دور أهل البيت (ع) في توعية المسلمين

قيم هذا المقال
(2 صوت)

دور أهل البيت (ع) في توعية المسلمين

 

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كُنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على البشير النذير والهادي الأمين محمّد بن عبدالله وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين.

 

المدخل:

لمّا كانت الرسالة الإسلامية الغرّاء التي اُرسل بها خاتم الأنبياء والمرسلين نبيّنا الأكرم محمّد بن عبدالله (ص)، خاتمة الرسالات العالمية، بمعنى أن الإقليمية والمحلّية قد تضاءلت بهذه الرسالة العالمية الأبدية، كما أفرز ذلك القرآن الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }(1) مما يستدعي أن تتوفّر على الأُطروحة المتكاملة التي تجعل لها قابلية ومقبولية الاستمرار والدوام بغضّ النظر عن الأُطر الجغرافية الضيّقة. قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(2).

ومن أهم مقوّمات نجاح هذه الأُطروحة الإلهية ودوامها، توفّرها على عناصر القوّة الفذّة لقادتها الربّانيين.

فمَن هم القادة الذين شكّلوا هيكلية متعاضدة ذات منظومة فكرية موحّدة لإرساء قواعد هذا الصرح الرسالي الخاتمي، وإدامة بنائه ورعايته والحفاظ على مكتسباته، بحيث يكمّل بعضهم دور الآخر من دون تعارض ولا تناقض؟ بل لتحقيق ذات الأهداف الربّانية بعيداً عن الأنانيات والإثرة والمحسوبية.

ومَن هم الذين ساروا على نهج محمّد (ص) والتزموا رسالته، وجسّدوا تعاليمه وتوصياته، وكانوا في طليعة المضحّين والمتفانين لحفظها؟

ومَن هم الذين تضافرت جهودهم في افتدائها بحيث كلّما عصفتْ بها العواصف واحاطت بها المخاطر، فزع الحكّام والرعية إليهم لكون الحلّ الناجع عندهم دون سواهم، والنجاة بالالتزام بهديهم وإرشادهم؟

وهم الذين قد أمر الله تعالى نبيّه الكريم بأن يرشد اُمّته إليهم بقوله: { قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(3).

بمعنى أن رسالة محمّد (ص)، لا يمكن لها الدوام والاستمرار في ضوء منهج محمّد (ص) إلا المودّة في القربى، ومن المعلوم أن طلب الأجر على الرسالة من قِبَل النّبيّ الأكرم (ص) أمرٌ مرفوض، وله بذلك اُسوة ببقيّة الأنبياء (ع)، وقد أشارت الآيات القرآنية إلى ذلك. فعليه كيف يتم توجيه ما طلبه النّبيّ (ص) من أجرٍ على رسالته؟

لا بدّ أن يكون هذا الأجر متعلِّقاً ومرتبطاً بالرسالة ذاتها، وإلا فلا يصح نسبته إلى رسول الله (ص)، ومن هذا المنطلق نفهم أن المودّة ذاتها لها علاقة وطيدة بحفظ الرسالة ودوامها ، فيصح حينئذٍ أن تكون أجراً متناسباً مع الرسالة وعظمتها. هذا من جهة ومن جهة اُخرى:

لا بدّ أن يكون للمودودين شأن متناسب مع ما يطلبه رسول الله (ص) ، فالآية الشريفة ناظرة إلى حيثيّتين:

الأُولى: حيثيّة المودّة وعمق معناها.

الثانية: حيثيّة المودودين وخطورة دورهم.

أمّا الحيثيّة الأُولى: فهي المودّة المتعلّقة بالرسالة نفسها، فهي ليست مسألة عاطفية متعلّقة بالجانب النفسي والقلبي، وإنّما تتعدى ذلك لتنطلق إلى كلّ المواقف والمواقع والميادين الاجتماعية المتنوعة لتشمل الحياة كلّها.

وأمّا الحيثيّة الثانية: فهي متعلّقة بمنزلة المودودين ودورهم الخطير في رعاية التجربة الإسلامية الخاتمة وحفظها، وتمهيد الأرض لتحقيق شموليّتها للمعمورة كافّة { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}(4) .

فمَن هم المودودون بعد محمّد (ص)؟

فهل أبقى النّبيّ الكريم (ص) الجواب لغزاً محيّراً لأبناء اُمّته وأجيالها المتعاقبة؟ كلّا وألف كلّا..

فهذا القرآن الكريم الذي هو معجزة محمّد (ص) الخالدة، يصرخ على الدوام آمراً المسلمين أن يأخذوا بما أمرهم، وينتهوا عمّا نهاهم:

{مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(5) .

فتعال يا أخي العزيز لنعرف معاً المودودين ـ أئمّة أهل البيت (ع) ـ ودورهم في توعية المسلمين.

 

دَوْر أئمّة أهل البيت (ع) في توعية المسلمين:

لا شكّ إن لأهل البيت (ع) دوراً متميّزاً في توعية المسلمين وحفظ يقظتهم في الحياة العامّة للمسلمين، ويتجلّى هذا الدور في موارد كثيرة جدّاً ساهمت في تحقيق المعنى المذكور، وبيانها لا تستوعبه هذه الوريقات نظراً لكون هذه المقالة مختصرة ولمناسبة موسم الحجّ لهذا العام، فلذا سأقتصر على بيان ما هو الأهم منها في التأثير والتحقّق:

 

المورد الأوّل: الحفاظ على الحجّة البالغة ورعايتها

إن حجّة الله البالغة على الخَلق أجمعين، هي كلمات الله تعالى الشريفة التي تلاها الوحي المقدّس على رسول الله (ص) ونزلت على صدره الحبيب في مناسبات متعدّدة ، فلذا انبرى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) بعد استشهاد رسول الله (ص) ورحلته عن الدنيا إلى المبادرة في جمع القرآن الكريم ضمن مصحف، لئلا يزاد فيه أو يُنقص منه أو يضع منه شيء، كما جاء في وصيّة رسول الله (ص) لعليّ، حسب ما روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع):

«إن رسول الله (ص) قال لعليّ (ع) : «يا عليّ القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فخذوه، واجمعوه، ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة»، فانطلق عليّ (ع) فجمعه في ثوب أصفر»(6) .

