تونس من "عصر التنمية" إلى عصر الديون

قيم هذا المقال
(0 صوت)
تونس من "عصر التنمية" إلى عصر الديون

إن كان برنامج إعادة الهيكلة الأول قد أعطى نتائج إقتصادية جيدة على المدى القصير فإنه أعطى نتائج اجتماعية سيّئة جداً على المستوى البعيد، رغم هذا فإن رسالة النوايا الموجهة لصندوق النقد الدولي والتي أمضى عليها كل من سليم شاكر وزير المالية السابق والشاذلي العياري محافظ البنك المركزي تؤكّد إستعداد الحكومة للقيام بجميع الإصلاحات التي تتطلب للحصول على القروض اللازمة.

في أواسط الثمانينات خضع الاقتصاد التونسي إلى "برنامج إعادة الهيكلة " الذي تم اقتراحه من قِبَل صندوق النقد الدولي، البرنامج كانت له نتائج اقتصادية جيّدة على المستوى القريب من خلال ارتفاع الناتج الداخلي الخام بـ 4.2 بالمائة، وتراجع عجز الميزان التجاري بـ 3 بالمائة. لكن بعد سنوات بدأت تظهر النتائج الاجتماعية لإعادة الهيكلة من خلال ارتفاع معدّلات البطالة وانتشار مظاهر الفقر والبؤس، كما تعمّقت الفجوة بين الفقراء والأغنياء وتقلّصت الطبقة المتوّسّطة. في 2011 مع كل الزوايا الإيجابية التي نتجت من الثورة من حرية للإعلام وتعدّدية للأحزاب وتداول سلمي للسلطة، إلا أنها تعتبر زلزالاً ضرب الاقتصاد التونسي وعمّق الأزمة التي كان يعيشها فارتفعت نسبة المديونية من 25 المائة من الناتج الداخلي الخام سنة 2011 إلى ما يقارب 60 بالمائة في مطلع 2017، كما ارتفعت خسائر الصناديق الاجتماعية لتصل إلى 1700مليون دينار حسب تصريح وزير الشؤون الاجتماعية محمّد الطرابلسي،  وتفاقم العجز التجاري إضافة إلى دخول عامل آخر على الخط وهو الإرهاب الذي تسبّب في تراجع العائدات السياحية بنسبة 50 بالمائة، وهو ما أثّر سلباً على مدّخرات البنك المركزي من العملة الصعبة، و بالتالي على سعر الدينار .

في الأول من ماي أقال رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد وزيرة المالية لمياء الزريبي على خلفية تصريحها لوسائل الإعلام بعزم الحكومة تحرير الدينار التونسي، وإنهاء تدخّل البنك المركزي ما جعل الدينار التونسي يتهاوى في غضون أسبوع من 2.45 دينار إلى 2.7 للأورو الواحد، وهو ما خلّف خسائر كبيرة في سعر الصرف ما دفع بالبنك المركزي إلى رفع سعر الفائدة بـ 50 نقطة للحدّ من مظاهر التضخّم.

تُعتبر العملة مقياس حرارة الاقتصاد ومقياس موضوعي لتراجع وتقدّم المجتمعات وقياس مستوى العيش فيها، ولحماية الدينار من الانزلاقات الكبيرة كان البنك المركزي التونسي يتدخّل بمستويات مدروسة سواء بضخّ أو بسحب العملة. تحرير الدينار التونسي والحدّ من تدخّل البنك المركزي، ومنح حرية أكبر للشركات الخاصة إلى جانب عدّة إصلاحات أخرى وافقت عليها الحكومة للحصول على قروض من صندوق النقد الدولي لتمويل الميزانية وهو ما يُنذر بإعادة سيناريو التسعينات.

