لعبة الدومينو الأخيرة: لماذا أجهضت نيجيريا الانقلاب في دولة بينين؟

قيم هذا المقال
(0 صوت)
لعبة الدومينو الأخيرة: لماذا أجهضت نيجيريا الانقلاب في دولة بينين؟

عندما اخترقت طائرات نيجيريا الحربية الأجواء البنينية الأحد الماضي، لم تكن تحمل قنابلها نحو مقارّ الانقلابيين فحسب، بل كانت تحمل في مسارها رسالة جيوسياسية مصيرية: "هنا ينتهي مسار التمرد على الاستعمار الغربي". 

ما قامت به نيجيريا لم يكن مجرد عملية عسكرية لقمع انقلاب عسكري، بل كان إجهاضاً متعمداً لمسار تاريخي كاد أن يعيد رسم خريطة النفوذ في غرب أفريقيا. كانت سرعة تحرك نيجيريا التي عُرفت بترددها في التدخلات الخارجية لافتة، وتكشف عن حسابات تتخطى ادعاء المحافظة على الديمقراطية والاستقرار.

لماذا كانت بنين آخر حصن يجب أن يسقط؟

يظل اكتمال خريطة التمرد ضد النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا، رهيناً بتحرر بينين من ذلك النفوذ، ولو نجح الانقلاب العسكري فيها، لاكتمل بناء القوس الثوري بالتحاقها بمسيرة التحرر التي انتظمت، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ولتمكنت هذه الدول من كسر الحصار المضروب عليها بالوصول إلى ساحل أفريقيا على الأطلسي، لأن بنين مثلت الحلقة المفقودة في مسار نموذج الساحل الثوري، وبهذا المعنى يمكن النظر إلى الانقلاب في سياق قلب معادلة القوة الإقليمية أكثر منه انقلاباً على نظام حكم.

الاتصال القاتل: كيف حولت مكالمة هاتفية اتجاهات الريح؟

يكشف التسلسل الزمني للأحداث عن طبيعة التحالف الذي حسم الموقف. فقبل ساعات فقط من الضربات الجوية، أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اتصالاً بالرئيس النيجيري بولا تينوبو. عبارة ماكرون التي أعلنها علناً: "الحياد لم يعد خياراً"، لم تكن مجرد تعبير عن تضامن، بل كانت في سياقها الجيوسياسي أمراً تنفيذياً واضحاً. كانت الرسالة الموجهة لأبوجا: "المسؤولية عن حماية مصالحنا في هذه المنطقة تقع على عاتقكم الآن".

تجلّت ملامح هذه الشراكة الجديدة في عدة مؤشرات عملية. أولها، التنسيق الاستخباري الفوري الذي مكّن من تنفيذ عمليات دقيقة؛ حيث كانت طائرات الاستطلاع الفرنسية تجمع المعلومات وتحدد الأهداف، بينما نفذت المقاتلات النيجيرية الضربات. ثانيها، السرعة الاستثنائية في التحرك، ما يشير إلى خطط طوارئ جاهزة ومعلومات مسبقة مشتركة، وليس قراراً ارتجالياً. ثالثها، الإشراف السياسي المباشر الذي تجسد في تحليق طائرة نائب الرئيس النيجيري في أجواء بنين أثناء العملية، كإشارة على أن القيادة السياسية كانت تراقب تنفيذ المهمة على الأرض.

كان المشهد بذلك يعيد إنتاج نموذج التفويض الإمبراطوري في قالب حديث: تقدم القوة العظمى القديمة "فرنسا" الغطاء السياسي والمعلومات الاستخبارية الحاسمة، وتوفر القوة الإقليمية الناشئة "نيجيريا"القوة النارية والتكلفة السياسية الميدانية.

التناقض القاتل: لماذا اختلفت مواقف نيجيريا بين انقلابي النيجر  وبنين؟

يُظهر الموقف النيجيري المتضارب من الانقلابات في النيجر ثم في بنين، جوهر التحول في الحسابات الجيوسياسية. ففي 2023، قاومت نيجيريا ضغوطا داخل تجمع "إيكواس" للتدخل عسكرياً في النيجر بعد انقلابها، وتبنّت خطاب السيادة والحلول الدبلوماسية. أما في 2025، فقادت بنفسها تدخلاً عسكرياً سريعاً وعنيفاً في بنين. الفارق الحاسم لم يكن في طبيعة فعل الانقلاب، بل في اتجاه بوصلته الجيوسياسية.

عندما اتجه انقلاب النيجر بعيداً عن فرنسا ونحو تحالفات جديدة، رأت نيجيريا أن الحياد وعدم التدخل هما الموقف الأمثل. كان ذلك يحقق توازناً بين الضغوط الغربية والمشاعر الشعبية الأفريقية المناهضة للاستعمار داخل نيجيريا نفسها. أما عندما هدد الانقلاب في بنين بتغيير اتجاه البوصلة بعيداً عن فرنسا أيضاً، تحول الموقف فجأة إلى ضرورة عسكرية ملحة. كشف هذا التناقض أن المعيار الحاكم في أبوجا لم يُعِر مبادئ عدم التدخل أي اعتبار، بل غلّب مصلحة النظام على كل اعتبار، وهذا فقط ما بات يحمي النظام الإقليمي المتحالف مع الغرب.