بلحاظ أن العهد النبوي قد انقضى والقرآن منثور على العُسُب واللّخاف(7) والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع وبعض الحرير والقراطيس وفي صدور الرجال.

نعم كانت السور القرآنية مكتملة على عهده (ص) مرتّبة آياتها وأسماؤها ، غير أن جمعها بين دفّتين لم يكن قد حصل بعد، نظراً لترقّب نزول القرآن على عهده (ص) ، فما دام الوحي، لم ينقطع لم يصحّ تأليف السور مصحفاً إلا بعد الاكتمال وانقطاع الوحي، الأمر الذي لم يكن يتحقّق إلا بانقضاء عهد النّبوّة واكتمال الوحي(8).

وقال جلال الدين السيوطي: (كان القرآن كتب كلّه في عهد رسول الله (ص) لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتّب السور) (9).

وأوّل مَن قام بجمع القرآن بعد وفاة النّبيّ (ص) مباشرة وبوصيّة منه (ص) هو الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) ـ كما أسلفنا ـ ، ثم قام بجمعه زيد بن ثابت بأمر من الخليفة الأول أبي بكر ، كما قام بجمعه كل من ابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري وغيرهم، حتى انتهى الأمر إلى دور الخليفة الثالث عثمان بن عفّان فقام بتوحيد المصاحف ـ بمشورة من عليّ (ع) كما سنبيّن ـ وإرسال نسخ موحّدة إلى أطراف البلاد، وحمل الناس على قراءتها وترك ما سواها.

كان جمع الإمام علي (ع) وفق ترتيب النزول: المكّي مقدّم على المدني، والمنسوخ مقدّم على الناسخ، مع الإشارة إلى مواقع نزولها ومناسبات النزول، وتفاسير لمواضع مجملة من الآيات مع بيان وقائع النزول بتفصيلٍ، حتى أكمله على هذا النمط البديع.

قال الكلبي : «لمّا توفّي رسول الله (ص)، قعد علىّ بن أبي طالب في بيته فجمع القرآن على ترتيب نزوله، ولو وجد مصحف لكان فيه علم كبير»(10).

فقد أخرج ابن أبي داود في ]المصاحف[ من طريق محمّد بن سيرين، قال: قال عليّ: «لمّا مات رسول الله (ص) آليت ألّا آخذ عَلَيَّ ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعه»(11).

وقال محمّد بن سيرين: فقلت لعكرمة: ألّفوه كما أنزل الأوّل فالأوّل؟ قال: «لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يؤلّفوه ذلك التأليف ـ أي كتأليف عليّ بن أبي طالب (ع) ـ ما استطاعوا»(12).

وقال ابن سيرين : «تطلّبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر»(13).

وهكذا قد تبيّن أن أمير المؤمنين عليّ (ع) كان أوّل مَن تصدّى لجمع القرآن الكريم، فقد اعتكف في داره مدة ستة أشهر مشتغلاً بجمع القرآن وترتيبه على ما نزل، كما جاء ذلك في عددٍ غير قليلٍ من الروايات، قال ابن النديم ـ بسندٍ يذكره ـ «إن عليّاً (ع) رأى مِن الناس طَيْرَة عند وفاة النبي (ص) فأقسم أن لا يضع رداءه حتّى يجمع القرآن فجلس في بيته ثلاثة أيّام(14) حتّى جمع القرآن. فهو أوّل مصحف جمع فيه القرآن من قلبه(15) وكان هذا المصحف عند أهل جعفر. قال: ورأيت أنا في زماننا عند أبي يعلى حمزة الحسني& مصحفاً قد سقط منه أوراق بخطّ عليّ بن أبي طالب يتوارثه بنو حسن على مرّ الزمان، وهذا ترتيب السور من ذلك المصحف...»(16) .

وروي عن الإمام الباقر (ع) كما جاء في بحار الأنوار:

«ما من أحد من الناس يقول أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل الله إلا كذّاب. وما جمعه وما حفظه كما أنزل الله تعالى إلا عليّ بن أبي طالب (ع)»(17).

كما روي أن عليّاً (ع) انقطع عن الناس مدّةً حتّى جمع القرآن، ثمّ خرج إليهم في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد، فلمّا توسّطهم وضع الكتاب بينهم، ثم قال: إن رسول الله (ص) قال: «إنّي مخلف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي» وهذا كتاب الله وأنا العترة(18). وقال لهم: «لئلّا تقولوا غداً إنّا كنّا عن هذا غافلين».

ثمّ قال: «لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعُكُم إلى نصرتي ولم اُذكّركم حقّي ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته الى خاتمته»(19).

لكن القوم ردّوا ما جمعه عليّ (ع) فاحتفظ به رعاية لوحدة المسلمين ووحدة كلمتهم، ومن الجدير بالذكر، أن الإمام علي (ع) لم يكتفِ بجمع الآيات القرآنية الشريفة بل قام أيضاً بترتيبها حسب النزول، وأشار إلى عامّه وخاصّه ، ومطلقه ومقيّده، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وعزائمه ورخصه، وسننه وآدابه، كما أشار إلى أسباب النزول، مقدّماً السور القرآنية وفق ترتيب النزول، فالمكّي مقدّم على المدني، والمنسوخ مقدّم على الناسخ، مع ذكره لمواقع النزول ومناسبته، وقد أملى ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن، وذكر لكلّ نوع مثالاً يخصّه، وبهذا العمل التضحوي الكبير الذي قام به أمير المؤمنين عليّ (ع) استطاع أن يحفظ أهمّ أصل من اُصول الإسلام؛ بل الحجّة البالغة الكبرى، وأن يوجّه العقول نحو البحث عن العلوم التي يزخر بها القرآن الكريم، ليبقى المنبع الرئيس للفكر والمصدر المباشر الذي تستمد منه الإنسانية ما تحتاجه في حياتها، وما سطّرته يراعة الإمام (ع) كان بإملاءٍ من لدن رسول الله (ص) وتأييدٍ منه (ص) ، فقد كشف عن ذلك (ع) ، كما في الرواية التالية:

قال علي (ع): « ما نزل على رسول الله (ص) آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملأها عليَّ فكتبتها بخطّي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، ودعا الله عزّوجلّ أن يعلّمني فهمها وحفظها فما نسيت آية من كتاب الله عزّوجلّ ، ولا علماً أملاه عليَّ فكتبته، وما ترك شيئاً علّمهُ الله عزّوجلّ من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي ، وما كان أو يكون من طاعة أو معصية، إلا علّمنيه وحفظته ، فلم أنس منه حرفاً واحداً، ثمّ وضع يده على صدري ، ودعا الله تبارك وتعالى بأن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكمةً ونوراً ولم أنسَ من ذلك شيئاً، ولم يفتني من ذلك شيء لم أكتبه... الرواية»(20).

