
emamian
مدرسة الإمام علي (عليه السلام) العابرة للحضارات والأجيال
إنّ وجود أمير المؤمنين عليه السلام يُعدّ درسًا خالدًا لا يُنسى لكلّ الأجيال البشريّة، من جهاتٍ عدّة، وفي الظّروف والأوضاع المختلفة، سواءٌ أفي عمله الفرديّ والشخصيّ أم في محراب عبادته أم في مناجاته أم في زهده أم في فنائه في ذكر الله أم في جهاده مع النفس والشّيطان والدوافع النفسانية والمادية، وفي جهاده لأجل رفع راية الحقّ وإقامة العدالة...فلو لم يكن أمثال عليّ بن أبي طالب عليه السلام لَما كان اليومَ مِن وجود لأيّ قيمة إنسانيّة، ولما كانت هذه العناوين الجذّابة للنّاس تمتلك أيّ جاذبية، ولما كان للبشر حياةٌ وحضارةٌ وثقافةٌ وآمالٌ وقيمٌ وأهدافٌ ساميةٌ، ولتبدّلت البشريّة إلى حيوانيّة وحشيّة وسبعيّة. فالبشريّة مدِينَة لأمير المؤمنين عليه السلام ولكلّ إنسانٍ بلغ من السموّ مرتبته في حفظ المفاهيم السّامية.
معرفة فضائل الإمام علي عليه السلام ومحبته أمرٌ مطلوب، لكنه غير كافٍ، إذ يجب علينا أن نُقرّب أنفسنا إلى مركز النّور، فلازم وخاصّيّة هذا التقرّب هو التنوّر. يجب علينا أن نُصبح نورانيّين من خلال العمل، لا بواسطة المحبّة الفارغة، العمل الّذي تُمليه علينا هذه المحبّة وتلك الولاية وذاك الإيمان، ويطلبه منّا، بهذا العمل يجب أن نُصبح من هذه العترة والمتعلّقين بها. إذ ليس من السهل أبدًا أن يصير المرء قنبرًا في بيت عليّ عليه السلام. ليس من السهل أن يصبح الإنسان "سلمان منّا أهل البيت"[1]. فالوصول إلى هذا المقام يستلزم العمل والإيثار والتشبّه والتخلّق بأخلاقهم.
الإيثار ومواطنه في حياة أمير المؤمنين عليه السلام
يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾[2]، الآية الشّريفة نزلت في أمير المؤمنين.
والآية تشير إلى أنّ من بين النّاس من يبيع نفسه ووجوده - الوجود الذي هو أعزّ ما عند الإنسان - هذا الرّأسمال العزيز الوحيد الّذي لا يُمكن جبرانه ، بحيث أنَّك لو قدّمته لن يكون بعدها عنه بديل. فبعضٌ يُقدّم هذا الرأسمال وهذا الوجود دفعةً واحدة من أجل الحصول على رضا الله لا غير، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي﴾ أي يبيع نفسه ويُقدّم وجوده ﴿ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾، فلا يوجد أيّ هدفٍ آخر أو أيّ مقصدٍ دنيويّ أو أيّ دافعٍ ذاتيّ، بل فقط جلب رضا الله. وفي مقابل مثل هذا الإيثار وهذه التضحية، فإنّ الله لا يُمكن أن يكون من دون ردّ فعل مناسب: ﴿وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾. فمصداق الإيثار الكامل هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
الناظر إلى تاريخ حياة أمير المؤمنين عليه السلام، منذ الطفولة، ومنذ ذلك الوقت الّذي كان فيه في سنّ التاسعة أو الحادية عشرة، يرى أنّه كان قد آمن بنبوّة الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأدرك الحقيقة بوعيٍ تامّ، وتمسّك بها، ومنذ تلك اللحظة وإلى حين لحظة محراب العبادة، سَحَر يوم التاسع عشر من شهر رمضان، قدّم نفسه في سبيل الله مسرورًا متشوّقاً إلى لقاء ربّه. فطوال هذه السّنوات الخمسين تقريبًا، أو أكثر، منذ سنّ العاشرة وحتى سن الثالثة والستين، يُلاحَظ أنّ هناك خطًّا واحدًا مستمرًّا يشرح ويُبيّن حياة أمير المؤمنين عليه السلام، وهو خطّ الإيثار. وفي كلّ القضايا الّتي مرّت عليه عليه السلام طيلة هذا التاريخ الممتدّ لـ خمسين سنة، تظهر علائم الإيثار من البداية وحتّى النّهاية: فمثلاً، خلال عهد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وفي بداية الدعوة، تحمّل أمير المؤمنين الأذى والسخرية منذ بداية إيمانه بالنبيّ، وعندما كان ما زال في مرحلة الطّفولة.
تصوّروا مدينةً يستخدم أهلها العنف بشكل طبيعيّ، ولم يكونوا متحضّرين ووقورين ولائقين. قومٌ يتشاجرون عند أدنى مسألة، وشديدو التعصّب للعقائد الباطلة. في مثل ذلك المجتمع، طُرحت رسالة من إنسانٍ عظيم جعلت كلّ شيء في ذلك المجتمع مورد تشكيك، على مستوى العقائد والآداب والتقاليد، فمن الطبيعيّ أن ينهض الجميع، وبكلّ طبقاتهم، حتّى عوام النّاس، لمخالفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فحتّى يقوم شخص بالدّفاع عن هكذا إنسان، وعن هكذا رسالة، بكلّ وجوده، ويقوم باتّباعه، فإنّ ذلك يتطلّب نكران الذّات. وكانت هذه خطوة أمير المؤمنين الأولى في نكران الذّات.
[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج10، ص 123.
[2] سورة البقرة، الآية 207.
دوافع الغرب الحقيقية في طرح قضايا المرأة
1- إستغلال المرأة:
أ- في العمل:
في أوروبّا حتّى حينما شرّعوا للمرأة حقّ الملكية، فقد كان الدافع إليها ـ وفقاً للدراسات التي أجراها علماء الاجتماع الأوروبيون أنفسهم ـ
هو حاجة المصانع إلى المزيد من الأيدي العاملة، في وقت كانت فيه التقنية الحديثة والصناعات قد اتّسع مداها وتطوّرت، وكان ذلك الإجراء بمثابة محفّز لاستقطاب هذه الأيدي العاملة التي كانوا يدفعون لها عادة أجوراً أدنى، ولم يشرّع حقّ الملكية هذا إلّا في مطلع القرن العشرين[1].
الأوروبيين عندما تقدّموا صناعياً (أوائل القرن التاسع عشر) وفتح الرأسماليون الغربيون مصانع كثيرة، كانوا بحاجة إلى عمّال بأجور زهيدة لا يثيرون العناء، ولذا رفعوا ضجّة حرّية المرأة من أجل سحب المرأة من الأسرة إلى المصانع والاستفادة منها باعتبارها عاملاً زهيد الأجر، فيملؤون جيوبهم، ويسقطونها من كرامتها ومنزلتها[2].
ب- في إخماد الشهوة:
المرأة في النظرة الغربيّة هي وسيلة لإخماد الشهوة، وهو أمرٌ لا يمكن إخفاؤه وإنكاره.
2- إشاعة الفساد في البلدان الاسلاميّة:
طوال هذه السنوات التسع عشرة، من أوّل الثورة وإلى يومنا هذا، دأبوا على نسج الأكاذيب حول رؤية الإسلام والجمهورية الإسلامية بشأن المرأة.
الغربيون يريدون أن يبقى الرجل والمرأة، والفتيان والشيوخ، يساقون ـ كما كان الحال في العهد البهلويّ ـ نحو مهاوي الرذيلة والتحلّل. ويطمحون إلى اتّباع نفس هذا السياق في ظلّ نظام الحكم الإسلاميّ، ويبغون إشاعة نفس ذلك البلاء الذي حلّ بالدول الغربية وأضحى اليوم مثار قلق للحريصين في تلك البلدان ـ وخاصة أمريكا ـ حول انتشار ظاهرة الفساد والتحلّل بين شبّانها، حتّى لم يعد بالامكان السيطرة عليها أو معالجتها.
الغربيون يريدون تفشّي هذا الفساد في البلدان الإسلامية، وفي بلدنا الإسلاميّ. الذي يحكم نظامه وفقاً لاُسس القرآن. ويمارسون ضغوطهم الاعلامية بأساليب الاستهانة والسخرية والدجل واختلاق الأكاذيب في ادّعاء أنّ النساء يتعرّضن للتعذيب، من أجل إيقاع النظام الإسلامي في حالة من الانفعالية وارغام الشعب والمسؤولين على التراجع أمام هذه الأقاويل. ولكن حاشا وكلّا أن يكون هذا[3].
