أبعاد وفلسفة حركة الإمام الحسين(ع) في كلام القائد

قيم هذا المقال
(1 Vote)
أبعاد وفلسفة حركة الإمام الحسين(ع) في كلام القائد

أهم أهداف الإمام الحسين (عليه السلام)

الإمام الحسين (عليه السلام) لدى خروجه من المدينة كتب وصيته التاريخية لأخيه محمد بن الحنفية والتي قال فيها: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي».
فأبو عبد الله (عليه السلام) قد أوصى أخاه محمداً بن الحنفية، مرّتين: الأولى عند خروجه من المدينة، والثانية عند خروجه من مكّة، وأتصوّر أنّ هذه الوصيّة كانت عند خروجه من مكّة في شهر ذي الحجّة ـ فبعد الشهادة بوحدانية الله ورسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و... يقول الإمام (عليه السلام): «وإنّي ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت أريد الإصلاح في أمّة جدّي» أي أريد الثورة لأجل الإصلاح لا للوصول إلى الحكم حتماً أو للشهادة حتماً، والإصلاح ليس بالأمر الهيّن، فقد تكون الظروف بصورة بحيث يصل الإنسان إلى سدّة الحكم ويمسك بزمام السلطة وقد لا يمكنه ذلك ويستشهد، وفي كلتا الحالتين فالثورة تكون لأجل الإصلاح. ثمّ يقول (عليه السلام): «أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي». والإصلاح يتمّ عن هذا الطريق، وهو ما قلنا إنّه مصداق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إنَّ الحسين بن علي (عليه السلام) لم يتوجه إلى كربلاء بهدف القتال؛ فالذي يذهب إلى ميدان القتال لابد له من الجنود؛ ولكن الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) كان قد حمل معه أهل بيته من النساء والأطفال، مما يعني أن حادثة ستقع في ذلك المكان وستدغدغ عواطف البشرية على طول التاريخ حتى تتضح عظمة ما قام به الإمام الحسين.. لقد كان الإمام الحسين يعلم أن أعداءه حقراء وسفهاء، وكان يرى أن الذين جاؤوا لقتاله ليسوا سوى شرذمة من أراذل وأوباش الكوفة طمعاً في الحصول على عطية تافهة وحقيرة هي التي دفعتهم إلى هذا المسلك وارتكاب مثل هذه الجريمة العظمى، وكان يعلم بما سيحلّ بنسائه وأبنائه. فالإمام الحسين لم يكن غافلاً عن كل هذا، ولكنه لم يكن مستعداً للاستسلام والعودة عن قراره، بل كان يحثّ على مواصلة السير مما يدل على أهمية هذا الطريق وعظمة هذا العمل.
لقد وردت عبارة في زيارة أربعين الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) تنطوي على مغزى عميق وهي جديرة بالتأمل والتدبر كسواها من العبارات الكثيرة الواردة في مثل هذه الزيارات والأدعية... وإنها ناظرة إلى أهداف النهضة الحسينية. وهذه العبارة هي «وبذل مهجته فيك». وقد وردت في زيارة الأربعين التي تأتي فقراتها الأولى على صورة دعاء يناجي به المتكلم المولى سبحانه وتعالى فيقول «وبذل مهجته فيك»  أي الحسين بن علي (عليهما السلام) «ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة». فهذا هو أحد جوانب القضية وهو المتعلق بصاحب النهضة أي الحسين بن علي (عليه السلام). وأما الجانب الآخر فيرد في الفقرة التالية التي تقول «وقد توازر عليه من غرّته الدنيا وباع حظه بالأرذل الأدنى» في وصف للواقفين على الجبهة المضادة، وهم الذين غرتهم الدنيا بالمطامع المادية والزخارف والشهوات والأهواء النفسية فباعوا حظهم من السعادة الدنيوية والأخروية بالأرذل الأدنى. وهذه هي خلاصة النهضة الحسينية.