هذا المقال يُعطي صورة حقيقية للوضعية الاقتصادية في تونس، كما يُعطي صورة عن وضعية الدينار التونسي بين التعويم الكلّي والجزئي، ويطرح التساؤل "ما مدى تدخّل المؤسسات المالية العالمية والدائنين في رسم السياسات الاقتصادية المستقبلية في تونس؟ 

 

الوضعية الحالية للاقتصاد التونسي

1- تراجع قطاع السياحة جرّاء الضربات الإرهابية:

 تعرّضت تونس خلال سنة 2015 إلى عمليتين إرهابيتين استهدفتا القطاع السياحي، عملية باردو والتي جدّت بمتحف باردو وسط العاصمة في 18 مارس2017، والتي راح ضحيّتها 22 قتيلاً من جنسيات مختلفة، وعملية نزل الأمبريال بمحافظة سوسة في 26 جوان 2017  والتي راح ضحيّتها 38 قتيلاً أغلبهم من جنسيات بريطانية ،عمليتان أصابتا القطاع السياحي في مقتل، تسبّبتا في تراجع عائدات القطاع السياحي من 2700مليون دينار سنة 2014 إلى مايُقارب 1808 مليون دينار سنة 2016 أي ما يُقارب النصف .وزير الاستثمار والتعاون الدولي فاضل عبد الكافي صرّح في أوائل شهر ماي الجاري بأن المؤشّرات التي يسجّلها القطاع السياحي جيّدة بعد أن تطوّر بنسبة 30 بالمائة في الأشهر الثلاثة الأولى من سنة ،2017 لكن خبراء في هذا المجال يؤكّدون أن القطاع السياحي يعاني إضافة إلى تراجع العائدات من مشاكل هيكلية، بسبب اعتماده على مُرتكزات تقليدية مثل البحر  والشواطئ والنزل، وإهمال تونس العميقة و المناطق الأثرية والغابية والصحراوية مثل محافظات جندوبة و زغوان و توزر وتطاوين.رغم المشاكل التي يعانيها هذا القطاع إلا أنه لايزال يُعتبر المصدر الأول للعملة الصعبة. 
2-  تراجع إنتاج الفسفاط جراء الاحتجاجات المتواصلة:

 تعتبر محافظة قفصة وسط غرب تونس أهم المحافظات المنتجة للفسفاط، كما أنها من بين أبرز المناطق المهمّشة التي عاشت على وقع عديد الاحتجاجات أهمها انتفاضة الحوض المنجمي إبان فترة حكم الرئيس السابق في ،2008 والتي كان إنتاج الفسفاط وقتها وصل إلى 7500مليون طن. بعد 14 جانفي شهد إنتاج الفسفاط تراجعاً كبيراً بسبب الاحتجاجات المتواصلة المطالبة بالتنمية والتشغيل، والتي تسببت بتعطيل سير الإنتاج ليصل في سنة 2014 إلى ما يُقارب3700 مليون طن أي بتراجع يقدّر بـ 50 بالمائة. نظراً لهذه النتائج تراجعت تونس من خامس مُنتج للفسفاط إلى المرتبة الثامنة عالمياً.

في 2016 وضعت الحكومة برنامجاً يهدف إلى إنتاج 6500مليون طن لكن الأرقام أعطت عكس ذلك ولم يتجاوز الإنتاج سقف 3600 مليون طن.

قطاع الفسفاط يُعتبر من بين أهم التحديات التي اعترضت الحكومات المُتعاقبة على تونس بعد الثورة ولم تنجح أية حكومة حتى الآن في حل هذه المعضلة. لكن رغم هذه النتائج السلبية التي لايزال إنتاج الفسفاط يسجلّها منذ الثورة إلا أنه يبقى ثاني مصدر للعملة الصعبة في تونس.

