مهوى أفئدة المؤمنين

قيم هذا المقال
(0 صوت)
مهوى أفئدة المؤمنين

 

لما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر الله إبراهيم (عليه السلام) أن يبني البيت، فقال: يا رب في أي بقعة؟ قال: في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاء لها الحرم فلم تزل البقعة التي أنزلتها على آدم قائمة حتى كان طوفان نوح فلما غرقت الدنيا رفعت تلك القبة وغرقت الدنيا إلا موضع البيت. فبعث الله جبرئيل (عليه السلام) فخط له موضع البيت، وأنزل الله عليه القواعد من الجنة، ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى، وبنى إبراهيم البيت فرفعه إلى السماء تسعة أذرع. وكان الحجر الذي أنزله الله على آدم أشد بياضا من الثلج، فاستخرجه إبراهيم (عليه السلام) ووضعه في موضعه الذي هو فيه. وجعل له بابين: بابا إلى المشرق وبابا إلى المغرب يسمى المستجار، ثم ألقى عليه الشجر والإذخر[1] وعلقت هاجر إلى بابه كساء كان معها فكانوا يكنون تحته. فلما بناه وفرغ منه نزل عليهما جبرئيل (عليه السلام) يوم التروية لثمان مضين من ذي الحجة فقال: يا إبراهيم قم فارتو من الماء. لأنه لم يكن بمنى وعرفات ماء، فسميت التروية لذلك، ثم أخرجه إلى منى فبات بها، ففعل به ما فعل بآدم (عليه السلام)[2].

 

 وروى علي بن إبراهيم القمي أيضا عن أبيه عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن إبراهيم (عليه السلام) أتاه جبرئيل عند زوال الشمس من يوم التروية فقال: يا إبراهيم ارتو من الماء لك ولأهلك - ولم يكن بين مكة وعرفات ماء - فسميت التروية بذلك. فذهب به حتى انتهى به إلى منى فصلى به الظهر والعصر والعشائين والفجر، حتى إذا بزغت الشمس خرج إلى عرفات فنزل بنمرة، وهي بطن عرفة. فلما زالت الشمس خرج واغتسل فصلى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين، وصلى في موضع المسجد الذي بعرفات - وقد كانت ثمة أحجار بيض فأدخلت في المسجد الذي بني - ثم مضى به إلى الموقف فقال: يا إبراهيم اعترف بذنبك، واعرف مناسكك. ولذلك سميت عرفة. فأقام به حتى غربت الشمس، ثم أفاض به فقال: يا إبراهيم ازدلف إلى المشعر الحرام - فسميت المزدلفة - وأتى به المشعر الحرام، فصلى به المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين، ثم بات بها فرأى في النوم أنه يذبح ابنه...

 

 حتى إذا صلى بها صلاة الصبح أراه الموقف، ثم أفاض إلى منى فأمره فرمى جمرة العقبة عندما ظهر له إبليس لعنه الله، وأمر أهله فسارت إلى البيت، واحتبس الغلام، فانطلق به إلى موضع الجمرة الوسطى، فاستشار ابنه وقال - كما حكى الله (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى) فقال الغلام - كما حكى الله (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)[3].

 

 وأقبل شيخ فقال: يا إبراهيم ما تريد من هذا الغلام؟ قال: أريد أن أذبحه! فقال: سبحان الله! تذبح غلاما لم يعص الله طرفة عين! فقال له إبراهيم: ويلك إن الذي بلغني هذا المبلغ هو الذي أمرني به! فقال: لا والله ما أمرك بهذا إلا الشيطان! فقال إبراهيم: لا والله لا أكلمك، ثم عزم إبراهيم على الذبح.

 

 فقال: يا إبراهيم إنك إمام يقتدى بك، وإنك إن ذبحته ذبح الناس أولادهم! فلم يكلمه. وأقبل إلى الغلام فاستشاره في الذبح، فقال الغلام كما حكى الله: امض كما أمرك الله به، فلما أسلما جميعا لأمر الله قال الغلام: يا أبت خمر[4] وجهي وشد وثاقي! فقال إبراهيم: يا بني! الوثاق مع الذبح؟ لا والله لا أجمعهما عليك اليوم، فرمى له بقرطان الحمار[5]، ثم أضجعه عليه وأخذ المدية فوضعها على حلقه، ورفع رأسه إلى السماء ثم انتحى عليه بالمدية فقلب جبرئيل المدية على قفاها وأثار الغلام من تحته، واجتر الكبش من قبل ثبير الجبل الذي عن يمين مسجد منى وكان أملح أغبر أقرن يمشي في سواد ويأكل في سواد، فوضعه مكان الغلام، ونودي من (قبل) مسجد الخيف (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين)[6]. ولحق إبليس بأم الغلام بحذاء البيت في وسط الوادي فقال لها: رأيت شيخا ومعه وصيف قد أضجعه الشيخ وأخذ المدية ليذبحه!

 

 فقالت: كذبت، إن إبراهيم أرحم الناس، كيف يذبح ابنه! قال: فورب السماء والأرض ورب هذا البيت، لقد رأيته أضجعه وأخذ المدية! فقالت: ولم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. فوقع في نفسها أنه قد أمر في ابنها بأمر، فقالت: فحق له أن يطيع ربه.

 ولما قضت مناسكها أسرعت في الوادي راجعة إلى منى[7].

 

 وما جاء في خبر علي بن إبراهيم القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام): أن الكعبة كانت قبل طوفان نوح قبة ضربها آدم (عليه السلام) بموضع البيت، يؤيده ما جاء في الخطبة المعروفة بالقاصعة للإمام علي (عليه السلام) انه قال: " ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم - صلوات الله عليه - وإلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياما. ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا وأقل نتائق الدنيا مدرا، وأضيق بطون الأودية قطرا، بين جبال خشنة ورمال دمثة، وعيون وشلة وقرى منقطعة، لا يزكو بها خف ولا حافر ولا ظلف. ثم أمر آدم وولده: أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم وغاية لملتقى رحالهم، تهوى إليه الأفئدة من مفاوز سحيقة.."[8]. ولعل هذا هو معنى قوله تعالى (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا انك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا انك أنت التواب الرحيم)[9] فإن رفع القواعد يفيد انها كانت قد وضعت قبل ذلك وإن إبراهيم هو الذي رفعها وشيد على أساسها وإن لم تكن بقيت بعد طوفان نوح، حيث قرأنا في الخبر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن جبرئيل هو الذي دل إبراهيم (عليه السلام) على موضع البيت.

 

 وحيث لاحظ إبراهيم (عليه السلام) أن البيت قد وضع في بقعة يصعب فيها الحياة قال: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)[10]. واستجيبت دعوته فأصبحت الكعبة قبلة المسلمين ومهوى أفئدة المؤمنين.

 

موسوعة التاريخ الإسلامي ، الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي

 

[1] - الإذخر: نبات طيب الرائحة.

[2] - تفسير القمي 1: 60 - 62.

[3] - الصافات: 102.

[4] - خمر: استره بالخمار.

[5] - قرطان الحمار: ما يجعل على ظهره من الجل والقماش.

[6] - الصافات: 104 - 106.

[7] - تفسير القمي 2: 224 - 226.

[8] - نهج البلاغة، الخطبة: 192، صبحي الصالح.

[9] - البقرة: 127 و 128.

[10] - إبراهيم: 37.

قراءة 1152 مرة