ومن هذا المنطلق، يحقّ لنا القول بأن عليّاً كان قد جمع القرآن الكريم على عهد رسول الله (ص) وهو حيّ، كما ذهب إلى ذلك ابن عبد البر(21).

وأمّا قضية توحيد المصاحف في زمن الخليفة الثالث (عثمان) فقد حصلت وفق ما رآه أمير المؤمنين عليّ (ع) كما جاء ذلك في كتاب اختلاف المصاحف لابي جعفر محمّد بن منصور، برواية محمّد بن زيد بن مروان(22).

وقد أخرج ابن أبي داود عن سويد بن غفلة، قال: قال عليّ (ع):

«فوالله ما فعل عثمان الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأٍ منّا، استشارنا في أمر القراءات، وقال: بلغني أن بعضهم يقول: قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفراً، قلنا: فماذا رأيت؟ قال: أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا: نعمَ ما رأيت»(23).

وكان (ع) ـ بعدما تولّى الخلافة ـ أحرص الناس على الالتزام بالمرسوم المصحفي حفظاً على كتاب الله من أن تمسّه يد التحريف فيما بعد ، ولو بإسم الإصلاح، قال (ع) بهذا الصدد: «لا يهاج القرآن بعد اليوم»(24).

وهكذا سار على هذا المنهج أئمّة أهل البيت (ع) في رعاية القرآن وحفظه والدفاع عنه، فقد كان ذات يوم أن قرأ رجل عند الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤه الناس، فقال له الإمام:

«مه مه، كفّ عن هذه القراءة، واقرأ كما يقرأ الناس»(25).

وقال (ع) في جواب مَن سأله عن الترتيل في القرآن: «اقرأوا كما علّمتهم»(26).

وهكذا قد تعاهد أئمّة أهل البيت (ع) حفظ كتاب الله تعالى، والوقوف بوجه مَن أراد النيل منه، والإساءة إليه، ولعلّ من أوضح الوقائع ما حدث في زمن الإمام الحادي عشر من أئمّة أهل البيت (ع) وهو الإمام الحسن بن علي العسكري (ع). فقد وقف الإمام بوجه أكبر محاولة تخريبية استهدفت القرآن الكريم من قبل أحد الفلاسفة، فتصدّى له بحزم وأنهى محاولته التخريبية تلك، فكان هذا الفيلسوف قد جمع جملة من الآيات المتشابهة التي يبدو للناظر فيه أنّها تنطوي على نوع من التناقض، وكان ينوي نشرها، تحت عنوان : (تناقضات القرآن الكريم). وهذه المحاولة قد استهدفت سند الرسالة والنبوّة ، ورمز الكيان الإسلامي الأوّل، وأساس وحدة المسلمين. فلم يلتفت أحدٌٍ إلى مدى خطورة هذه المحاولة وتأثيرها السلبي على غير المتخصّصين وهم عامّة المسلمين، بالإضافة إلى ما تعطيه هذه المحاولة من ذريعة بيد أعداء الإسلام والمسلمين، غير أن الإمام قد اطّلع على هذه المحاولة وأجهضها وهي في مهدها، حيث دخل أحد تلامذة الكندي على الإمام الحسن العسكري (ع) فقال له الإمام (ع): «أما فيكم رجل رشيد يردع اُستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟».

قال التلميذ: نحن تلامذته «كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟

فقال له الإمام (ع): «أتؤدّي إليه ما ألقيه إليك؟».

قال: نعم.

قال الإمام (ع): «فصر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأُنسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنّه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنّك ذهبت إليها؟

فإنّه سيقول لك: إنّه من الجائز؛ لأنّه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعلّه أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه.

ثمّ إن الرجل صار الى الكندي، ولمّا حصلت المؤانسة ألقى عليه تلك المسألة، فقال الكندي: أعد عَلَيَّ ، فتفكّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر.

فقال ـ الكندي ـ : أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك؟

فقال تلميذه: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلّا ما مثلك مَن اهتدى إلى هذا ، ولا مَن بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا؟

فقال: أمرني به أبو محمّد الحسن العسكري (ع).

فقال: الآن جئت به، ما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت، ثم دعا بالنار وأحرق من كان ألّفه»(27).

وهذه المواقف من أئمّة الهدى، لها دلالات واضحة على رصدهم لكل النشاطات العلمية والفكرية التي من شأنها أن تمس جوهر الرسالة الإسلامية من قريب أو بعيد، بالإضافة إلى دورهم الكبير في تنمية الحس الاعتقادي الصحيح لدى المسلمين وإبعاد الشبهات عنهم وعن هذا الركن الأساس الوثيق.

وفي هذا الصدد جاء عن عليّ (ع) يصف القرآن الكريم ويبيّن عظيم قدره فقال:

«كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، مَن تركه من جبّار قصمه الله، ومَن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو الحبل المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يشبع منه العلماء ، مَن قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم»(28).

 

الدور الثاني : حفظ الشريعة الإسلامية من التحريف والضياع

لقد كان لأئمّة أهل البيت (ع) الدور البارز والأساس في حفظ التراث الفكري والحديثي للنّبيّ الأكرم (ص) الذي يمثّل روح الشريعة الإسلامية ولبّها وجوهرها. إذ أن مكانة السُّنة الشريفة في التشريع الإسلامي تمثّل ذروة الصدارة، وأنّها بعد القرآن الكريم تشريعاً، ونهجاً، وثقافة، فهي تمثّل المنهج المكمّل للكتاب العزيز، بل في حقيقتها نابعة عن الوحي المقدّس ، قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}(29).