3- سلب هويّة المرأة المسلمة:
لقرنٍ من الزمن والثقافة الغربية تسعى مدعومة بالمال والقوّة والسلاح والدبلوماسية من أجل فرض الثقافة الغربية وأسلوب الحياة الغربية على المجتمعات الإسلامية بين النساء. لمئة سنة كان السعي من أجل أن تفقد المرأة المسلمة هوّيتها. فقد استُخدمت جميع العوامل المؤثّرة وعناصر القوّة: المال، والإعلام، والسلاح، والخدع المادية المختلفة، والغرائز الجنسية الطبيعية للإنسان، كلّ هذه استُخدمت من أجل إبعاد المرأة المسلمة عن هويّتها الإسلامية. واليوم إذا كنتنّ أيّتها السيّدات النخبة[4] الإسلامية تسعين لاسترجاع هذه الهوية للمرأة المسلمة، فإنّكنّ تقدّمن أكبر خدمة للأمّة الإسلامية وللصحوة الإسلامية، والعزّة والكرامة الإسلامية. فصحوة النساء، والشعور بالشخصية والهوية بينهنّ، والوعي والبصيرة في المجتمع النسائيّ سيكون لذلك كلّه تأثيرٌ مضاعفٌ على الصحوة الإسلامية والعزّة الإسلامية[5].
[1] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة ولادة الصديقة الطاهرة عليها السلام ويوم المرأة، في طهران - ملعب الحرية الرياضي، بحضور جموع غفيرة من النساء المؤمنات، بتاريخ 19/06/1418ه.ق.
[2] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة مولد الصديقة الزهراء عليها السلام، في طهران، بحضور جموع من أعضاء المراكز والجامعات الثقافية والسياسة وأسر الشهداء، بتاريخ 21/06/1413هـ.ق.
[3] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله بمناسبة الذكرى السنوية الثامنة لرحيل الإمام الخميني قدس سره، في طهران، بحضور جموع غفيرة من أبناء الشعب، بتاريخ 28/01/1418ه.ق.
[4] الخطاب موجه للسيدات النخبة المشاركات في مؤتمر الصحوة الإسلامية واليوم المرأة العالمي، من 84 دولة.
[5] خطاب الإمام الخامنئي دام ظله في لقاء المشاركات في المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلامية، بمناسبة المؤتمر العالمي للمرأة والصحوة الإسلاميّة، في طهران، بحضور المشاركات في المؤتمر (من 84 دولة)، بتاريخ 11/07/2012م.
هجوم الأمس على عين الأسد يعد الأكبر منذ "عملية الثأر لقادة النصر"
وذكرت الصحيفة، ان الضربة على القاعدة الأمريكية في محافظة الأنبار، التي تضم بشكل أساسي قوات عراقية، تعد أكبر هجوم صاروخي على القوات الأمريكية منذ عام 2020، ردا على اغتيال شهيدا القدس الحاج قاسم سليماني والحاج ابومهدي المهندس في بغداد .
وبحسب الصحيفة، قال الجيش الأمريكي إن"عدة أفراد أمريكيين أصيبوا في هجوم صاروخي باليستي على قاعدة عين الأسد الجوية العراقية غربي بغداد يوم أمس".
وأشارت إلى أنه "منذ بدء الحرب التي يشنها الكيان المحتل على غزة، تعرض الجيش الأمريكي للهجوم 58 مرة على الأقل في العراق و83 مرة أخرى في سوريا من قبل فصائل المقاومة الإسلامية"، مبينة أن "الهجوم يتكون من مزيج من الصواريخ وطائرات بدون طيار هجومية في اتجاه واحد".
ولم تتضح حتى الان اضرار وتفاصيل الهجوم الصاروخي الذي طال قاعدة عين الأسد مساء أمس السبت، حتى الان، الا انه يبدو وكأنه اقوى هجوم يطال القاعدة حتى الان منذ بدء التوتر في 17 أكتوبر الماضي، وفقا للصحيفة.
ونقلت رويترز عن مسؤول امريكي قوله، إن "القصف تسبب بإصابات طفيفة لعناصر أمريكيين، وان التقارير الأولية تشير إلى أن القاعدة تعرضت للقصف بصواريخ باليستية، وربما بأنواع أخرى من الصواريخ، والتقييم مستمر".
من جانبها أكدت القيادة المركزية الأمريكية أن "الهجوم وقع بصواريخ باليستية بالفعل".
القمر الاصطناعي 'ثريا' يرسل اشارته الاولى للأرض بنجاح
وكانت ايران قد نجحت امس بوضع القمر الاصطناعي "ثريا" البحثي الذي يزن حوالي 50 كيلوغراما، في مدار 750 كيلومترا بواسطة حامل القمر الاصطناعي "قائم 100" التابع لحرس الثورة الاسلامية .
يشار الى ان حامل القمر الاصطناعي "قائم 100" هو صاروخ ثلاثي المراحل ويعمل بالوقود الصلب.
وكان قد تم تم تنفيذ الإطلاق شبه المداري للحامل "قائم 100" التابع لقوات الجو فضاء التابعة للحرس الثوري بنجاح في نوفمبر من العام الماضي.
أمير المؤمنين (عليه السلام): أمير الزهد وقدوة الزهّاد
التعلّق بالدنيا والسباق للحاق بركْبها، هو نقصٌ بالنسبة إلى المسؤول في الجمهورية الإسلاميّة وبالمعنى الذي أشير إليه هو نقطة سالبة. يجب أن يكون الأمر معاكسًا لذلك. فلا ينبغي أن يُنظر إلى الحكم والمقام والمنصب في الجمهوريّة الإسلاميّة بصفته غنيمة. لهذا فالناس في العالم يسعون للوصول إلى المناصب؛ لأي منصبٍ كان، فلا فرق؛ من استلام إدارة عضويّة أو رئاسة لمجموعة ومنظمة صغيرة، وصولًا إلى رئاسة أحد البلدان. يسعون خلال خمس، أو ست سنوات للوصول إلى الحكم وخلال هذه السنوات المعدودة يأملون بالحصول على أقصى المتع. فلا تتصوّروا أنّ أناسًا في العالم يسعون مثلًا للوصول إلى رئاسة الجمهورية أو لنيل مناصب عليا، بهدف الخدمة! هم أنفسهم لا يدّعون ذلك. فليس لديهم هذا الادعاء ويعتقدون أنه: أمَّا وقد تمكّنا من الوصول إلى هذا المنصب، فلا بد من الاستفادة من مُتعه. وكما قال أمير المؤمنين لعامله "وإن عملك ليس لك بطُعمة"[1]، فإنهم يعدّونها طُعمة. فالدنيا لديهم طعمة وعندما يصلون إليها لا بدّ وأن يستنزفوها بالمخالب والأسنان ويتمتعوا بها، وأن يستفيدوا بالحدّ الأقصى من أموالها، قوتها، نفوذها، تسهيلاتها، إمكاناتها ويلتهمونها ويقدّمونها لقمةً سائغة لأقاربهم وأصدقائهم.
وهذا هو عُرف الدنيا. لكن ماذا عن الجمهوريّة الإسلاميّة؟ هنا لا بدّ وأن تُتلقى هذه المسائل على أنّها عين المسؤوليّة والتكليف المحض. تتلقّى كوظيفة؛ وظيفة صعبة كلما ارتقت زادت صعوبة. فينبغي أن يُنظر إليها كمسؤولية ذات تعهّد والتزام. لا أن نتلقّاها على أّنها أفضل الفرص حينما نجد الإمكانات متاحة، فنستغلها للرفاهية الشخصيّة، الشكليّات، الإسراف والترف وغيره. فلا فرق بين أن يكون المنصبُ نيابةً في المجلس (النّيابي)، أو في الأجهزة الحكوميّة العليا، أو مسؤوليّات عسكريّة كبرى، أو مسؤوليّات قضائيّة عليا. لا ينبغي أن يُنظر إلى هذه الإمكانات كطُعمة وغنيمة ونقول: “الآن وقد وصلنا، فلنستغلّ الوضع!” ينبغي أن يخضع كلّ شيء للحقّ والحساب وأن يكون بالتحلّي بروحيّة الإعراض عن زخارف الدنيا. فإذا تحقّق هذا، يصبح الطريق والحركة أسهل.[2]
ضرورة اقتداء المسؤولين بزهد أمير المؤمنين (عليه السلام)
هناك نقطتان في حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ينبغي أن يُلتفت إليهما أكثر خلال هذه الفترة من حياة وطننا وهذه الحقبة من الزمن. بالطبع فإنّ تلك النقطتين هما في الواقع فصلان من فصول حياة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي الحقيقة هما صفحتان من كتاب ضخم. لكنّهما صفحتان مهمتان أيضًا.