3- القطاع الفلاّحي قطاع واعد لكنه مُهمل ويعاني مشاكل

يُعتبر الأمن الغذائي إحدى أهم التحديات التي تواجه الشعوب لتحقيق الاستقلالية وتجنيب الدولة الارتهان للخارج، ويُعتبرالقطاع الفلاّحي في تونس قطاعاً واعداً نظراً لما تمتلكه الدولة من أراض ٍفلاّحية تمتد على مساحة 10 ملايين هكتار أي ما يعادل 65 بالمائة من مساحة البلاد، ويساهم بـ 8.15 بالمائة في الناتج الداخلي الخام ويشغل 16 بالمائة من اليد العاملة. رغم هذه الأرقام التي تُعتبر مشجّعة للاستثمار في القطاع الفلاّحي، إلا أنه يعاني مشاكل كبيرة أهمها ارتفاع نسبة الأميّة الفلاّحية التي قاربت 46 بالمائة حيث يتجاوز 43 بالمائة من الفلاّحين عمر الـ 60 عاماً، إضافة إلى تراجع مردودية القطاع وصغر حجم السوق المحلية وعدم البحث عن أسواق خارجية. وقد سجّل الميزان التجاري الغذائي عجزاً بقيمة 1095 مليون دينار في سنة 2016 بسبب تراجع الصادرات بنسبة 25 بالمائة وتطوّر الواردات بنسبة 2.5. ويُعزى هذا التراجع إلى تراجع صادرات زيت الزيتون التي حقّقت أرقاماً قياسية في سنة 2015.

ويعتبر القطاع الفلاّحي مصدراً للعملة الصعبة باعتماده على صادرات زيت الزيتون والتمور خاصة.

4-  عجز في الميزان التجاري

 يعاني الميزان التجاري التونسي من تفاقم العجز منذ سنوات، فحسب التقرير الأخير للمعهد الوطني للإحصاء، فقد تفاقم عجز الميزان التجاري في الثلاثي الأول من سنة 2017 بنسبة 7.6 بالمائة ما قيمته 3878 مليون دينار وهو معدل مرتفع جداً. ويعود هذه التفاقم إلى انخفاض صادرات الفسفاط وزيت الزيتون وارتفاع التوريد العشوائي، ما دفع مجلس إدارة مصنع سيتاب للعجلات المطاطية والذي كان يحتل المرتبة الأولى إفريقياً في التسعينات إلى غلق أبوابه لمدة ثلاثة أشهر بسبب تراجع مبيعاته.

مشاكل التوريد العشوائي أعادت إلى الواجهة الاتفاقية التركية التونسية، وتأتي تركيا في المرتبة الثانية في لائحة الدول التي تسجّل تونس معها عجزاً بعد الصين بقيمة 478 مليون دينار. وأكّد الخبير في الاقتصاد مراد الحطاب أن 70 من الواردات التركية غير أساسية وأن تونس يمكنها سداد 53 بالمائة من خدمة الدين الخارجي في حال أعادت مراجعة الاتفاقية، مادفع بالعديد إلى الحديث عن شبهات فساد تحوم حول هذه الاتفاقية واتهام وزير التجارة والصناعة الحالي والعضو بحركة النهضة زياد العذاري بالدفاع عن الاتفاقية.

5- صعوبات مالية كبيرة جداً في الصناديق الاجتماعية

توجد في تونس 3صناديق اجتماعية وهي الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية وهو يخصّ الموظفين والعملة في القطاع العامّ، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ويخصّ عملة القطاع الخاصّ، إضافة إلى الصّندوق الوطني للتأمين على المرض.

تعاني جميع هذه الصناديق من صعوبات مالية كبيرة وقال “كمال المدوري” مدير عام الضمان الاجتماعي بوزارة الشؤون الاجتماعية إن عجز الصناديق الاجتماعية مجتمعة بلغ 1081 مليون دينار. كما بلغت الديون المتخلذة بذمة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فقط للصندوق الوطني للتأمين على المرض 2326 مليون دينار حسب تصريح إعلامي لوزير الشؤون الاجتماعية محمود الطرابلسي، فلولا تدخّل الدولة بضخّ 500 مليون دينار ضمن قانون المالية 2017 لفائدة الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية، لكان الوضع كارثياً. وتعود أزمة الصناديق الاجتماعية إلى ارتفاع أمل الحياة عند الولادة والذي بلغ 77 سنة (ما دفع الدولة إلى الترفيع في سن التقاعد بسنتين) وسخاء نظام التقاعد في تونس حسب ما أكّده الخبير في النظام الاجتماعي وممثل الاتحاد العام التونسي للشغل بدر السماوي.