فسُنّة النّبيّ (ص) تمثّل جانباً آخر من جوانب الوحي، أراد الله تعالى أن يجريه على لسان النّبيّ (ص) لحكمةٍ ومصلحةٍ هو أدرى بها، وإثبات هذا لا يحتاج إلى مزيد بيان، فلذا ندب الشرع المقدّس إلى اتّباع أوامر النبيّ (ص) وعدم جواز التخلّف عنها، بل وعدم التقدّم عليه، بل يجب التزام طاعته وأوامره واجتناب نواهيه، لأنّها على حدّ طاعة الله تعالى.

وقد نبّه النّبيّ (ص) إلى ما سيتعرّض له حديثه من التزوير والتحريف أو الاستخفاف، وعدم الالتزام بتعاليمه، فحذّر من عواقب هذه الأفعال المشينة من أيٍّ صدرت. فقال (ص):

«لا الفينّ أحدكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرتُ به أو نهيتُ عنه فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه»(30).

وقال (ص) في هذا الصدد أيضاً:

«ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عنّي وهو متكيءٌ على أريكته ، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه ، وما وجدنا فيه حراماً حرّمناه ، وإن ما حرّم رسول الله كما حرّم الله»(31).

وهذه الروايات وأمثالها كثير، قد شدّدت على لزوم اتّباع سُنّة رسول الله (ص) والاهتمام البالغ بها، فهي حجّة بالغة اُخرى بعد القرآن الكريم، وهي حجّة على المسلمين وغير المسلمين حتّى على أنبيائهم فيما لو كانوا معاصرين للنّبيّ (ص) وهذا ما تتجلّى به حجّيّة سُنّة النّبيّ (ص) ، اُشير إلى بعض الروايات في هذا المجال:

1 ـ أخرج الدارمي بإسناده عن جابر، قال: إن عمر بن الخطّاب أتى رسول الله (ص) بنسخةٍ من التوراة، فقال: يا رسول الله، هذه نسخة من التوراة، فسكت، فجعل يقرأ ووجه رسول الله يتغيّر، فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل، ما ترى ما بوجه رسول الله؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله (ص) ، فقال: أعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله... فقا ل رسول الله (ص):

«والذي نفس محمّد بيده، لو بدا لكم موسى، فاتّبعتموه وتركتموني، لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان ـ موسى ـ حيّاً وأدرك نبوّتي ، لاتّبعني»(32).

2 ـ أخرج الصنعاني بإسناده عن معمّر، عن الزّهري: أن حفصة زوج النّبيّ جاءت إلى النّبيّ (ص) بكتاب من قصص يوسف (ع) في كتف، فجعلت تقرؤه عليه والنّبيّ (ص) يتلوّن وجهه، فقال: «والذي نفسي بيده ، لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتّبعتموه وتركتموني لضللتم»(33).

فكما أن المواجهة لرسول الله (ص) في حياته تستلزم الكفر والنفاق، فكذلك رفض سنّته الصحيحة بعد رحلته، إذ الراد عليه، رادّ على الله تعالى، وهذا ما أجمع المسلمون عليه، وفي هذا الصدد يقول ابن حزم:

«ولو أن امرىءً قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن، فكان كافراً بإجماع الأُمّة»(34).

إذن هذا المنهج ـ حسبنا كتاب الله ـ يعدّ منهجاً باطلاً، ولا يمكن قبوله مهما كانت درجة الالتزام بالكتاب، بل لو كان الالتزام بالكتاب متحققاً بالفعل، لما رفضوا السُّنّة المطهّرة، ووقفوا بوجهها، لكون الالتزام به يقتضي الالتزام بها، فهو منهج ضالّ في أيّ زمنٍ حصل، ومن أي شخصٍ صدر.

ومن المعاصرين من أشار إلى بطلان هذا المنهج الشيخ القرضاوي، قال: «ومنهم مَن حمل لواء الطعن في حجّيتها ـ السُّنّة ـ ومصدريّتها لتشريع الإسلام وتوجيهه ، وزعموا أنّهم استغنوا بالقرآن الكريم عنها» (35).

فلو كانوا قد التزموا بالكتاب حقّاً وصدقاً، لا لتزموا بالسُّنة أيضاً، لأن الكتاب يدعونا للالتزام بها:

قال تعالى: { مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(36).

وقال تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ}(37).

وقال تعالى: { قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}(38).

فالتراث الحديثی الضخم الذي تركه رسول الله (ص)في صدور أصحابه مِن دون تدوين لم يدوَّن في حياته، لأن قريش منعت من تدوينه في حياة رسول الله (ص) ، فلذلك لا تجد مصدراً مدوّناً لهذا التراث الضخم في عصر الرسالة سوى ما كتبه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) في الجامعة ـ كما سنشير لاحقاً ـ وقد همّ بعض الصحابة بتدوين حديث رسول الله (ص) متنبّهين لخطورة ضياعه ونسيانه من صدورهم، وفقده بفقدهم ، ولكن قريش أبت أن يُكتب ويدوَّن حديث رسول الله (ص)، وفي هذا الصدد أذكر رواية واحدة:

أخرج أبو داود بإسناده عن عبدالله بن عَمْرو، قال: كنت أكتب كُلّ شيء أسمعه من رسول الله (ص)« اُريد حِفْظَهُ ، فنهتني قُريش ، وقالوا: أتكتب كلّ شيء تَسمَعُهُ، ورسول الله (ص) بشر يتكلّم في الغضب والرضى؟ قال: فأمسكت عن كتاب، فذكرت ذلك إلى رسول الله (ص) فأومأ بإصبعه إلى فيه، فقال: «اكُتُب فَوَ الّذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حقّ»(39).