... النقطة الثانية هي الزهد والحياة الشخصيّة. فينبغي أن أقيّمَ حياتي وأنظر إن كنت مُنصبًّا على حياتي الشخصيّة أم لا؟
كلّ منّا يجب أن يحاسبَ نفسه. فحينما يدور الحديث بين المسؤولين أو عنهم، فإنّ القضيّة هي قضيّة شخصيّة. أي أنّه يتوجّب على كلّ مسؤولي البلد أن يسعوا ويجتهدوا لتتجلّى فيهم ملامح زهد أمير المؤمنين (عليه السلام). بالطبع فإنّنا لن نستطيع إدراك زهد علي (عليه السلام) ولا نقدر أن نتحمّله. فنحن لا نقدر أن نعيش هكذا! لكن ربّما يمكننا الحصول على شعاع وقبس من تلك العدالة وذلك الزهد. لا ندّعي أنّنا لا نقدر، فالإمام سلام الله عليه هو من قال ذلك. فلا أحد يقدر على ذلك والأمر ليس محصورًا فينا فقط. حتى بعض المعصومين (عليهم السلام) أيضًا حينما حاولوا، أظهروا عجزهم عن التصرف كأمير المؤمنين، القضيّة ليس البحث حوّل هذا النحو من العدالة. لكن ينبغي أن تكون هذه صبغتنا ولو في الحدّ الأدنى. ينبغي أن يكون هذا سلوكنا ولو بشكل أضعف وأقلّ. لا ينبغي أن نتحرّك في جهة معاكسة. يجب على المسؤولين أن يعلّموا الشعبَ هذا المعنى بشكل عمليّ.[3]
[1] نهج البلاغة، الخطبة 5.
[2] في لقاء الموظفين وفئات الشعب المختلفة في يوم ولادة حضرة أمير المؤمنين (عليه السلام)، 17/10/1371هـ.ش [7/1/1993م].
[3] في لقاء الموظفين وفئات الشعب المختلفة في يوم ولادة حضرة أمير المؤمنين (عليه السلام)، 17/10/1371هـ.ش [7/1/1993م].
لماذا علينا الحذر من الأمراض الأخلاقية النفسانية؟
لا قدّر الله أن يُبتلى الإنسان بأمراض لا تظهر آلامها. إنّ الأمراض المؤلمة تدفع الإنسان لأنّ يُفكّر بعلاجها، فيذهب إلى مراجعة الطبيب أو المستشفى. بيد أنّ المرض الذي لا يُرافقه الألم ولا يشعر الإنسان بتبعاته مرض خطير لأنّه عندما يتنبّه إليه الإنسان يكون قد فات الأوان واستحال العلاج.
والأمراض النفسية هي من هذا النوع. فلو كانت مصحوبة بالألم المباشر لحرّكت المصاب ودفعته إلى معالجتها. ولكن ماذا نفعل إذا كانت هذه الأمراض لا يُحسّ بآلامها رغم خطورتها؟
إنّ مرض الغرور والأنانية، من الأمراض التي لا تظهر آلامها وهي ليس فقط غير مصحوبة بالألم، بل تتّسم بظاهر يبعث على التلذّذ. إذ أنّ مجالس الغيبة والنميمة قد تكون محبّبة!
فالإنسان يشعر مع حبّ النفس وحبّ الدنيا وهما مصدر جميع الذنوب، بلذّة ونشوة. فإذا ما ابتُلي الإنسان بحبّ الدنيا واتباع الهوى، واستحوذ حبّ الدنيا على قلبه، فإنّه يتألّم من كلّ شيء عدا الأمور الدنيوية، ويُعادي - والعياذ بالله- الله وعباده والأنبياء والأولياء وملائكة الله، ويحسّ بالحقد والبغضاء تجاههم.
وحينما يأتي أجله وتأتي ملائكة الله لتتوفّاه يشعر بالاستياء الشديد وينفر منهم، لأنّهم يريدون أن يُبعدوه عن محبوبته (الدنيا والأمور الدنيوية). ولذلك يُبغضهم وينفر منهم، وربما يخرج من هذه الدنيا وهو عدوّ لله تعالى.
حدّثَ أحد الأكابر من أهالي قزوين رحمه الله فقال: "إنّه كان جالساً عند رأس شخص يحتضر فسمعه يقول: إنّ الظلم الذي ظلمني إيّاه الله تعالى لم يظلمني أحد مثله، فلقد بذلت مهجتي في تربية أولادي، وها هو يريد أن يُبعدني عنهم! فهل هناك ظلم أشدّ من هذا وأعظم؟".
اتقوا الله.. اخشوا عاقبة الأمور... أفيقوا من غفلتكم... إنّكم لم تفيقوا بعد ولم تخطوا الخطوة الأولى. إنّ اليقظة تُمثّل الخطوة الأولى في السلوك.
الحذر من استفحال حبّ النفس والدنيا
إذا لم يُهذّب الإنسان نفسه، ولم يُعرض عن الدنيا ويُخرج حبّها من قلبه، فيُخشى عليه أن يترك الدنيا وقلبه مملوء بالحقد على الله وأوليائه وأن يواجه مثل هذا المصير المشؤوم.
هل حقّاً إنّ هذا الإنسان الصلف هو أشرف المخلوقات، أم هو في الحقيقة أشرّ المخلوقات؟ يقول الله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[1].
إنّ المستثنى في هذه السورة هم "المؤمنون" الذين عملوا الصالحات فحسب، و"العمل الصالح" هو الذي ينسجم مع الروح.
ولكن كثيراً من أعمال الإنسان كما ترون تنسجم مع الجسم دون أن يوجد من النواحي المذكورة في السورة المباركة عين أو أثر.
فإذا كان الأساس أن يُسيطر عليكم حبّ الدنيا وحبّ النفس ويحول دون إدراككم للحقائق والواقعيات، ودون أن يكون عملكم خالصاً لوجه الله تعالى، ويمنعكم عن التواصي بالحقّ والتواصي بالصبر، ويسدّ طريق الهداية أمامكم؛ فإذا كان هذا الأساس فستبوؤون بالخسران المبين وتكونون ممّن خسر الدنيا والآخرة. لأنّكم أضعتم شبابكم وحُرمتم من نعم الجنّة ونعيم الآخرة، وأضعتم دنياكم وآخرتكم.
احذروا أن يستفحل لا سمح الله حبّ الدنيا وحبّ النفس شيئاً فشيئاً في نفوسكم، ويصل بكم الأمر إلى أن يتمكّن الشيطان من سلب إيمانكم؛ إذ يُقال إنّ كلّ جهود الشيطان تتكرّس لسرقة الإيمان وسلبه.
إنّ كلّ جهود إبليس ومساعيه مكرّسة لاختطاف إيمان الإنسان. فلم يُقدّم لكم أحد تعهّداً أو مستنداً ببقاء إيمانكم. فما أدراكم لعلّه إيمان مستودع يتمكّن الشيطان في النهاية من سلبه منكم، فتخرجون من الدنيا بعداوة الله وأوليائه.. عُمْرٌ قضيتموه تتنعّمون بالنعم الإلهية وتجلسون على مائدة الإمام صاحب الزمان (عج) وفي النهاية تُفارقون الحياة عديمي الإيمان، والعياذ بالله، وتُعادون ولي نعمتكم.
وعليه فإذا كانت لديكم علاقة بالدنيا ومحبّة لها، فحاولوا بكلّ جهدكم أن تقطعوا هذه العلائق. إنّ هذه الدنيا بكلّ زخارفها وبهارجها، أحقر من أن تستحقّ المحبّة، فكيف إذا ما كان الإنسان محروماً حتى من هذه المظاهر. فماذا تملكون أنتم من الدنيا حتى تنشدّ قلوبكم إليها؟...
وإذا افترضنا أنّ لكم من الدنيا ما للمرفّهين والمترفين، فإنّكم ستقضون عمركم باللذائذ ثم ترون عند انتهاء العمر أنّ كلّ ذلك ليس أكثر من حلم جميل سرعان ما انقضى، بَيْدَ أنّ تبعاته ومسؤوليّاته سوف تبقى تلاحقكم وتأخذ بخناقكم دوماً.
[1] سورة العصر، الآيات 1 - 3.
لماذا ينبغي عليك أن تسأل الله العفاف؟
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله يحبّ الحييّ المتعفّف، ويبغض البذي السائل الملحف"[1]. وعن الإمام علي عليه السلام في صفة المتّقين: "حاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة"[2].