أبعاد حركة الإمام الحسين (عليه السلام)

يدرك المرء أن بإمكانه النظر إلى النهضة الحسينية بمنظارين في الواقع، وكلاهما صحيح، سوى أن مجموعهما يكشف عن الأبعاد العظيمة لهذه النهضة؛ فالنظرة الأولى تكشف عن الحركة الظاهرية للحسين بن علي(ع)، والتي قام بها في مواجهة حكومة فاسدة ومنحرفة وظالمة وقمعية وهي حكومة يزيد. وأما باطن القضية وعمقها فتكشف عنه النظرة الثانية، وهي الحركة الأعظم والأعمق، لأنها ضد جهل الإنسان وضلالته. فمع أن الإمام الحسين قام بمقارعة يزيد في الواقع، إلا أن هذه المقارعة الواسعة التاريخية لم تكن ضد يزيد الفرد الفاني الذي لا يساوي شيئاً، بل كانت ضد جهل الإنسان وانحطاطه وضلالته وذلّه، وهو ما يكافحه الإمام الحسين في الحقيقة.

ونهضة الإمام الحسين لها بعدان آخران يمكن أن يسفر كل منهما عن نتيجة طيبة؛

الأول: أن يستطيع الإمام الحسين (عليه السلام) التغلب على حكومة يزيد واسترداد السلطة من يد أولئك الذين يقمعون الناس ويتلاعبون بمصيرهم ووضع الأمور في نصابها الصحيح؛ فلو كان قد حدث ذلك لتغيرت مسيرة التاريخ.
وأما الثاني فكان عدم تمكن الإمام الحسين من إحراز هذا النصر السياسي والعسكري لأي سبب من الأسباب، وعندئذ لم يكن أمامه سوى استبدال القول بالدم والمظلومية وتحمّل الخسارة التي لن ينساها التاريخ على مدى الزمان، لتبقى كلمته تياراً جارفاً لا ينقطع إلى أبد الدهر. وهذا هو ما فعله الإمام الحسين.

وفي الحقيقة لو كان الذين يدعون الإمام قد وقفوا موقفاً آخر غير الذي اتخذوه مع الإمام الحسين(ع) لتحقق البعد الأول للثورة ولاستطاع الإمام إصلاح الدنيا والآخرة في ذلك الوقت، ولكنهم قصروا في حقه!
أما لماذا قصروا، وكيف قصروا، فإن ذلك من الأبحاث الطويلة والمريرة، وقد تحدثت عن بعض جوانبه منذ عدة سنوات تحت عنوان (الخواص والعوام)؛ أي من الذين قصروا، وعلى من يقع هذا التقصير، وكيف كان، وأين كان؟ وهو ما لا أريد الخوض فيه مرة أخرى.. وعلى هذا الأساس فقد وقع التقصير من البعض وهو ما حال دون تحقق الهدف الأول، بينما تحقق الهدف الثاني، وهو ما لم يكن بوسع أية قوة كانت سلبه من الإمام الحسين(ع)، حيث إن قوة التوجه إلى ميدان الشهادة، والتضحية بالنفس والأعزة، هو ذلك الحدث العظيم الذي تضاءلت وتلاشت أمام عظمته قوة العدو وجبروته، وهو الذي يمنح الشمس المزيد من الازدهار والتألّق يوماً بعد آخر في عالم الإسلام ويحيط بكل البشرية.

خصائص واقعة كربلاء
علينا الإمعان والتأمّل قليلاً في قضية الإمام الحسين(عليه السلام).
لقد ثار الكثيرون في العالم وقتلوا وكان لهم قادة، وكان بينهم الكثير من أبناء الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، لكن سيد الشهداء (عليه السلام) فرد واحد، وواقعة كربلاء فريدة في نوعها، ومكانة شهداء كربلاء منحصرة بهم، لماذا؟
يجب البحث عن الإجابة فـي طبيـعة هـذه الواقعة لتكون لنا  درساً.
إن إحدى خصائص هذه الواقعة هي أنَّ خروج الإمام الحسين(عليه السلام) كان خالصاً للّه، ولإصلاح المجتمع الإسلامي، وهذه خصيصة هامّة.. فعندما يقول الإمام (عليه السلام): «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً» فمعناه أن ثورتي لم تكن للرياء والغرور وليست فيها ذرّة من الظلم والفساد، بل «إنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي» أي أن هدفي هو الإصلاح فقط ولا غير.
إن القرآن الكريم حينـما يخـاطب المسلمـين في صدر الإسلام يقول: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس} ، وهنا الإمام (عليه السلام) يقول: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً». تأمّلوا جيداً، فهنا نهجان وخطّان.. القرآن يقول لا تكونوا مثل الذين خرجوا «بطراً» أي غروراً وتكبّراً، ولا أثر للإخلاص في تحرّكهم، وإنّما المطروح في هذا المنهج الفاسد هو «الأنا» و«الذات»، و«رئاء الناس»، أي انّه تزيَّنَ ولبس الحلي وامتطى جواداً غالياً وخرج من مكّة وهو يرتجز، إلى أين؟ إلى الحرب، التي يهلك فيها أمثال هؤلاء أيضاً، فهذا خطّ .

