من كرةِ القدمِ إلى السياسةِ بؤسٌ عربيٌ واحدٌ

قيم هذا المقال
(0 صوت)
من كرةِ القدمِ إلى السياسةِ بؤسٌ عربيٌ واحدٌ

في الرياضة وفي المواجهات الدولية الأخرى الثقافية والإبداعية، تُمارس الدول الغالبة في العالم تمارين غلبتها في الميدان الرياضي فتقيس ضوابط هذه الغلبة وشروطها بحيث يبقى المغلوب عموماً في مكانه ويبقى الغالب أيضاً في مكانه. وإن انتقل مغلوبٌ إلى مرتبةِ الغالبِ فإن انتقاله راهن يؤكّد قاعدة الغلبة ولا يُطيح بأسبابها. لذا نلاحظ في كل 4 سنوات في مناسبة كأس العالم لكرة القدم، على الشاشات وأيضاً على وسائل التواصل الاجتماعي رموز القوّة ورموز الضعف، رموز الحِنكة والتخطيط والتنفيذ ورموز الفشل والارتباك والضعف وسوء التدبير والفوضى، مع خاتمة تقليدية ضمنية مفادها أن على المهزوم أن يبذل جهوداً مُعادِلة لجهود المُنتصِر حتى يتغلّب. لكنه في الواقع لا يتغلّب لأن الغَلَبة ليست رياضية أو تقنية وإنما سياسية معمّرة منذ تأسيس المباريات الدولية أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، أي منذ نهاية النظام الامبراطوري الدولي وبداية النظام القُطبي ومن بعد القُطب الواحد.

تكرّست هذه الغَلَبة في هرميّةٍ دوليةٍ معكوسة في نِسَب الميداليات وتدرّجها. لذا لم نرَ في تاريخ المباريات الدولية انقلاباً أو معجزه تحمل دولة ما من قاعدة الهرم إلى رأسه والعكس. ولعلّ النظر إلى المسرح الرياضي العالمي من هذه الزاوية يُتيح فَهْم آليات الثقافة الرياضية التي تقدّم المباريات الدولية بوصفها تقنية بحتة أو مُحايدة ومعزولة عن السياسة. والحق يُقال أن مفهوم الحياد الرياضي راسِخ إلى أبعد الحدود في طُرق التعبير بل يكاد التساؤل عن الرابطة الوثيقة بين السياسة والرياضة الدولية يُثير الامتعاض والوجوم.

ويُلاحظ الناظِر إلى مباريات كأس العالم في كرة القدم بخاصةٍ والألعاب الأولمبية عموماً، إلى أي حدٍ كانت القوى المُتصارِعة في المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي تُراهن على المسرح الرياضي العالمي حتى تؤكّد غَلَبتها التي تُعدّ في أحد وجوهها بُرهاناً على تفوّق كلٍ منها. كان هامش المناورة أمام الدول محدوداً في حِصاد الميداليات أي التفوّق الرياضي ، لكن هذا الهامش لم يتّسع كثيراً بعد انهيار الحرب الباردة ، وظلّ نظام الميداليات محكوماً بالهرميّة السابقة نفسها منقوصاً منها الطابع الأيديولجي.

إن مجموع الميداليات الروسية والأميركية أو الاشتراكية والغربية في فترة الحرب الباردة تكاد تشكّل أكثر من 90 بالمئة من مجموع البطولات في الألعاب الأولمبية. أما في كرة القدم فالواضح أن غَلَبة المُعسكر الغربي وحلفائه في فترة الحرب الباردة بلغت نسبة قياسية. وبرزت من تلك الفترة دول لاتينية في كرة القدم في حديقة أميركا الخلفية شأن البرازيل والأرجنتين، لا لتكسر قواعد الغَلَبة وتُرسي قواعد بديلة مستقلّة تتناسب مع مزاعم الرياضة المُحايدة، بل لتؤكّد أن قارةً عملاقة كالبرازيل استثمرت في كرة القدم ليس من أجل تحطيم الهرمية الرياضية السائدة، وإنما في سياق الانتظام فيها كحليفٍ قوّيٍ وكبيرٍ لواشنطن في حديقتها الخلفية. وقد رأينا ماذا حل بها بعد انتظامها في موجة التحرّر اللاتيني خلال عهديّ بوش الأبن وأوباما. والأمر نفسه ينطبق على الأرجنتين التي تغيّر وجهها الكروي بعد انحياز نجمها اللامع ورمزها الوطني العملاق مارادونا إلى النظامين الكوبي والتشافيزي في فنزويلا.