فلمّا كانت قريش قد منعت من تدوين حديث رسول الله (ص) في حياته الشريفة، فما بالك بعد رحلته عن الدنيا؟، فقد اتّسع الحال وصدرت العقوبات على مَن يدوّن حديث رسول الله (ص)، أو يتعاطاه ، بل حتّى مَن يستشهد به أمام الملأ ! وأكثر من ذلك إذ تمّ جمع ما لدى الصحابة من أحاديث للمصطفى (ص) ظنّاً منهم أنّها ستُجمع في قرطاس ضخم، ولكن ما حدث كان الصدمة الكبرى، والخسارة الفادحة، إذ اُلقي حديث المصطفى في نار كانت شبيهة بنار نمرود، فأحرقت ما كُتب عن المصطفى (ص)، ولكن لم يستطيعوا أن يحرقوها من الصدور، أو يمحوها من العقول... وكان لأهل البيت (ع) الدور الكبير في حفظ تلك الأحاديث ، وتدوينها والاهتمام بها. ولكن قبل أن أذكر لك ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى روايات الرقابة والمنع عن التدوين، لتكون على بيّنة من الأمر، وإليك بعض هذه الروايات من مصادر أهل السُّنة فحسب:

 

الرواية الأُولى: أحاديث في فضائل أهل البيت (ع) تُمحى:

عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه، قال: جاء علقمة بكتاب من مكّة أو اليمن، صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت: بيت النّبيّ (ص) فاستأذنّا على عبدالله بن مسعود، فدخلنا عليه، قال: فدفعنا إليه صحيفة، قال: فدعا الجارية، ثم دعا بطست فيه ماء، فقلنا له يا أبا عبدالرحمن ، اُنظر فإن فيها أحاديث حساناً، قال فجعل يميثها ـ أي يذيبها في الماء ـ فيها، ويقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ}(40)، «القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بما سواه (41)» إنتهى.

 

الرواية الثانية: أبو بكر يحرق أحاديث النبي (ص):

روى الذهبي: «أن الصدّيق ـ أبا بكر ـ جَمَعَ أحاديث النّبيّ (ص) في كتاب فبلغ خمسمائة حديث، ثمّ دعا بنارٍ فأحرقها»(42).

 

الرواية الثالثة: عمر يَجمع أحاديث رسول الله (ص) ثم يحرقها

روى ابن سعد ، عن عبد اله. بن العلاء ، قال: «سألت القاسم بن محمّد بن أبي بكر، أن يملي عَليَّ أحاديث. فقال: إن َالأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب، فأنشد الناس أن يأتوه بها فلمّا أتوه بها أمر بتحريقها، ثمّ قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب. قال: فمنعني القاسم يومئذٍ أن أكتب حديثاً»(43) إنتهى.

 

الراوية الرابعة: عمر يأمر بمحو سُنّة رسول الله (ص):

أخرج الخطيب البغدادي بإسناده عن يحيى بن جعدة، أن عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السُّنّة ، ثمّ بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب في الأمصار: «مَن كان عنده منها ـ أي السُّنّة ـ شيء فليمحه»(44).

هذا وقد عقد الخطيب البغدادي باباً تحت عنوان: عمر يعدل عن كتب السنن، ويحرق الكتب لذلك(45).

 

الرواية الخامسة: عمر يخالف الصحابة ويأمر بمحو حديث النّبيّ (ص):

روى حافظ المغرب، ابن عبد البرّ، بإسناده عن عروة بن الزبير، أن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، أراد أن يكتب السُّنن ، فاستغنى أصحاب النّبيّ (ص) في ذلك، فأشاروا عليه بأن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً، ثمّ أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: «إنّي كنت اُريد أن أكتب السُّنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها، وتركوا كتاب الله، وإنّي والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً»(46) إنتهى.

أقول: بعد هذه الإطلالة الموجزة، أعود لِأسأل مرّة اُخرى: مَن الذي جمع التراث الحديثي الضخم لرسول الله (ص) بعد رحلته عن الدنيا؟

صحيح أنّه قد صدرت الموافقة على تدوينه في زمن عمر بن عبدالعزيز ولكن ذاك كان في عام (99 هـ ) وما حصل من تدوين بالفعل فبعد عام (134 هـ ).

فإذا لم يكن قد دوّن في حياته (ص) إلا النزر اليسير ، ولم يفسح المجال لتدوينه بعد وفاته (ص) ، بل لم يسمح بتداوله بين المسلمين في عصور الخلفاء الثلاثة ، بل قاموا بجمع ما لدى الصحابة من قراطيس لحديث رسول الله (ص) فأحرقوها ـ كما عرفت ـ فمَن الذي حفظ تراث محمّد (ص)؟

لا شكّ أن أهل البيت (ع) هم الذين قاموا بحفظ هذا التراث الحديثي الضخم، وأخذوا يتداولونه ويتدارسونه، ويعقدون الندوات والمحافل العلمية والحلقات الدرسية في مسجد رسول الله (ص) وفي أماكن متعددة لينشروا تلك المعارف النبوية بين المسلمين، فقد كانت لدى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) «الجامعة» « وهی مجموعة أحاديث وروايات، ووقائع أملاها رسول الله (ص) على عليّ فكتبها عليّ (ع) بخط يده، وأخذ الأئمّة من أهل البيت (ع) يتداولونها

ـ كابرٍ عن كابرٍ ـ محتفظين بها حُبّاً لرسول الله (ص) وسنّته الشريفة، ووفاءً بوصيته المباركة بشأن حفظ سنّته، فحفظت لديهم السُّنة الشريفة، وتوارثوا تلك «الجامعة» وکثيراً ما كان يستشهد بها الأئمّة (ع) ويشيرون إليها. فهذا الإمام الباقر (ع) كان يقول لبعض أصحابه:

«يا جابر إنّا لو كُنّا نحدّثكم برأينا وهوانا لكُنّا من الهالكين ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (ص) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم»(47) ومن ضمنها ما في صحيفة عليّ (ع) وهي صحيفة كبيرة قد أشار إليها الإمام الباقر (ع) وعرّفها لأحد أصحابه، وهو «حمران بن أعين»، جاء ذلك ضمن إشارته إلى بيت كبير، قائلاً:

«يا حمران إن في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخطّ عليّ (ع) وإملاء رسول الله (ص) لو ولينا الناس لحكمنا بما أنزل الله، لم نعدُ ما في هذه الصحيفة»(48).