6- ارتفاع حجم الديون الخارجية

بلغت نسبة الديون الخارجية في تونس حسب تقرير البنك المركزي لسنة 2015 ما يُقارب 53.9 بالمائة من الناتج الداخلي الخام ،أي بارتفاع تجاوز الضعف مقارنة بسنة 2010 والذي بلغت فيه نسبة الديون ما يقارب 36 مليار دينار. لكن تونس تحصّلت بعد سنة 2015 على عدّة قروض أهمها القرض الضخم والذي بلغت قيمته 2.5 مليار أورو بعنوان القرض الممدّد والمشروط بإصلاحات هيكلية.

بناء على هذه المعطيات الجديدة وحسب توقّعات صندوق النقد الدولي ستصل قيمة الديون الخارجية سنة 2017 مايّقارب 30.7 مليار دولار ما يعادل 71.4 من الناتج الداخلي الخام.هذا المعدل التي وصلت له تونس يقول فتحي الشامخي الخبير بالديون والنائب بمجلس نواب الشعب عن الجبهة الشعبية أنه خطير جداً ويهدّد السيادة الوطنية واستقلالية القرار التونسي.

7- تراجع سعر صرف الدينار مقابل العملات الأجنبية

يعاني الدينار التونسي من تراجعات متتالية منذ سنة 2010 حيث كان سعر الدولار في ذلك الوقت يقدّر ب 1.42 دينار، تراجع القطاع السياحي وتراجع الصادرات وانخفاض منسوب الموجودات من العملة الصعبة في البنك المركزي تسبّب في هزّات كبيرة للاقتصاد وأثّر في سعر صرف الدينار ليصل إلى 2.49 دينار للدولار الواحد سنة 2017، أي بنسبة تراجع تقدر ب 60 بالمائة وهي نسبة يقول وزير المالية السابق حكيم بن حمودة أنها كارثية.

هذه المؤشّرات الاقتصادية السلبية التي ما أنفك يسجّلها الاقتصاد التونسي هي نتيجة عادية لحال عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي التي تعيشها تونس منذ سنة 2010، ما تسبّب في ارتفاع معدّلات البطالة التي وصلت إلى 15.8 بالمائة وانتشار الفقر والبؤس. الأزمة الاقتصادية تعمّقت أكثر بسبب التجاء الحكومات المتعاقبة إلى الحلول السهلة وهي التداين إلى أن دخلت تونس في حلقة مخيفة وهي التداين من أجل تسديد الديون surendettemet (في قانون المالية لسنة 2017 ستسدد تونس ما قيمته 5.8 مليار دينار وفي المقابل ستتحصّل على قرض بقيمة 6.7 مليار دينار).

الحصول على القروض كان مشروطاً بالموافقة على الإصلاحات التي اقترحها صندوق النقد الدولي، فما هي مصلحة صندوق النقد الدولي في إصلاح الاقتصاد التونسي؟

هل للمؤسّسات المالية العالمية دور في تغيير السياسات الاقتصادية للبلاد؟ 

 

كيف تسبّبت المؤسسات المالية في تغيير السياسات الاقتصادية في تونس؟

عاش الاقتصاد التونسي مرحلتين هامتين، الأولى أمتدت من الاستقلال وحتى الأزمة الاقتصادية الحادّة والتي عصفت بتونس في الثمانينات، وبداية من سنة 1986 نتيجة حال عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، والمرحلة الثانية والتي بدأت بعد تطبيق برنامج «إعادة هيكلة الاقتصاد التونسي" أو ما يُعبر عنه ب «programme PAS». فيما يؤكّد خبراء أن ما عاشته تونس وتعيشه بعد الثورة يؤسّس لمرحة ثالثة، وقال محمود بن رمضان وزير الشؤون الاجتماعية السابق في هذا الخصوص "لقد قمنا بما يشبه التحقيق عبر مقارنات بين الأزمات الاقتصادية في تونس على مر التاريخ وبين تونس والدول التي عاشت أزمات مشابهة فوجدنا أن الأزمة التي تمر بها البلاد حالياً هي أقسى الأزمات على الإطلاق".

