
emamian
ذكرى استشهاد الإمام محمد الباقر علية السلام مستودع علوم اهل البيت
ان ابو جعفر محمّد بن زين العابدين، الملقّب بالباقر، أحد الأئمة الإثني عشر في اعتقاد الإمامية، وهو والد جعفر الصادق. كان الباقر عالماً سيّداً كبيراً، وإنّما قيل له الباقر لانّه تَبقَّر في العلم أي توسّع، وفيه يقول الشاعر: يا باقر العلم لاهل التُقى وخير من لبّى على الأجبل.
ولد الامام محمد الباقر عليه السلام بالمدينة غرة رجب سنة 57 هجري وقيل 56 هجري، عاش مع جدّه الحسين عليه السلام 4 سنين، ومع ابيه عليه السلام بعد جدّه عليه السلام تسعاً وثلاثين سنة، وكانت مدة إمامته عليه السلام 18 سنة. ولقب الإمام الخامس بباقر العلوم لسعة علمه الذي ورثه من أبيه الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
وقام الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في فترة إمامته بنشر الثقافة الإسلامية، وتعليم الطلاب، وإرشاد الصحابة والناس، وتطبيق تعاليم جده النبي الأكرم محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. وايضا تولى بعد مضي 19 سنة و10 أشهر على استشهاد والده الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) منصب الإمامة الإلهي.
وأمّا النصوص الدالة على إمامته من أبيه وأجداده والتي ذكرها المحدّثون والمحقّقون من علمائنا الاعلام فهي مستفيضة نقلها الكليني رضي الله عنه وغيره. قال ابن سعد: محمّد الباقر من الطبقة الثالثة من التابعين من المدينة، كان عالماً عابداً ثقة. قال أبو يوسف: قلت لابي حنيفة: لقيت محمّد بن علي الباقر؟ فقال: نعم وسألته يوماً فقلت له: أراد الله المعاصي؟ فقال: "أفيعصى قهراً"؟ قال ابو حنيفة: فما رأيت جواباً أفحم منه. وقال عطاء: ما رأيت العلماء عند احد أصغر علماً منهم عند ابي جعفر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه مغلوب، ويعني الحكم بن عيينة، وكان عالماً نبيلاً جليلاً.
وقد شهد الامام محمد الباقر عليه السلام واقعة كربلاء وهو صغير، كما أنه يعتبر المؤسس للثورة العلمية الشيعية الكبرى التي بلغت ذروتها في زمن نجله الإمام الصادق (عليه السلام). روي عنه (عليه السلام) روايات كثيرة في مجالات شتی كالفقه، والتوحيد، والسنة النبوية، والقرآن، والأخلاق، كما بدأت المعتقدات الشيعية تتبلور في فترة إمامته وذلك في مختلف الفروع كالفقه والكلام، والتفسير.
واعترف علماء أهل السنة بفقه الإمام الباقر (ع)، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علَمه وأنّه عمّر أوقاته بطاعة الله وكان يحظى بمراتب عالية في مقامات العارفين. إنّ شخصية الإمام الباقر (عليه السلام) لم تكن الفريدة من نوعها في رأي الشيعة الإمامية فحسب، بل إنّ علماء أهل السنة أيضاً يعتبرونه فريداً من نوعه.
فيقول ابن حجر الهيتمي في وصفه (عليه السلام): أبو جعفر محمد الباقر سمّي بذلك من بقر الأرض أي شقّها وأثار مخبآتها ومكامنها، فلذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة. وتحدّث عبدالله بن عطاء عن إكبار العلماء وتعظيمهم للإمام الباقر (عليه السلام) وتواضعهم له، وهو من الشخصيات البارزة والعلماء العظام ما قوله: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي لتواضعهم له.
أما الذهبي فقد كتب في وصف الإمام الباقر (عليه السلام) قائلاً: كان الباقر أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤود والشرف والثقة والرزانة، وكان أهلاً للخلافة. من ألقاب الإمام الباقر(عليه السلام) الكريمه: الباقر والشاكر والهادي وأشهرها الباقر، الذي تلقاه من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعنى الباقر كما في المعاجم اللغوية المتبحّر بالعلم والمستخرج غوامضه وأسراره والمحيط بفنونه.
واستشهد الإمام الباقر بالسم في السابع من ذي الحجة عام 114 هـ.قـ عن عمر57 عامًا بالمدينة المنورة على يد هشام بن عبد الملك أحد الخلفاء الأمويين.
من وصايا الباقر (عليه السلام) قبل استشهاده
عهد الامام محمد الباقر (عليه السلام) إلى ولده الامام جعفر الصادق (عليه السلام) بعدة وصايا كان من بينها ما يلي:
1 ـ إنه قال له: يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً، فقال له الإمام الصادق: جعلت فداك والله لأدعنهم، والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحدا([1]).
لقد أوصى (عليه السلام) ولده بأصحابه ليقوم بالانفاق عليهم، والتعهد بشئونهم ليتفرغوا للعلم، وتدوين حديثه وإذاعة معارفه، وآدابه بين الناس.
2 ـ أوصى (عليه السلام) ولده الصادق (عليه السلام) أن يكفنه في قميصه الذي كان يصلي فيه([2]) ليكون شاهد صدق عند الله على عظيم عبادته، وطاعته له.
3 ـ إنه أوقف بعض أمواله على نوادب تندبه عشر سنين في منى([3]) ولعل السبب في ذلك يعود الى أن منى أعظم مركز للتجمع الاسلامي، ووجود النوادب فيه مما تبعث المسلمين الى السؤال عن سببه، فيخبرون بما جرى على الامام أبي جعفر (عليه السلام) من صنوف التنكيل من قبل الأمويين واغتيالهم له، حتى لا يضيع ما جرى عليه منهم ولا تخفيه أجهزة الاعلام الأموي.
أما نص وصيته فقد رواها الامام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال (عليه السلام): لما حضرت أبي الوفاة قال: أدع لي شهودا فدعوت له أربعة من قريش فيهم نافع مولى عبد الله بن عمر، فقال: اكتب: «هذا ما أوصى به يعقوب بنيه يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون» وأوصى محمد بن علي إلى جعفر بن محمد، وأمره أن يكفنه في برده الذي كان يصلي فيه الجمعة، وأن يعممه بعمامته، وأن يربع قبره، ويرفعه أربع أصابع، وأن يحل عنه أطماره عند دفنه.
والتفت (عليه السلام) إلى الشهود فأمرهم بالانصراف، وقال الامام الصادق (عليه السلام): يا أبة ما كان في هذا بأن تشهد عليه؟ فقال (عليه السلام): كرهت أن تغلب، وأن يقال إنه لم يوص إليه فأردت أن تكون لك الحجة([4]).
حياة الإمام الباقر (عليه السلام)، الشيخ باقر شريف القرشي (رحمه الله)
([1]) أصول الكافي 1 / 306.
([2]) صفة الصفوة 2 / 63، تأريخ ابن الوردي 1 / 184، تأريخ أبي الفداء 1 / 214، المنتظم لابن الجوزي الجزء السابع مصور.
([3]) بحار الأنوار 11 / 62.
([4]) أصول الكافي 1 / 307.
الحج ضيافة الله
قال الله في محكم كتابه المجيد: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾([1]).
حيث أٌننا على أبواب التوجه إلى بيت الله الحرام لتأدية فريضة الحج المقدسة ناسب ذلك أن أتحدث عن فلسفة هذه الفريضة وأبين ما يترتب عليها من الفوائد العديدة والمنافع الكثيرة التي أشار الله سبحانه إليها إجمالاً بقوله: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ ([2]).
وهذا يقتضي بيان العبادة بمعناها العام ودورها التربوي في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً نظراً لمساهمة ذلك في معرفة الدور الذي تؤديه فريضة الحج في هذا المجال فأقول:
المراد من العبادة بمعناها العام الذي اعتبره الله سبحانه العلة الغائية الداعية لخلق الجن والإنس على ما صرح به سبحانه في كتابه الكريم بقوله عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ ([3]).
الخضوع الكلي والانقياد المطلق لإرادة الله سبحانه بكل عمل اختياري يصدر من المكلف بإرادته واختياره سواء كان هذا العمل باطنياً كالتفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار من أجل التوصل به إلى تحصيل الإيمان الراسخ بوجود الله ووحدانيته وعدله وضرورة إرساله للأنبياء وتعيينه للأوصياء وحشره للناس غداً للحساب يوم الجزاء.
أم كان عملاً ظاهرياً وموقفاً خارجياً منطلقاً من ذلك الإيمان من أجل أن يتوصل الإنسان بهذه العبادة بكل شقيها الباطني والظاهري إلى ما أراد الله سبحانه له أن يصل إليه ويحصل عليه من السعادة في الدنيا والآخرة.
وذلك لأن العبادة الظاهرية تتمثل بفعل ما أمر الله به من الواجبات والمستحبات وترك ما نهى عنه من المحرمات والمكروهات وحيث أن الله حكيم رحيم لا يأمر إلا بما فيه المصلحة والمنفعة المادية والمعنوية ولا ينهى إلا عما فيه المضرة والمفسدة المادية والمعنوية فإذا حقق العبد ذلك واتقى الله حق تقاته وحصَّل المنافع والفوائد وسلم من المضار والمفاسد فهو يدخل جنة الدنيا ومنها ينطلق إلى جنة البقاء والخلود ـ قال سبحانه: ﴿وَلَو أَنَّ أَهْلَ القُرَى ءامَنُوا واتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ والأرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ([4]).
وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾([5]). والعبادة بهذا المعنى العام المتمثل بالاستقامة في طريق التقوى وعدم الانحراف عنه مهما كانت الضغوطات أو الإغراءات المؤدية بطبيعتها إلى التحلل من نظام العبودية حيث أنها محتاجة إلى قوة إيمانية وبطولة روحية تساعد المؤمن على الثبات في ساحة الجهاد الأكبر لذلك شرعت العبادات الخاصة المعهودة بكيفيتها المرسومة واشترط في صحتها وترتب الأثر عليها الإتيان بها بقصد التقرب بها لله سبحانه لأن ذلك يعمق الإيمان في النفس ويقويه في القلب ليبقى صاحبه على صلة بالله تعالى وانشداد إليه برابطة التقوى فيظل دائماً في إطار عبادته له بكل ما يصدر عنه من تصرفات اختيارية سواء كانت فعلاً لما أمر به أو تركاً لما نهى عنه ونتيجة ذلك هي بقاء هذا المؤمن العابد في نطاق مصلحته وسعادته كما أراد الله له على ضوء ما تقدم بيانه من فلسفة العبادة وما يترتب عليها من معطيات إيمانية كثيرة وبعد ذكر هذه المقدمة التمهيدية يأتي دور الحديث عن الحج وبيان ما يترتب على تأدية فريضته من الفوائد الجليلة والمنافع العديدة فأقول:
الفوائد المترتبة على هذه الفريضة المقدسة كثيرة وسأقتصر على ذكر أهمها وابرزها وهو الزهد في كل ما يبعد الإنسان عن رحمة الله سبحانه ويشغله عن الاهتمام بما ينفعه في دنياه وآخرته من الواجبات والمستحبات وعن التجمل بما يرفعه من الفضائل والكمالات ـ والوجه في ترتب فائدة الزهد على تأدية فريضة الحج هو أن الإنسان المؤمن إذا عزم على تأدية هذه الفريضة يرتسم نصب عينيه شبح الموت بسبب ما يحصل له ويصيبه في الطريق وبعد وصوله إلى أماكن تأدية المناسك الواجبة من المتاعب والحوادث الخطيرة التي أدت فيما سبق إلى موت بعض الحجاج ـ وخوفه من ذلك يُظهر بصورة تفصيلية طبيعة هذه الحياة الدنيا وأنها دار ضيافة والإنسان فيها ضيف يُقيم فترة محدودة ثم يرحل عنها إلى مقره الأخير وداره الأخرى التي خلق من أجلها وفيها يتقرر مصيره على ضوء أعماله التي كان يمارسها في هذه الدار العاجلة الزائلة فإن كانت خيراً منسجمة مع الوظيفة الشرعية المحددة له من قِبَل الله تعالى كانت النتيجة خيراً وجنةً عرضها السموات والأرض وإن كانت شراً ومخالفة لتلك الوظيفة كانت النتيجة من جنسها قال سبحانه: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِيثقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ﴾ ([6]).