وهناك خطّ ونهج آخر ومثاله ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، والتي لا وجود للـ«أنا» وللـ«ذات» والمصالح الشخصية والقومية والحزبية فيها أبداً، إذاً هذه أول خصّيصة من خصائص ثورة الحسين بن علي (عليه السلام).

فكلّما ازداد الإخلاص في أعمالنا كلّما ازدادت قيمتها، وكلّما ابتعدنا عن الإخلاص كلّما اقتربنا من الغرور والرياء والعمل للمصالح الشخصية والقومية، وكلّما ازدادت الشوائب في الشيء كلّما أسرع في الفساد، فلو كان نقيّاً وخالصاً لما فسد أبداً.

وإنْ أردنا إعطاء مثال بالأمور المحسوسة، نقول: إذا كان الذهب خالصاً ونقياً فلا يقبل الفساد والصدأ أبداً، وإنْ كان مخلوطاً بالنحاس والحديد وبقية المواد الرخيصة الثمن، احتمل الفساد أكثر، فهذا في المادّيات.. أمّا في المعنويات فانّ هذه المعادلة أكثر دقّة، إنما نحن لا نفهمها بسبب نظرتنا المادية، لكن يدركها أهل الفن والبصيرة، وانّ اللّه تعالى هو الناقد في هذه الواقعة، «فانّ الناقد بصير»، فوجود شائبة بمقدار رأس إبرة في العمل يقلّل من قيمة العمل بالمقدار نفسه، وحركة الإمام الحسين (عليه السلام) من الأعمال التي ليست فيها شائبة ولو بمقدار رأس إبرة، لذا هو باقٍ إلى الآن وسيبقى خالداً إلى الأبد.
فمن توقّع خلود اسم وذكر أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) وأنصاره في التاريخ؟ أولئك الذين قُتِلوا غرباء في تلك الصحراء وحيث دفنوا فيها رغم كلّ الإعلام المعادي في ذلك الوقت، وكيف أنهم أحرقوا المدينة بعد استشهاد هذا العظيم بسنة في واقعة الحرّة، أي أنهم نتفوا الورود بعد أن خرّبوا الروضة، فمن توقّع أن يفوح عطرها؟ وبأيّة قاعدة مادّية يُتصور بقاء وردة في هذه الروضة؟ لكن تلاحظون انّه كلما مرّ الزمان عليها كلّما أصبحت تلك الروضة أكثر عطراً.

فهناك أناس لا يعتقدون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو جدّ الحسين (عليه السلام) والحسين سائر على نهجه، ولا يعتقدون بأبيه علي (عليه السلام) ولا يؤمنون بحرب الحسين (عليه السلام)، لكنهم يقبلون الحسين (عليه السلام) ويعظّمونه، فهذا هو الخلوص.
وفي ثورتنا العظيمة كان الإخلاص سبباً لبقائها، ذلك الجوهر الخالص الذي كان الإمام مظهره. ارجعوا إلى تلك الذكريات وتلك التضحيات في سوح الحرب، ذلك الحر المهلك في الصحاري والبراري، ذلك الشتاء القارس في الجبال، ذلك الرعب والخوف والخطر المستمر في سوح القتال، تلك المحاصرة، قلة القوات التي كنّا نتحمّس كثيراً لإعداد عدد قليل منها، عدم امتلاك الأسلحة حيث كنا نركض وراء مسدس أو قذيفة.. تذكّروا كلّ هذا واستشعروا تلك الأيام، لتدركوا لماذا كانت كلّ هذه المؤامرات ضدّ الثورة؟ ولماذا تستمر إلى الآن؟ لكن بقيت هذه الشجرة راسخة.