1-  تونس من 1956 إلى 1986: "عصر التنمية"

كان الاقتصاد التونسي يعتمد على الدولة بصفة عامة، فيما كانت بعض القطاعات تعاني من ضعف فادح، كما كان النسيج المجتمعي في تونس في ذلك الوقت يتميّز ببرجوازية ضعيفة. يقول النائب بمجلس نواب الشعب عن الجبهة الشعبية والخبير بالديون فتحي الشامخي  "يمكن أن نسمّي النظام الذي كان سائداً وقتها والذي اعتمدته الدولة بنظام رأسمالية الدولة، حيث كان أكثر من ثلثي الصادرات متأتياً من الدولة، كما كان للسوق الداخلية دور كبير". تمكنت تونس في ذلك الوقت من بناء اقتصاد داخلي متين بفضل حماية المنتجات المحلية من منافسة الشركات العملاقة، بفرض معاليم جمروكية وقيود على التوريد. كما كانت النتائج التي يحقّقها القطاع الفلاّحي جيّدة إلى درجة أنه أصبح يقوم بدور تمويل الاستثمار في القطاعات الأخرى كالصناعة والخدمات. إضافة إلى نجاح النظام الحاكم وقتها في إرساء عقيدة التصنيع المحلي والاستهلاك المحلي من خلال الرفع في الأجور.

2- تونس بين 1986 و2011: عصر الانفتاح الكلّي

جرّاء أزمة سياسية داخلية تسبّبت في تراجع الاقتصاد التونسي وبعد محاولات عديدة من الحكومة آنذاك، لم تنجح لتجنّب اللجؤء إلى صندوق النقد الدولي، أمضت تونس على اتفاق مع الصندوق يقضي بإعادة هيكلة الاقتصاد التونسي أو ما يعرف ببرنامج PAS. إعادة الهيكلة جعلت مساهمة الدولة في الصادرات تتراجع من 73 بالمائة إلى ما يقارب 25 بالمائة من الصادرات، كما ارتفعت مساهمة رأس المال الأجنبي في الاقتصاد التونسي بشكل ملحوظ إضافة إلى دخول الشركات العملاقة إلى تونس مثل أوريدو وأورنج وكارفور، ما تسبّب في خسائر كبيرة في مواطن الشغل.

 اتفاق واشنطن العالمي وظهور بوادر لتطوّر اقتصادات بعض الدول بشكل سريع مثل ظاهرة الإقلاع أو take off والتي دفعت بعديد الدول إلى التخلّي عن المفاهيم الاقتصادية القديمة واعتماد نفس المنوال التنموي للإقلاع.

بعد إعادة الهيكلة أمضت تونس على اتفاقية التجارة العالمية التي تحتّم إلغاء المعاليم الديوانية وتسهيل تحرك رجال الأعمال، وقد لخّص الخبير في الديون فتحي الشامخي الوضع قائلاً "بعد إعادة الهيكلة أصبح للقطاع الخاص دور كبير في تونس وأصبحنا نرى في تونس شركات عالمية عملاقة في سوق صغيرة، كما تراجع المنتوج المحلي وأخذ مكانه المنتوج الأجنبي وتراجع رأس المال الوطني وأخذ مكانه رأس المال الأجنبي".

مظاهر إنهيار المنوال التنموي تظهر أيضاً في إهمال القطاع الفلاّحي الذي أصبح يعاني مشاكل كبيرة في ما يتعلق بالتصدير، كما ارتفعت ديون الفلاّحين، إضافة إلى عدم مواكبة هذا القطاع للتطوّرات. الدولة التونسية أهملت القطاع الفلاّحي وبدأت بالاعتماد على قطاع هشّ مثل القطاع السياحي الذي تطورت عائداته من 827.7 مليون دينار سنة 1990 إلى 3390.2 مليون دينار سنة 2008 حسب أرقام الوكالة العقارية للسياحة