وخوفه من المصير الثاني المؤلم يجعله زاهداً في الممارسات اللاشرعية وراغباً فيما يؤدي إلى المصير الأول.
ومما تقدّم يظهر جلياً أن المراد بالزهد المأمور به والمرغوب فيه إسلامياً ـ هو الزهد فيما يضر الإنسان فرداً ومجتمعاً دنيا وآخرة وينحصر ذلك بالمحرمات وتلحق بها المكروهات على وجه الأفضلية التي لا تمنع من الفعل كما هو المعلوم وذلك باعتبار عدم الاستفادة منها في الآخرة بخلاف ما لو تُركت امتثالاً للنهي الكراهتي فإن ذلك يُعتبر عبادة يحصل بها الثواب في الآخرة والتوفيق في الدنيا. وإلى ما ذكرناه في بيان المراد من الزهد أشار الإمام علي (عليه السلام): ليس الزهد أن لا تملك شيئاً ولكن الزهد أن لا يملكك شيء.
وعلى ضوء هذا المفهوم الواعي لمعنى الزهد في الإسلام ـ ندرك أن الإنسان المؤمن لو ساعدته ظروفه على أن يملك الثروة الطائلة من الحلال ودفعه التزامه الديني لأن يخرج ما تعلق بها من الحق المعلوم للسائل والمحروم فهذا الشخص يكون من الزاهدين المقدرين عند الله سبحانه وعند المؤمنين الواعين.
فلسفة الحج في الإسلام، العلامة الشيخ حسن طراد العاملي
([1]) سورة آل عمران، الآية: 97.
([2]) سورة الحج، الآية: 28.
([3]) سورة الذاريات، الآية: 56.
([4]) سورة الأعراف، الآية: 96.
([5]) سورة الطلاق، الآيتان: 2 و3.
([6]) سورة الزلزلة، الآيتان 7 و8.
زواج الامام علي (ع) من السيدة الزهراء (ع) .. بأمر من؟!
وتشير المصادر التاريخية بحسب (موقع مركز الابحاث العقائدية) ان السيدة الزهراء عليها السلام تقدم لخطبتها اشراف قريش فردهم النبي "صلى الله عليه وآله"، لكن حينما تقدم الامام علي عليه السلام لخطبتها فزوجه النبي اياها.
وجاء في احاديث كثيرة عن النبي "صلى الله عليه وآله" بأنه إنما زوجه إياها بأمر من السماء، كما جاء في عدد من المصادر التاريخية.
وتوضح الروايات ان البعض ممن جاء للامام علي عليه السلام وطلب منه ان يتقدم لخطبتها كان بهدف أن يرده رسول الله "صلى الله عليه وآله" كما ردّهم؟! وبذلك تتساوى الأقدام، ويرد النقص الجميع؟!، حتى جاءهم الجواب من الرسول الاكرم "ما أنا منعتكم وزوجته، بل الله منعكم وزوجه".
ويرى عدد من المتخصصين إن التزويج الإلهي لعلي بفاطمة، "عليهما السلام" يمثل شهادة له بأن لديه من المزايا ما يجعله في موقع النقيض لأولئك الخاطبين الذين منعهم الله تبارك وتعالى؟!، وان هذه الشهادة الإلهية من أدلة انحصار الأهلية للإمامة والخلافة بعد رسول الله "صلى الله عليه وآله" به "عليه السلام"، مؤكدين ان هذا التزويج الإلهي لم يكن استجابة لداعي النسب، أو التعصب للعشيرة، أو الرحم، أو لأجل الإلفة والمحبة، والإندفاع العاطفي، وإنما كان سياسة الهية لخصها رسول الله "صلى الله عليه وآله" بقوله: "إنما أنا بشر مثلكم، أتزوج فيكم، وأزوجكم، إلا فاطمة فإن تزويجها نزل من السماء".
وجاء في حديث صحيح عن أبي جعفر "عليه السلام": لولا أن الله خلق فاطمة لعلي، ما كان لها على وجه الأرض كفؤ، آدم فمن دونه.
وتؤكد تلك المصادر ان البساطة تمثل ميزة مهمة من مميزات هذا الزواج على بنت أعظم إنسان على وجه الأرض، وهي في ذاتها أعظم إنسانة على وجه الأرض بعد أبيها وبعلها، وعلى رجل هو أعظم وأفضل الناس بعد النبي "صلى الله عليه وآله"، حتى جاء: أن فراشهما كان إهاب كبش، ينامان عليه ليلاً، ويعلف عليه الناضح نهاراً، فينام الامام علي على ناحيته، وتعجن فاطمة على ناحيته الاخرى.
تونس.. عدد المسجلين في الاستفتاء على الدستور يتجاوز الـ 9ملايين
وأوضح أن عدد المسجلين بالداخل إداريا 8.939.773، وعدد المسجلين آليا 358.291، ليصل العدد الجملي للمسجلين للاستفتاء 9.069.460 مسجلا.
ومن جهة ثانية، يبحث الرئيس التونسي قيس سعيد، مع رئيسة مجلس الوزراء التونسي نجلاء بدون رمضان، الاستعدادات الجارية لتنظيم الاستفتاء الدستوري في الموعد المقرر 25 يوليو المقبل.
وذكر بيان صادر عن رئاسة الجمهورية التونسية أن الرئيس قيس سعيد ناقش مع رئيسة الحكومة مجموعة من الموضوعات المتعلقة بالوضع العام بالبلاد، وسير المرافق العمومية.
كما تم خلال اللقاء مناقشة أهمية توفير كافة أوجه الإحاطة الشاملة للحجيج الذين سيؤدون فريضة الحج في أفضل الظروف، إلى جانب مناقشة انطلاق موسم الحصاد وتوفير الأماكن اللازمة لتخزين الحبوب.
كذلك تم التطرق إلى سير الامتحانات الوطنية حتى تتم في أحسن الظروف وضرورة أن يعامل الجميع على قدم المساواة والتصدي في هذا الإطار إلى كل محاولات الغش.
ذكرى شهادة الامام محمد الجواد (عليه السلام)
الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) هو التاسع من أئمة أهل البيت الذين أوصى اليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ بأمر من الله سبحانه ـ لتولّي مهام الإمامة والقيادة من بعده، بعد أن نصّ القرآن على عصمتهم وتواترت السنة الشريفة بذلك .
ولد الإمام محمّد بن علي الجواد عام ( 195 هـ ) أي في السنة التي بويع فيها للمأمون العباسي، وعاش في ظلّ أبيه الرضا (عليه السلام) حوالي سبع سنين، وعاصر أحداث البيعة بولاية العهد لأبيه الرضا (عليه السلام(
1ـ نسبه : الإمام محمد الجواد (عليه السلام) من الاُسرة النبوية وهي أجلّ وأسمى الاُسر التي عرفتها البشرية ، فهو ابن الإمام علي الرضا ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي السجاد ابن الإمام الحسين سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابن الإمام علي بن أبي طالب (عليهم السلام) .
2 ـ اُمه : هي من أهل بيت مارية القبطية ، نوبيّة مريسية ، امها : سبيكة أو ريحانة أو درّة ، وسمّاها الرضا (عليه السلام) خيزران .
وصفها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنها خيرة الإماء الطيبة . وقال العسكري (عليه السلام) : «خُلقت طاهرة مطهّرة وهي اُم ولد تكنّى باُم الجواد ، واُم الحسن ، وكانت أفضل نساء زمانها »
3 ـ ولادته : ولد (عليه السلام) في المدينة في شهر رمضان من سنة خمس وتسعين ومائة لسبع عشر ليلة مضت من الشهر.
وغمرت الإمام الرضا (عليه السلام) موجات من الفرح والسرور بوليده المبارك، وطفق يقول : « قد ولد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار ، وشبيه عيسى بن مريم ، قدّست اُم ولدته..»
4 ـ كنيته : أبو جعفر ، وهي كنية جده الباقر(عليه السلام) وللتمييز بينهما يكنّى بأبي جعفر الثاني .
5 ـ ألقابه : أمّا ألقابه الكريمة فهي تدل على معالم شخصيته العظيمة وسمو ذاته وهي :
1 ـ الجواد : لُقب به لكثرة ما أسداه من الخير والبر والاحسان الى الناس .
2 ـ التقي : لقب به لأنه اتّقى الله وأناب اليه ، واعتصم به ولم يستجب لأي داع من دواعي الهوى .
3 ـ المرتضى 4 ـ القانع 5 ـ الرضي 6 ـ المختار 7 ـ باب المراد
نقش خاتمه : يدل نقش خاتمه(عليه السلام) على شدة انقطاعه(عليه السلام) الى الله سبحانه، فقد كان « العزّة لله ».
وتقلّد الإمامة العامة وهو في السابعة من عمره الشريف وليس في ذلك ما يدعو إلى العجب فقد تقلّد عيسى بن مريم (عليه السلام) النبوّة وهو في المهد .
6- تكلّمه في المهد :
ذكر المؤرخون أن الإمام الجواد (عليه السلام) تشهّد الشهادتين لمّا وُلد ، وانه حمد الله تعالى وصلّى على الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الراشدين في يومه الثالث .
فعن حكيمة ابنة موسى بن جعفر الكاظم(عليهما السلام) قالت : لمّا حملت اُم أبي جعفر الجواد (عليه السلام) به كتبتُ اليه يعني: الى الإمام الرضا(عليه السلام) جاريتك سبيكة قد علقت. فكتب اليّ : انّها علقت ساعة كذا ، من يوم كذا ، من شهر كذا ، فإذا هي ولدت فالزميها سبعة أيام .
قالت : فلمّا ولدته ، وسقط الى الأرض ، قال : اشهد ان لا إله إلاّ الله ، وان محمداً رسول الله .