إن هذا الجوهر (الإخلاص) هو الذي حفظها، إن إخلاص الإمام الخميني (رض) والشعب خاصة إخلاص أولئك المقاتلين في سوح القتال... هو الذي حفظ الثورة ودعم استمرارها، إذاً هذه نقطة يجب الاهتمام بها دائماً، وأنا أحوج من غيري إلى هذا الاهتمام.
إن النقطة الأخرى في ثورة الحسين (عليه السلام) ـ وهي مهمة أيضاً ـ وهذه النقطة وإنْ كانت ترجع إلى قوة الإخلاص، لكنها في نفسها مهمة نظراً لوضعنا اليوم.. هي غربة الحسين (عليه السلام)، فلا يوجد في أيّة واقعة من الوقائع الدامية في صدر الإسلام غربة ووحدة كما في واقعة كربلاء، فمن رغب فليتأمل في تاريخ الإسلام.
إنني أمعنت جيداً فلم أجد واقعة كواقعة كربلاء.. ففي حوادث صدر الإسلام وغزوات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحروب أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت حكومة ودولة وجنود يشاركون في الحرب، ومن ورائهم أدعية الأمهات، آمال الأخوات، تقدير الحضور وتشجيع القيادة العظيمة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لأمير المؤمنين (عليه السلام)، كانوا يضحّون بأنفسهم أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا ليس صعباً.
فكم من شبابنا قدّموا أرواحهم لدى سماعهم نداءاً من الإمام الخميني، وكم منّا من يأمل في إشارة من الولي الغائب (عج) لنضحّي بأنفسنا.. فعندما يرى الإنسان القائد بعينه ويشاهد تقدير وثناء من خلفه ويعلم انه يقاتل ليهزم العدو ويأمل بالنصر، فإنّه يقاتل براحة أكبر، وهكذا حرب ليست صعبة، طبعاً هناك حوادث في التاريخ فيها الغربة نسبياً كحوادث أبناء الأئمة والحسنيّون في عصر الأئمة عليهم السلام، لكن هؤلاء كانوا يعملون في ظلّ إمام كالإمام الصادق (عليه السلام)، والإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، والإمام الثامن (عليه السلام)، وقائدهم وسيّدهم حاضر يسندهم ويتفقّد عيالهم، فكان الإمام الصادق(عليه السلام) يأمرهم بقتال الحكام الفسدة ويقول «وعليّ نفقة عياله» وكان المجتمع الشيعي ظهراً لهم، وبالنهاية كان لهم أمل خلف ساحات الحرب، لكن في واقعة كربلاء، فانّ أس القضية ولب لُباب الإسلام المقبول من الجميع أي الإمام الحسين (عليه السلام) في ميدان الحرب، ويعلم هو وأصحابه انه سيستشهد ولا أمل له في أي أحد في هذا العالم الواسع وهو غريب ووحيد. ومن "رجالات الإسلام" ذلك اليوم من لا يغتمّ لقتل الحسين (عليه السلام) بل يعتبر وجوده مضراً بحاله، ومنهم من لا يبالي بالقضية وإن حزن لقتله (عليه السلام) (كعبد اللّه بن جعفر وعبد اللّه بن عباس وأمثالهم).
فلم يكن للإمام (عليه السلام) أدنى أمل بمن هم خارج ميدان القتال المليء بالمحن، فما كان موجوداً فهو في ميدان القتال فقط. والأمل مقتصر على هذا الجمع، والجمع مسلّم للشهادة، وبعد الاستشهاد لا يقام لهم مجلس فاتحة حسب الموازين الظاهرية، فيزيد متسلّط على كلّ شيء، وتُساق نسائهم أسرى ولا يُرْحَم أطفالهم «لا يوم كيومك يا أبا عبد اللّه» فلولا الإيمان والإخلاص والنور الإلهي في قلب الحسين ابن علي (عليهما السلام) والذي بعث الحرارة في قلوب الصفوة المؤمنة حوله لما تحقّقت تلك الواقعة، فانظروا إلى عظمة هذه الواقعة.

