين نت

قراءة 865 مرة