فلمّا كان اليوم الثالث ، عطس ، فقال : الحمد لله ، وصلّى الله على محمد وعلى الأئمة الراشدين .
لقد أثبت التاريخ من خلال هذه الإمامة المبكرة صحة ما تذهب اليه الشيعة الإمامية في الإمامة بأنّه منصب إلهي يهبه الله لمن يشاء ممّن جمع صفات الكمال في كل عصر ، فقد تحدّى الإمام الجواد(عليه السلام) ـ على صغر سنّه ـ أكابر علماء عصره وعلاهم بحجته بما أظهره الله على يديه من معارف وعلوم أذعن لها علماء وحكّام عصره.
لقد وصف الإمام الرضا (عليه السلام) ابنه الجواد بما يلي :
قال عنه قبل ولادته للحسين بن بشار : (والله لا تمضي الأيّام والليالي حتى يرزقني الله ولداً ذكراً يفرّق به بين الحقّ والباطل)
وقال أيضاً : (هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته مكاني).
وقال أيضاً لصفوان بن يحيى : (كان أبو جعفر محدَّثاً)
قال محمد بن الحسن بن عمّار : دخل أبو جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) فوثب علي بن جعفر (عم الامام الرضا) بلا حذاء ولا رداء، فقبّل يديه وعظّمه . فقال له أبو جعفر : يا عمّ اجلس رحمك الله ، فقال : يا سيّدي كيف أجلس وأنت قائم ؟ !
فلّما رجع علي بن جعفر الى مجلسه جعل أصحابه يوبّخونه ويقولون : أنت عمّ أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل ؟
فقال : اسكتوا إذا كان الله عزّوجلّ ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهّل هذه الشيبة وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه ، اُنكِرُ فضله؟! نعوذ بالله ممّا تقولون ! بل أنا له عبد .
قال الشيخ المفيد : وكان المأمون قد شغف بأبي جعفر (عليه السلام) لِما رأى من فضله مع صغر سنّه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان ، فزوّجه ابنته أمّ الفضل وحملها معه الى المدينة ، وكان متوفّراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره .
حينما أراد المأمون ان يزوج ابنته للامام الجواد (عليه السلام) اعترض عليه العباسيون قال المأمون في وصف الإمام أبي جعفر (عليه السلام) : (وأما أبو جعفر محمد بن علي قد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنّه والاُعجوبة فيه بذلك . . ثم قال لهم : وَيْحَكم إني أعرف بهذا الفتى منكم ، وإنّ هذا من أهل بيت علمهم من الله ، ومواده وإلهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال).
وقال الذهبي : ( كان محمّد يلقّب بالجواد وبالقانع والمرتضى ، وكان من سروات آل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) . . وكان أحد الموصوفين بالسخاء فلذلك لقّب بالجواد)
وقال عنه ابن الصبّاغ المالكي المتوفّى سنة ( 855 هـ ) : )وهو الإمام التاسع . . عرف بأبي جعفر الثاني ، وإن كان صغير السن فهو كبير القدر رفيع الذكر القائم بالإمامة بعد علي بن موسى الرضا . . للنص عليه والإشارة له بها من أبيه كما أخبر بذلك جماعة من الثقات العدول(
كان الإمام الجواد (عليه السلام) أعبد أهل زمانه ، وأشدهم حبّاً لله عزّوجلّ وخوفاً منه ، وأخلصهم في طاعته وعبادته ، شأنه شأن الأئمة الطاهرين من آبائه (عليهم السلام) الذين عملوا كلّ ما يقرّبهم إلى الله زلفى .
استشهاده عليه السلام:
بعد ان تربع المعتصم العباسي اخو المامون العباسي_الذي انتهى عهده في سنة ( 218 هـ )_على كرسي الخلافة لم يسمح للإمام الجواد(عليه السلام) بالتحرّك ويراقب ـ بكل دقّة ـ النشاط الاجتماعي والسياسي للإمام(عليه السلام) ثمّ يغتاله على يد ابنة أخيه المأمون، المعروفة باُم الفضل والتي زوّجها المأمون من الإمام الجواد(عليه السلام) ولم تنجب له من الأولاد شيئاً، وذلك في سنة (220 هـ )، وهكذا قضى المعتصم على رمز الخط الهاشمي وعميده، الإمام محمّد التقي أبي جعفر الجواد(عليه السلام) .
اذن تنقسم الحياة القصيرة لهذا الإمام المظلوم الى قسمين وثلاث مراحل :
القسم الأول : حياته في عهد أبيه وهي المرحلة الاولى من حياته القصيرة والمباركة وتبلغ سبع سنوات تقريباً .
والقسم الثاني : حياته بعد استشهاد أبيه حتى شهادته . وتبلغ حوالي سبع عشرة سنة .
المرحلة الاُولى: سبع سنوات وهي حياته في عهد أبيه الرضا(عليه السلام) حيث ولد سنة (195 هـ ) ـ وفي حكم محمد الأمين العبّاسي ـ واستشهد الإمام الرضا(عليه السلام) في صفر من سنة (203 هـ ) .
المرحلة الثانية: خمس عشرة سنة وهي حياته بقية حكم المأمون من سنة (203 هـ ) الى سنة (218هـ ).
المرحلة الثالثة: حياته بعد حكم المأمون وقد بلغت حوالي سنتين من أيّام حكم المعتصم أي من سنة (218 ـ 220 هـ ).
لم تكن المدة التي قضاها الإمام الجواد (عليه السلام) في خلافة المعتصم طويلة فهي لم تتجاوز السنتين ، كان ختامها شهادة الإمام (عليه السلام) على يد النظام المنحرف .
لقد خشي المعتصم من بقاء الإمام الجواد (عليه السلام) بعيداً عنه في المدينة ، لذلك قرر استدعاءه الى بغداد ، حتى يكون على مقربة منه يحصي عليه انفاسه ويراقب حركاته ، ولذلك جلبه من المدينة، فورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرم سنة عشرين ومائتين ، واستشهد بها(عليه السلام) في آخر ذي القعدة من هذه السنة .
فسلام عليه يوم ولد و يوم استشهد و يوم يبعث حيا
اعلام الهداية / ج 11/ مع التصرف
اعداد/ الشيخ عبد الحسين الاخوند
رئيسي: إيران وباكستان تفرضان أوضاعًا أمنية مناسبة على الحدود
وأوضح رئيسي إن العلاقات الجيدة بين القوات المسلحة الإيرانية والباكستانية قد ساهمت في فرض أوضاع أمنية مناسبة تقريبًا على حدود البلدين.
وفي لقاءه يوم الثلاثاء مع رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الباكستانية، الجنرال نديم رضا، الذي يزور طهران على رأس وفد عسكري، أشاد السيد رئيسي بـ باكستان حكومة وجيشًا لمساهمتهما في تعزيز الأمن على الحدود المشتركة، وقال إن تواجد أمريكا والناتو في أفغانستان لمدة عقدين لم يجلب لها إلا القتل والدمار، مضيفًا: ينبغي على طالبان تشكيل حكومة شاملة في أفغانستان تضم كافة القوميات والفصائل لتوفير الطمأنينة والتنمية في هذا البلد.
بدوره أكد الجنرال نديم رضا: ’’أعتقد بصفتي رئيسًا لهيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الباكستانية أن إيران صديق حميم لباكستان‘‘، متابعًا: الزيارات الدبلوماسية الكثيرة التي قام بها مسؤولون باكستانيون إلى إيران طيلة الشهر الماضي دليل على رغبتنا في تطوير العلاقات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الإخلاص في الحج
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...﴾.
لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وتمدّح بخلقه في قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين﴾ وركّبه من سرّ وعلن، وروح وبدن. وبدنه من تراب وروحه من أمر ربه ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ فأودعه أسرار خلقه. جرمه صغير ولكن انطوى فيه العالم الأكبر. فدنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، فعلّمه الأسماء الحسنى وفهّمه البيان الأتم، وأناله الله تعالى بخضوعه وعبوديته له المقام الشامخ، فإن العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة، وأنطقه بأقواله سبحانه ومَن أصدق من الله قيلا، وأصبغه بصبغته ومَن أحسن من الله صِبغة، وهداه النجدين: نجد الخير ونجد الشر، وجعله مختاراً
في سلوك الطريقين إمّا شاكراً وإمّا كفوراً.
وخلق لروحه وبدنه منافيات وملائمات، وآلام ولذّات، ومنجيات ومهلكات، فمنافيات البدن الأمراض والأسقام الجسمانية، وملائماته الصحة واللّذات الجسمانية، والمتكفّل ببيان تفاصيل هذه الأمراض، وكيفية علاجها هو علم الطب، ومنافيات الروح وآلامه هي رذائل الأخلاق وذمائمها التي تهلكه وتشقيه، وترديه وتهويه إلى أسفل السافلين، فيكون كالأنعام بل أضل سبيلا، وقلبه كالحجارة بل أشدّ قسوة. والمتكفّل ببيان هذه الرذائل الأخلاقية ومعالجاتها هو (علم الأخلاق).
أما صحة الروح فتتمّ برجوعها إلى فضائل الأخلاق ومحامدها التي تُنجيه وتُسعده في الدارين، وتأخذ بيديه إلى مجاورة أهل الحقّ عند مليك مقتدر في مقعد صدق.
وإنما بعث الله رسوله خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتمّم مكارم الأخلاق، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:"إنّما بعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق"وقد مدحه ربّه في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. وقد أقسم في سورة الشمس بأحد عشر قسماً أنه ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ حتى قيل أوجب الواجبات الأخلاق الحسنة والمحمودة.
ثم البدن ماديّ فان، وكل من على الأرض فان. والروح مجرد باق، وإذا اتّصفت بشرائف الأخلاق كانت منعّمة في السعادة الأبدية، وإن اتّصفت برذائلها كانت في الشقوة والعذاب مخلّدةً.
فعلى المرء الواعي أن يهذّب نفسه، ويزكّي أخلاقه، ويعالج أمراضه، قبل فوات الأوان. كما أن المريض ينبغي له أن يعالج بدنه وصحته. وكلُّ شيء إنما يعالج بضدّه، فإن علاج اليابس بالرطب، والرطب باليابس، والحار بالبارد والبارد بالحار، وهكذا أمراض الأخلاق، فإن الجهل يُعالج بالعلم، والبخل بالسخاء، والكبر بالتواضع، والشّره بالكفّ عن الشهوات، ومرض الرياء بالإخلاص. وإن كان ذلك كلّه يستلزم التكلّف والمرارة، فإنّ مَن أراد أن يعالج مرض بدنه عليه أن يتحمّل مرارة الدواء، وأن يصبر عن المشتهيات، وكذلك الروح حيث يُريد الإنسان علاجها فلابد له من احتمال مرارة المجاهدة وشدّة الصبر الذي هو سيّد الأخلاق. فيصبر على فعل الطاعات والعبادات، وترك المعاصي والآثام، ليداوي بالصبر أمراض القلوب. وإن علاجها أولى من علاج الأبدان، فمرض البدن يخلص الإنسان منه بالموت، ولكن مرض الروح ـ والعياذ بالله ـ يدوم حتى بعد الموت. فالحريّ بمن يخاف على نفسه وقلبه وروحه أن يباشر المعالجة قبل الموت، فإنه سيندم يوم لا ينفعه الندم.