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو: "اللهمّ، إني أسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى!"[3].
شعب العفاف وآثاره
للعفاف العديد من الشعب، منها:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أمّا العفاف: فيتشعّب منه الرضا، والاستكانة، والحظّ، والراحة، والتفقّد، والخشوع، والتذكّر، والتفكّر، والجود، والسخاء، فهذا ما يتشعّب للعاقل بعفافه رضى بالله وبقسمه"[4].
وأمّا من ناحية الآثار، فللعفّة آثار عديدة، منها:
- القناعة: القناعة أحد أهم أصول العفاف، عن الإمام علي عليه السلام: "على قدر العفّة تكون القناعة"[5].
- الغيرة: عن الإمام علي عليه السلام: "دليل غيرة الرجل عفّته"[6].
- الصبر على الشهوات: وعنه عليه السلام: "الصبر عن الشهوة عفّة، وعن الغضب نجدة"[7]، وعنه عليه السلام: "العفّة تضعف الشهوة"[8].
- زكاة الأعمال: وعنه عليه السلام: "بالعفاف تزكو الأعمال"[9].
معوّقات العفّة وموانعها
إنّ العفّة هي برنامج حياة وخلق وأدب، يجب أن يتحلّى بها من أراد السموّ والمروءة، وما تماسك المجتمعات والأسر إلّا بوجود العفّة القوية الراسخة في ذلك المجتمع. وإنّ من أسباب تفكّك المجتمعات والأسر، هو ضياع العفّة وضعفها، وكثرة الابتذال، والتحلّل من القيود والضوابط الدينية، بلا فرق بين الفقهي، والأخلاقي، والاجتماعي والمالي منها، وأكثر ما يؤدّي إلى الابتذال وضعف العفّة أو عدم وجود العفاف، هو:
- وسائل الإعلام وما تقدّمه من سموم عبر شاشاتها المختلفة.
- حملة الإفساد الموجّهة للمرأة، وتزيين الفاحشة لها، وذلك بالدعوة للتبرّج والسفور، وترك الحجاب.
- تأخّر الزواج عند الشباب، وذلك بسبب صعوبة المعيشة وارتفاع المهور.
- قلّة الورع، وقلّة الأمانة، وعدم المبالاة بالحلال والحرام.
- دعاة الفجور ودعاة التحلّل من القيم والفضائل، إنّما غرضهم أن يصبغوا المجتمع المسلم بصبغةٍ غير إسلامية وأن يحوّلوا المجتمع المحافظ على دينه وأخلاقه وقيمه إلى مجتمعٍ منهار القيم والأخلاق.
- أعداء الشريعة الذين يروّجون للتحلّل من القيم والفضائل، ولهم شُبَهٌ يدلون بها، فيقولون إنّه لا بدّ من إعطاء النّفس مُناها وترفيهها وجعلها ترى وتشاهد ما تفرّج به همومها، وهذا كلّه من المغالطات، فإنّ مقصودهم بذلك فتح الشرّ على مصراعيه وعدم الغيرة على محارم الله.
- ومن أهمّ المعوّقات للعفّة الفساد الإعلاميّ في كثير من القنوات الباطلة التي تضيع فيها العفّة وتعلو فيها الرذيلة، هذه القنوات والمنتديات التي توجّه سمومها ضدّ القيم والأخلاق فتضيع العفّة وتنتشر الرّذائل.
ومن أسباب ذلك أيضًا انخداع بعضهم واغتراره بما عليه الأعداء من فسادٍ في أخلاقهم وقيمهم، ينظر الى فساد الأخلاق والقيم فيغترّ بذلك، ولا ينظر الى ما أصابهم من التهوّر وما أصابهم من الأمراض الفتّاكة التي حارت بها عقولهم وضعفت بها نفوسهم وأصبحوا يعانون من تلك الأمراض والأوبئة ما أقاموا لأجله المستشفيات وأنفقوا الأموال الطائلة ليعالجوا تلك الأمراض الفتّاكة التي حلّت بهم.
- ومن ذلك أنّ بعضهم يقول إنّ المرأة أو الشاب أو الشابّة لا بدّ أن يمضوا شبابهم في عدم التقيّد، وهذا كلّه من المصائب، فإنّ من نشأ على شيءٍ شاب عليه ومن شاب على شيءٍ مات عليه ، فلا بدّ من المحافظة على القيم والمحافظة على الأخلاق.
- إنّ الإختلاط بلاءٌ عظيم، سواءٌ أكان اختلاطاً عامّاً أم خاصّاً، فالاختلاط بين الجنسين في ميادين العمل من أعظم وصمة على الإسلام وأهله، بل هو يفتح باب الشرّ على مصراعيه.
- إنّ الإختلاط بين الجنسين يقضي على الحياء والفضيلة والعفّة والشرف والكرامة، ويزحزح أمن المجتمع، ويدمّر الأخلاق والفضائل. وهو جريمةٌ لا يرضى بها من في قلبه مثقال ذرّة من إيمان، يرفضها كلّ مسلم ولا يرضاها لنفسه ولا لبناته ولا لأخواته ولا لواحدة من المسلمات، فالاختلاط سواءٌ كان عامّاً أو حتّى بين العوائل، الاختلاط بين غير المحارم أمرٌ منهيٌّ عنه، فلا بدّ للمسلمين من الحفاظ على سلوكهم والمحافظة على أعراضهم، والاعتقاد أنّ الاختلاط جريمة نكراء وبليّة من البلايا ما يليه. وبناءً عليه، لا بدّ من التذكير بما يحصّن النفس، ويصحّح السلوك ويقوّمه من خلال أمور:
- الحرص على عفّة الجوارح: المسلم يعفّ يده ورجله وعينه وأذنه وفرجه عن الحرام، فلا تغلبه شهواته، وقد أمر الله كلّ مسلم أن يعفّ نفسه ويحفظ فرجه، قال تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾[10].
- الحرص على عفّة الجسد: فعلى المسلم أن يستر ما بين سرّته إلى ركبتيه، وعلى المسلمة أن تلتزم بالحجاب، لأنّ شيمتها العفّة والوقار، قال الله - تبارك وتعالى -: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾[11]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[12].
وحرَّم الإسلام النظر إلى المرأة الأجنبية، وأمر الله المسلمين أن يغضّوا أبصارهم، فقال: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾[13]. وقال تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾[14].
- العفّة عن أموال الغير، وعفّة المأكل والمشرب: المسلم عفيف عن أموال غيره لا يأخذها بغير حقّ.
ويمتنع عن وضع اللقمة الحرام في جوفه، وكلّ لحم نبت من حرام فالنار أولى به، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾[15].
[1] سورة الأحزاب، الآية 33.
[2] الشيخ الطوسي، الأمالي، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، نشر: دار الثقافة، قم، 1414هـ، ط1، ص29، المجلس الثاني، ح43/12.
[3] الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، تحقيق وتصحيح: عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر، ج5، ص184، بيروت، لبنان، 1983م، باب73، ح3555.
[4]ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص17.
[5] التميمي الآمدي، غرر الحكم، حكمة 6179.
[6] م.ن، حكمة 5104.
[7] م.ن، حكمة 7646.
[8] م.ن، حكمة 5104.
[9] م.ن، حكمة 4238.
[10] سورة النور، الآية 33.
[11] سورة النور، الآية 31.
[12] سورة الأحزاب، الآية 59.
[13] سورة النـور، الآية 30.
[14] سورة النور، الآية 31.
[15] سورة البقرة، الآية 172.
النظرة للموت كتوسعة للحياة
كما ينبغي الانتباه - ضمن دراسة ظاهرة الموت - إلى حقيقة أنّ ظاهرتي الموت والحياة توجدان في عالم الوجود نظام التعاقب، بمعنى أنّ موت كلّ جماعة يُمهّد الحياة لجماعة أخرى فيه، فأجساد الحيوانات الميتة لا تذهب هدراً، بل إنّها تولد حيوانات نشطة جديدة أو نباتات طرية شابة، كما أن الصدف يقدم لعالم الوجود عندما ينغلق درّة مضيئة ثم يتولّد - من مادّة الصدف المنكسر نفسه - صدف جديد وشاب يُربّي في داخله جوهرة ثمينة أُخرى، وهكذا تتكرّر هذه العملية باستمرار، ويستمرّ فيض الحياة اللامتناهي وعلى مدى الزمان.