3- تونس من 2011 إلى اليوم: عصر الديون

في الفترة الممتدة من الثمانينات وحتى الثورة أمضت تونس إتفاقاً واحداً مع صندوق النقد الدولي، اتفاق واحد تسبّب في إنهيار منوال تنموي كامل وتغييره بآخر. يقول وزير المالية الأسبق حسين الديماسي "في بعض الأحيان أو الوضعيات تصبح الديون مستحبّة لتمويل مشاريع أو لزيادة الاستثمارات لتجلب عائدات للدولة، ومن خلال تلك العائدات يمكن للدولة سداد الدين وأصل الدين، لكن ما حصل في تونس خلال الست سنوات الأخيرة هو أن الحكومات المتعاقبة لجأت إلى التداين لتغطية النفقات وتمويل الأجور وهو ما خلق أزمة حقيقة"  بعد الثورة أمضت تونس على اتفاقيتين، واحدة إبان فترة رئيس الحكومة الأسبق المهدي جمعة والثانية إبان فترة رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد، هذه الاتفاقيات كانت مشروطة بموافقة الحكومات على قائمة الإصلاحات التي فرضها صندوق النقد الدولي، ما يعيد إلى الأذهان سيناريو إعادة الهيكلة الذي حدث في الثمانينات. هذه القائمة وافقت عليها الحكومة التونسية في رسالة النوايا التي أمضى عليها كل من وزير المالية السابق سليم شاكر ومحافظ البنك المركزي، وزير المالية الأسبق حكيم بن حمودة أكد أنه" لا يمكن اعتبار الإصلاحات التي طالب بها البنك المركزي شروطاً أو محاولة لإعادة هيكلة الاقتصاد لأن صندوق النقد ليس بنكاً ولكنه مؤسسة إنقاذ حسب اتفاق واشنطن وطبيعي جداً أن تفرض إصلاحات على الدول التي تدينها".

قبل هذا وصلت نسبة الديون التونسية في الناتج الداخلي الخام 60 بالمائة في ما تشير توقّعات صندوق النقد الدولي إلى وصول هذه النسبة إلى مستوى 70 بالمائة في نهاية 2017. هذه النسبة أثارت جدلاً ما دفع بالجبهة الشعبية إلى المطالبة بإجراء تدقيق للديون لمعرفة ما أسماها بالديون الكريهة، وهي الديون التي تحوم حولها شبهات فساد ولم يستفد منها الشعب التونسي.

وتتمثل قائمة الإصلاحات التي طالب بها صندوق النقد الدولي في مزيد دعم القطاع الخاص من خلال المصادقة على قانون دعم الشراكة بين القطاع العام والخاص، دعم استقلالية البنك المركزي من خلال قانون صادق عليها مجلس نواب الشعب ويقول فتحي الشامخي منتقداً هذا القانون "هذه وصمة عار في تاريخ السيادة التونسية ، فبالمصادقة على هذا القانون أصبح البنك المركزي دولة داخل الدولة التونسية"، قانون خاص بالبنوك والمؤسسات العموميةـ إعادة هيكلة الصناديق الاجتماعية، انسحاب الدولة من القطاع المالي بالتحضير لبيع حصص بالبنوك العمومية، التخلّي عن سياسة الدعم والحد من تدخّل البنك المركزي في تحديد سعر الدينار .

 

تعويم الدينار غير المُعلن

واحد من الإصلاحات الأكثر خطراً تعويم الدينار التونسي

1 - ما معنى التعويم: هو ترك العملة تتحدد بمستوى العرض والطلب من دون لجؤء البنك المركزي إلى دعمها. ويدعم البنك المركزي التونسي العملة للحفاظ على توازنها فإذا لاحظ تراجعاً للدينار يبدأ البنك المركزي بضخّ مستوى معين من العملة الصعبة في البنوك، يرتفع بذلك عرض العملة الصعبة فيتراجع سعرها تدريجياً أمام الدينار.

2 -  التجربة المصرية: فقدان السيطرة

في نوفمبر 2016 قرّرت الحكومة المصرية تعويم الجنيه المصري، ورغم مرور سنة على هذا القرار لا تزال الشركات الكبرى في مصر تعلن عن خسائر كبيرة في نتائج أعمالها، حيث سجّلت شركة أوراسكوم خسائر بلغت 499.5 مليون جنيه في 2016، مقابل أرباح بلغت 206.1 ملايين جنيه في 2015 هذا إضافة إلى عدة مشاكل كارتفاع الأسعار نتيجة الارتفاع الصاروخي لمعدل التضخم وانخفاض موجودات البنك المركزي من العملة الصعبة. وقال كريس جارفيس مدير بعثة صندوق النقد الدولي في مصر إن قيمة الجنيه انخفضت أكثر من المتوقّع مقابل الدولار منذ قرار السلطات المصرية بتعويمه، لكنه توقّع عدم استمرار ذلك التراجع مع زيادة النمو الاقتصادي. وتعويم الجنيه هو واحد من بين عدّة إصلاحات إشترطها صندوق النقد الدولي لمنح مصر قرض بقيمة 12 مليار دينار. وقد بلغت قيمة الدولار الأميركي إلى حد كتابة هذه الأسطر 18 جنيهاً مصرياً حسب بيانات البنك المركزي المصري.