ثم أصل تهذيب النفس وتزكيتها أن يقف الإنسان على حقيقة نفسه، ويرى عيوبها ومهلكاتها. فمن كملت بصيرته وتمّت حذاقته، لم تخف عليه عيوبه. ومن عرف الأمراض والعيوب يسهل عليه التداوي والتخلّص منها. ولكنّ أكثرَ الناس جهلوا عيوب أنفسهم، فيرون القذى في أعين الآخرين، ولا يرون الجذع في عيونهم.
ولابدّ من الاعتدال والحكمة في الأخلاق فهما الصحة للقلب والنفس والروح. أما الميل والانحراف عن حدّ الاعتدال فهما المرض والسقم الذي يخاف منه.
وعلاج النفس لمحو الرذائل والأخلاق الذميمة عنها، يكسبها الفضائل والأخلاق الحميدة، كما أن تخلية القلب من الأهواء والأمراض النفسيّة، وتحلّيه هو الآخر بالأخلاق الفاضلة، يجعل الروح أكثر جلاءً، ويصقلها حتى تكون كالمرآة تنطبع فيها أسرار الله وكونه.
ثم الغالب على أصل المزاج البدني هو الاعتدال، وإنما تعتريه العلل المغيرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال. وكذلك الروح، فكل مولود يولد على الفطرة المعتدلة الصحيحة، وإنما أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، فالمحيط والتربية والتعلّم والتعوّد لها الأثر البالغ في اكتساب الإنسان الرذائل والآثام.
ولما كان البدن في ابتداء خلقه لم يخلق كاملا، وإنما ينمو ويكمل وتقوى القوى فيه بالنشوء والتربية بالغذاء والماء، فكذلك النفس تخلق ناقصة، إلا أنها قابلة للتكامل المنشود في جبلته، والذي خُلق الإنسان من أجله، يصل الإنسان بجهده وجهاده إلى كماله، وأن يكون مظهراً لأسماء الله وصفاته. وتكمل هذه النفس بالتزكية وتهذيب الأخلاق، وتغذيتها بالعلم النافع والعمل الصالح والإيمان الراسخ. وإذا كان البدن صحيحاً، فشأن الطبيب حينئذ تمهيد القانون وبيانه للصحة والمحافظة عليها، وإن كان البدن مريضاً فشأن الطبيب أيضاً جلب الصحة إليه، فكذلك النفس، فإن كانت سليمة وزكيّة ومهذّبة الأخلاق، فينبغي السعي من أجل حفظها وسلامة صحتها وبقائها، واكتساب زيادة صفائها وجلائها، وإن كانت عديمة الكمال، فاقدة للصفاء الروحي، فينبغي الجهد المتواصل لجلب الصحة النفسيّة إليها.
هذا ومن أمراض القلب الخطرة جداً هو الرياء في النوايا والعمل، فإنّه كدبيب نملة سوداء في ليلة ظلماء على صخرة صلداء، فمَن يحسّ بدبيبها؟ وان الرياء من عمل الشيطان الرجيم ليضل الناس ويغويهم ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين﴾.
ويقابل الرياء الإخلاص،"والأعمال بالنيات"ـ كما ورد في الخبر ـ"ولكل امرئ ما نوى"، والنيّة من عمل الجوانح وهو القصد القلبي نحو العمل المقصود اتيانه والمنشود فعله. ولو كانت النية خالصة لله سبحانه فإنها توجب قبول الأعمال، فإنّ الكلم الطيّب ـ وهو الذي فيه الإخلاص كما ورد في الأثر ـ يصعد إلى الله سبحانه، وإنما يتقبّل الله من المتقين، والإخلاص أساس التقوى.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى، تنجلي عنهم كلّ فتنة ظلماء.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: العلماء كلّهم هلكى إلّا العاملون، والعاملون كلّهم هلكى إلاّ المخلصون والمخلصون على خطر.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إذا عملت عملا فاعمل لله خالصاً لأنّه لا يقبل من عباده الأعمال إلا ما كان خالصاً.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ليست الصلاة قيامك وقعودك إنما الصلاة إخلاصك، وأن تريد بها وجه الله.
وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام: العمل كلّه هباء إلا ما أُخلص فيه.
وقال عليه السلام: ضاع مَن كان له مقصدٌ غير الله.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: ولابدّ للعبد من خالص النيّة في كلّ حركة وسكون ; لأنه إذا لم يكن ذلك منه يكن غافلا، والغافلون قد وصفهم الله تعالى فقال: ﴿هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ وقال: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.
قال الله تعالى عن لسان نبيّه: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ *وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِين﴾.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ لكل حقّ حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحبّ أن يحمد على شيء من عمل لله.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر:"أما علامة علامات الُمخلص فأربع: يسلم قلبه وتسلم جوارحه وبذل خيره وكفّ شرّه.
وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: مَن لم يختلف سرّه وعلانيته، وفعله ومقالته فقد أدّ الأمانة وأخلص العبادة.
قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين في بيان حقيقة الإخلاص ـ بعد أن ذكر أقوال الشيوخ فيها: الأقاويل في هذا كثيرة ولا فائدة في تكثير النقل بعد انكشاف الحقيقة، وإنما البيان الشافي بيان سيد الأولين والآخرين، إذ سُئل عن الإخلاص فقال:"هو أن تقول ربّي الله ثم تستقيم كما أُمرت"أي لا تعبد هواك ونفسك ولا تعبد إلا ربّك، وتستقيم في عبادته كما أمرك ـ إياك نعبد وإياك نستعين ـ وهذه إشارة إلى قطع كلّ ما سوى الله عزّ وجلّ من مجرى النظر وهو الإخلاص حقّاً.
ثم من آثار الإخلاص في حياتنا الفردية والاجتماعيّة، وفي العلميّة والعمليّة، هو تفجّر ينابيع الحكمة وجريانها من قلب المخلص على لسانه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عزّ وجلّ: لا أطلّع على قلب عبد فأعلم منه حبّ الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي إلا توليت تقويمه وسياسته.
وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام: غاية الإخلاص الخلاص. والمخلص حريّ بالإجابة، وعند تحقق الإخلاص تستنير البصائر، وبالإخلاص ترفع الأعمال، وفي إخلاص النيّات نجاح الأمور، ومَن أخلص بلغ الآمال، أخلص تنل.
حريّ أن تكتب هذه الكلمات بأقلام من نور على وجنات الحور، فما أروع قوله عليه السلام: أخلص تنل. كلمتان فقط ولكن فيها ما فيها من الأسرار والحِكم والحقائق، فإن الإنسان إنما ينال ما ينال بالإخلاص.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: إن المؤمن ليخشع له كلّ شيء ويهابه كلّ شيء، ثم قال: إذا كان مخلصاً لله أخاف الله منه كلّ شيء حتى هوام الأرض وسباعها وطير السماء.
ثم يا هذا هل بعد الإخلاص من مقصود ومنشود؟
وقد قال الإمام الباقر عليه السلام: ما بين الحق والباطل إلا قلّة العقل ـ أي من يختار الباطل فهذا من قلّة عقله ـ قيل: وكيف ذلك يا بن رسول الله؟ قال: إن العبد يعمل الذي هو لله رضىً فيريد به غير الله، فلو أنه أخلص لله، لجاءَه الذي يريد في أسرع من ذلك.
هذا في الإخلاص الذي هو من جنود العقل، ويقابله الرياء الذي هو من جنود الجهل، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابن مسعود: يا بن مسعود إياك أن تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميين، وأنت فيما بينك وبين ربّك مصر على المعاصي والذنوب. يقول الله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور﴾.
وقال: أشد الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيراً ولا خير فيه.
قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: المرائي ظاهره جميل وباطنه عليل.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: إياك والرياء فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذا صعد بحسناته يقول الله ـ عزّ وجلّ ـ اجعلوها في سجّين إنه ليس إيّاي أراد به.
وفي حديث آخر: تصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجاً به فيطأُون الحجب كلّها حتى يقوموا بين يدي الله فيشهدوا له بعمل صالح ودعاء، فيقول الله تعالى: أنتم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إنه لم يردني بهذا العمل عليه لعنتي.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن المرائي
يُنادى يوم القيامة: يا فاجر ! يا غادر ! يا مرائي ! ضلّ عملك وبطل أجرك، اِذهب فخذ أجرك ممّن كنتَ تعمل له.
وقال الصادق عليه السلام: ما على العبد إذا عرفه الله ألاّ يعرفه الناس؟ إنّه من عمل للناس كان ثوابه على النّاس، ومن عمل لله كان ثوابه على الله، وإن كلّ رياء شرك.
قال الله عزّ وجلّ: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريءٌ فهو للذي أشرك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله تعالى لا يقبل عملا فيه مثقال ذرّة من رئاء.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا بن مسعود إذا عملت عملا من البرّ وأنت تريد بذلك غير الله فلا ترج بذلك منه ثواباً فإنّه يقول: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾.
وعن شدّاد بن أوس قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يبكي، فقلتُ: يا رسول الله ! ما يبكيك؟ فقال: إني تخوّفت على أُمتي الشرك أما إنّهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً، ولكنهم يراؤون بأعمالهم.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: يُجاء بعبد يوم القيامة قد صلّى فيقول: يا ربّ صلّيت ابتغاء وجهك فيقال له: بل صليت ليقال ما أحسنَ صلاة فلان اذهبوا به إلى النار.
ولكلّ شيء علامة، وقد جاء في علامة المرائي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"اما علامة علامات المرائي فأربع ; يحرص في العمل لله إذا كان عنده أحد، ويكسل إذا كان وحده، ويحرص في كل أمره على المحمدة، ويحسن سمته بجهده".
وقال الإمام الباقر عليه السلام: الإبقاء على العمل أشدُّ من العمل. قال الراوي وما الإبقاء على العمل؟ قال: يَصلُ الرجل بصلة، وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سراً، ثم يذكرها فتمحى فتكتب له علانيةً، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياءً.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصف المؤمن: لا يعمل شيئاً من الخير رياءً، ولا يتركه حياءً. وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين عليه السلام: كلّ حسنة لا يراد بها وجه الله تعالى فعليها قبح الرياء وثمرها قبح الجزاء.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: ما كان من الصدقة والصلاة والصوم وأعمال البرّ كلّها تطوّعاً فأفضلها ما كان سرّاً، وما كان من ذلك واجباً مفروضاً فأفضله أن يعلن به، فالرياء حرام والمرائي عند الله سبحانه ممقوت ومغضوب عليه، وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار والآثار كما ذكرنا.
