وحدة وكثرة الصراط

قيم هذا المقال
(0 صوت)
وحدة وكثرة الصراط

مرّ في البحث التفسيريّ أنّ الصراط المستقيم ـ علىٰ عكس السبيل ـ واحدٌ وليس كثيراً وسرّ عدم قبول الصراط للتكثّر هو أنّه من الله وإليه، وماكان من الله وهو متّجه إليه فهو واحد ولا يقبل الاختلاف والتخلّف والتناقض[1]، فمثلاً القرآن الكريم لأنّه من الله سبحانه فجميعه منسجم ومترابط، وبرهان حصانة القرآن من الاختلاف أيضاً هو كونه من الله: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِير﴾[2]، فما هو من عند الله لايقبل الاختلاف، كما انّ الّذي من عند غير الله لايقبل الوحدة، وهذان الأمران أحدهما يستفاد من مفهوم الآية والآخر من منطوقها.

 

وما كان من عند الله وله كثرة فكثرته منسجمة وماكان من عند غير الله وثمرة الأهواء والنزوات فهو وإن كان في الظاهر متّحداً لكنّه في الواقع مختلف ولذلك يخاطب أمير المؤمنين (عليه السلام) عبيد الأهواء ويقول لهم: «يا ايّها الناس! المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم».[3] فالهوىٰ في مقابل الله، ولذلك فهو علىٰ الرغم من اجتماعه الظاهري لكنّه في الحقيقة متشتّت ومختلف. وعلىٰ هذا الأساس فإنّ الكثرة المذكورة في القرآن للصراط ليست مزاحمة لوحدته، بل انّ كثرته تشبه كثرة القوىٰ النفسانيّة والحواس الظاهريّة والباطنيّة الّتي هي في عين التعدّد متّحدة ومنسجمة بواسطة وحدة الروح، وجميعها تهدف إلىٰ تحقيق رغبات الإنسان.

 

وتوضيح ذلك هو: أنّ الصراط وإن كان لايتّصف بالتثنية والجمع ولكنّ كثرته وتعدّده مطروحة من خلال إضافة «كلّ» وأمثالها إليه كما في كلام شعيب لقومه في الآية الكريمة: ﴿وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاط﴾[4] أي لاتكونوا عقبة علىٰ كلّ صراط، حتّىٰ يتمكّن الناس من الحركة في طريق الله.[5]

 

وعلىٰ أساس البحث السابق فالصراط واحد منسجم، ومثله كمثل نور الشمس الّذي يضيء الأشياء الكثيرة والأمكنة المختلفة لكنّه نور واحد، لأنّ المقصود من هذه الوحدة ليس خصوص الوحدة العدديّة حتّىٰ تكون منافيةً للتعدّد، حيث يمكن أن يكون الشيء ذا وحدة منبسطة وواسعة، وبسبب اتّصاله بالقوابل المتعدّدة يصبح كثيراً، لكنّ وحدته الواقعيّة باقية. وعليه فإنّ الكثرة الّتي تستفاد من عنوان «كلّ صراط» امّا أن تكون ناظرةً الىٰ الشؤون والمقاطع والمنازل والمراحل لذلك الصراط المستقيم الواحد أو انّها مقترنة بمعنىٰ السبيل القابل للتعدّد.

 

والقرآن الكريم يعدّ اتّباع الصراط المستقيم عاملاً للوحدة والنجاة من التفرقة، وانّ اتّباع السبل المنحرفة مدعاة للتفرقة والتشتّت: ﴿وَأَنَّ هٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَتَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِه﴾.[6] فالصراط المستقيم يزيل جميع أنحاء التشتّت ويجعل الكثرة منسجمة وموحّدة، والسبل المتفرّقة لا تقبل الاتّحاد أبداً، ولا تصل إلىٰ نتيجة واحدة، كما انّ اهل جهنّم متفرّقون ويلعن بعضهم بعضاً: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَ﴾[7] لكنّ أهل الجنّة قد طهّر الله قلوبهم من جميع أنواع الاختلاف والغلّ: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلّ﴾[8] وليس في الجنّة بينهم أيّ نحو من الاختلاف وهم يشكرون الله علىٰ ما أذهب من الحَزَن عن قلوبهم: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَن﴾[9] وأصحاب الصراط المستقيم في الدنيا هم أصحاب الجنّة في الآخرة: ﴿قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ﴾.[10]

 

آية الله الشيخ جوادي آملي

 

[1] . سيأتي بحث مفصّل حول وحدة وكثرة الصراط في تفسير الآية 153 من سورة الأنعام.

[2] . سورة النساء، الآية 82.

[3] . نهج البلاغة، الخطبة 29، المقطع 1.

[4] . سورة الأعراف، الآية 86.

[5] . انّ معنىٰ نهي النبيّ شعيب (عليه السلام) يتّضح مع الأخذ بنظر الاعتبار كلام الشيطان لله سبحانه حيث قال: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم﴾ (سورة الأعراف، الآية 16)، فشعيب يقول لا تكونوا من الشياطين. وإذا صار الإنسان مانعاً عن عمل الخير أو عقبة في طريق الفهم الصحيح والتحلّي بالأخلاق الحسنة فهو شيطان بصورة انسان قد كمنَ للسائرين في الصراط.

[6] . سورة الانعام، الآية 153. وفي رواية انّ النبي (صلى الله عليه وآله) في توضيح هذه الآية الكريمة رسم خطّاً مستقيماً ثمّ رسم حوله خطوطاً أخرىٰ ثم قال: هذا الخطّ المستقيم طريق الرشد وهذه الخطوط الأخرىٰ هي الطرق الّتي علىٰ رأس كلّ واحد منها شيطان يدعوا الىٰ ذلك الطريق ثمّ تلىٰ هذه الآية الكريمة. (جوامع الجامع، ج1، ص427؛ الدرّ المنثور، ج3، ص385).

[7] . سورة الأعراف، الآية 38.

[8] . سورة الأعراف، الآية 43.

[9] . سورة فاطر، الآية 34.

[10] . سورة طه، الآية 135.

قراءة 950 مرة