الهجر بين الزّوجين في الشّرع والقانون

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الهجر بين الزّوجين في الشّرع والقانون

من أساسيّات العلاقة الزّوجيّة في الإسلام، المودّة والرّحمة، والسّكن والسّتر المشترك، وهذا يقتضي من الزّوجين السّماحة وسعة الصّدر، والتّجاوز عن بعض الهفوات الّتي لا يسلم منها إنسان، ولهذا كان الهجر من أحد الزّوجين مخالفاً للغاية المرجوّة من الزّواج. فما حكم هجر الزّوج لزوجته شرعاً وقانوناً؟ وما أسبابه؟ وماذا لو هجرت الزّوجة زوجها لأسباب قهريّة؟ أسئلة تهمّ النّساء معرفة الردّ عليها.

يقول الدّكتور طه أبو كريشة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشّريف: لقد جعل الله سبحانه وتعالى الحياة الزّوجيّة قائمة على المودّة والرّحمة، فالرّجل يحتاج إلى المرأة، والمرأة تحتاج إلى الرّجل، فلا يستغني أحدهما عن صاحبه، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الرّوم: 21]، فجعل الله المرأة سكناً للرّجل، يأوي إليها بعد التعب والمشقّة، ولا سيّما إذا كانت لطيفة المعشر، صالحةً متودّدة إلى زوجها، تحرص على راحته، كما جاء في حديث النبي(ص): «خير النساء من تسرُّك إذا أبصرت، وتطيعك إذا أمرت، وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك».

وأود أنّ أشير هنا إلى أنّه لا يجوز للزّوج أن يهجر زوجته إلا في حالة نشوزها وعدم خضوعها لنصحه وإرشاده، وهذا الهجر خاصّ بالهجر في الفراش، بمعنى ألا يبدي الرّجل للمرأة رغبةً في الإقبال عليها والحديث معها، وهو أسلوب يتوخّى توجيه المرأة إلى ما يجب عليها نحو زوجها من الأخذ بمفهوم القوامة والرّعاية. أما إذا هجر زوجته بمعنى أن يترك البيت ولا يقيم فيه معها، فهذا أمر محرّم مهما تكن الأسباب.

وللمرأة الحقّ في طلب التفريق بينها وبين زوجها إذا تعرّضت للضّرر بسبب هذا الهجر. أمّا هجر المرأة لزوجها، فهو معصية، ويتعارض مع ما يجب عليها نحوه من الطّاعة، ولكن إذا كرهت المرأة زوجها، وخافت أن تقصِّر في حقّه بسبب هذه الكراهية، فلا تثريب عليها إذا طلبت مفارقة زوجها خلعاً إذا رفض أن يطلّقها.

أمّا عن موقف القانون من الزّوجة المهجورة، فيقول المحامي بالنقض، نشأت جلال عثمان: «يجوز للزّوجة أن تطلب الطلاق إذا هجرها زوجها فوق أربعة أشهر، فلا الشّرع ولا القانون يعطيان الزّوج الحقّ في أن يهجر زوجته إلى الأبد في الفراش»، مضيفاً: إذا هجر الزّوج زوجته، فمن حقّها طلب الطّلاق للضّرر الواقع عليها، إذا استمرّ الهجر مدّة طويلة، وشعرت الزّوجة بالفراق ودون عذر مقبول، بل يحقّ للزّوجة أن تطلب الطّلاق إذا أقام زوجها في بلد بعيد عنها.. وللأسف الشّديد، فهناك مشكلات كثيرة تحدث في العلاقات الزوجيّة، ولا يستطيع أحد أن يكتشفها، ويكون إثباتها صعباً، كأن يهجر الزّوج زوجته في الفراش وهما يعيشان في بيت واحد، وهو ما يوجب على الزّوجة أن تطلب الطّلاق من أجله، ولكنّ إثباته يكون من الأمور الصّعبة. ولفت نشأت جلال النّظر إلى أنّ القانون يعطي الزوجة كافّة الحقوق، ولكنّ هناك صوراً ونماذج لا يمكن للزّوجة أن تأخذ حقّها فيها كاملاً، ويكون فيها هجر، كأن يعيش الزّوج مع زوجته دون تطليقها ويتزوّج بأخرى ويزورها بين الحين والآخر. وأخيراً، نودّ التّأكيد أنّ الهجر ليس علاجاً حتميّاً، فإنّ من النّساء من لا يصلح الهجر معها، وتصلح معها الكلمة الطيّبة، والنّصيحة، والحوار الهادئ.