إن مباراة الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1998 في كأس العالم تقدّم مشهداً دامِغاً لارتباط السياسة برباطٍ وثيقٍ مع الرياضةِ ، حيث قدّمت المباراة بوصفها مناسبة لقياس القوّة والضعف في المجابهة المستمرة بين البلدين. وإذ هزمت واشنطن بنتيجتها، انبرى قضاة الرياضة للقول إن الهزيمة رياضية وليست سياسية ولا تعدّل الشيء الكثير في ميزان القوى السياسي، عِلماً أن المباراة نفسها كانت تعكس اندفاع شعبٍ للدفاعِ عن نفسه ومقاومته لحصارٍ أميركي ما زال مستمراً حتى اللحظة.

وفي السياق نفسه يمكن النظر إلى ردودِ فعلِ الألمان عندما هُزِمَ فريق بلادهم أمام الجزائر في كأس العالم عام 1982، إذ بادروا إلى الاعتداء على الجزائريين في ألمانيا فحطّموا مطاعمهم وبعض مظاهر وجودهم، وشتموا أفراد جاليتهم وتعرّضوا بالضرب للبعض الآخر. وكان لسان حالهم يقول من أنتم حتى تتجاوزوا رأس الهرم الكروي الألماني! ما يعني هنا أيضاً أن الهرميّة المُكرّسة بين غالب ومغلوب أو متفوّق ومُتخلّف يجب أن تحترم في المواجهة الدولية ، وإن تم خرقها فلا تَسل عن الروح الرياضية ولا تَسل عن الحياد الرياضي.

أما لماذا لا تسيطر واشنطن على رأس الهرم الكروي في العالم كما تسيطر على رأس الهرم الأولمبي، فلأن الثقافة الرياضية في الولايات المتحدة الأميركية لا تُعطي أولوية لكرة القدم، وإنما لمُزاولة ألعابٍ أخرى، في حين يتربّع حلفاء واشنطن الغربيون على رأس الهرم الكروي بنسبه تفوق ال 80 بالمئة.

من هذا المشهد البائِس ينبغي النظر إلى أداء الفِرَق العربية في كأس العالم كل أربع سنوات. والحق أن هذا المشهد يشمل أمماً وشعوباً أخرى محكومة بقاعدةٍ ذهبيةٍ مفادها أن النهضة الكروية والرياضية هي جزء لا يتجزّأ من نهضة سياسية واقتصادية وثقافية غالبة يؤكّدها المُتفوّقون في الرياضة كما يؤّدونها في ميادين لعبة الأمم الأخرى.

ولا يقتصر البؤس الكروي العربي على نتائج المباريات. هو يتّعداها إلى تعابير ساذِجة في مجمّعات المُتفرجين حيث يرتدي مصري قِناع خوفو أو خفرع، ثم ينفجر باكياً بعد هزيمة فريقه والقِناع يحيط برأسه. أو آخر يضع على رأسه طربوشاً تركياً فولكلورياً لا يرمز إلى هويةٍ جديرةٍ بالمنافسةِ. وثالث يُردّد عبارات المُنتصرين التي تتحوّل مع الهزيمة إلى بؤسٍ بحجمٍ قياسي.

في تعليقهم على أداء الفرق العربية لا يتوّرع المُعلّقون الأجانب عن استعراض مصادر قوّتهم في تلك الفرق فيقولون: هذا الفريق وصل إلى حيث هو الآن بفضل مُدرِّب إيطالي، وذاك الفريق وصل إلى كأس العالم لأن نجمين أو ثلاثة منه يلعبون في الدوري الإنكليزي أو الألماني أو الإسباني أو الفرنسي. ويختصر الفريق المصري بمحمد صلاح نجم ليفربول البريطاني.. هكذا نرى ألا وجود للفرق العربية لولا قواعد الغالب وإن عليها أن تعترف بغلبتها وألا تتعدّاها.

يمكن القول من دون تردّد إن كأس العام في كرة القدم كما المشاهد الرياضية والثقافية عامة، هي جزء لا يتجزّأ من لعبةِ أممٍ سياسيةٍ دوليةٍ مُعرّضة للاختراق على أصولها وليس على قاعدة استبدال الغالب بالمغلوب. وعليه نرى هيئة العرب في كأس العالم على صورتهم السياسية، فالحال من بعضه أو " حال بحال" كما يقول المغاربة.

فيصل جلول باحث لبناني مقيم في فرنسا

قراءة 1158 مرة