هذا غيض من فيض في أخبار الإخلاص والرياء وبيان حدودهما وما يترتب عليهما من الآثار في الدنيا والآخرة. وبعد هذه الوقفة العاجلة عند عظمة الأخلاق الإسلاميّة، ودورها البالغ في حياة المسلم الرسالي، وبعد عرض موجز عن الإخلاص والرياء، وإنّ القلبَ منشؤهما ومحطهما، فإنه العالم بالله وهو العامل لله، والساعي والمخلص والمتقرب إليه، وهو الكاشف بما عند الله ولديه، وإنما الجوارح أتباع له، وخَدَم وآلات يستخدمها القلب كاستخدام الراعي للرعيّة، وهو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عنه إذا صار مستغرقاً بغير الله، وهو المخاطب وهو المطالب، وهو المثاب والمعاقب، فيفلح الإنسان إذا زكّاه، ويشقى ويخيب إذا دَنّسَهُ ودسّاه، وهو المطيع لله بالحقيقة، وإنما التي تظهر على الجوارح الظاهرية من العبادات أنواره، فهو سلطان البدن، وهو العاصي المتمرد على الله، وإنما الساري على الأعضاء من الفواحش آثاره. وبظلمانيته ونورانيته تتجلّى المحاسن الظاهرية ومساويها، فإن كلّ إناء بما فيه ينضح، وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، ومن عرف نفسه عرف ربّه، فتارة يهوي إلى أسفل السافلين ويكون كالأنعام بل هو أضلّ سبيلا، وأخرى يصعد إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقرّبين.
ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ويترصّد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه ومنه، فهو ممّن قال الله تعالى فيه: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون﴾. فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه أصل الدين، وأساس السالكين، فلا تغفل.
فلابدّ للمؤمن من أن يخلص في نواياه وأعماله، وحركاته وسكناته، حتى يلقى الله وليس في قلبه سواه وذلك هو القلب السليم، الذي ينفع في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
والمؤمن الحاج، والمؤمنة الحاجة لابدّ لهما من الإخلاص في مناسكهما، وفي حجّهما وعمرتهما، فإنّ الحجَّ من فروع الدين ومن العبادات، وشرطها الأوّل النيّة الخالصة متقرّباً بها إلى الله سبحانه وتعالى.
والحجُّ من العبادات الدينية والسياسيّة والاجتماعية ذات المفاهيم القيّمة، روحياً وبدنياً، فرديّاً واجتماعيّاً، في جميع جوانب الحياة من العبادة، والإقتصاد والسياسة، والثقافة والحضارة، والأخوة الإسلاميّة وغير ذلك.
ويكفي في شرافة الحج، ومقامه الشامخ في الدين الإسلاميّ الحنيف، أنه أحد الأركان التي بني عليها الإسلام، فهو من الأسس الأولى التي يعلو عليها الإسلام العظيم. وتتجلّى في الحجِّ روح المحبّة والأخوة والصفاء، وحكومة الروحانيّات على الماديّات. وكل مسلم متحمّس لدينه يرى في حجّه وعمرته، أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأن هذا الدين القيم لو تمسّك به أهلُه حقَّ التمسك، وطبقوه في كل زوايا حياتهم لحكم العالم ولرفرفت راياته على ربوع الأرض ولو كره المشركون.
فإن الإنسان الضائع، والبشرية التائهة تجد انشودتها وسعادتها في هذا الدين، فهو يتكفل سعادة الإنسان في داري الدنيا والآخرة.
فالحجُّ يمثّل بوضوح عزّ الإسلام وبقاءه وسلطانه، وكرامة المسلمين وشرفهم، فليس لأُمّة وملّة من الأمم والملل مثل هذا المؤتمر العالمي العظيم، والمشهد السنوي الكبير، الحافل بالخيرات والبركات ; ليشهدوا منافع لهم ; ليجتمع فيه المسلمون من شرق الأرض وغربها على اختلاف جنسيّاتهم، وطوائفهم، واشكالهم وألوانهم ولغاتهم، ولا يتميز غنيّهم عن فقيرهم ورئيسهم عن مرؤوسهم، وكلّ واحد منهم وقد اتزر بأحد ثوبي الإحرام وارتدى بالآخر ; ليلبي دعوة الله، التي يدوي صداها عبر الأحقاب والأجيال من شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾.
فالحجّ فلاح وصلاح وقد أفلح من اقامه، ورفع بنيانه كما أمر الشارع به، وإنما ركّز القرآن الكريم، ورسولُ الله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته الأطهار عليهم السلام على الحجِّ لما فيه من المغزى والمعنى الملكوتي، ولأنّه يحتوي على كثير من العبادات، والفضائل الأخلاقية، والخير والإحسان الاجتماعي، والثواب الأخروي فإنه من بين أركان الإسلام ومبانيه، عبادة العمر وختام الأمر، وتمام الإسلام وكمال الدين فيه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً".
فهو نقلة اجتماعية، ورحلة جماهيريّة يتّجه فيها الناس من كل صوب ومكان ; لأداء فريضة إلهيّة واجبة، في مكان مقدس واحد هو أشرف بقاع الأرض: مكّة المكرّمة. وفي زمان واحد من الأشهر الحرم، ذي الحجة المبارك ; ليمارسوا شعائر موحدة، ومناسك دينيّة، وطقوساً خاصة، تجرّد الإنسان عن عالم الماديّات، وتحلّق بروحه إلى عالم ملكوتي وروحاني بلا نهاية، إلى الرفيق الأعلى فيكون قاب قوسين أو أدنى.
ولكن نوايا الناس مختلفة، والإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره وأستاره، فقد روي في خبر من طريق أهل البيت عليهم السلام:"إذا كان آخر الزمان خرج الناس للحجِّ أربعة أصناف: سلاطينهم للنزهة، وأغنياؤهم للتجارة، وفقراؤهم للمسألة، وقرّاؤهم للسُّمعة"
فليس كلّ من أدى فريضة الحجِّ نال الكمال وبلغ العُلى، بل بشرطها وشروطها والإخلاص أوّل شروطها.
قال الإمام الصادق عليه السلام: الحجُّ حجّان: حجٌّ لله وحجٌّ للناس، فمن حجّ لله كان ثوابه على الله الجنّة، ومن حجّ للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة.
ولا يخفى أنّ من يدخل الجنة فهو من السعداء لقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا...﴾، فمن كان سعيداً في حجّه، إنما يخلص لله في مناسكه ويبتغي وجه الله في أعماله، ومن عمل للناس فقد خسر الدنيا والآخرة، فإن الدنيا الدنيّة دار ممرّ، وأهل الدنيا لا وفاء لهم، وفي الآخرة كلّ ينادي وانفساه، وكلّ يفرّ من أخيه وصاحبته وبنيه وعشيرته التي كانت في الدنيا تؤويه. فمن الحماقة وقلّة العقل أن يعمل الإنسان لغير الله سبحانه، كما ورد في الخبر.
قال الإمام الصادق عليه السلام: مَن حجّ يريد به الله ولا يريد به رياءً وسمعة غفر الله له البتّة ـ أي قطعاً.
فمن حجّ ليُنادى في المجتمعات والنوادي: يا حاج فلان، يا حاجّة فلانة، وليفخر على الآخرين ويتطاول عليهم، لم يصيبه من حجّه إلا التّعب والنّصب. والأعمال العبادية تبطل بالرياء فيجب إعادتها وقضاؤها حينئذ. فهل بعد هذا إلا الإخلاص في النوايا والعمل؟!
وعن الإمام الصادق عليه السلام في حديث يذكر علامات ظهور المهدي عليه السلام:... ورأيت طلب الحجّ والجهاد لغير الله... فكن على حذر واطلب من الله النجاة.
ختامه مسك:
ولنختم الموضوع بما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في أسرار الحجّ ودقائقه، وعلوّ معانيه وسموّ مفاهيمه:
روي في مصباح الشريعة عنه ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وأولاده الطاهرين ـ أنّه قال:"إذا أردت الحجَّ فجرّد قلبك لله تعالى من كلّ شاغل وحجاب كلِّ حاجب، وفوِّض أمورك كلَّها إلى خالقك،
وتوكّل عليه في جميع ما تظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك، وقوّتك وشبابك ومالك، مخافة أن يصير ذلك عدوّاً ووبالا، فإنّ من ادعى ابتغى رضا الله، واعتمد على ما سواه، صيّره عليه وبالا وعدوّاً ; ليعلم أنّه ليس له قوّة وحيلة، ولا لأحد إلاّ بعصمة الله وتوفيقه.
فاستعد استعداد من لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحبة، وراع أوقات فرائض الله وسنن نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، وما يجب عليك من الأدب، والاحتمال والصبر، والشكر والشفقة، والسخاوة وإيثار الزاد على دوام الأوقات، ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفا، والخضوع والخشوع، وأحرم من كلِّ شيء يمنعك عن ذكر الله، ويحجبك عن طاعته، ولبِّ تلبية صادقة صافية، خالصة زاكية لله تعالى في دعوتك، متمسّكاً بالعروة الوثقى، وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش، كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت، وهرول هرولة من هواك، وتبرّأ من حولك وقوّتك، واخرج من غفلتك وزلاّتك بخروجك الى منى، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه، واعترف بالخطايا بعرفات، وجدّد عهدك عند الله تعالى بوحدانيّته وتقرب إليه، واتّقه بمزدلفة، واصعد بروحك إلى الملإ الأعلى بصعودك على الجبل، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة، وارم الشهوات والخساسة والدناءة والذميمة عند رمي الجمرات، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك، وادخل في أمان الله، وكنفه، وستره وكلاءته، من متابعة مرادك بدخولك الحرم، ودُر حول البيت محقّقاً لتعظيم صاحبه، ومعرفة جلاله وسلطانه، واستلم الحجر رضا بقسمته وخضوعاً لعزّته، وودّع ودع ما سواه بطواف الوداع، واصف وصفِّ روحك وسرّك للقائه يوم تلقاه بوقوفك على الصفا، وكن بمرأىً من الله، نقيّاً ونقِّ أوصافك عند المَروة، واستقم على شرط حجّتك هذه، ووفاء عهدك الذي عاهدتَ به مع ربّك، وأوجبته له الى يوم القيامة.
واعلم بأنّ الله ـ تعالى ـ لم يفرض الحجّ، ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ ولا شرع نبيّه سُنّةً من خلال المناسك على ترتيب ما شرّعه، إلّا للإستعانة والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة، وفضل بيان السبق من الدخول في الجنّة أهلها، ودخول النار أهلها بمشاهدة مناسك الحجّ من أولها إلى آخرها لأولي الألباب وأولي النهى، انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه، واغتنموا الفرص يا ضيوف الرحمن، ويا حجّاج بيت الله الحرام، وإنما يتقبّل الله من المتّقين المخلصين1.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
1-العلامة عادل العلوي/ مجلة ميقات الحج.
الأهداف الاجتماعيّة للحجّ الإبراهيمي
إنّ الحجّ الذي جعله الله فريضةً من أعظم الفرائض بقوله تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ آل عمران/97.