منـزلة شهداء واقعة كربلاء

يمكن مقارنة شهدائنا بشهداء بدر وحنين واُحد وشهداء صفين والجمل، بل شهدائنا أرفع منـزلة من كثير من هؤلاء الشهداء، لكن بشهداء كربلاء، فلا..
فلا يقارن أحد بشهداء كربلاء، لا اليوم ولا في الماضي، لا في صدر الإسلام ولا أبداً إلى أن يشاء اللّه.. إنّ هؤلاء هم صفوة الشهداء، فلا نظير لعلي الأكبر ولحبيب بن مُظاهر. فهذه واقعة كربلاء وهذه هي القاعدة الراسخة والمتينة التي حفظت الإسلام على مدى ألف وثلاثمائة وعدّة سنوات رغم كلّ العداء له.. فهل تتصورون أن الإسلام يبقى لولا تلك الشهادة وذلك اليوم وتلك الواقعة العظمي؟
تيقّنوا بمحو الإسلام في أتون الأحداث، نعم قد يبقى العنوان كدين تاريخي مع عدد قليل من الأتباع في زاوية من زوايا العالم، وقد يبقى اسم وذكر للإسلام لكن تمحى حقيقته.. انظروا إلى الإسلام في هذا العصر كيف انّه حيّ وبنّاء.. وكيف تتفاءل الشعوب بأنواره الساطعة بعد(1400) سنة، وكلّ هذا من بركات واقعة كربلاء ومن استشهاد الإمام الحسين(عليه السلام).

عزّة وشموخ الإمام الحسين (عليه السلام)
إن سلوك الإمام الحسين منذ خروجه من المدينة وحتى يوم استشهاده في كربلاء كان منطوياً على المعنويات والعزة والشموخ وفي نفس الوقت مغموراً بالعبودية والتسليم المطلق لأمر الله، وهكذا كان دائماً وفي كل المراحل.
ففي ذلك اليوم الذي جاءته مئات وربما آلاف الرسائل تحمل نداء القائلين بأنهم شيعته وأنصاره وأنهم في الكوفة والعراق بانتظار وصوله، فإنه لم يصب بالغرور. وعندما قال «خطَّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة» فإنه كان يتحدث عن الموت ولم يهدد الأعداء وينذرهم بالويل والثبور، كما أنه لم يقم بترغيب أصحابه ولم يقم بتقسيم مناصب الكوفة بينهم.
لقد كانت حركته حركة إسلامية مفعمة بالعلم والمعرفة والعبودية والتواضع في ذلك اليوم الذي مد فيه الجميع إليه أيديهم وأظهروا له الود والإخلاص. وحتى في كربلاء عندما حاصره ثلاثون ألفاً من الأراذل والأوباش مع أصحابه الذين لم يبلغوا المائة وهددوه هو ومن معه من أعزائه بالموت، كما هددوا نساءه وحرمه بالأسر، فإن هذا الرجل الإلهي والعبد الرباني العزيز في الإسلام لم تبد عليه ذرة من الاضطراب.
يقول ذلك الراوي الذي ينقل أحداث يوم عاشوراء التي تناقلتها الألسن والكتب «فو الله ما رأيت مكسوراً أربط جأشاً من الحسين». فالإنسان يلتقي الكثيرين في ميادين الحرب المختلفة وفي الساحات الاجتماعية والعرصات السياسية وسواها من المجالات الأخرى التي تضم ذوي الابتلاءات المختلفة؛ ولكن الراوي يحكي عن عدم مشاهدته لأحد مثل الحسين بن علي في موقفه هذا، حيث نـزلت عليه شتى المصائب، غير أنه واجهها بوجه مستبشر قاطع، مما يدل على قوة العزيمة ورسوخ الإرادة والتوكل على الله.. فهذه هي العزة الإلهية، وهذا هو الموقف الذي خطّه الإمام الحسين في سجل التاريخ.