وتعليق..

الزّواج علاقة مقدّسة في الإسلام والرّسالات السماويّة، وتنمّ عن أوثق العلاقات الإنسانيّة الّتي تجمع شخصين ببعضهما البعض، ويثمر هذا الزواج أسرةً يرتبط وجودها سلباً أو إيجاباً بسلبيّة هذه العلاقة أو إيجابيّتها. وعنوان هذه العلاقة وضابطها المودّة والرّحمة التي تؤسّس البنيان المتين لهذا الزّواج، فالرحمة تنفي كل عناصر القلق والتوتر المحيطة بهذه العلاقة، وتحميها من كلّ التّداعيات السلبيّة، وبالتّفاهم والمحبّة يستطيع الزوجان حماية علاقتهما بكلّ وعي ومسؤولية، بعيداً عن كلّ الأنانيات والانفعالات الّتي تصل بالعلاقة الزوجيّة إلى مزالق خطيرة تهدّد أمن الأسرة واستقرار المجتمع بوجه عام.

ويحدّد القرآن الكريم أساليب معالجة نشوز المرأة. ففي سياق متّصل، وفي معرض تفسيره للآية المباركة{واللاتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع ...}، يقول سماحة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض):

وهناك نموذج آخر من النّساء يختلف كثيراً عن هذا النّموذج، هو نموذج المرأة الّتي تتمرَّد على زوجها في حقوقه الشّرعيَّة اللازمة عليها، من خلال التزامها بعقد الزَّواج؛ وهذا هو معنى النّشوز الّذي يعني الارتفاع. وقد استخدمت الكلمة هنا للتَّعبير عن ارتفاع المرأة عن طاعة زوجها، على سبيل الكناية؛ فإذا ظهرت أمارات ذلك على الزّوجة؛ وعرف الزّوج، من خلال دراسته للحالة بذهنيّة عادلة، أنّه لم ينشأ من ظروف صحية أو شرعية، فلا بدّ له من معالجة الحالة معالجة واقعيّة بعيدة عن الانفعال والتشنّج، وذلك من أجل حلّ هذه المشكلة حلاً إسلاميّاً، لإقامة النظام داخل البيت الزوجيّ على الأسس التي تم الاتفاق عليها في العقد.

وقد يطرح بعض الناس، في هذا المجال، سؤالاً يتعلّق ببعض الحالات النفسيّة التي قد لا تكون الزّوجة  معها  في الوضع النفسي المريح الّذي يمكنها من الإقبال على العلاقة الجنسيّة، فكيف يمكن للتّشريع أن يضغط عليها  في مثل هذه الحالة، ويفرض عليها الاستجابة لرغبات الزوج، ما قد يساهم في تحطيم شخصيتها وتعقيدها إزاء هذه العلاقة، من حيث الأساس في المستقبل؟

