من الصعب جدا ان نتناول اي بعد من ابعاد شخصية الشهيد العظيم سماحة السيد حسن نصرالله، الذي تمر اليوم ذكرى استشهاده، فشهيدنا الاسمى جمع في شخصه الشجاعة والاقدام والقوة والذكاء والحكمة والبلاغة والكرامة والكبرياء والحلم والجلد والصبر والحنان والرافة والرحمة والصدق والوفاء، بكل ما تحمل هذه الصفات من معنى، وكان الله سبحانه وتعالى جسّد فيه كل معاني الانسان الذي نزلت جميع الرسالات السماوية من اجل ان يكون خليفة الله على ارضه.
رغم صعوبة مهمة الكتابة عن الجبل الاشم شهيد القدس سماحة السيد، الا اننا ومن باب الوفاء لذكراه التي لا يجب ان تمر دون ان يستذكره احرار العالم بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم وقومياتهم ودياناتهم ومعتقداتهم، ان ندلو بدولنا في هذا البحر العميق لنغترف شيئا من معينه، ليكون لنا نبراسا في حياتنا التي تموج بالغدر والخيانة والعمالة والنذاله والتبعية والخنوع باقبح صورها.
عندما القت "اسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط" وفقا للسردية الغربية، 83 قنبلة زنة الواحدة منها طن، زودتها بها امريكا " زعيمة العالم الحر" وفقا لذات السردية، فوق منطقة سكنية مكتظة لاغتيال رجل واحد. وقبل ذلك وقعت مجزرة البايجر، التي شارك فيها كل اجهزة المخابرات التابعة للدول "الغربية والاوروبية الديمقراطية ورافعة شعارات الدفاع عن حقوق الحيوان قبل الانسان"، كل ذلك كان كفيلا ان يزرع الياس والاحباط في نفوس انصار المقاومة وحاضنته الشعبية، لا سيما ان هذه الحاضنة تكالبت عليها بعض ادعياء الوطنية والسيادة، المدفوعين بالاحقاد والضغائن، والمتامرين باوامر السفارات الغربية وفي مقدمتها السفارة الامريكية، لكن الذي حدث جاء خلافا لكل التوقعات، فما الذي جعل الحاضنة الشعبية وفية لقائدها والمقاومين ونهجهم القويم، رغم ان اغلب من في هذه الحاضنة فقد اعزاء كثر في العدوان الاسرائيلي الامريكي على لبنان، وهدمت بيوتهم وهجروا عن مناطقهم؟!.
ان تجاوز بيئة المقاومة هذا الامتحان التاريخي الصعب، لم يأت من فراغ، او انه كان بمثابة لحظة عاطفية شدت اعضاء هذا البيئة على وقع خبر فقدان السيد الاسمى، فهذه اللحظة مازالت مستمرة حتى اليوم، الامر الذي اكد حقيقة ان ثبات الحاضنة الشعبية، جاء كنتيجة لعمل متراكم اشرف عليه السيد الشهيد على مدى ثلاثين عاما لقيادته الحكيمة والشجاعة والذكية للمقاومة الاسلامية في لبنان. فقد تمكن سماحته ان يبنى الانسان المقاوم والانسان الحاضن للمقاومة، بناء روحيا ومعنويا، واتي هذا البناء أكله اليوم، حيث ترك سماحته ارثا لا ينفد، وهذه الحقيقة اشار اليها قائد الثورة الاسلامية اية الله السيد علي الخامنئي، عندما وصف السيد الاسمى بانه ارث عظيم ليس للبنان بل للعرب والمسلمين، وهذا الارث الذي اشار اليه قائد الثورة هو الذي جعل المقاومة وبيئتها متماسكة وقوية، وتجاوزت الامتحان الاصعب المتمثل باستشهاد سماحة السيد والصف الاول من قيادة المقاومة، بعد ان تكالب الغرب وامريكا عليها بكل ما اوتوا من قوة.
ارث سيد شهداء المقاومة، بني على حقائق بديهية، منها ان الشعب الذي لايدافع عن نفسه لن يجد من يدافع عنه، حتى لو أبيد عن بكرة ابيه. وان الارض المحتلة لن تتحرر بالاحتجاجات وتقديم الشكاوى وانتظار العدالة الدولية، بل بسواعد رجالها واهلها. ومن الخيانة ان ترى جريمة يجري تنفيذها ضد جارك او أخيك في الدين والقومية والانسانية، وان تتخذ موقف المتفرج. وان نصرة المظلوم هو واجب انساني وشرعي وديني واخلاقي، وليس هناك من مظلومية يراها العالم اليوم رأي العين كمظلومية الشعب الفلسطيني.
في البديهيتين الاولى والثانية يمكن الاشارة الى تجسيداتهما العملية التي تمثلت بتحرير المقاومة لجنوب لبنان من الاحتلال الاسرائيلي عام 2000 بعد ان انتظر لبنان اكثر من 20 عاما العدالة الدولية لانصافه ولكن دون جدوى.
اما البديهة الثالثة فجسدتها المقاومة الاسلامية المتمثلة بحزب الله عندما تدخلت في سوريا دفاعا عن سوريا التي كانت تواجه مؤامرة امريكية غربية اسرائيلية عربية رجعية، يتم تنفيذها عبر جماعات تكفيرية وارهابية، وكم كل هذا الوقوف المبدئي الى جانب سوريا، كوجود مكلفا لحزب الله، الا ان ما وقع في سوريا بعد ذلك، وما يحدث الان فيها بعد سقوط نظام الاسد، اكد صوابية موقف السيد الشهيد من احداث سوريا.
اما البديهية الرابعة التي جسدها حزب الله بكل ما اوتي من قوة ومن اجلها دفع السيد روحه الطاهرة، فكان وقوفه الى جانب المظلومين في غزة، بوجه الحلف الامريكي الغربي الاسرائيلي ضد اهلها، بعد ان تخلى العالم وفي مقدمتهم العرب عن نصرتهم.
الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد سيد المقاومة يجب ان تكون محطة انطلاق جديدة للمقاومة وجمهورها، من اجل تجديد العهد للسيد الشهيد على المضي في دربه، والتمسك بارثه، وفي مقدمته، الحفاظ على الوحدة الوطنية وافشال كل المخططات التي تسعى امريكا و"اسرائيل" والرجعية العربية واذنانبهم في لبنان، الرامية لخلق فتن وقلاقل في لبنان تصب في صالح الاسرائيلي، بالاضافة الى دعم المقاومة في غزة.
من اجمل ما قيل في شخص السيد الشهيد هو ما قاله رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني النائب والوزير السابق طلال إرسلان، الذي وصف سماحته بانه "شخصية لها مناقبية أخلاقية، من الصعب أن تجدها لدى أي كان، وان الإنسانية خسرت شخصية لا تتكرر في كل عصر وفي كل زمان، واليوم، حين نتأمل رحيله، نكتشف أن حضوره صار أشد كثافة من أي وقت مضى. صار رمزا لا يمكن اغتياله، وصوتا لا يمكن إسكاته، وراية لا يمكن إنزالها. فالشهادة التي منحها لنفسه ولأمته ليست ختاما لحياته، بل بداية لمرحلة جديدة تزداد فيها المقاومة تجذرا وتترسخ فيها قيم العزة والحرية في قلوب الأجيال القادمة, وان الوفاء الحقيقي له هو أن نحمل وصيته في عروقنا، أن نبقي فلسطين البوصلة، وأن نرفض الذل بأشكاله، وأن ندرك أن دماء الشهداء هي التي ترسم خط التاريخ".