کما أن هذه الصحيفة تضمّنت كلّ ما يحتاجه الناس من أحكام وتشريعات وقد كشف الإمام الصادق (ع) النّقاب عن ذلك، كما جاء في رواية «محمّد بن عبدالملك»، قال:

كنّا عند أبي عبدالله (ع) نحواً من ستّين رجلاً قال: فسمعته يقول:

«عندنا والله صحيفة طولها سبعون ذراعاً، ما خلق الله من حلال أو حرامٍ إلا وهو فيها حتّى أن فيها أرش الخدس»(49).

وأمّا قصّة جامعة عليّ (ع) فقد ذكرها الكثير من كبار علماء السُّنة، ومحدّثيهم وحفّاظهم من أصحاب الصحاح، والسُّنن، والمسانيد ، وأشاروا إليها وأنّها من لدن رسول الله (ص) باختصار تارة، وبتفصيل تارة اُخرى، ضمن بيانات متّفقة ومتفاوتة، وألفاظ متعدّدة ، لا مجال لاستطرادها ، وإنّما اُشير إلى مصادرها(50)، فلاحظ.

وهكذا كان أمير المؤمنين عليّ (ع) يحافظ على سُنّة رسول الله (ص) وأحاديثه الشريفة، وكان يمليها عن تلامذته كأمثال مولى رسول الله (ص) أبي رافع، بل كان عليّ (ع) يسير في أزقّة المدينة وينادي: «مَن يشتري علماً بدرهم» بمعنى مَن يريد أن يتعلّم فليأتني بقرطاس بدرهم لأملي عليه من سُنّة رسول الله (ص)، وكذلك دأب أئمّة أهل البيت (ع) في حفظ التراث النبوي الضخم من دون أن يُفرّط به، ولذا كانت الموسوعات الحديثية قد دوّنت في عهد الإمام الباقر (ع) والإمام الصادق (ع) والإمام الرضا (ع) وبقيّة أئمّة أهل البيت (ع).

وختاماً، لكي تتجلّى الصورة بشأن تفاني أهل البيت (ع) في المحافظة على مصدري التشريع للإسلام، وهما كتاب الله وسُنّة رسوله، وذلك عندما تعرف مَن فرّط في ذلك، ولم يعبأ بهما، ولم يهتمّ برعايتهما، ومن المناسب أن استشهد بما رشَح عن أمير المؤمنين (ع) مُوعظاً به الناس، فقال (ع):

«ـ أيّها الناس ـ واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرُّشد حتّى تِعرفُوا الذي تركه، ولن تأخذُوا بميثاق الكتاب حتّى تَعرِفُوا الذي نَقَضَه، ولن تَمسَّكوا، به حتّى تَعْرِفُوا الذي نبذه؛ فالتمسوا ذلك من عند أهلِهِ، فإنّهم عَيشُ العِلْمِ، وموتُ الجهل. هم الذين يُخبِرُكُمُ حُكْمَهُم عن علمهم، وصمتُهُم عن منطِقِهم، وظَاهِرُهم عن باطِنِهم؛ لا يُخالِفُونَ الدين ولا يختلفون فيه؛ فهو بينهم شاهدٌ صادقٌ، وصامتٌ ناطق»(51).

 

المورد الثالث: رعاية الكيان السياسي للأُمّة الإسلامية

إن التجربة الإسلامية التي وضع لبناتها الأُولى رسول الله (ص) ، ورعاها بنفسه، وسهر على إنجاحها، وتفانى من أجلها، آزره في ذلك أهل بيته الأطهار، وأصحابه الميامين. هذه التجربة تربّص بها الأعداء من المشركين، واليهود، والمنافقين، فلذلك كانوا ينتظرون موت النّبيّ (ص) لإجهاض هذه الرسالة، قال تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}(52).

هذه الرسالة التي قد أبهرت الجميع بحضاريتها الإنسانية الرائعة، وبالأساليب والممارسات الأخلاقية الفريدة التي تجلّت في سلوك خاتم الأنبياء والمرسلين (ص)، فلا يمكن لها أن تتلاشى بمجرد ارتحال رسول الله (ص) عن الدنيا، فبعد كلّ الجهود المضنية، والتضحيات الجسام، لابدّ لها من الدوام والاستمرار، فيا ترى مَن الذي رعى هذه التجربة؟ ومَن الذي ساهم في حفظ كيانها السياسي؟

لاشكّ أن الصدمة الكبرى قد مُني بها المجتمع الإسلامي برحلة النّبيّ (ص) عن دار الدنيا، ممّا أحدثت ارتجاحاً، وتصدّعاً، وارتداداً في نفوس الكثيرين، والفراغ الكبير الذي تركه رسول الله (ص)، فلا يمكن استيعاب تلك الصدمة بسهولة أبداً، ولا يمكن للصحابة مجتمعين أن يملأوا الفراغ الكبير الذي خلّفه رسول الله (ص) .

فمن هنا يتبلور جليّاً دور أمير المؤمنين (ع) وأهل البيت في رعاية هذا الكيان وحفظه.

قال رسول الله (ص) لعليّ (ع): «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي»(53).

فرغم محاولات ومساعي القوم بإقصاء أهل البيت (ع) عن المسرح السياسي وقيادة الدولة، إلا أنّه لم يكن هذا الأمر ليعيقهم عن مواصلة رعايتهم للتجربة الإسلامية، وحفظها، وصيانتها على الدوام، بل إن ذلك كان أصلاً أسياسيّاً تبانوا عليه، مؤثرين على أنفسهم ومصالحهم، ولو كان بهم خصاصة، فهذا عليّ (ع) يقول في نهج البلاغة: «لقد عَلَمْتُم أنّي أحقُّ الناس بها من غيري، ووالله لأُسْلِمَنَّ ما سَلِمَتْ اُمورُ المسلمينَ، ولم يَكُنْ فيها جورٌ إلا عَلَيَّ خاصّة، التماساً لأجرِ ذلك وفَضْلِهُ، وَزُهداً فيما تنافِستُمُوهُ مِن زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ»(54).

