التعرُّف إلى الإيقاع الطبيعي لنشاط الدماغ، يسمح لنا بالقيام بالمهمات اليومية بشكل أسهل، أسرع وأفضل.
مستويات الطاقة لدينا ليست الوحيدة التي تتغير صعوداً وهبوطاً خلال ساعات النهار، فالدماغ أيضاً يخضع لإيقاعه الخاص. ويعتمد هذا الإيقاع أساساً على عادات النوم، التعرُّض لضوء الشمس والتركيبة الوراثية. ويؤكد الاختصاصيون أنّ التعرُّف الوثيق إلى هذا الإيقاع يساعد على تحسين حالتنا الصحية والنفسية والعملية. وتعطي اختصاصية علم النفس الأميركية البروفيسورة لين هاشر، مثالاً على الدور الذي يلعبه هذا الإيقاع في حياتنا، فتقول إنّ البالغين فوق الأربعين يكونون عادة أشخاصاً نهاريين، لذلك من الأرجح أن يسجلوا نتائج أفضل على اختبار الذكاء إذا خضعوا له الساعة التاسعة صباحاً، عوضاً عن الرابعة بعد الظهر. تضيف هاشر وعدد من اختصاصيي الدماغ الآخرين أن بوسعنا حرق المزيد من الوحدات الحرارية في ممارسة الرياضة، ورفع مستوى فاعليتنا في العمل وتسهيل الكثير من مهماتنا إذا عرفنا كيف نوقتها بشكل متوافق مع الإيقاع الطبيعي للدماغ. ونستعرض في التالي أبرز التحولات التي يشهدها النشاط الدماغي على امتداد ساعات النهار، وأفضل ما يمكننا القيام به خلال كل فترة من هذه التحولات.
1- ما بين الساعتين 7 و9 صباحاً:
هذه الفترة هي الأفضل لتمتين العلاقات الزوجية. تقول عالمة الأعصاب البروفيسورة اليا كاراتسوريس، إنّ السبب يعود إلى ارتفاع مستويات الأوكسيتوسن (هرمون الحب) عند الاستيقاظ. وهذا يجعل الفترة الصباحية مثالية لتقوية العلاقات الزوجية والعائلية وعلاقات الصداقة.
2- ما بين الساعتين 9 و11 صباحاً:
تسجل مستويات هرمون التوتر الكورتيزول ارتفاعاً متوسطاً في الدماغ مع حلول هذه الساعة، وهذه الكمية المعقولة من الكورتيزول تساعد الذهن على التركيز وكانت دراسة أجريت في جامعة ميتشيغان الأميركية قد أظهرت أن طلاب الجامعة والبالغين المتقاعدين يكونون أسرع في الاستجابات الذهنية في الصباح، وأن حدة الذهن والتيقظ تتراجعان بعد الظهر. وهذه الفترة مناسبة لتطوير أفكار جديدة، وكتابة التقارير وإيجاد حلول للمشكلات الصعبة. تقول البروفيسورة كارولين يون، الأستاذة المساعدة في جامعة ميتشيغان، إنّ الأشخاص في سن الأربعين وما فوق يكونون أكثر تيقظاً في ساعات النهار المبكرة. لذلك فإنها تنصح ببرمجة النقاشات المهمة المرتبطة بالعمل، أو تلك الخاصة بالقضايا العائلية، في هذه الفترة المبكرة من النهار، كي يتم إيجاد حلول سريعة لها.