2- التجربة التونسية: تعويم غير معلن

قالت وزيرة المالية التونسية لمياء الزريبي خلال استضافتها في إذاعة خاصة " إنّ البنك المركزي سيواصل تقليص تدخّله تدريجياً في الفترة المقبلة لخفض قيمة الدينار، قائلة إنّ عديد الخبراء يعتبرون أنّ القيمة الحقيقية للعملة التونسية مقابل الأورو الواحد هي 3 دينار". هذا التصريح كانت له عواقب وخيمة حيث فقد الدينار التونسي توازنه أمام الأورو والدولار ليتراجع من 2.45 إلى 2.7 دينار للأورو، إضافة إلى النتائج الكارثية للتصريح على الدينار فإنه تسبّب في إقالة وزيرة المالية يوم 01 ماي 2017.

تراجع الدينار التونسي بأكثر من 60 بالمائة أمام الدولار منذ سنة 2011 اعتبره خبراء تعويماً تدريجياً، وزير المالية الأسبق حسين الديماسي قال "إن سبب التراجع الكبير للدينار يعود بالأساس للعجز الكبير للميزان التجاري، تباطؤ في تحويلات المهاجرين، تراجع السياحة إضافة إلى عامل آخر خطير وهو أن هناك ضاهرة تفاقمت منذ سنتين أو ثلاث هي سوق الصرف الموازية والتي أثرت بشكل كبير على مخزون البنك المركزي من العملة الصعبة ". تنامي سوق الصرف الموازية جعل العائدات السياحية من العملة الصعبة تتراجع، ما دفع بمحافظ البنك المركزي في جلسة إستماع بمجلس نواب الشعب بتاريخ 17 ماي 2017 يتساءل قائلاً "لقد حقّقت السياحة تطوراً نسبياً في الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 2017 بنسبة 30 بالمائة من خلال ارتفاع عدد السياح القادمين، أين هي العائدات السياحية من العملة الصعبة؟ أين هي؟"في إشارة إلى عدم تطابق عدد السياح مع العائدات المالية فيما إتهم سالم لبيض رئيس الكتلة الديمقراطية بمجلس نواب الشعب محافظ البنك المركزي الشاذلي العياري بالتوقيع على تعهّد أرسله لمديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد بعدم التدخّل في تحديد قيمة الدينار. إتهامات وإتهامات متبادلة جعلت الأمر يزداد سؤاء، فيما يواصل الدينار تهاويه ليصل إلى 2.850 دينار للأورو الواحد إلى حد كتابة هذه الأسطر.

إن كان برنامج إعادة الهيكلة الأول قد أعطى نتائج إقتصادية جيدة على المدى القصير فإنه أعطى نتائج اجتماعية سيّئة جداً على المستوى البعيد، رغم هذا فإن رسالة النوايا الموجهة لصندوق النقد الدولي والتي أمضى عليها كل من سليم شاكر وزير المالية السابق والشاذلي العياري محافظ البنك المركزي تؤكّد إستعداد الحكومة للقيام بجميع الإصلاحات التي تتطلب للحصول على القروض اللازمة. واحد من الإصلاحات الأكثر خطراً وهي تعويم الدينار التونسي وإن كان بصفة تدريجية لما له من آثار سلبية على الميزان التجاري وقيمة الديون وأسعار السلع المستوردة. رغم هذا لا يزال الساسة في تونس يصرّون على التوجّه نحو الاقتراض لتغطية عجز الموازنة الذي يصل إلى 8 مليارات دينار. 

عبد السلام هرشي  كاتب وصحافي تونسي

قراءة 1457 مرة