ولو لم يمت الذين عاشوا قبل ألف سنة لما حظي أهل هذا العصر بنعمة الحياة، كما أنّ بقاء أهل هذا العصر أحياء يسلب أجيال المستقبل فرصة الحياة، وإذا لم تقتطف ورود الموسم الزراعي السابق، فإنّ الورود الجديدة الطريّة لن تجد فرصة إظهار جمالها.
إنّ سعة المادّة لتقبّل الحياة المحدودة من جهة المكان، لكنّها غير محدودة من جهة الزمان، والطريف أنّ لمادّة العالَم سعة زمانية تتناسب مع سعتها المكانية، فكلّما ازدادت سعتها المكانية، ازدادت تبعاً لها سعتها الزمانية وبصورة لا نظير لها.
ومن المحتمل أن يعترض معترض بأن يقول: إنّ قدرة الله سبحانه مطلقة لا حدّ لها، فما المانع أن يبقى هؤلاء خالدين، ويوفّر الله للأجيال القادمة ما تحتاجه من مكان وطعام؟
لكن القائلين بهذا الاعتراض لا يعلمون أنّ كلّ ممكن الوجود قد أفاض الله ويفيض الوجود عليه، وغير الموجود هو الذي يفتقد لإمكانية الوجود. وحتى مع فرض إمكان وجود مكان آخر مناسب لحياة أقوام أخرى، فإنّ الإشكال يبقى على قوّته، لأنّ استمرار هؤلاء الأقوام في الحياة - حتى مع هذا الفرض - سيُشكّل مانعاً لوجود وحياة أجيال لاحقة في هذا المكان المفترض[1].
وقد ذكرنا هذه الحقيقة كقضية تكميلية للجواب الذي عرضناه تحت عنوان "الموت أمر نسبي"، والنتيجة استفادة من الجمع بين هاتين الحقيقتين هي: أنّ مادّة الكون تُوجدُ - بسيرها الطبيعي وحركتها الجوهرية - الجواهر النقية المتألّقة للأرواح المجرّدة، ثم تترك الروح المجرّدة المادّة وتواصل حياتها في مرتبة حياتية أعلى وأقوى، لتفسح المجال للمادّة لكي تُربّي في أحضانها جوهرةً أخرى.
وبناءً على هذه النتيجة يتّضحُ أنّ الموجود في هذا النظام الكوني هو التكامل والرقي في مراتب الحياة ولا غير، وهذا التكامل والرقي يتحقّق من خلال عمليات النقل والانتقال.
ولا يُمكن أن يكون ثمّة محلٍّ لمثل هذه الاعتراض في فلسفة الذي يقول: "كما تنامون تموتون، وكما تستيقظون تُبعثون"[2] كما ورد في الحديث النبوي، وصاحب هذه العقيدة لا يرهب الموت، بل يُقبل عليه بشوق ويرى فوزه فيه كما كان حال الإمام علي عليه السلام. يقول الفيلسوف الإلهي الجليل السيد الميرداماد[3] ما مضمونه: لا تخش مرارة الموت، فمرارته تكمن في الخشية منه، ويُحدّد الفيلسوف الإلهي الإشراقي الشيخ السهروردي[4] قاعدةً مؤدّاها: نحن لا نعدّ الحكيم حكيماً حتى يُصبح قادراً على خلع بدنه بمحض إرادته، أي يُصبح خلع البدن والتحرّر منه ملكة له وكأمر عادي وبسيط. وللسيد الميرداماد - وهو الحكيم المحقّق ومؤسّس حوزة أصفهان - كلام مماثل لكلام الشيخ السهروردي.
أجل، هذا هو منطق العارفين بقيمة الجوهرة الثمينة التي تتربّى في باطن الجسم الإنساني، أمّا الذي حبس نفسه في سجن الأفكار المادّية الخاطئة وذات الأفق الضيّق، فمن الطبيعي أن يخاف من الموت، لأنّه يراه معبراً إلى العدم ويُوذيه تصوّر أن يهدم الموت هذا الجسم الذي يتوهّم أنّه يُمثّل كلّ وجوده وهويّته وحقيقته، ولذلك فإنّ رؤيته هذه للموت تجعله ينظر بعين التشاؤم إلى الكون برمته.
وعلى مثل هذا الشخص أن يُعيد النظر في طبيعة فهمه للكون والحياة، وعليه أن يعرف أنّ اعتراضه على وجود قانون الموت ناتج من فهمه غير الصحيح للكون والحياة.
ويُذكّرني هذا الموضوع بقصّةِ رجل ساذج كان يبيع الكتب في المدرسة الفيضية في الأعوام التي كُنتُ أدرس فيها في قم، كان هذا الرجل يعرض كتبه ويشتري طلبة الحوزة ما يرغبون فيه منها، وكانت تصدر منه أفعال عجيبة وكلمات مضحكة يتناقلها الطلبة، وقد نقل أحدهم أنّه ذهب إليه لشراء كتاب منه، ولمّا سأله عن ثمنه أجابه: لا أبيع هذا الكتاب؟! فسأله: ولماذا؟ أجاب: إذا بعته وجب عليّ أن أشتري نسخة أخرى لأضعها في محلّه! فضحك الطالب من قوله: إذ لا يخفى أنّ بائع الكتب لا يكون بائعاً للكتب ولا يربح شيئاً إذا لم يكن يبيع ويشتري الكتب.
والخلق برمّته تجارة، والكون سوق للبيع وتهيئة البضائع والحصول على الربح، وهذه العملية تتكرّرُ فيه باستمرار. ونظام الموت والحياة نظام تبادلي ونظام ازدياد وتكامل، والذي ينتقده لم يعرف قوانين العالم وغايته.
[1] يُضاف إلى ذلك أنّه حتى تغيّر المستوى الطبيعي المتعارف من مدّة الحياة يؤدّي إلى اختلال نظام الحياة كما يشير إلى ذلك ما رواه الشيخ الصدوق في أماليه مسنداً عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ قوماً أتوا نبيّاً لهم فقالوا: ادع لنا ربك (ربنا - خ) يرفع عنّا الموت، فدعا لهم، فرفع الله تبارك وتعالى منهم الموت، وكثروا حتى ضاقت بهم المنازل وكثر النسل، وكان الرجل يُصبح فيحتاج أن يُطعم أباه وأمّه وجدّه وجدّ جدّه، ويوضيهم (يرضيهم - خ) ويتعاهدهم فشغلوا عن طلب المعاش، فأتوه فقالوا: سل ربّك أن يردّنا إلى آجالنا التي كنّا عليها، فسأل ربّه عزّ وجلّ فردّهم إلى آجالهم ". بحار الأنوار، ج6، ص116.
وعليه يتّضح أنّ مستوى الآجال المألوف للكائنات ينسجم مع خصوصيات النظام الخلقي الأحسن. (المترجِّم).
[2] الجامع لأحكام القرآن، ج15، ص261، في تفسير سورة الزمر، الآية 42، وروضة الواعظين، 53 باختلاف يسير، وعنه التفسير الأصفى، ج2، ص711، وص870.
[3] محمد باقر بن محمد الحسيني، توفي سنة 1041هـ، الاسترأبادي الأصل، المعروف بالمير الدماد، فقيه، أصولي، حكيم، رياضي، شاعر له تصانيف عديدة منها: رسالة في حدوث العالم وغيره. أعلام الزركلي، ج6، ص272 ومعجم المؤلفين، ج6، ص156، رقم 12360.
[4] أبو حفص شهاب الدين عمرو بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمويه البكري الشافعي الصوفي العارف الحكيم، له كتاب جذب القلوب إلى مواصلة المحبوب، وعوارف المعارف، توفي ببغداد سنة 632، الكنى والألقاب، ج2، ص325.
الإمام الجواد عليه السلام والجهاد السياسيّ
الإمام الجواد عليه السلام الإمام الهادي عليه السلام الإمام العسكريّ عليه السلام
الجهاد الدائم للأئمة عليهم السلام
إنّ هؤلاء العظماء كانوا دومًا في حالة جهاد، جهادٌ روحُه سياسيّة، وذلك لأنّ من يجلس على مسند الحكم، كان يدّعي الدّين، وكان يراعي ظواهر الدّين، حتّى أنّه كان يتقبّل في بعض الأوقات، رأي الإمام الدينيّ، كتلك المسائل عن حياة المأمون، حيث كان يقبل رأي الإمام عليه السلام علنًا، فلم يكن يأبى أبدًا أن يقبل الرأي الفقهيّ أحيانًا. فالشيء الّذي كان يؤدّي إلى وجود مثل هذه المواجهة والمعارضة ضدّ أهل البيت هو أنّ أهل البيت كانوا يعدّون أنفسهم الأئمّة، وكانوا يقولون نحن أئمّةٌ. وفي الأساس، إنّ هذا كان يُعدّ أكبر مواجهةٍ للحكّام، لأنّ الّذي صار حاكمًا، وكان يُعدّ نفسه إمامًا للنّاس، كان يرى الشّواهد والقرائن المطلوبة في الإمام موجودة فيهم عليهم السلام، وليست موجودة فيه، وكان يعتبر هذا الإمام خطراً على حكومته لأنّه ليس إلّا مدّعٍ. وقد كان الحكّام يُحاربون بمثل هذه الرّوحيّة العدائيّة، وكان الأئمّة عليهم السلام يقفون كالطّود الشامخ. من البديهيّ في مثل هذه المواجهة أن يكون للمعارف والأحكام الفقهيّة والأخلاق، الّتي كان الأئمّة يروّجون لها مكانها الطبيعيّ، وكانت تربية المزيد من التلامذة والأتباع، وتوسعة الروابط الشيعية تزداد يوماً بعد يوم.