وأوجبها في أيام معدودات معلومات. ترمي في حقيقتها وواقعها إلى أهداف كبيرة، تتصل في جانب أساسي منها باْلأُمة المسلمة كياناً وقياماً وحضارةً. وإذا كان الجانب العبادي الصِرف في هذه الفريضة متجليّاً في المناسك المعروفة، فإنّ هذه المناسك التي تُؤدى في الحج تنبىء أيضاً بالجانب الإِجتماعي وبالأهداف العظيمة المتوخاة منها، ونستطيع أن نتبين هذه الأهداف ونحددها في ضوء ماورد في شأن الحجّ من الآيات المباركة والروايات المتضافرة، وما حُفّ به الحجّ، كما في لسان بعض الروايات، من تأكيدات وصلت إلى الحدّ الذي يقول فيه الإِمام عليه السلام : "لو عطل الناسُ الحجَّ لوجب على الإِمام أن يجبرهم على الحج...".
ولعل من أهم تلك الأهداف والوظائف التي يمكن أن يؤديها الحجُّ بالنسبة إلى المسلمين هي:
أولاً: إدخال الأمة المسلمة في تجربة التوحيد والوحدة:
أي بصورة فعلية وليس من خلال مجرد الدعوة والحثّ على ذلك.وفلسفة هذا الأمر; أنّ الشرك الخفي يمكن أن يتسرب إلى النفوس، وأنّ دواعي الفرقة والاختلاف متوافرة دائماً، ولذا فلا بدّ من زرق الأفراد بالمضاد الحيوي، ولا بدّ من نفي لتلك الدواعي. ومناسك الحج من أقوى عناصر الضد والنفي. فالإِحرام حيث الكلُّ بلباس واحد، والتلبية حيث الكلُّ بنداء سماوي واحد "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك لا شريك لك..." ثم السعي والطواف والأفاضة، كلّ تلك الشعائر والمناسك، تجعل الجميع في حالة عبودية واخلاص، فتلغى بصورة عملية فوارق اللون والجنس والمذهب والانتماء والمنصب، فلا خصوصية ولا شأنية ولا إمتياز إذ الكلُ على صعيد واحد عبيدٌ للهِ الواحد.
وقد نبّه الإِمام علي عليه السلام إلى هذا المعنى قائلاً: " ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تُبصر ولاتَسمع، فجعلها بيته الحرام "الذي جعله للناس قياماً " ـ إلى أن قال عليه السلام:" ثم أمَر آدم عليه السلام وَ ولدهَ أن يثنوا أعطافهم نحوه فصار ذُللاً يُهلِّلون للهِ حولَه، ويرملون على أقدامهم شُعثاً غُبراً له قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم... ".
وقال عليه السلام في خطبة أخرى: "وفرضَ عليكم حجّ بيته الحرام الذي جعله قبلةً للأنام... وجعله سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته، واذعانهم لعزته... ".
وفي مقطع من خطبةِ الزهراء عليها السلام قالت عليهم السلام "وجعلَ الحجّ تشييداً للدين... ".
وقال العلاّمة الطباطبائي في بيانه المنافع الدنيوية والاخروية للحج: "وعمل الحجّ بماله من المناسك يتضمن أنواع العبادات من التوجه إلى الله وترك لذائذ الحياة وشواغل العيش والسعي إليه بتحمل المشاق والطواف حول بيته والصلاة والتضحية والإِنفاق والصيام وغير ذلك... ثم قال: إن عمل الحجّ بماله من الأركان والأجزاء يمثل دورة كاملة مما جرى على إبراهيم عليه السلام في مسيرة في مراحل التوحيد ونفي الشريك وإخلاص العبودية لله سبحانه".
ولعل من المناسب أن نذكر أيضاً مااستظهره الشيخ جوادي آملي من أسرار الحج قائلاً: "إنّ العبادة، أية عبادة كانت يُعتبر فيها الخلوص، قال تعالى:(ألا لله الدين الخالص )، إلاّ أنّ تجلي ذلك الخلوص في بعضها أظهر، وطرد الشرك في بعضها أقوى وأجلى، ومن ذلك الحجّ حيث إنّ التوحيد قد تمثّل به، وصارَ هو بأسره من البدوِ إلى الختمِ مثالاً للتوحيد وطرداً للشرك... ".
ثم لا ريب بعد ذلك أن تكون كلمة التوحيد، والإِخلاص للحق تعالى يقودهم إلى وحدة الكلمة، ووحدة الموقف، ووحدة الهدف.
ثانياً: التقريب بين المسلمين والتآلف بينهم:
إنّ الشريعة الاسلامية شريعة واقعية، بمعنى انها وإن كانت تهدف إلى غايات سامية ومرامي بعيدة، وتضع الوسائل العملية لبلوغها، إلاّ أنها في عين الوقت تنظر إلى الواقع الحياتي بما هو عليه من تعقيد وبما ينطوي عليه من إشكالات، وبما يموج به من حقائق، ولذلك ونظراً لطبيعة الظروف الموضوعية التي تمرُّ بها الأمة فإنّ هدف الوحدة وإن كان مطلوباً فعلاً، إلاّ أنه تكتنف تحقيقه صعوبات جدية، وإذا كان موسم الحج (الأيام المعلومة والمعدودة) يمكن أن تخلق شعوراً عالياً بالوحدة والتوحّد إلاّ أنّ الناس عند ما يتحلّلون من الاحرام، ويعودون إلى أوطانهم تبدأ العوامل الموضوعية تفعل فعلها ومن هنا كان الحجّ ناظراً إلى تحقيق هدف أقرب واقعية، وأيسر منالاً، ثم هو لا يقلُّ أهميةً وخطراً عن هدف الوحدة، وذلك هو هدف (التقريب بين المسلمين) من خلال تحقيق فهم مشترك، وتفهم واطلاع كلّ فريق بما عليه الفريق الآخر من أداءً لنفس المناسك وقيام بنفس الأعمال، وانكشاف لما يدين به الجميع من توحيد الربّ تعالى، ونفي الشرك عنه، والشهادة للنبي الأكرم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله بالنبوة والرسالة وتعظيمه وتبجيله، وحينئذ سيري كلّ فريق الفريق الآخر على حقيقته، وسيجد الجميع أنفسهم أنهم يؤدون مناسك واحدة، ويقومون بتلبية واحدة، ويتوجهون إلى قبلة واحدة ويفيضون إفاضةً واحدة. وسيجد المسلمون أنفسهم أيضاً في صلواتهم وقيامهم وسعيهم وطوافهم أنهم ينطقون بالشهادتين ويهتفون بنداء واحد. وسيكتشف الجميع أنهم أبناء ملة واحدة، وأنهم أمة من دون الناس. وأنّ دماءهم عليهم حرام وأموالهم عليهم حرام وأعراضهم عليهم حرام، كحرمة يومهم وكعبتهم " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه " كما صرّح بذلك أمين الله على وحيه خاتم المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وآله.
وعند ذاك سينكشف أمامهم زيفُ دعاوي الخصوم ودعاة التفرقة، والمروجين للأراجيف التي يطلقها الأعداء ضدَ مذاهبهم ومدارسهم الكلامية أوالفقهية.
وليس هناك أعظم من الحج مؤتمراً تُعلن فيه الحقائق، وتتبين فيه العقائد، وتتضح فيه أسباب التآلف والتقارب.
وقد أشارَ العلامة الطباطبائي إلى هذا المعنى قائلاً: "فإذا اجتمعت أقوامُ وأممٌ من مختلف مناطق الأرض وأصقاعها، على مالهم من اختلاف الأنساب والألوان والسنن والآداب، ثم تعارفوا بينهم وكلمتهم واحدة هي كلمة الحق، وإلههم واحد وهو الله عزّ اسمهُ، ووجهتهم واحدة هي الكعبة البيت الحرام حملهم اتحاد الأرواح على تقارب الأشباح، ووحدة القول على تشابه الفعل... ".
ثالثاً : التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي:
لا ريب أنّ التبادل في التجارات مدعاة لنموّ الثروات وزيادة الدخل ورفاه المجتمع، وأنّ تبادل الخبرات والتعاون الاقتصادي له أثره الكبير على تقوية الأواصر، والإِسهام في سدّ احتياجات الأمة المعاشية، وربما يقود استمرار التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي إلى تحقيق التكامل الاقتصادي في الأمة والاكتفاء الذاتي، وبذلك يتحقق ما يهدف إليه الشرع الشريف من أن تكون الأمة المسلمة (أمة من دون الناس)، يسود بينها التعاضد والتعاون، وتنفتح على الأمم وفق عهود والتزامات متقابلة.
ولقد وردت في كتب التفسير وفي الروايات ما ينبىء بكون الحجّ يؤدي مثل هذه الوظيفة المهمة، ويحقق تلك الأهداف الكبيرة.
فقد ذكر الزمخشري في الكشّاف لمناسبة تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ الحج 27:28.
قال: "نكّر المنافع أي في الآية لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة، دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات... ". وإليه ذهب أبو السعود. ونقل ابن كثير روايةً عن ابن عباس فسرّ فيها منافع الدنيا بما يصيبون من التجارات ونقل الطبرسي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنّ المنافع في الآية التجارات. وأورد هذا المعنى الرازي في تفسيره، قال في المسألة الأولى: أنه تعالى لما أمرَ بالحج في قوله: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَج﴾ ذكر حكمة ذلك الأمر في قوله تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ قال: واختلفوا فيها فبعضهم حملها على منافع الدنيا، وهي أن يتّجروا في أيام الحج....
وأوضحُ منهم ما صرّح به العلامة الطباطبائي في الميزان قائلاً: "وقد اطلقت المنافع ولم تتقيد بالدنيوية أوالأخروية، والمنافع نوعان: منافع دنيوية، وهي التي تتقدم بها حياة الأنسان الاجتماعية ويصفو بها العيش، وترفع بها الحوائج المتنوعة وتكمل بها النواقص المختلفة من أنواع التجارة والسياسة والولاية والتدبير وأقسام الرسوم والآداب والسنن والعادات ومختلف التعاونات والتعاضدات الاجتماعية وغيرها ".
وقد جاءت بعض الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ولسانها يصرّح بذلك. فعن هشام بن الحكم قال: "سألت أبا عبدالله عليه السلام فقلت له: ما العلة التي من أجلها كلّف الله العباد الحجّ والطواف بالبيت؟ فقال: إنّ الله خلق الخلقَ... إلى أن قال: وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد... ".
ونقل في الوسائل عن العلل وعيون الأخبار بأسانيد عن الفضل بن شاذان، عن الرضا عليه السلام، في حديث طويل قال: "إنما اُمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عزّوجل وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترب العبد تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس عن اللذات، شاخصاً في الحر والبرد، ثابتاً على ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلل. ـ ثم قال عليه السلام ـ: مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البرّ والبحر، ممن يحجّ، من بين تاجر وجالب وبائع ومشتر... ".
رابعاً : جعل حركة الفرد المسلم لا تنفصل عن الأمة:
إنّ الفرد المسلم في الحج يشعر شعوراً قويّاً، ويدرك إدراكاً واضحاً أنه (فردٌ في أمة)، عليه أن يتصرف ويتخذ المواقف انطلاقاً من هذه الصفة.