3- ما بين الساعتين 11 و2 بعد الظهر:
تهبط مستويات هرمون النوم الميلاتونين في هذه الفترة، إلى أدنى مستوياتها. وهذا يعني أننا نكون خلالها جاهزين للقيام بعدد كبير من المهمات والمشروعات. يقول البحاثة الألمان إنّ الوقت الذي تتطلبة ردود فعلنا واستجاباتنا في هذه الفترة يكون قصيراً جدّاً. كذلك فإن قدرتنا على إنجاز الكثير من الأعمال، ترتفع في فترة منتصف النهار. ويُستحسن إذن تكريس هذه الفترة، للإجابة عن كلّ الرسائل الإلكترونية والبريدية، تقديم التقارير المختلفة إلى المدير، وحل المشكلات الزوجية المستعصية. لكن البروفيسور رينيه موروا، الأستاذ المساعد في علم النفس وعلوم الأعصاب في جامعة فاندربيلت الأميركية، يقول، إنّ التمتع بالقدرة على إنجاز العديد من المهمات، يجب ألّا يدفعنا إلى إنجازها في الوقت نفسه، لأن ذلك يُرهق الدماغ، والأفضل هو إنجازها الواحدة تلو الأخرى.
4- ما بين 2 و3 بعد الظهر:
هذه الفترة هي الأفضل لأخذ قسط من الراحة. يقول الدكتور سانغ لي، من رابطة دراسات الدماغ الدولية، إنّ هذا التوقيت مناسب لتناول وجبة الغداء، خاصة أن عملية الهضم تستقطب الدم نحو المعدة، وتبعده عن الدماغ. وهو ينصح بتفادي تناول وجبة الغداء قبل هذا الوقت، أي عند منتصف النهار، لأن ذلك سيجعلنا نشعر بالرغبة في النوم. وكانت دراسة أجريت في جامعة هارفرد، قد أظهرت أنّ الإيقاع الطبيعي للجسم، أي الساعة البيولوجية التي تُنظِّم النوم واليقظة، تكون أيضاً خلال هذه الفترة في مرحلة خمود قصير، ما يتناسب مع الراحة التي ينشدها الدماغ في الوقت نفسه.
انطلاقاً من ذلك يمكن تخصيص هذه الفترة للقيام بأنشطة تساعد على الاسترخاء، مثل التأمُّل. أو أنشطة لا تتطلّب الكثير من المجهود الفكري، مثل قراءة مجلة، أو دخول مواقع "الإنترنت". ولكن من الضروري الابتعاد عن كلّ ما يمتُّ للعمل بصلة، واختيار قراءة المجلات المفضلة لدينا. أما إذا كانت ظروف العمل لا تسمح لنا بأخذ قسط من الراحة، وإذا ما شعرنا بالخمول (وهو طبيعي في هذه الفترة) فينصح لي بالخروج في نزهة سريعة على القدمين، أو احتساء الماء، فكلا الناشطين يساعدان على إبعاد الدم عن المعدة وسحبه في اتِّجاه الرأس. فالماء يزيد من حجم الدم في الدورة الدموية ويعزز انسيابه إلى الدماغ.
5- ما بين الساعتين 3 و6 بعد الظهر:
مع حلول هذا الوقت، ندخل في فترة التعاون والاشتراك مع الآخرين في إنجاز المهمات. يقول البروفيسور بول نوسبوم، الأستاذ المساعد في الجراحة العصبية في كلية الطب، في جامعة بيتسبورغ الأميركية، إنّ الدماغ يكون تَعِباً في هذا الوقت. لكن هذا لا يعني أن نكون مُعرَّضين للتوتر والإجهاد النفسي، بل على العكس، فقد أظهر العلماء في جامعة ميتشيغان، أن مستويات الكورتيزول تنخفض عادة، خاصة لدى النساء، في وقت متأخر من فترة بعد الظهر. وأفضل ما يمكن أن نقوم به في هذه الفترة هو مشاركة الزملاء في مناقشة موضوعات العمل. فعلى الرغم من أننا لا نكون مُتيقِّظين ذهنياً مثلما كنا في فترة سابقة خلال النهار، إلا أنّنا نكون أكثر هدوءاً، ما يساعد على المشاركة في اجتماعات غير خاضعة لأي ضغوط. ويمكن للأشخاص الذين يُنهون دوامهم مع حلول هذا الوقت، أن يقوموا بنشاط مختلف تماماً عن عملهم. وتعتبر ممارسة الرياضة أفضل ما يمكن القيام به. وكانت الدراسات قد أظهرت أن قوة قبضتنا، والبراعة اليدوية، والمهارات الجسدية الأُخرى تبلغ ذروتها في هذه الفترة. لكن لا يجب تأخير موعد ممارسة الرياضة لأنّ الأدرينالين المتبقِّي في الجسم على أثر ممارسة الرياضة، يمكن أن يؤثر سلباً في النوم. لذلك يُستحسَن ممارسة الرياضة قبل العشاء لتفادي هذه المشكلة.