الإمام الجواد، والجهاد السياسيّ
إنّ الإمام الجواد عليه السلام، وكغيره من المعصومين، هو قدوةٌ وأسوةٌ ونموذجٌ لنا، وإنّ الحياة القصيرة لهذا العبد الصالح لله، انقضت بالجهاد ضدّ الكفر والطّغيان. وقد أضحى في موقع قيادة الأمّة الإسلاميّة في حداثة عمره، وقد جاهد مجاهدةً مركّزة ضدّ العدوّ في هذه السّنوات القصيرة، حيث إنّه كان ما زال في مقتبل عمره، في عمر الـ 25 سنة، عندما لم يعد أعداء الله يتحمّلون وجوده، فقتلوه بالسمّ واستُهشد. ومِثْلُ الأئمّة الأطهار عليهم السلام الّذي أضاف كلّ واحدٍ منهم بجهاده صفحةً على تاريخ الإسلام المليء بالمفاخر، فإنّ هذا الإمام العظيم قد أضاف بعمله إلى الإسلام دعامة مهمّة من الجهاد الشّامل، وقدّم لنا درسًا عظيمًا، وذاك الدّرس العظيم هو أنّه عندما نكون في مواجهة القوى المنافقة والمرائية، يجب أن نسعى جهدنا من أجل أن نستنهض وعي النّاس لمواجهة هذه القوى. فلو أنّ العدوّ يُظهِر عداءه بنحوٍ صريحٍ وعلنيّ، ولا يرائي، فإنّ التّعامل معه أسهل. ولكن عندما يكون العدوّ كالمأمون العبّاسيّ الّذي يتظاهر بالقداسة والدّفاع عن الإسلام، فإنّ التعرّف عليه سيكون صعبًا بالنّسبة للنّاس. كان المتسلّطون، في عصرنا هذا، وفي جميع عصور التاريخ، يسعون دائمًا للتوسّل بالحيلة والرّياء والنّفاق عندما يعجزون عن مواجهة النّاس وجهاً لوجه... وقد بذل الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام والإمام الجواد عليه السلام الهمّة من أجل كشف قناع التزوير والرّياء هذا، عن وجه المأمون، ونجحوا في ذلك.
الإمام الجواد، وبنيان الحرّيّة
إنّ هذا العظيم هو مظهر المقاومة وعلامتها. إنسانٌ عظيمٌ أمضى كلّ عمره القصير في مواجهة ومعارضة السّلطة المزوّرة والمرائيّة للخليفة العبّاسيّ المأمون، ولم يتراجع خطوةً واحدةً، وتحمّل الظروف الصّعبة جميعها وجاهد بكلّ الأساليب الجهاديّة الممكنة، وكان أوّل من أشاد بنيان بحث الحرّية بصورةٍ علنيّة، وكان يُباحث العلماء والدعاة والمدّعين ومختلقي الأعذار في محضر المأمون العبّاسيّ بشأن أدقّ القضايا، ويستدلّ ويثبت أفضليّته وحقّانيّة كلامه. إنّ بحث الحرّيّة هو من تراثنا الإسلاميّ، وقد راج هذا البحث في زمان أئمّة الهدى، وقد تطرّق الإمام الجواد عليه السلام، هذا الإمام الجليل، إليه في زمانه، وتعرّض له بصورةٍ صافية ونقيّة.
الإمام الهادي، وحادثة الطفولة
يوجد حديثٌ حول طفولة الإمام الهادي عليه السلام، عندما أحضر المعتصمُ الإمام الجواد عليه السلام من المدينة إلى بغداد، في العام 218 هجريّة، أي قبل شهادته بسنتين، وبقي الإمام الهادي عليه السلام حينها مع أهله في المدينة، حيث كان له من العمر وقتها ست سنوات، وبعد أن أُحضر الإمام الجواد عليه السلام إلى بغداد، سأل المعتصم عن أسرته وأهله، وعندما سمع أنّ ابنه البكر عليّ بن محمّد، ابن ست سنوات، قال إنّه خطرٌ، ويجب أن نُفكّر بحلٍّ له. وقد أمر المعتصم رجلًا من أقاربه أن يذهب من بغداد إلى المدينة، وأن يجد فيها من هو عدوّ لأهل البيت، فيودع عنده هذا الطفل، ليكون معلّمًا له، ويربّيه ليصبح عدوًّا لأسرته، ومنسجمًا مع الجهاز الحاكم. فجاء هذا الشّخص من بغداد إلى المدينة، واختار أحد علمائها المدعوّ الجنيديّ الّذي كان من أشدّ المخالفين والمعاندين لأهل البيت - وكان في المدينة عددٌ من أمثال هؤلاء العلماء ــ لينهض بهذا العمل، وقال له: إنّني مأمورٌ أن أجعلك مربّيًا ومؤدِّبًا لهذا الطفل، ولا ينبغي أن تسمح لأيّ شخصٍ بالتّواصل معه أو الارتباط به، وأُريدك أن تُربّيه بهذه الطّريقة وبهذا الشكل. وقد سجّل التاريخ اسم هذا الشّخص. وكان الإمام الهادي عليه السلام - كما ذكرت - بعمر ست سنوات في ذلك الوقت، وكان الأمر أمر الحكومة، فمن الّذي يستطيع أن يعترض على مثل هذا الأمر؟!
وبعد مدّةٍ جاء أحد المقرَّبين من الجهاز الحاكم ليطّلع على الجنيديّ، ويسأل عن أحوال ذلك الطفل الّذي أودعه إيّاه، فقال الجنيديّ: أيّ طفلٍ هذا؟ أهذا هو الطفل؟ إنّني أُبيّن له مسألةً في الأدب، فيُبيّن لي أبوابًا من الأدب، حيث أتعلّم منه! فأين درس هذا الطفل وتعلّم؟! وأطلب منه أحيانًا عندما يدخل إلى الحجرة أن يقرأ سورةً من القرآن، وعندما يدخل - وهو يريد أذيّته - يسأل: أيّ سورةٍ أقرأ، فأقول له: اقرأ سورة كبيرة، كسورة آل عمران مثلًا، فيقرأها عليّ، ويبيّن لي مواضع الإشكال في قراءتها. إنّهم علماءُ وحفّاظٌ للقرآن، وعلماء بالتأويل والتفسير، أيّ طفلٍ هذا؟!. وقد استمرّ ارتباط هذا الطّفل ــ الّذي كان في الظّاهر طفلًا، ولكنّه وليّ الله، ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾1 - بهذا الأستاذ لمدّة، إلى أن أصبح هذا الأستاذ من الشّيعة المخلصين لأهل البيت2.
الإمام الهادي عليه السلام، ومواجهته للسلطة
في المواجهة الّتي جرت بين الإمام الهادي عليه السلام وبين حكّام زمانه، فإنّ الّذي انتصر في الظّاهر والباطن هو هذا الإمام عليه السلام. ففي زمن إمامته، حكم ستّةٌ من الخلفاء، واحدًا تلو الآخر، وهلكوا جميعًا، واحدًا تلو الآخر. وكان آخرهم المعتزّ الّذي قتل الإمام عليه السلام، ولم يلبث من بعده إلّا قليلًا. وهؤلاء الخلفاء ماتوا أذلّاء في الغالب، أحدهم قتله ابنه، والآخر على يد ابن أخيه. وبهذه الطّريقة تشتّت العبّاسيّون وانقرضوا، بعكس الشّيعة.
الإمام الهادي، ونشر التشيّع
إنَّ الشّيعة في زمن الإمام الهادي والإمام العسكريّ عليهما السلام، ورغم ما فيه من عنفٍ وقمعٍ، كانوا يزدادون انتشاراً وقوّةً يومًا بعد يوم.