وإذا كان الاسلام قد ربّى الفرد المسلم على مثل هذا الشعور كما هو الأمر في صلاة الجماعة، أوفي الجمعة أوفي العيدين، وغيرها من العبادات ذات الصفة الجماعية، فلأنه ربما لا يتأتي له مثل هذا الأمر بلحاظ أنّ بعض هذه العبادات ليست إلزامية، وبالتالي فهو يستطيع التحلل منها. ولكنّ الأمر في الحج مختلف تماماً فهو يجب أن يؤدي المناسك ضمن (الأمّة) كفرد فيها يتحرك بحركتها، ويقف المواقف معها، ويشهد المشاعر معها، يطوف بطوافها، ويسعى معها، ويفيض معها وينحر معها، ويفعل كل أفعال الحج مع الأمة مجتمعةً.
وبذلك سيدرك الفرد المسلم أنه لا كيانَ له إلاّ بكيان الأمّة ولا هويّة لا إلاّ هويّة الأمّة المسلمة، وأنّ المسلمين ذمتهم واحدة يسعى بها أدناهم.
ومن هنا أيضاً يتحرك المسلمون ـ بعد وعي تلك الحقيقة ـ ليعلنوا الموقف الموحد إزاء الشرك والكفروهذا ما كان يهدف إليه الحج الأكبر كما نطقت به الآية المباركة: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ التوبة/3.
وفي رواية عن الامام عليه السلام قال: "عليكم بحج البيت فأدمنوه، فإنّ في إدمانكم الحج دفع مكاره الدنيا عنكم وأهوال يوم القيامة ".
ولعل من المناسب أخيراً أن نذكَر فذلكةً في المقام تقوي ما استظهرناه وبيّناه من أهداف الحجّ ووظائفه، بعد أن استندنا في ذلك إلى ظاهر الآيات والروايات وما ذهب إليه العلماء والمفسرون العظام، فنقول:
ـ لقد فرض الله تعالى الحج في أيام معدودات معلومات، وفيها يلزم أن يكون جميع الحجيج حاضري المسجد الحرام، بدءاً من عرفة بلحاظ أن (الحج عرفة) كما ورد، إلى أيام التشريق، وهي يوم الأضحى، عاشر ذي الحجة وثلاثة أيام بعده كما ورد عن أهل البيت عليهم السلام وهذا ينبئ بأنّ هذه الفريضة المباركة تؤدى مناسكها بحضور الجميع. ولو كانت هذه الفريضة ليس فيها غايات اجتماعية عظيمة لترك تأديتها إلى كلّ فرد في أي وقت يشاء. ولكن لما كان الأمرُ في (الأيام المعلومة) فلذلك ليكون الحضور عاماً، ويشهدوا المنافع المطلوبة.
2ـ أنّ المناسك جميعاً يجب أن تؤدى بطريقة واحدة، وبأسلوب واحد وبأوقات واحدة، وهي كلها تصبُّ في هدف صهر الفرد واخضاعه لحركة الأجتماع البشري المتوجه إلى الله تعالى، طوافاً وسعيّاً، وهتافاً (التبية)، وحركةً ومواقف في المشاعر الحرام، وهي بهذه المثابة والصورة تتحقق بها المرامى والغايات المقصودة.
عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر ابن اُذينة قال: كتبت إلى أبي عبدالله عليه السلام بمسائل بعضها مع ابن بكير وبعضها مع أبي العباس فجاء الجواب بإملائه: سئلت عن قول الله عزّوجلّ: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ آل عمران/97. يعني: به الحجّ والعمرة جميعاً لأنهما مفروضان..، وسئلته عن قول الله عزّوجلّ: (وأتموا الحجَّ والعمرة لله )البقرة/196، قال: يعني بتمامهما أداءهما، وإتقاء ما يتقي المحرم فيهما، وسئلته عن قوله تعالى:﴿الْحَجِّ الأَكْبَرِ﴾ التوبة/3 ما يعني بالحج الأكبر؟ قال: الحج الأكبر الوقوف بعرفة ورمي الجمار، والحج الأصغر العُمرة.
وجاء في الوسائل باب أنه يجب الحج على الناس في كل عام وجوباً كفائياً: أورد محمد ين يعقوب أيضاً رواية ينتهي سندها إلى الامام موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: "إن الله عزّوجلّ فرضَ الحج على أهل الجدة في كل عام... ".
وقد وردت عدّة روايات في الوسائل، تحت باب عدم جواز تعطيل الكعبة عن الحج وفي وجوب إجبار الناس عليه ومن ذلك يظهر أن الحجّ فريضة مستمرة دائمة تهدف إلى تلك الأهداف العظيمة، وتحقيق المنافع الدنيوية والأخروية جميعاً.
أللّهم ارزقنا حجّ بيتك الحرام في عامنا هذا وفي كلّ عام1.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
1-عبدالجبار شرارة/ مجلة ميقات الحج.
تحقيق حول مراسم البراءة من المشركين
﴿بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ ورَسولِهِ إلَى الّذينَ عاهَدتُم مِنَ المُشرِكينَ * فَسيحوا فِي الأَرضِ أربَعَةَ أشهُرٍ واعلَموا أنّكُم غَيرُ مُعجِزِي اللّهِ وأنّ اللّهَ مُخزِي الكافِرينَ * وأذانٌ مِنَ اللّهِ ورَسولِهِ إلَى النّاسِ يَومَ الحَجّ الأَكبَرِ أنّ اللّهَ بَري ءٌ مِنَ المُشرِكينَ ورَسولُهُ فَإِن تُبتُم فَهُوَ خَيرٌ لَكُم وإن تَوَلّيتُم فَاعلَموا أنّكُم غَيرُ مُعجِزِي اللّهِ وبَشّرِ الّذينَ كَفَروا بِعَذابٍ أليمٍ﴾.
﴿قَد كانَت لَكُم اُسوَةٌ حَسَنَةٌ في ابراهيمَ والّذينَ مَعَهُ إذ قالوا لِقَومِهِم إنّا بُرَآءُ مِنكُم ومِمّا تَعبُدونَ مِن دونِ اللّهِ كَفَرنا بِكُم وبَدا بَينَنا وبَينَكُمُ العَداوَةُ والبَغضاءُ أبَدًا حَتّى تُؤمِنوا بِاللّهِ وَحدَهُ إلّا قَولَ إبراهيمَ لِأَبيهِ لَأَستَغفِرَنّ لَكَ وما أملِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِن شَي ءٍ رَبّنا عَلَيكَ تَوَكّلنا وإلَيكَ أنَبنا وإلَيكَ المَصيرُ﴾.
العَيّاشِيّ: حَريزٌ عَن أبي عَبدِاللّهِ عليه السلام قالَ: إنّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه واله بَعَثَ أبا بَكرٍ مَعَ "بَراءَةٌ" إلَى المَوسِمِ لِيَقرَأَها عَلَى النّاسِ، فَنَزَلَ جَبرَئيلُ فَقالَ: لا يُبَلّغُ عَنكَ إلّا عَلِيّ، فَدَعا رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه واله عَلِيّا، فَأَمَرَهُ أن يَركَبَ ناقَةَ العَضباءِ، وأمَرَهُ أن يَلحَقَ أبا بَكرٍ فَيَأخُذَ مِنهُ "بَراءَةٌ" ويَقرَأَهُ عَلَى النّاسِ بِمَكّةَ. فَقالَ أبو بَكرٍ: أسَخطَةٌ؟ فَقالَ: لا، إلّا أنّهُ اُنزِلَ عَلَيهِ: لا يُبَلّغُ إلّا رَجُلٌ مِنكَ.
فَلَمّا قَدِمَ عَلى مَكّةَ وكانَ يَومُ النّحرِ بَعدَ الظّهرِ، وهُوَ يَومُ الحَجّ الأَكبَرِ قامَ، ثُمّ قالَ: إنّي رَسولُ رَسولِ اللّهِ إلَيكُم. فَقَرَأَها عَلَيهِم: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ ورَسولِهِ إلَى الّذينَ عاهَدتُم مِنَ المُشرِكينَ * فَسيحوا فِي الأَرضِ أربَعَةَ أشهُرٍ﴾ عِشرينَ مِن ذِي الحِجّةِ ومُحَرّمٍ وصَفَرٍ وشَهرِ رَبيعِ الأَوّلِ، وعَشرًا مِن شَهرِ رَبيعِ الآخَرِ. وقالَ: لا يَطوفُ بِالبَيتِ عُريانٌ ولا عُريانَةٌ، ولا مُشرِكٌ إلّا مَن كانَ لَهُ عَهدٌ عِندَ رَسولِ اللّهِ، فَمُدّتُهُ إلى هذِهِ الأَربَعَةِ الأَشهُرِ.
وفي خَبَرِ مُحَمّدِ بنِ مُسلِمٍ: فَقالَ: يا عَلِيّ، هَل نَزَلَ فِيّ شَي ءٌ مُنذُ فارَقتُ رَسولَ اللّهِ؟ قالَ: لا، ولكِن أبَى اللّهُ أن يُبَلّغَ عَن مُحَمّدٍ إلّا رَجُلٌ مِنهُ. فَوافَى المَوسِمَ فَبَلّغَ عَنِ اللّهِ وعَن رَسولِهِ بِعَرَفَةَ والمُزدَلِفَةِ ويَومَ النّحرِ عِندَ الجِمارِ، وفي أيّامِ التّشريقِ كُلّها يُنادي: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللّهِ ورَسولِهِ إلَى الّذينَ عاهَدتُم مِنَ المُشرِكينَ * فَسيحوا فِي الأَرضِ أربَعَةَ أشهُرٍ﴾ ولا يَطوفَنّ بِالبَيتِ عُريانٌ.
أبُو الصّهباءِ البَكرِيّ: سَأَلتُ عَلِيّ بنَ أبي طالِبٍ عليه السلام عَن يَومِ الحَجّ الأَكبَرِ، فَقالَ: إنّ رَسولَ اللّهِ صلى الله عليه واله بَعَثَ أبا بَكرِ بنِ أبي قُحافَةَ يُقيمُ لِلنّاسِ الحَجّ، وبَعَثَني مَعَهُ بِأَربَعينَ آيَةً مِن "بَراءَةٌ"، حَتّى أتى عَرَفَةَ، فَخَطَبَ النّاسَ يَومَ عَرَفَةَ، فَلَمّا قَضى خُطبَتَهُ التَفَتَ إلَيّ، فَقالَ: قُم يا عَلِيّ وأدّ رِسالَةَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه واله. فَقُمتُ، فَقَرَأتُ عَلَيهِم أربَعينَ آيَةً مِن "بَراءَةٌ". ثُمّ صَدَرنا حَتّى أتَينا مِنى، فَرَمَيتُ الجَمرَةَ، ونَحَرتُ البُدنَةَ، ثُمّ حَلَقتُ رَأسي، وعَلِمتُ أنّ أهلَ الجَمعِ لَم يَكونوا حَضَروا خُطبَةَ أبي بَكرٍ يَومَ عَرَفَةَ، فَطَفِقتُ أتَتَبّعُ بِهَا الفَساطيطَ، أقرَؤُها عَلَيهِم.