والجواب؛ إنّ الإسلام لا ينظر إلى هذه المسألة نظرة شاعريَّة، على الطريقة التي ينظر إليها السّؤال، بل يحاول أن يجعل الزواج علاقة تعاقدية مرتكزة على المصلحة الحقيقية للزوجين، يلتزمان فيها بالتنازل عن بعض حريتهما لحساب الحقوق المتبادلة التي يفرضها العقد على أحدهما تجاه الآخر، وذلك هو الفرق بين الحياة الفردية والحياة الجماعية؛ فإن معنى أن تكون جزءاً من مجموعةٍ صغيرةٍ، أو كبيرةٍ، هو أن تتصرّف كجزءٍ من الكلّ، لا كفردٍ مستقلّ؛ فتتنازل عن بعض حريتك لمصلحة هذا الدّور؛ وعلى ضوء هذا، فإنّ الله أراد للزواج أن يعصم الزوجين من الانحراف الجنسي، والبحث عن وسائل غير شرعيّة، فألزم الزوجة بالاستجابة لرغبات الزّوج المشروعة، واعتبر ذلك من وسائل التقرّب إلى الله، ليعطي الاستجابة معنى روحيّاً يوفّر لها الحالة النفسيّة البديلة من الحالة الذاتية، لتعصم الزوجة زوجها من البحث عن رغبته خارج نطاق البيت الزوجي، ما يتسبب في هدم الزواج في نهاية المطاف... وبذلك أراد لها أن تتغلّب على مزاجها لمصلحة رغبته، لأنها إذا فقدت بعضاً من مزاجها، فإنها تربح موقعاً ثابتاً من مواقع تأكيد مفهوم المودّة والرّحمة في حياتهما الزوجية.

أمّا السبب في تأكيد هذا الجانب لدى الرّجل، فيعود إلى ما أشرنا إليه قبل هذا الحديث، من أنّ عنصر الإثارة الّذي يقود إلى يقظة الرّغبة الجنسيّة لدى الرّجل، أكثر من عنصر الإثارة لدى المرأة، ولهذا نلاحظ أنّ الرّجل هو الّذي يقود المرأة إلى الانحراف بأساليبه المتنوّعة، بينما نجد أنّ انحراف المرأة ينطلق، غالباً، من حالة ماديّة لا من حالة جنسيّة، بينما الأمر بالعكس لدى الرّجل، لأن الجنس يمثل بالنسبة إليه حالة شبه يومية، تبعاً لتوفر عناصر الإثارة لديه.

إنّ نظرة السؤال إلى المشكلة لا تعالج الموضوع معالجة واقعية، لأنها تطلب من الزوج أن يكبت رغبته احتراماً لرغبتها. وقد نستطيع أن نثير سؤالاً آخر: ماذا يصنع الرّجل إذا كانت الزوجة تمرّ بحالة برود جنسي معقّد؟ وماذا يفعل إذا كانت تعيش بعض الأزمات النفسيّة الطويلة؟ هل نطلب منه أن يجمّد رغبته لتتحوّل القضية بعدها إلى عقدة نفسية، أم نطلب منه أن يبحث عن ذلك في نطاق بعيد عن البيت؛ وفي كلا الأمرين، لا يكون الحلّ في مصلحة المرأة في المستقبل القريب أو البعيد؟

إنّنا لا ننكر أنّ هناك بعض السلبيّات في الحلّ الإسلاميّ، ولكنّ مستوى الإيجابيّات أعلى وأكثر؛ وقد ذكرنا  أكثر من مرّة، أنّ الإسلام يوازن بين السلبيّات والإيجابيّات، فيما يركّزه من قضايا التشريع في نطاق التحريم والتحليل، لأنّ أيّ تشريع مرخّص، لا بدّ من أن يختزن بعض السلبيات في الفعل، كما أنّ أيّ تشريع مانع، لا بدّ من أن يختزن بعض الإيجابيّات في الترك؛ فليس هناك تشريع في العالم، دينياً أو غير ديني، يصل إلى نسبة المئة في المئة في إيجابيّاته وسلبيّاته، لأنّ طبيعته تفرض تخطيط الحدود للإنسان، وتحديد حريّته على هذا الأساس، ما يُولِّد الكثير من المشاكل والسلبيّات.