6- ما بين الساعتين 6 و8 مساء:
وجد البحّاثة أنّ الذهن يدخل خلال هاتين الساعتين في فترة من التيقُّظ، ينخفض خلالها مستوى هرمون الميلاتونين الذي يحث على النوم، إلى أدنى مستوياته. وهذا يعني أنّه من المستبعَد جدّاً الإحساس بالتعب في هذه الفترة. وأظهرت الدراسات أيضاً أن براعم الذوق تكون ناشطة جدّاً في هذا الوقت، وذلك بسبب التغيُّرات البيولوجية الطبيعية في مستويات الهرمونات. يمكن إذن الاستفادة من مستويات النشاط المرتفعة للقيام بالمهمات المختلفة، خاصة الصعبة منها. كذلك يمكن تمضية الوقت مع أفراد العائلة، أو في إعداد وجبة عشاء لذيذة. ويمكن الحفاظ على مستويات الطاقة عن طريق الخروج إلى الهواء الطَّلْق، وتعريض النفس لأشعة الشمس قبل غروبها، فأشعة الشمس تساعد على تعزيز إفراز السيروتونين.
7- ما بين الساعتين 8 و10 مساء:
تَشهَد هذه الفترة نقلة مُفاجئة من التيقُّظ التام، إلى الإحساس بالنعاس، ويعزو البحّاثة الأستراليون والبريطانيون سبب ذلك إلى الارتفاع السريع في مستويات الميلاتونين. وفي الوقت نفسه نشهد انخفاضاً موازياً في مستويات السيروتونين، الناقل العصبي المرتبط بالتيقظ. يقول الاختصاصي الأميركي البروفيسور روبن نايمان، أستاذ الطب في جامعة أريزونا، إن ما نسبته 80% من السيروتونين، يتم إنتاجه في الجسم بفعل التعرُّض لضوء النهار، ومن الطبيعي أن تنخفض مستوياته بعد غروب الشمس. وأفضل ما يمكن القيام به خلال هذه الفترة، الاسترخاء ومشاهدة فيلم فكاهي خفيف، كما يمكن القيام بأنشطة خفيفة تتميَّز بالحركات المتكررة الرتيبة، التي تساعد على الارتياح وإزالة التوترات، مثل غزل الصوف. وينصح نايمان بتفادي حل الألغاز، أو الأنشطة التي تتطلَّب مجهوداً ذهنياً، في هذه الفترة التي يكون فيها الدماغ تَعِباً، والحرص على القيام بكل ما من شأنه تعزيز حالة الاسترخاء.
8- الساعة 10 وما بعد:
يتوق الدماغ في هذه المرحلة إلى تنسيق وترتيب كلّ ما تعلّمه خلال النهار، وهو ما يقوم به أثناء النوم. ويجب أن تكون الأولوية لدينا، الخلود إلى النوم والتمتع بليلة نوم كاملة مريحة. والواقع أنّ النوم يساعد على إيجاد الحلول لمسائل شهدناها خلال النهار. فقد تَبيَّن في إحدى الدراسات الحديثة، أن أكثر من نصف الأشخاص الذين تعلَّموا مهمة ما خلال النهار، نجحوا في إيجاد طريقة أسهل للقيام بها، وذلك بعد نومهم مدة 8 ساعات. ومن الضروري في هذا الوقت تخفيف حدة الأضواء في المنزل بعد العشاء، كي يتأكد الجسم أنّ النهار قد انتهَى. وأفضل ما يمكننا القيام به في هذه الساعة هو التمدُّد وقراءة كتاب جيِّد، أو كتابة المذكرات اليومية، أو قراءة شيء نريد أن نتذكره في اليوم التالي.