التيار الإسلامي بعد "طوفان الأقصى"

قيم هذا المقال
(0 صوت)
التيار الإسلامي بعد "طوفان الأقصى"

د. إسماعيل النجم

المتحدث باسم كتائب القسام أبو عبيدة في بيان مصور عن مجريات "طوفان الأقصى" (الجزيرة)

لم يكنْ صباح السَّابع من أكتوبر لسنة 2023 كغيره من الصباحات التي مرّت على هذه الأمّة، في ذلك اليوم تنفَّس الصبح عبق بساتين وأراضٍ تمّ وطؤُها من قِبل المقاومين لأوّل مرّة بعد أكثر من خمسة وسبعين عامًا من القهر والترحيل والإذلال والاحتلال، في هذا اليوم ملحمةٌ بطوليةٌ سطرتْها كتائب القسام الجناح العسكريّ لحركة حماس.

‎عقودٌ مرّت ونحن نقرأ قوله تعالى: (الّذي خَلَقَ الموْتَ والحياةَ َليبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، وهكذا علّمونا في الصغرِ أيام الكتاتيب ودورات تحفيظ القرآن الكريم، وأخبرونا أنّ الله- عزّ وجلّ- ذكرَ  لنا الأحسن، ولم يذكر الأكثر؛ لأنّ أقرب الأعمال إليه هو أخلصُها وأصوبها.

في هذا التّاريخ المجيد كانت ملحمة (طوفان الأقصى) ضدّ عدوّ الأمةِ الأصيل في أرض المسرى، وباستنهاض القوى الحيّة في الأمة ودعمها بكلّ ما أُوتيت من أشكال الدعم.

‎هذه الملحمة لم تكن حربًا أهليةً بين مسلمين، لا فخر فيها ولا نصر، كما أنّها لم تكن عدوانًا على أبرياء أو مستضعفين، ولم تخرق الأعراف والمبادئ الإسلامية، والتي هي مبادئ وأعرافٌ إنسانيّة بالدرجة الأساس في الحروب والصراعات.

غزة هي درة تّاج المشروع الإسلامي الحضاري، وتمثل الإلهام لحركاتِ التغيير، وتقدر أن تعود بشباب الأمة إلى نموذجهم الحضاري والثوري رغم التوجهات والمؤامرات التي تسعى لتحطيم طموحهم وتطلّعاتهم المشروعة

‎قَدح "طوفانُ الأقصى" روحَ المقاومة مجددًا في الأمّة، وكانت هذه المرّة ليست كسابقاتها!، فالنموذج الحمساويّ امتاز بـ(العقلانية القتالية)، وهو أشدّ نموذجٍ يخشاه الكيان الصهيونيّ، ومن خلفه الغرب وأمريكا وصهاينة العرب. إنّها عقلانيةٌ هدفها واضحٌ، وقيادتها معروفةٌ، وتاريخها ناصع بالبياض وبالشهداء، لها رؤيةٌ إستراتيجيةٌ، وتعرف دائرة الصراع وحدوده، تمتلك تحالفاتٍ إقليميةً وعلاقاتٍ دوليةً، والأهم من ذلك جميعه هو  أنّها تحظى بتأييد الشعوب العربية والمسلمة لها بوصفها حركة تحرر من الظلم والطغيان والاستبداد.

‎إنّ "حماس" تمتلك رصيدًا من دعم وتأييد النُخبة القائدة في الأمة من حركاتٍ وأحزابٍ وجمعياتٍ ومنظماتٍ، وكلّها تنظر إليها على أنّها النموذج الناجح في إدارة السياسة والسلاح معًا، لذلك يمكن تفسير ما حصل في صبيحة السابع من أكتوبر على أنه ثأر  من كلّ الانتهاكات والجرائم  الصهيونيّة التي تُدنّس بها أرضنا العربية الإسلاميّة، وهي ردّة فعل على الديمقراطيّة التي جاءَ بها الغرب، ثم انقلبوا وتآمروا عليها، ذلك لأنّ مخرجاتها كانت على غير ما كانوا يتمنّون من ظهور نخبةٍ جديدةٍ تكون مواليةً لهم ولمشاريعهم على ساحات الأمة.