ولذلك نجد أئمّة أهل البيت (ع) في الأدوار المختلفة، والظروف غير المتشابهة التي مرّوا بها، قد اتّفقت كلمتهم على حفظ الكيان السياسي للأُمة والدفاع عنه جرّاء الأخطار الخارجية التي تتهدّده، أو الانحرافات الداخلية الخطيرة التي تنتابه؛ فلذا كانوا هم المفزع الذي تفزع الأُمة إليهم، ولكي تتجلّى لك الصورة وتتوضّح هذه السياسة الكبرى لدى أهل البيت (ع)، أذكرها ضمن النقاط التالية:

1 ـ الموازنة بين المصالح والأولويات:

أن يكون الحراك السياسي قائماً على أساس موازنة المصالح العليا للإسلام، والأُمة الإسلامية، وتقديمها على المصالح الخاصّة في ترتيب الأولويات، لأن مصلحة الكيان السياسي للأُمة الإسلامية مقدّم على المصالح والمنافع الخاصّة، مهما كانت هذه المصالح نافعة، هذا هو الخط السياسي الذي اعتمده أهل البيت (ع) في موازنة المصالح والأولويات.

وفي هذا الصدد يقول الشهيد السيد محمّد باقر الصدر+: «كان الأئمّة (ع) يحافظون على المقياس العقائدي والرسالي في المجتمع الإسلامي، ويحرصون على أن لا يهبط إلى درجة تشكّل خطراً ماحقاً، وهذا يعني ممارستهم جميعاً دوراً ايجابياً فعّالاً في حماية العقيدة ، وتبنّي مصالح الرسالة والأُمة.

تمثّل هذا الدور الإيجابي في إيقاف الحاكم عن المزيد من الانحراف كما عبّر الإمام عليّ (ع) حين صعد عمر بن الخطّاب المنبر وتساءل عن ردّ الفعل لو صُرف الناس عمّا يعرفون إلى ما ينكرون، فردّ عليه الإمام (ع) بكل وضوحٍ وصراحة: «إذن لقوّمناك بسيوفنا»(55).

وقد أوضح أمير المؤمنين (ع) الصورة جليّاً، التي ربّما التبست على كثيرين، فكشف النقاب عن واقع تلك الأحداث المريرة التي مرّ بها أهل البيت (ع) من جهة، وعن سياسة أهل البيت (ع) المتّزنة والملتزمة بتقديم هذا الأصل ألا وهو حفظ الكيان السياسي للأُمة الإسلامية ، فقال ما نصّه:

«فَوَالله ما كان يُلقى في رُوعِي، ولا يَخْطُرُ ببالي، أن العَرَبَ تُزْعِجُ هذا الأمرَ من بعده

ـ (ص) ـ عن أهلِ بَيْتِهِ، ولا أنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنّي مِن بَعدِهِ! فما رَاعَني إلا انْثِيال النّاسِ على فُلانٍ يُبايعونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يدي حتّى رأيتُ راجعةَ الناس، قَد رَجَعَتْ عن الإسلام، يدعُون إلى محق دينِ مُحمّدٍ (ص) فخشيت إن لم أنصُرِ الإسلامَ وأهلَهُ أن أرَى فيه ثلْماً أو هدماً، تكونُ المُصِيبَة به عَلَيَّ أعظَمَ مِن فَوْتِ وِلايَتِكُمُ التي إنّما هي مَتَاعُ أيّامٍ قَلائِلَ ، يَزُولُ مِنها ما كان، كما يزُولُ السَّرابُ، أو كما يَتَقَشَّعُ السَّحابُ، فَنَهضْتُ في تلك الأحداث حتّى زاحَ الباطِلُ وزَهَقَ، واطمأن الدينُ وَتَنَهْنَهُ»(56).

 

2 ـ حفظ وحدة المجتمع الإسلامي

الحفاظ على البنية الاساسية للمجتمع الإسلامي، ومراعاة الروابط الاجتماعية التي يجب أن تتوفّر لدى المسلمين ، لتحقيق مجتمع منسجم تسوده حالات التلاحم بين أبنائه، حفظاً للكيان السياسي للأُمة الإسلامية. لأن شرخ التفرّق إذا ما حدث و استشرى معنى ذلك أنه يفسح المجال ويفتح باب التصدّع للكيان الإسلامي، ولذا وجدنا أمير المؤمنين (ع) احتفظ بالقرآن الذي جمعه حينما

ردّه القوم، رغم ما توفّر فيه على علوم قرآنية قيّمة، رغبة منه (ع) في حفظ وحدة المسلمين، ولعلّ أبرز مصداق يوضح السياسة الكبرى لأهل البيت (ع) حينما اُقصوا عن المسرح السياسي، ودفة الخلافة، بعد رحلة رسول الله (ص) ، فكيف تعامل أمير المؤمنين (ع) مع تلك الأحداث؟ وكيف جمع عليّ (ع) بين بيان حقّه في الخلافة من جهة، وحفظ كيان المجتمع الإسلامي من جهة اُخرى؟

حينما تناهت الأنبياء إلى أبي سفيان بإعلان البيعة لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة ، فجاء يشتد إلى بيت رسول الله (ص) صارخاً:

يا بني هاشم، ويا بني عبد مناف: أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل...

أما والله لو شئتم لأملأنّها عليهم خيلاً ورجالاً. فناداه أمير المؤمنين عليّ (ع) : «ارجع يا أبا سفيان فوالله ما تريد الله بما تقول، ومازلت تكيد الإسلام وأهله، ونحن مشاغيل برسول الله، وعلى كل امرىءٍ ما اكتسب، وهو ولي ما احتقب».

وكان هذا الردّ خليقاً بعليّ (ع)، فلم يغب عن ذاكرته كيد أبي سفيان للإسلام، ولم ينس حقده على جماعة المسلمين، ولم يكن عليّ (ع) لينخدع بهذه الأساليب النفاقيّة من أصحاب الكيد والمطامع، فلذا جَبَهه بهذا الموقف الواضح.

ولكن أبا سفيان يستعيد قواه، ويلتقط أنفاسه ليقول:

«يا أبا الحسن: هذا محمّد (ص) قد مضى إلى ربّه، وهذا تراثه لِمَ يخرج عنكم؟ فابسط يدك اُبايعك فإنّك لها أهلٌ».