واجهت نيجيريا خياراً صعباً لكنها حسمته لمصلحة التحالف التقليدي. من ناحية، كان قبول انقلاب بنين يعني احتمال ظهور تحالف روسي-ساحلي قوي ومعادٍ على حدودها الغربية مباشرة، مع ما يحمله ذلك من مخاطر أمنية وفقدان للحظوة الغربية. من ناحية أخرى، ضمن التدخل الحاسم استمرار تدفق التجارة الحيوية عبر ميناء كوتونو، وعزز من صورة نيجيريا كفاعل إقليمي لا يتردد، وربما فتح أبواب مكاسب سياسية واقتصادية من الشركاء الغربيين.

ماذا كسبت نيجيريا وماذا خسرت في سماء كوتونو؟

من الناحية العسكرية المباشرة، سُجّل النصر للتحالف الذي قادته نيجيريا. تم احتواء المحاولة الانقلابية وعاد الهدوء إلى العاصمة الاقتصادية كوتونو. لكن هذا الانتصار التكتيكي يحمل في طياته ثمناً استراتيجياً باهظاً قد تدفعه نيجيريا على المديين المتوسط والطويل.

لقد كسبت نيجيريا تأكيداً لدورها كقوة إقليمية مفوّضة من قبل القوى الغربية، وقدرةً على حماية مصالحها الاقتصادية الحيوية في أحد أهم الموانئ المجاورة لها. كما أرسلت رسالة ردع واضحة لأي قوى داخلية أو إقليمية أخرى قد تفكر في زعزعة النظام القائم في الدول الحليفة.

إلا أن هذه المكاسب تقابلها خسائر عميقة. الخسارة الأكبر قد تكون في شرعيتها الأفريقية؛ فكيف يمكن لدولة تتزعم الدعوة إلى التضامن الأفريقي أن تقود قصفاً لجارتها دفاعاً عن مصالح تُعتبر في عيون الكثيرين استعمارية؟ كما أن هذا الموقف يخلق توتراً داخلياً في نيجيريا نفسها، حيث يتعاطف جزء لا يُستهان به من الشارع والنخبة مع نضال دول الساحل للتحرر من الهيمنة الفرنسية. والأخطر، أن هذا الفعل قد يزرع بذور كراهية مستقبلية ورواسب غضب على الحدود، قد تؤثر لاحقاً في الاستقرار.

باختصار، فضّلت نيجيريا دور حارس النظام الاستعماري القديم في لحظة تاريخية كان يمكن أن تختار فيها أن تكون قائدة للتغيير الإقليمي. لقد حافظت على الاستقرار قصير الأمد، لكن على حساب رصيدها الأخلاقي وعلاقاتها الطويلة مع جيرانها وشعوب القارة.

جيوش "وطنية" في حراسة مصالح خارجية

مع إخماد شرارة الانقلاب في بنين، يبقى السؤال الأعمق والأكثر إلحاحاً معلقاً في أجواء المنطقة: من المستفيد الحقيقي على المدى البعيد؟ لقد نجح التحالف الفرنسي-النيجيري في تأجيل حدوث زلزال جيوسياسي، لكنه فشل في معالجة الأسباب البنيوية العميقة التي تسبب هذه الزلازل، أي الغضب المتراكم من الهيمنة الخارجية والإحباط من أنظمة تُعتبر غير ممثلة لشعوبها.

المعضلة الحقيقية التي كشفت عنها أزمة بنين هي تحول أدوات الحل التقليدية نفسها إلى جزء من المشكلة. فالجيوش الوطنية، التي تجيء حماية سيادة البلاد في أعلى قائمة مهامها، أصبحت في بعض المشاهد أداة لحماية مصالح خارجية. والمنظمات الإقليمية التي أُنشئت لتعزيز التكامل، تحولت إلى أطراف فاعلة في عقاب الدول المتمردة على "الاستعمار" الجديد.  والقادة الوطنيون، وجد بعضهم نفسه في موقع حرج بين مطالب الشعوب وضغوط الحلفاء الأجانب.

شكّلت بنين اختباراً مصغراً وكاشفاً للمعركة الكبرى التي يخوضها غرب أفريقيا: معركة بين قوى تريد الحفاظ على بقايا نظام عالمي قديم وآخذ في التآكل، وقوى طامحة لبناء نظام إقليمي جديد مهما كان ثمن الفوضى المؤقتة. لقد أوقفت الضربات الجوية هذا الاختبار، لكنها لم تُجب عن الأسئلة الجوهرية التي أطلقها. وتاريخ المنطقة يقول إن الأسئلة المعلقة حول الحرية والعدل والكرامة الإنسانية والاستقلال الحقيقي، تكون غالباً أقوى وأبقى من كل القنابل.

المشهد المقبل سيكشف إن كانت بنين هي المعركة الختامية لحرب "الاستعمار" القديم، أم أنها مجرد اشتباك افتتاحي لحرب إقليمية جديدة ستشتعل من المحيط إلى أعماق الصحراء.  ويبقى اليقين الوحيد هو أن الشعوب التي تجد نفسها ساحة لمعارك تخوضها قوى كبرى وجيران أقوياء فوق أراضيها، هي من تدفع أغلى الأثمان.  وفي سماء كوتونو التي ما زال دخان الانفجارات يتصاعد منها، بدأ العد التنازلي لدفع ذلك الثمن مرة أخرى.

قراءة 4 مرة