إن الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة النجاة
لقد قيل الكثير عن نهضة هذا العظيم، لكنّ الإنسان كلّما فكّر وتدبّر في هذا الموضوع، كلّما اتّسع مجال التفكير والبحث والتحقيق والمطالعة عنده، فقد بقي الكثير ممّا لم يقال عن هذه الحادثة العظيمة والعجيبة الّتي لا نظير لها. فعلينا أن نتدبّر ونتفكّر فيه ثمّ نقوله للآخرين.
لو نظرنا الحادثة منذ أن خرج أبو عبد الله (عليه السلام) من المدينة وتوجّه نحو مكّة إلى أن استُشهد في كربلاء، لأمكننا أن نقول إنّ الإنسان يستطيع عدّ مائة درس مهمّ في هذا التحرّك الّذي استمرّ شهراً فقط. ولا أودّ القول آلاف الدروس وإن أمكن قول ذلك حيث تعتبر كلّ إشارة من ذلك الإمام العظيم درساً، لكن عندما نقول مائة درس أي لو أردنا أن ندقّق في هذه الأعمال لأمكننا استقصاء مائة عنوان وفصل، وكلّ فصل يعتبر درساً لأمة وتاريخ وبلد ولتربية النفس وإدارة المجتمع وللتقرّب إلى الله.
هكذا هو الحسين بن علي (أرواحنا فداه وفداء اسمه وذكره) كالشمس الساطعة بين القديسين، أي إن كان الأنبياء والأئمّة والشهداء والصالحين كالأقمار والأنجم، فالحسين (عليه السلام) كالشمس الطالعة بينهم.
وإلى جانب المائة درس هذه، هناك درس رئيسي في هذا التحرّك، سأسعى لتوضيحه لكم وهو لماذا ثار الحسين(عليه السلام)؟ لماذا ثرت يا حسين رغم كونك شخصيّة لها احترامها في المدينة ومكّة، ولك شيعتك في اليمن، إذهب إلى مكان لا عليك بيزيد ولا ليزيد عليك شيء، تعيش وتعبد الله وتبلِّغ؟
هذا هو السؤال والدرس الرئيسي، ولا نقول إنّ أحداً لم يشر إلى هذا الأمر من قبل، فقد حقّقوا وتحدّثوا كثيراً في هذه القضيّة، وما نودّ قوله اليوم ـ وفي رأيي ـ هو استنتاج جامع ورؤية جديدة للقضيّة.
إنّ البعض يقول: إنّ هدف ثورة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) هو إسقاط حكومة يزيد الفاسدة وإقامة حكومة بدلها.
هذا القول شبه صحيح وليس خطأ، لأنّه لو كان القصد من هذا الكلام هو أنّ الحسين(عليه السلام) ثار لأجل إقامة حكومة وعندما يرى عدم إمكانيّة ذلك، يقول لم نتمكّن من ذلك، فلنرجع.