تحقيق حول مراسم البراءة من المشركين
إعلان البراءة من المشركين في رؤية الإمام الخمينيّ أحد واجبات الحجّ السّياسيّة. وللتّعرّف على منطلقات هذه النّظريّة وعلى دور أداء هذه الفريضة المهمّة في تحقيق أهداف الإسلام ومقاصده في العالم المعاصر، ينبغي بحث عدد من النّقاط:
1- معنى الشرك والمشركين
الشّرك ضدّ التّوحيد، ومعناه الاعتقاد بالقوى الوهميّة. والموحّد هو المنقطع إلى الحقيقة وإلى التّوحيد. والمشرك عابد للوهم، ومنقاد للقوى الخياليّة والظّنّيّة.
والقوى الوهميّة الّتي يعبدها المشركون على ثلاثة أنواع، وبتعبير آخر: إنّ الأوثان في عالم الشّرك والمشركين ثلاثة أنواع: وثن النّفس، ووثن الجماد، ووثن القوى الطّاغوتيّة.
وقد تكون القدرة الوهميّة أحيانًا هي النّفس الأمّارة، كما أشار القرآن الكريم بقوله: ﴿أرَأَيتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَواهُ﴾، وقد تكون أحيانًا الأوثان المتّخذة من الجمادات، مثل "اللّات" و"هُبَل" اللّذين كانا يُعبدان في الحجاز قبل بعثة النّبيّ صلى الله عليه واله، وقد تكون في أحيان اُخرى وثن السّلطات غير المشروعة وحكم الطاغوت. وقد سمّى الإمام الخمينيّ قدّس سرّه القوى الاستكباريّة ب"الأوثان الجديدة".
الموحّد منقطع إلى الحقيقة وإلى التّوحيد، وليس عابد ذاته، ولا عابد جماد، ولا عابد سلطة. بل الموحّد يرى أنّ اللّه وحده مصدر القدرة، فيعبده وحده، ويذعن له بالطّاعة. ولا يرى النّفع والضّرر إلّا بيد اللّه، فلا يستعين إلّا به، ولا يخاف غيره، ولا يركن إلى أيّة قدرة غير قدرة اللّه، ولا يخشى إلّا اللّه.
ثمّ إنّ المشرك العابد للوهم المطأطئ أمام القدرات الخياليّة ربّما يعبد ذاته، وربّما يعبد ما صنعه بيده، وربّما يعبد المتسلّطين على العالم، وربّما يعبد الثلاثة جميعًا.
هذا ولكنّ الخطر الكبير الّذي يهدّد المجتمعات الموحّدة في هذا اليوم هو الشّرك العمليّ بثالث معانيه، أي عبادة الأوثان الجديدة والقوى الاستكباريّة والخضوع لها. وغاية البراءة من المشركين مجاهدة هذه القوى الطّاغية المتسلّطة على رقاب المسلمين، وتحقيق الاستقلال والعزّة والاقتدار لمسلمي العالم.
2- الأديان الإلهيّة والبراءة من المشركين
كان إبراهيم خليل الرحمن على نبيّنا وآله وعليه السّلام أوّل الأنبياء جهرًا بالبراءة من الشّرك والمشركين بحيث دعا القرآن المسلمين إلى الاقتداء بهذا النّبي العظيم بقوله: ﴿قَد كانَت لَكُم اُسوَةٌ حَسَنَةٌ في إبراهيمَ والّذينَ مَعَهُ إذ قالوا لِقَومِهِم إنّا بُرَآءُ مِنكُم ومِمّا تَعبُدونَ مِن دونِ اللّهِ﴾ واحتذت الاُمّة الإسلاميّة في إعلان البراءة من المشركين حذو هذه الاُسوة النّبويّة في التّاريخ، والنّاظر في القرآن الكريم يجد فيه أنّ البراءة من المشركين أحد ركنَى غ التّوحيد الأصيلَين؛ حيث قرن دعوة الأنبياء إلى التّبرّي من الطّاغوت إلى جوار دعوتهم إلى عبادة اللّه ﴿ولَقَد بَعَثنا في كُلّ اُمّةٍ رَسولًا أنِ اعبُدُوا اللّهَ واجتَنِبُوا الطّاغوت﴾.
و"الطّاغوت" لا ينحصر بالأوثان والأنصاب الّتي اصطُنِعت واتّخذت في عصر الجاهليّة، بل إنّ أجلى مظاهر الطّاغوت هو تلك السّلطات المشركة الّتي تسوق المجتمع إلى وجهة مغايرة لوجهة أنبياء اللّه تعالى. وهذا قول الصّادق عليه السلام في بيان معنى الطّاغوت في الآية السّابعة عشرة من سورة الزّمر: ﴿والّذينَ اجتَنَبُوا الطّاغوتَ أن يَعبُدوها﴾: من أطاع جبّارًا فقد عَبَده.
والمهمّة الأساسيّة هو التّعرّف على المؤامرة المعقّدة الّتي حيكت في تاريخ المسلمين للتّستّر على أجلى مظاهر الطّاغوت والشّرك، لئلّا تشعر المجتمعات الإسلاميّة الخطر من هذه النّاحية، فتظلّ نظرتها إلى البراءة من المشركين حبيسة في نطاق البراءة من أصنام عصر الجاهليّة الاُولى. وقد كشف الإمام الصّادق عليه السلام في عصره عن هذه المؤامرة الخطرة، وأعلن بصوتٍ جهير:"إنّ بَني اُمَيّةَ أطلَقوا لِلنّاسِ تَعليمَ الإيمانِ ولَم يُطلِقوا تَعليمَ الشّركِ؛ لِكَي إذا حَمَلوهُم عَلَيهِ لَم يَعرِفوهُ".
3- زمان البراءة من المشركين ومكانها
ممّا لا ريب فيه أنّ البراءة من المشركين ليست محدودة بزمان أو مكان معيّنين بل يجب على المسلمين، في كلّ زمان ومكان حيثما تقتضي الضرورة إعلان براءتهم الفرديّة والجماعيّة من المشركين. ولا مراء أنّه إذا حدّد وليّ أمر المسلمين زمانًا ومكانًا واُسلوبًا معيّنًا لأداء هذه الفريضة فإنّ إطاعة وليّ الأمر هنا تكون واجبة.
بيد أنّ المسألة المهمّة هي: أيّ مكان وأيّ زمان أنسب وأجدر لإظهار مسلمي العالم براءتهم العامّة من المشركين؟ يمكن القول إنّ بيت التّوحيد هو المكان الأنسب، وإنّ موسم الحجّ خير زمان لإظهار مسلمي العالم براءتهم من الشّرك والمشركين. يقول الإمام الخمينيّ رضوان اللّه تعالى عليه في هذا السّياق:
"أيّ بيت أجدر من الكعبة وبيت الأمن والطّهر والناس لمجانبة العدوان والظلم والاستغلال والاسترقاق والضّعة واللّاانسانيّة، في القول والعمل، ولتجديد ميثاق (ألَستُ بِرَبّكُم، ولتحطيم الآلهة والأرباب المتفرّقين، ولإحياء واستذكار أهمّ وأعظم حركة سياسيّة للنبيّ صلى الله عليه واله في ذلك أنّ سنّة النّبيّ صلى الله عليه واله وإعلان البراءة لا تَبلى. وليس إعلان البراءة مقصورًا على أيّام ومراسم بعينها، بل ينبغي على المسلمين أن يملؤوا آفاق العالم كلّها بمحبّة ذات اللّه وبعشقه، وبالنّفرة والبغض العمليّ لأعداء اللّه...
وعلى أيّ حال، إنّ إعلان البراءة في الحجّ هو تجديد ميثاق المكافحة وتدريب على تشكيل المجاهدين لاستمرار محاربة الكفر والشّرك وعبادة الأوثان. وهذا لا يتلخّص بالشّعار وحده، بل هو بداية إعلان منشور المقارعة والتّنظيم لجند اللّه في قبالة إبليس وجنوده، وهو من الاُصول الأوّليّة للتّوحيد. وإذا لم يُظهر المسلمون البراءة في بيت النّاس وبيت اللّه... فأين يمكن أن يظهروها؟! وإذا لم يكن الحرم والكعبة والمسجد والمحراب خندقًا ومأمنًا لجنود اللّه وللمدافعين عن حِمى الأنبياء وحرمتهم... فأين يكون إذن مأمنهم وملجؤهم؟!
وزبدة المقال: إنّ إعلان البراءة هي المرحلة الاُولى للمقارعة، وإنّ تواصلها مرحلة اُخرى، وهو تكليفنا. إنّ البراءة في كلّ عصر و زمان تتطلّب منّا مظاهر وأساليب ومناهج متناسبة، وينبغي أن نرى ماذا علينا أن نعمل في عصر مثل عصرنا الّذي ألقى فيه رؤوس الكفر والشّرك كلّ ما للتّوحيد في المخاطر واتّخذوا من كلّ المظاهر الوطنيّة والثّقافيّة والدّينيّة والسّياسيّة لعبة لأهوائهم وشهواتهم؟
أعلينا أن نقعد في بيوتنا ساكتين عن التّحليلات الغالطة وعن إهانة مقام الإنسان ومنزلته، وعن بثّ روح العجز والضّعف بين المسلمين، ممّا يقوم به الشّيطان وأبناء الشّيطان، ونمنع المجتمع من الوصول الى الخلوص الّذي هو غاية الكمال ونهاية الآمال... متصوّرين أنّ مجاهدة الأنبياء للأوثان وعبَدة الأوثان لا يتعدّى مجاهدة الحجارة والأخشاب المجرّدة من الرّوح، وأنّ الأنبياء، من مثل إبراهيم، قد عمدوا إلى تحطيم الأوثان، لكنّهم نعوذ باللّه وقفوا إلى جانب الظّالمين متخلّين عن ساحة الجهاد؟! والحال أنّ كلّ ما قام به إبراهيم من تحطيم الأصنام ومن المقارعة والمحاربة للنّمروديّين وعبَدة القمر والشّمس والنّجوم... إنّما هي مقدّمة لهجرة كبرى. وكلّ ما صنعه من هجرة، والتّحمّل للمشاقّ، والسّكن في وادٍ غير ذي زرع، وبناء البيت، والتّضحية بإسماعيل... إنّما هي مقدّمة للبعثة والرّسالة الّتي كرّر فيها خاتم الأنبياء خطاب أوّل وآخر بُناة الكعبة ومشيّديها، وأبلغ رسالته الأبديّة بكلمات أبديّة: ﴿إنّني بَري ءٌ مِمّا تُشرِكون﴾.
وإذا فسّرنا البراءة بغير هذا فلا أوثان في زماننا المعاصر أصلاً. تُرى أيّ إنسان عاقل لم يتعرّف على الوثنيّة الجديدة في أشكالها وتزويرها ومكائدها، ولا علم له بسلطة بيت الأوثان كما هو البيت الأسود (في واشنطن) تتحكّم على البلدان الإسلاميّة، وعلى دماء المسلمين وأعراضهم، وعلى العالم الثّالث؟! 1.
1-الحج والعمرة في الكتاب والسنة / العلامة محمد الريشهري.