ونحبّ أن نثير، في هذا المجال، نقطةً بارزة، وهي أنّ الإسلام أراد للرّجل الزوج، أن لا يعيش العلاقة الجنسيّة بطريقةٍ جافّةٍ جامدةٍ، بل أراد له  من ناحية أخلاقيّة تربويّة، أن يهيّئ للمرأة الأجواء الّتي تثير فيها الرّغبة، فيتزيّن لها كما يحب أن تتزيّن له، ويحترم حاجتها إلى الارتواء الجنسي في طريقة ممارسته للعلاقة، فلا يحاول الانتهاء من العمليّة إلا بعد أن يشعر بأنها بلغت منها ما تريد. وفي ضوء ذلك، يمكن للرّجل، في هذا الجوّ، أن يتغلّب على الحالة النفسية السلبية بأساليب عاطفية مدروسة، كما يمكن للمرأة أن تتوصّل إلى ذلك ببعض الأساليب الإيحائيّة الذاتيّة، أو ببعض الأجواء الروحيّة التي تدفعها إلى الإقبال على تلبية رغبة زوجها، من ناحية روحيّة، أو أن تعمل على إقناعه بالطريقة التي لا تحقّق له شعوراً بالضيق أو بالانفعال عند عدم قدرتها على ذلك في وقت ما...".

ويتابع سماحته : {فَعِظُوهُنَّ...}، هذا هو الأسلوب الأوّل الّذي أراد الإسلام من خلاله للأزواج أن يعالجوا حالة التمرّد الحاصلة من الزّوجة على الحقوق الزوجيّة، وهو أسلوب الوعظ، وذلك باتّباع الأساليب الفكريّة والروحيّة التي تحذّرها من نتائج عملها على الصّعيد الدنيويّ والأخرويّ، فيخوّفها الزوج من عقاب الله سبحانه على معصيته، فيما أوجبه عليها من حقوق للزّوج، ومن أداء ذلك إلى تهديم الحياة الزوجيّة، وانعكاسه على مستقبلها ومستقبل الأولاد  إن كان هناك أولاد. ولا بدّ في سبيل تحقيق هذا الهدف، من اتّباع الأساليب الّتي تؤدّي إلى الهدف المنشود من رجوعها إلى الخطّ المستقيم وعودتها عن الانحراف... وتختلف الأساليب باختلاف ذهنيّة الزّوجة من ناحية فكريّة وروحيّة وعاطفيّة، فلا بدّ من دراسة ذلك كلّه، مع ملاحظة نقاط الضّعف والقوّة في شخصيّتها الذاتية والدينية؛ ثم مواجهة الموقف بما يتطلبه من حكمةٍ ومرونة وتخطيط زمنيّ للمراحل اللازمة للوصول إلى قناعتها والتزامها، لأنّ بعض الحالات قد تحتاج إلى وقت طويل؛ فلا يكتفي الإنسان بالكلمة العابرة المرتجلة، كما يفعله بعض الناس الّذين يعالجون مثل هذه الحالات بالكلمات التقليدية التي يطلقونها بطريقة جافة، لا روح فيها ولا حياة، ولا معنى لها لدى قائلها وسامعها.

{وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ...}؛ هذا هو الأسلوب الثّاني الّذي يريد الإسلام للزّوج اتّباعه عند إخفاق الأسلوب الأوّل ـ  الوعظ ـ  وهو أسلوب التّأديب النفسي، وهو الهجران في المضاجع، وذلك بمقاطعتها، كما عن بعض المفسّرين، أو بإدارة ظهره إليها عندما ينامان في مكان واحد، أو بالإيحاء لها، بطريقة أو بأخرى، بعدم الرّغبة فيها، أو بعدم المبالاة بها. ولعلّ هذا الأسلوب السّلبيّ، من أقوى الأساليب المؤثّرة في شخصيّة المرأة، لأنّ اهتمام الزّوج بها، يعتبر عاملاً مهمّاً من عوامل إحساسها بأهميّتها وبقوّة شخصيّتها، وذلك ما يقرّره المحلّلون النفسيّون في هذا المجال. [تفسير من وحي القرآن، ج 7، ص 239 وما بعدها].

مصدر التَّحقيق: جريدة الأهرام المصريّة، بتصرّف وتعليق من موقع بيّنات.

قراءة 1491 مرة