إنّ من يثور لأجل إقامة حكومة، سيستمرّ مادام يرى إمكانية ذلك، فإن احتمل عدم الإمكان أو عدم وجود احتمال عقلائي، فوظيفته أن يرجع. فالّذي يقول إنّ هدف الإمام (عليه السلام) من هذه الثورة هو إقامة الحكومة العلويّة الحقّة، فهذا غير صحيح؛ لأنّ مجموع هذا التحرّك لا يدلّ على ذلك. وسأبين ذلك لاحقاً.
والبعض على العكس من ذلك، قالوا: ما الحكومة؟ إنّ الحسين كان يعلم بعدم تمكّنه من إقامة الحكومة، إنّه جاء لأجل أن يقتل ويستشهد.. لقد شاع هذا الكلام على الألسن كثيراً فترةً من الزمن، وكان البعض يصنع ذلك بتعابير جميلة، ثمّ رأيت أنّ بعض كبار العلماء قد قالوا ذلك أيضاً، فهذا لا يعتبر كلاماً جديداً وهو أنّ الإمام (عليه السلام) ثار لأجل أن يستشهد، لأنّه رأى أنّه لا يمكنه عمل شيء بالبقاء، فقال يجب أن أعمل شيئاً بالشهادة.
هذا الرأي أيضاً لا يوجد في المصادر الشرعيّة الإسلاميّة ما يؤّيد حجّة إلقاء الإنسان نفسه للقتل. إنّ الشهادة الّتي نعرفها في الشرع المقدّس والآيات والروايات معناها أن يتحرّك الإنسان ويستقبل الموت لأجل هدف مقدّس واجب أو راجح، هذه هي الشهادة الإسلاميّة الصحيحة. أمّا أن يتحرّك الإنسان لأجل أن يقتل فلا، إذن هذا الأمر وإن كان فيه جانباً من الحقيقة لكن لم يكن هدف الحسين (عليه السلام).
إذن ـ باختصار ـ لا يمكننا القول: إنّ الحسين (عليه السلام) ثار لأجل إقامة الحكومة، ولا أن نقول: إنّه ثار لأجل أن يستشهد. وإنّني أتصوّر أنّ القائلين بأنّ الهدف هو الحكومة أو الهدف هو الشهادة قد خلطوا بين الهدف والنتيجة. فالهدف لم يكن ذلك، بل كان للإمام الحسين (عليه السلام) هدف آخر، كان الوصول إليه يتطلّب طريقاً وحركة تنتهي بإحدى النتيجتين: الحكومة أو الشهادة، وكان الإمام مستعدّاً لكلتا النتيجتين، فقد أعدّ مقدّمات الحكم وكذا مقدّمات الشهادة، فإذا تحقّق أيّ منهما، كان صحيحاً، لكن لم يكن أيّ منهما هدفاً، بل كانا نتيجتين.
إذن ما هو الهدف؟ أقول باختصار ثم أبداً بتوضيحه قليلاً.
لو أردنا بيان هدف الإمام الحسين (عليه السلام)، فينبغي أن نقول هكذا: إنّ هدف ذلك العظيم كان أداء واجب عظيم من واجبات الدين لم يؤّده أحد قبله، لا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، واجب يحتلّ مكاناً مهمّاً في البناء العام للنظام الفكري والقيمي والعملي للإسلام. ورغم أنّ هذا الواجب مهمّ وأساسي، لكنّه لماذا لم يُقَمْ بهذا الواجب حتّى عهد الإمام الحسين (عليه السلام)؟ كان ينبغي على الإمام الحسين (عليه السلام) القيام بهذا الواجب ليكون درساً على مرّ التاريخ، مثلما أنّ تأسيس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحكومة الإسلاميّة أصبح درساً على مرّ تاريخ الإسلام، ومثلما أصبح جهاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سبيل الله درساً على مرّ تاريخ المسلمين وتاريخ البشريّة إلى الأبد. فكان ينبغي أن يُودّي الإمام الحسين (عليه السلام) هذا الواجب ليصبح درساً عمليّاً للمسلمين على مرّ التاريخ.
ولماذا قام الإمام الحسين (عليه السلام) بهذا الواجب؟ لأنّ أرضية هذا العمل قد مُهِّدت في زمن الإمام الحسين (عليه السلام)، فلو لم تمهّد هذه الأرضيّة في زمن الإمام الحسين (عليه السلام)، كأن مُهّدت ـ وعلى سبيل المثال ـ في زمن الإمام علي الهادي (عليه السلام) لقام الإمام علي الهادي (عليه السلام) بهذا الواجب، لصار هو ذبيح الإسلام العظيم، ولو حدث ذلك في زمن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) لقام به، أو حدث في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) لقام به الإمام الصادق (عليه السلام)، لكنّ لم يحدث ذلك في زمن الأئمّة حتّى عصر الغيبة إلاّ في عصر الإمام الحسين (عليه السلام).
إذن كان الهدف أداء هذا الواجب، فعندها تكون نتيجة أداء الواجب أحد الأمرين إمّا الوصول إلى الحكم والسلطة وكان الإمام الحسين (عليه السلام) مستعدّاً لذلك؛ ليعود المجتمع كما كان عليه في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، أو يصل إلى الشهادة وكان الإمام الحسين مستعدّاً لها أيضاً.
فإنّ الله قد خلق الحسين والأئمة بحيث يتحمّلون مثل هذه الشهادة لمثل لهذا الأمر، وقد تحمّل الإمام الحسين (عليه السلام) ذلك.. وهذا خلاصة الأمر.