لقد عاش الإمام الهادي عليه السلام42 سنة، قضى 20 سنة منها في سامرّاء، حيث كان يعمل ويعيش ويمتلك مزرعةً. وكانت سامرّاء في الواقع بمثابة معسكر بناه المعتصم لغلمانه التّرك المقرّبين له، وهؤلاء التّرك هم غير الأتراك الّذين يعيشون في إيران أو في آذربايجان أو سائر النقاط، والّذين أحضرهم من تركستان وسمرقند، ومن منطقة مانغوليا وآسيا الشرقية، واحتفظ بهم في سامرّاء. وهؤلاء الأتراك، ولحداثة إسلامهم، لم يكونوا يعرفون الأئمّة ولا المؤمنين، ولا يفهمون عن الإسلام شيئًا، لهذا صاروا يُضايقون النّاس، وأوجدوا بينهم وبين العرب - أهالي بغداد - النّزاعات والمشاجرات. وفي مدينة سامرّاء نفسها، اجتمع عددٌ ملحوظٌ من كبراء الشّيعة في زمن الإمام الهادي عليه السلام، وتمكّن الإمام عليه السلام من إدارتهم، وإيصال رسالة الإمامة من خلالهم إلى مختلف مناطق العالم الإسلاميّ. فالرّسائل وهذه الشّبكات الشيعيّة، في قم وخراسان والريّ والمدينة واليمن، وفي المناطق البعيدة، وفي أقطار العالم جميعها، هي الّتي استطاعت أن تروّج وتنشر وتزيد من المؤمنين في هذا المذهب، يوماً بعد يوم. وقد استطاع الإمام الهادي عليه السلام أن يقوم بكلّ هذه الأعمال، تحت ظلّ بريق السّيوف الحادّة والدمويّة لأولئك الخلفاء الستّة، ورغمًا عن أنوفهم.
ويوجد حديثٌ معروفٌ حول وفاة الإمام الهادي عليه السلام، يُعلم من عباراته تواجد جمعٍ ملحوظٍ من الشّيعة في سامرّاء، لم يكن الجهاز الحاكم يعرف عنهم شيئًا، لأنّه لو كان يعلم بهم، لكان قضى عليهم عن بكرة أبيهم، لكنّ هذه الجماعة، ولأنّها استطاعت أن توجد شبكة قويّة، فإنّ الجهاز الحاكم لم يتمكّن من الوصول إليها.
المواجهة بين الإمام العسكريّ والمتوكل
حدثت تلك المواجهة عندما أمر المتوكّل أن يُحضر الإمام عليه السلام إلى مجلسه، الّذي هو مجلس خمرٍ وسكرٍ، لكي ينتشر الخبر في كلّ مكان، أنّ عليَّ بن محمد كان نديمًا للمتوكّل، وقد جالسه في مجلس الخمر واللهو! فانظروا أنتم أيّ تأثيرٍ تركه هذا الخبر. لقد نظر الإمام عليه السلام إلى القضيّة من زاوية الإنسان المجاهد، ووقف مقابل هذه المؤامرة، فذهب الإمام عليه السلام إلى بلاط المتوكّل، واستطاع أن يُبدّل مجلس سكره إلى مجلسٍ عابقٍ بالمعنويّات. فبذكر الحقائق وإنشاد تلك الأشعار الشامتة، هزم المتوكّل، بحيث إنّ هذا المتوكّل، وبمجرّد أن انتهى الإمام من كلماته، نهض من مكانه، وأحضر للإمام الغالية (عطر مركّب من المسك والعنبر)، وشيّعه بكلّ أدبٍ واحترام، فقال له الإمام: هل تتصوّر أنّك إذا جلست هنا فإنّك ستهرب من قبضة الموت؟! وهكذا بيّن للمتوكّل كلّ ما يجري عند الموت، وما بعده، حتّى أكل الديدان له. فاستطاع الإمام أن يُبدّل المجلس تبديلًا تامًّا، ويقلبه رأسًا على عقب، وأن يخرج من البلاط3.
باتوا على قللِ الأجبال تحرسُهم
واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم
ناداهمُ صارخٌ من بعد ما قُبروا
أيـن الوجوه الّتي كانتْ منعّمةً
فـأفـصـحَ القبرُ حين ساءلهم
قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا
وطالما كنزوا الأموال وادّخروا
أضـحـت منازلُهم قفراً معطّلةً
سـل الـخـليفةَ إذ وافت منيتهُ
وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا
غُـلْب الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ
وأودعوا حفراً يـابئس ما نزلوا
أين الأسرّةُ والتيجانُ والحللُ
من دونها تُضربُ الأستارُ والكللُ
تـلك الوجوه عليها الدودُ يقتتلُ
وطالما عمّروا دوراً لتُحصنهم
فأصبحوا بعد طول الأكلِ قد أُكلوا
ففارقوا الدورَ والأهلينَ وارتحلوا
فـخلّفوها على الأعداء وانتقلوا
أين الحماة وأين الخيلُ والخولُ
هذه المواجهة الّتي ابتدأها الخليفة المتسلّط والمتعجرف، في قبال شابٍّ لا دفاع له، ويبدو في الظاهر هو الأضعف، قد تحوّلت إلى حربٍ نفسيّة لم يكن فيها الحربة والسيف. فلو كنّا نحن هناك، لما استطعنا أن نفعل ما فعله الإمام عليه السلام. إنّ الإمام عليه السلام هو الّذي استطاع أن يُشخّص هذه الوضعيّة، ويتحدّث بطريقة لا تُغضب الخليفة. كان من الممكن مثلًا أن ينتفض الإمام عليه السلام فجأةً، ويرمي بكلّ كؤوس الشّراب أرضًا، ولكن لم يكن هذا ليكون ردّة فعلٍ جيّدة، وما كان ليؤتي ثماره، لكنّ الإمام عليه السلام تصرّف بطريقةٍ أخرى. وهذا البعد في القضيّة مهمٌّ جداً.
ثمار جهاد الأئمّة عليهم السلام
1- حفظ الدين الإسلاميّ:
إنّ يومًا من جهاد هؤلاء العظماء - الأئمّة عليهم السلام - يؤثّر بمقدار سنوات. ويومٌ واحدٌ من حياتهم المباركة يساوي سنواتٍ من حياة جماعةٍ تعمل ليل نهار على مستوى التّأثير في المجتمع. هؤلاء العظماء قد حفظوا الدّين بهذه الطّريقة، وإلّا فإنّ دينًا يقع على رأسه المعتزّ والمتوكّل والمعتصم والمأمون، ويكون علماؤه رجالٌ كيحيى بن أكثم - الذي رغم أنّه كان عالم البلاط، فقد كان من الفسّاق والفجّار المتجاهرين من الدّرجة الأولى - لا ينبغي أساسًا أن يبقى، ولكان ينبغي، والحال هذا، أن يُجتثّ من جذوره، وينتهي كلّ شيء. فجهاد الأئمّة عليهم السلام وسعيهم لم يحفظ التشيّع فحسب، بل القرآن والإسلام والمعارف الدينيّة، وهذه هي خاصّية العباد الخالصين والمخلصين، وأولياء الله. فلو لم يكن للإسلام أمثال هؤلاء من أولي العزم، لما استطاع أن يعود غضًّا طريًّا ويوجِد هذه الصّحوة الإسلاميّة بعد 1230 سنة، بل كان ينبغي أن يزول شيئًا فشيئًا. فلو لم يكن للإسلام هؤلاء الّذين جذّروا هذه المعارف العظيمة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الأذهان على مرّ التاريخ الإنسانيّ والإسلامي، لكان ينبغي أن يزول من الوجود، وينتهي كلّ شيء، ولا يبقى منه أيّ شيء. ولو بقي، فلم يكن ليبقى من معارفه شيءٌ، كالمسيحية واليهودية، اللتين لم يبقَ من معارفهم الأساس أيّ شيءٍ تقريبًا. فأن يبقى القرآن سالمًا، والحديث النبويّ، وكلّ هذه الأحكام والمعارف الإسلاميّة، وذلك بعد أكثر من 1000 سنة، وأن تتمكّن من أن تبرز في قمّة المعارف الإنسانيّة، ليس بالأمر الطبيعيّ، بل كان هناك عملٌ غير طبيعيّ يؤدَّى من خلال الجهاد. وبالتأكيد، كان على طريق هذا العمل الكبير الضربُ والسجن والقتل، وكلّ هذه لم تكن بالنسبة لهؤلاء العظماء شيئًا.