‎         جاء الربيع العربيّ ليزيل الطغاةَ وأدوات الاستعمار في بلداننا، حتى إذا فرحت الشعوب بربيعها انقلبوا عليه، وأحالوا الربيع خريفًا، وزجّوا بالشباب والنخبة من المجتمع في السجون، وأحرقوا الآخرين في الساحات، ونالت البعضَ الآخر رصاصات الغدر، وأحالوا الثورة إلى ذكريات مؤلمة.

غزة.. درة التاج

‎         إنّ غزة هي درة التّاج للمشروع الإسلامي الحضاري، وتمثل الإلهام لحركاتِ التغيير، والقدرة على العودة بشباب الأمة إلى نموذجهم الحضاري والثوري على كلّ التوجهات والمؤامرات التي تسعى لتحطيم طموحهم وتطلّعهم المشروع، ولا عجبَ من محاولاتهم طمس هذا النموذج والتشكيك به، فهم يقصفون غزّة بعنفٍ وقوةٍ، وبلا رحمةٍ ولا إنسانيةٍ، وهم اليوم يتمنّون أن تنكسر غزة؛ لأنّهم يعلمون أن انتصار غزة يعني دخولَ الشّعوب إلى طور تغيير الخونة والمتخاذلين، وبداية العودة الثانية للمشروع الإسلامي بعد محاولات وأده وتدميره.

‎         إنّ العدو اليومَ يعدّ العدة للقضاء على هذا النموذج العقلانيّ، وتحويله إلى رماد، مثلما فعلوا مع ربيعنا، إنهم في ورطة كبيرة، فنجاح "حماس" يعني أن يشتعل الربيع العربي من جديد ويعيدُ السياسيين الإسلاميين ليكونوا أملَ الشعوب المتعطشة للحرية؛ لأنه المشروع الذي سينجح فيما فشلت فيه كلّ الحكومات التي تحكم الشعوب بفتاوى السلاطين أو بتحالفات العِلمانيين معها.

‎يريدون حربًا برية يجتاحون فيها القطاع، ويحيلون الأمر إلى سلطة عميلة مرةً أخرى، فماذا نحن فاعلون؟!

‎         لقد أثبت مسار هذه المعركة أنّ جيش المنافقين لا يقلّ عن العدو الخارجي، ومعالجته والتفكير بإزالته هي الخطوة الأولى في طريق النصر، ولا يكون ذلك إلا بوجود قيادات شابة وجريئة تبادر فتنفذ، لأنّ الأداء القيادي هو الشرارة القادحة لزناد العمل الإسلامي الواسع. لابدّ للشعوب والدول العربية والمسلمة والتنظيمات الإسلامية على وجه الخصوص أن تعي اللحظة التاريخية، وأن تحدد مفترق الطرق الذي تمرّ به الأمة، إنّ العالم قد تغير فعلًا، وإن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا وتنهض لمهمة كمهمتنا وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها، هذه الأمّة لا ينفعها أن تتسلّى بالمسكنات أو تتعلّل بالآمال والأماني، وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل، وصراع قوي شديد بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع وبين صاحب الحق وبين غاصبيه، وبين سالك الطريق وناكبه، وبين الغيورين المخلصين والأدعياء المزيفين، فلا مناص من الدعم الكامل لصمود غزة، وتثبيت مقاوميها، والتخفيف عن سكانها المدنيين، وتحشيد الجهود وجمع الطاقات ونبذ الخلافات، وعدم إثارة النعرات الطائفية والقومية، وكلّ ذلك موازاةً مع التصعيد المدروس في الساحات كافة. هذه الأمور مجتمعة هي خريطة طريقٍ لكل من يريد أن ينصر هذه القضيّة، ويأمل أن تستعيد الأمة مجدها وعزها.