وأمّا توضيح ذلك:
انظروا أيّها الإخوة والأخوات، إنّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما بعث، أتى بمجموعة من الأحكام، بعضها فرديّة لإصلاح الفرد، وبعضها اجتماعية لبناء المجتمعات البشريّة وإدارة الحياة البشريّة. هذه المجموعة من الأحكام يقال لها النظام الإسلامي.
فعندما نـزل الإسلام على القلب المقدّس للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء بالصلاة والصوم والزكاة والإنفاقات والحجّ والأحكام الأسرية والعلاقات الفرديّة، ثمّ جاء بالجهاد في سبيل الله وإقامة الحكومة والنظام الاقتصادي وعلاقات الحاكم بالرعيّة ووظائف الرعية تجاه الحاكم. هذه المجموعة من الأحكام عرضها الإسلام على البشر، وبيّنها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويبعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به». ولم يبيّن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّ ما يسعد الإنسان والمجتمع الإنساني فحسب، بل طبّقها وعمل بها، فقد أقام الحكومة الإسلاميّة والمجتمع الإسلامي، وطبّق الاقتصاد الإسلامي، وأقيم الجهاد واستحصلت الزكاة، فشيّد نظاماً إسلاميّاً وأصبح النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وخليفته من بعده معمار وقائد هذا النظام.
كان الطريق واضحاً وبيّناً، فوجب على الفرد وعلى المجتمع الإسلامي أن يسير في هذا الطريق وعلى هذا النهج، فإن كان كذلك بلغ الناس الكمال، أصبحوا صالحين كالملائكة، وذهب الظلم والشرّ والفساد والفرقة والفقر والجهل بين الناس، ووصل الناس إلى السعادة الكاملة ليصبحوا عباد الله الكُمّل.
حسناً، يبقى ـ هنا ـ سؤال وهو: لو قامت يد أو حادثة القطار الّذي وضعه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على سكته، فما هو التكليف؟.. لو انحرف المجتمع الإسلامي وبلغ الانحراف درجةً بحيث يخاف معه انحراف أصل الإسلام والمبادئ الإسلاميّة ـ لأنّ الانحراف على قسمين، فتارة ينحرف الناس، وهذا ما يقع كثيراً، لكن تبقى أحكام الإسلام سليمة، وتارة ينحرف الناس ويفسد الحكّام والعلماء ومبلّغو الدِّين، فيحرّفوا القرآن والحقائق، وتبدّل الحسنات سيّئات والسيّئات حسنات، ويصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ويحرَّف الإسلام 180 درجة ـ فلو اُبتلي النظام والمجتمع الإسلامي بمثل هذا الأمر، فما هو التكليف حينئذ؟
لقد بيّن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحدّد القرآن التكليف ﴿من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم﴾. إضافة إلى آيات وروايات كثيرة أخرى.

لكن هل تمكّن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من العمل بهذا الحكم الإلهي؟ كلاّ، لأنّ هذا الحكم الإسلامي يُطبّق في عصر ينحرف فيه المجتمع الإسلامي ويبلغ حدّاً يخاف فيه من ضياع أصل الإسلام، والمجتمع الإسلامي لم ينحرف في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم ينحرف في عهد أمير المؤمنين بتلك الصورة، وكذا في عهد الإمام الحسن (عليه السلام) عندما كان معاوية على رأس السلطة، وإن ظهرت الكثير من علائم ذلك الانحراف، لكنّه لم يبلغ الحدّ الّذي يخاف فيه على أصل الإسلام.. نعم، يمكن أن يقال إنّه بلغ في برهة من الزمن الحدّ، لكن في تلك الفترة لم تتاح الفرصة ولم يكن الوقت مناسباً للقيام بهذا الأمر.
إنّ هذا الحكم الّذي يعتبر من الأحكام الإسلاميّة لا يقلّ أهمّية عن الحكومة ذاتها، لأنّ الحكومة تعني إدارة المجتمع، فلو انحرف المجتمع وفسد، وتعطّل الحكم الإلهي، ولم يوجد عندنا حكم وجوب تغيير الوضع وتجديد الحياة أو بتعبير اليوم (الثورة)، فما الفائدة في الحكومة في الإسلام. فالحكم الّذي يرتبط بإرجاع المجتمع المنحرف إلى الخطّ الصحيح لا يقلّ أهمّية عن الحكومة ذاتها، ويمكن أن يقال إنّه أكثر أهمّية من جهاد الكفّار ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الطبيعيين في المجتمع الإسلامي، بل وحتّى من العبادات الإلهيّة العظيمة كالحج. لماذا؟ لأنّ هذا الحكم ـ في الحقيقة ـ يضمن إحياء الإسلام بعد أن أشرف على الموت أو مات وانتهى.. حسناً، مَنْ الّذي يجب عليه أداء هذا الحكم وهذا التكليف؟

خلود واقعة كربلاء
بلغ الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه ـ الذين نلطم على صدورنا ونبكي لأجلهم ونحبّهم أكثر من أبنائنا ـ قمة الغربة، وكانت نتيجة ثورته بقاء وحيوية الإسلام الى اليوم.. إذاً واقعة كربلاء حيّة وباقية ليس في قطعة من الأرض صغيرة فقط، وإنّما في مساحة مترامية الأطراف من محيط الحياة البشرية.

إنّ كربلاء موجودة في كلّ شيء؛ في الأدب، في الثقافة، في السنن والآثار، في الاعتقادات، في القلوب.

قراءة 2473 مرة