2- اتّساع دائرة التشيّع:
لا يوجد أيّ زمانٍ شهدت فيه روابط الشّيعة وانتشار تشكيلاتهم في أرجاء العالم الإسلاميّ كلّه ما شهدته في زمن حضرة الإمام الجواد والإمام الهاديّ والإمام العسكريّ عليهم السلام. فوجود الوكلاء والنوّاب وتلك القصص الّتي تُنقل عن الإمام الهادي عليه السلام والإمام العسكريّ عليه السلام ـ مثلًا عندما كان يُحضر له المال، والإمام يُحدّد ماذا ينبغي أن يُفعل به - دليلٌ على هذا الأمر، أي أنّه بالرغم من الإقامة الجبريّة لهذين الإمامين الجليلين في سامرّاء، وقبلهما الإمام الجواد عليه السلام بنحوٍ ما، فإنّ الارتباط والتواصل مع النّاس كان يتّسع على هذه الشاكلة.
فلو اطّلعنا على حالات هؤلاء الأئمّة الثّلاثة في المناقب4 وغيرها، لوجدنا أنّ شبكة العلاقات الشيعيّة في زمان هؤلاء الثلاثة كانت أكثر وأوسع منها في زمن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام.
فكانت تُرسَل إليهم الكتب والرّسائل من أقصى نقاط العالم، وكذلك الأموال والمسائل، في حين أنّهم كانوا يعيشون ضمن نطاقٍ ضيّق.
وقد أضحى الإمام الهادي عليه السلام في سامرّاء محبوبًا من قِبَل النّاس، وكان الجميع يحترمونه، ولم يكن يتعرّض لأيّ إهانة.
استطاع الإمام الهادي والإمام العسكريّ عليهما السلام في مدينة سامرّاء تلك، الّتي كانت في الواقع بمثابة معسكر كبير ـ لم تكن في ذلك الكبر، بل عاصمةٌ حديثة البناء سرورٌ لكلّ من رأى (سُرَّ مَن رأى)، حيث يجتمع فيها الرؤساء والأعيان ورجال الحكومة وبعض النّاس العاديين الّذين يؤمّنون الحوائج اليوميّة ـ لقد استطاعا أن يُنظّما كلّ هذه الروابط بين أقطار العالم الإسلاميّ جميعها. فعندما ننظر إلى أبعاد حياة الأئمّة، نفهم ماذا كانوا يفعلون. لهذا، لم تنحصر القضيّة في تلك الفتاوى الّتي كانوا يُجيبون بها على أسئلة النّاس حول الصّلاة والصّوم والطّهارة والنّجاسة، بل كانوا ينطلقون من موقعيّة الإمام بذلك المعنى الإسلاميّ الخاصّ، ويتحدّثون وفقه مع النّاس. وبرأيي، يمكن الالتفات إلى هذا البعد، إلى جانب غيره من الأبعاد. أنتم ترون أنّهم عندما أحضروا الإمام الهادي عليه السلام من المدينة إلى سامرّاء، وقتلوه في سنّ الشباب عن عمرٍ يناهز 42 سنة، أو عندما يقتلون الإمام العسكريّ في سنّ الـ 28 سنة، فكلّ ذلك دليلٌ على هذه الحركة العظيمة للأئمّة والشّيعة وأصحابهم الكبار عبر التاريخ. ومع أنّ جهاز الحكم كان نظامًا بوليسيًّا، ويعمل بشدّة، فقد استطاع الأئمّة في مثل هذا الوضع أن يُحقّقوا مثل هذه النجاحات.
المظلومية والنصر في حياة الأئمة
إنّ ما يُقال من أنّ هؤلاء العظماء كانوا في غربةٍ تامّة، هو هكذا في الواقع، فقد كانوا بعيدين عن المدينة، وبعيدين عن أهلهم، وبعيدين عن بيئتهم الّتي ألِفوها. ولكن إلى جانب ذلك، يوجد بشأن هؤلاء الأئمّة الثلاثة - من الإمام الجواد وإلى الإمام العسكريّ - نقطة أخرى، وهي أنّه كلّما اتّجهنا إلى نهاية إمامة الإمام العسكريّ عليه السلام، فإنّ هذه الغربة تزداد. إنّ دائرة نفوذ الأئمّة وسعة دائرة الشّيعة في زمان هؤلاء الأئمّة الثلاثة إذا ما قورنت بزمان الإمام الصادق والإمام الباقر عليهما السلام، نجد أنّها ازدادت عشرة أضعاف عمّا كانت عليه، وهذا شيءٌ عجيب. ولعلّ السّبب في أنّهم قد وُضعوا تحت هذه الضّغوط والتّضييق. مقصودنا أنّه ينبغي مشاهدة هذه العزّة والعظمة إلى جانب تلك الغربة.
إنّ أئمّتنا، وطيلة الـ 250 سنة للإمامة ـ أي منذ رحيل نبيّ الإسلام المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم وإلى زمن وفاة الإمام العسكريّ ـ قد لاقوا الكثير من التّعذيب والقتل والظّلم، وحريٌّ بنا أن نبكيهم. إنّ مظلوميّتهم تستحضر القلوب والعواطف، لكنّ هؤلاء المظلومين قد انتصروا، سواءٌ في مقطعٍ من الزمّان أو في كلّ هذا الزّمان وطوله.
1- سورة مريم، الآية 12.2- كلستان سعدي.
3- راجع: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج50، ص211.
4- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 447 - 337.
الجواد (عليه السلام) نبع العلم والمكارم
تمتّع الإمام الجواد عليه السلام بمكانة علمية مرموقة في المجتمع الإسلاميّ، وكان محطّ أنظار العلماء وعامة الناس. وكانت الشيعة تأتي إليه وتسأله عن موارد الحلال والحرام رغم صعوبة التواصل ومتاعب الطريق. وكان الإمام عليه السلام يفرغ نفسه للإجابة على مشاكل الناس وأسئلتهم، فكان يقضي وقتاً طويلاً في ذلك، ويُقيم له مجلساً خاصّاً، فقد أجاب في مجلس واحد على مئات المسائل، حتّى أدهش الناس من كثرة علومه وفضائله[1].
وهذه المكانة هي التي دفعت المأمون لأن يحسن إلى الإمام ويقرّبه إليه، حتّى بالغ في إكرامه وإجلاله وإعظامه، حتّى وصل به الأمر إلى أن يعزم أن يزوّجه بابنته أمّ الفضل. وقد أثبت الإمام عليه السلام هذه المكانة وكان لا يزال صغيراً في السنّ حيث تسلّم الإمامة وعمره سبع أو ثماني سنوات[2].
وقد تتلمذ على يديه المباركتين العديد من الأصحاب، ومنهم: إبراهيم بن مهزيار، وسهل بن زياد الآدمي، وعلي بن أسباط، وموسى بن القاسم البجلي، أيوب بن نوح بن دراج، الحسن بن راشد، صالح بن أبي حماد، علي بن يحيى يُكنّى أبا الحسين، محمد بن أبي زيد الرازي، نوح بن شعيب البغدادي، أحمد بن الحسن بن علي بن فضّال، حمدان بن سليمان بن عميرة، داوود بن أبي زيد، رجاء العبرتائي بن يحيى، وغيرهم الكثير من الفقهاء والمحدّثين والأصحاب[3].
وكان الإمام عليه السلام شديد الزهد في حياته رغم وجوده في بغداد، فقد روى الحسين المكاري، قال: "دخلتُ على أبي جعفر عليه السلام ببغداد وهو على ما كان من أمره، فقلتُ فينفسي: هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبداً، وأنا أعرف مطعمه، قال: فأطرق رأسه ثمّ رفعه، وقد اصفرّ لونه، فقال: يا حسين، خبز شعير وملح جريش في حرم جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أحبّ إليّ مما تراني فيه[4].
وكان عليه السلام كثير الوعظ والإرشاد لأصحابه، فروي أنّ رجلاً أتى إلى الإمام الجواد عليه السلام وقال له: أوصني، قال عليه السلام: "تقبل؟" قال: نعم، قال عليه السلام: "توسّد الصبر، واعتنق الفقر، وارفض الشهوات، وخالف الهوى، واعلم أنّك لن تخلو من عين الله فانظر كيف تكون"[5].
[1] الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج6، ص496.
[2] الشيخ المفيد، محمد بن النعمان، الإرشاد، ج2، ص281.
[3] الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الطوسي، ص387، وللاطلاع أكثر يراجع كتب علم الرجال.
[4] قطب الدين الراوندي، سعيد بن عبد الله، الخرائج والجرائح، ج1، ص383.
[5] ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي، تحف العقول، ص455.