‎جاء (طوفان الأقصى) ليُثبت لنا مرة أخرى أن أخلاقيات الدول لا وجود لها في الصراع الوجودي والحضاري. ولذلك يقومون بخلط الأوراق ويُلبِسون الأمر على الشعوب، ويسعون إلى جعل ذلك هو العلاج الأنجع للحالة الميؤوس منها التي تمرّ بها الأمة اليوم من ضعف وهزيمة روحية ونفسية وهرولة نحو التطبيع مع العدوّ المجرم، ورغم هذا التلبيس والخلط فإنه ليس صعبًا إيجادُ الطريق الموصل للحلّ الناجع، من النهضة والاستدراك، عندها سينشأ جيلٌ قادرٌ على إحداث هذا التغيير كما يقول الجواهري.

‎                                               سينهض من صميم اليأس جيلٌ    مريـدُ البـأسِ جبـارٌ عنيد

                                               يقـايضُ ما يكون بما يُـرَجَّى       ويَعطفُ مـا يُراد لما يُريد

‎         إنّ واجب الأمة في هذه الأوقات هو الحرص على توسيع دائرة الصراع، وهو الذي يتجنّبه العدوّ ويحذر منه ويخاف، وهذا التوسيع هدفُه بالحدّ الأدنى مشاغلة واستنزاف العدوّ، ولابدّ من الأفكار الإبداعية، والتكتيكات المتنوعة، من أجل زيادة هذا الضغط على العدوّ وأزلامه في الساحات كافة، وليس للأمة عُدَّة في هذا السبيل الموحشة إلا النفس المؤمنة، والعزيمة القوية الصادقة، والسخاء والتضحيات والإقدام عند المُلمات.

إنّنا نأسف لأنّ بيننا نفوسًا كثيرةً منا لا تزال هي تلك النفوس الناعمة اللينة المترفة  التي تجرح خدَّيها نسماتُ الهواء، ولا تزالُ جموعُ فتياتنا وفتياننا -وهم عدة المستقبل ومعقد الأمل- حظها في هذه الحياة مظهرٌ فاخرٌ، أو حُلة أنيقة، أو مركبٌ فارهٌ أو لقبٌ أجوفُ، هذه النفوس اليوم  بحاجة إلى علاج وتقويم وإصلاح، يوقظُ فيها الشعور الخامد ويغيّر الخلق الفاسد ويُبعِد الشحّ المقيم، وإن الآمال الكبيرة التي تطوف برؤوس المصلحين من رجالات هذه الأمة تطالبنا بإلحاح بضرورة تجديد نفوسنا وبناء أرواحنا، حتى لا نرى دون المعالي مركبًا. إننا في حاجة -والخطاب للشباب خاصةً- إلى إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة من الرجال النابهين، أقوياء النفوس والإرادات، فكلّ رجل بهذه المواصفات يستطيع أن ينهض بأمة إن صحتْ نيّتُه واستقامتْ رجولته.

‎         فالدعاة والشباب عليهم واجب وقتٍ عظيم؛ وهو أن يُديموا زخم المعركة ويحذّروا من تحوّل الحرب على غزة إلى حربٍ محدودةٍ منسيةٍ بمرور الأيام، ولْتَكُن جذوة النصرة والدعم متقدةً دائمًا، ولتكن أيامنا وساعاتنا كلها جُــمَعًا، ولتكن كلها في نصرة فلسطين إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، فلا عودة لعقارب الساعة إلى الوراء، وما بعد السابع مِنْ أكتوبر ليس كما قبله، وهذا الذي ينبغي أن نجعلَه عنوانًا في قادم أيامنا التي ستزهو ببشائر النصر والتمكين بإذن الله..

‎(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ

المصدر:الجزیره

قراءة 309 مرة