وربّما قبل عمّ النّبيّ (ص) ـ العبّاس ـ الأمر، ورآها فرصته ، فتوجّه إلى عليّ (ع): «يا ابن أخي... هذا شيخ قريش قد أقبل فامدد يدك اُبايعك ويُبايعك معي، فإنّا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف، وإذا بايعك عبد مناف لم تختلف عليك قريش، وإذا بايعتك قريش لم يختلف عليك بعدها أحد من العرب».

ويصرّ عليّ (ع) على موقفه... فيقول: «لا والله يا عمّ... فإنّي أحبّ أن أصحر بها، وأكره أن اُبايع من وراء رتاج(57)»(58).

3 ـ التصدّي للانحراف بأغلى التضحيات حفاظاً على العقيدة:

حينما يدبّ الانحراف في صفوف الأُمة الإسلامية، وينذر الخطر بعقيدتها مستهدفاً اُصول العقيدة، ومتجاوزاً كلّ القيم الرسالية، فلا مجال لأهل البيت (ع) إلا بالتدخّل الواضح والعلني والمباشر من أجل صدّ الانحراف وإيقافه عند حدوده حفاظاً على الكيان السياسي الرسالي للإسلام. وقد تمثّل هذا الموقف في تعرية الزعامة المنحرفة ، حينما أصبحت تشكّل خطراً ماحقاً على الأُمة الإسلامية ، فتمّ التصدّي لهذا الانحراف وكشف القناع الذي تلبّس به الحاكم، فلذا وقف الإمام الحسين بن عليّ (ع) صارخاً بكل جرأة وشجاعة فقال: «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي رسول الله (ص) اُريد أن آمر بالمعروف وانهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي رسول الله (ص) فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ...»، وحينما يتوقّف حفظ الكيان العقيدي للأُمّة على التضحية ولو عن طريق الاصطدام المسلّح بها والشهادة في سبيل صد الانحراف وكشف زيف السلطة وشل تخطيطها ينبري أهل البيت (ع) لايقاف الاعوجاج ولو ببذل مزيدٍ من الدماء والتضحية بالغالي والنفيس من أجل الهدف المقدّس الأسمى، كما صنع الإمام الحسين بن عليّ (ع) حينما تصدّى للانحراف، فضحّى بنفسه وأهل بيته وأصحابه من أجل إعلاء كلمة الإسلام العليا، والتصدّي للانحراف، والوقوف بوجه الظلم والاستبداد الأُموي.

4 ـ دعوة المجتمع لتبنّي موقف أهل البيت (ع) بشأن الدفاع عن الكيان السياسي للإسلام :

إن أهل البيت (ع) لديهم الرؤية الثاقبة ، والموقف الشرعي الدقيق، وفي ضوء ذلك تتحدّد مواقفهم السياسية اتّجاه الوضع القائم، بشأن التغيير والثورة ، أو الكفاح المسلّح، أو الإصلاح... ، فلا مجال للاستجابة للنداءات التي يطلقها أدعياء الإصلاح أو التغيير للأوضاع السياسية أو الاجتماعية، إلا بعد أن يأخذوا عن أهل البيت (ع) الموقف اتّجاه ذلك بشكل مركزي ومباشر، أو أن يكون التحرك السياسي بمشورة منهم، لتفادي كلّ التبعات السلبية المترتبة على ذلك التحرّك .

من هنا نجد أن الإمام الصادق (ع) حينما جاءه رسول أبي سلمة الخلّال يحمل رسالة منه، يطلب فيها من الإمام تبنّي دعوات التغيير والإصلاح، والنهوض بوجه النظام الأُموي، ويدعوهٌ فيه للخلافة. ولكن يا ترى ماذا كان موقف الإمام الصادق (ع)؟

وضع الرسالة على السراج حتّى احترقت، وحينما طالبه الرسول بالجواب، قال (ع): «قد رأيت الجواب».

وحينما جاءه عبدالله المحض زعيم الحسنيين فرحاً يخبره بقصة الرسالة، حيث قد وصلته نظيرها، فأخبره الإمام (ع) بالموقف، فأخذ يتساءل مستغرباً، فأجابه الإمام (ع) بجوابٍ كاشفاً له حقيقة ما إنطوت عليه هذه الدعوات(59).

ولكننا نجد الموقف مختلفاً تماماً، حينما وصلت رسل الكوفيين ورسائلهم إلى الإمام الحسين (ع) يحثّونه على القدوم إليهم، والنهوض بهم ضد الحكم الأُموي، نجد أن الإمام الحسين استجاب لطلبهم في التوجّه إلى الكوفة دون غيرها من البلاد. وهذا يعني أن التحرك الجهادي كان من أجل الحفاظ على الكيان الإسلامي بسبب ما حصل فيه من انحراف فأصبح يشكّل خطراً كبيراً وفادحاً على دوام الرسالة وبقائها، بخلاف ظرف الإمام الصادق (ع).

ولذا أشار الإمام أمير المؤمنين (ع) إلى قاعدة رصينة تعتبر هي الأساس في استيضاح الموقف السياسي والجهادي والكفاحي اتّجاه الحكّام الظلمة، حسب رواية زر بن حبيش ، حيث قال:

«خطب عليّ (ع) بالنهروان ـ إلى أن قال ـ : فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين حدّثنا عن الفتن، فقال: إن الفتنة إذا أقبلت شبّهت ، ثم ذكر الفتن بعده إلى أن قال. فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما نصنع في ذلك الزمان؟

قال (ع): «انظروا أهل بيت نبيّكم فإن لبدوا فالبدوا، وإن استصرخوكم فانصروهم تؤجروا، ولا تستبقوهم فتصرعكم البلية».

ثمّ ذكر حصول الفَرَج بخروج صاحب الأمر (ع)»(60) انتهى.

والنصوص في هذا المورد كثيرة جدّاً لا مجال لاستعراضها، اكتفينا بهذا النص فحسب، فأهل البيت (ع) في مثل هذه النصوص يتحدّثون عن قضايا خارجية، وتحديد الموقف السياسي الفعلي اتّجاهها، من دون التأثّر بالدعوات العاطفية، والمواقف المرتجلة ولو لبعض القادة المحسوبين على مدرسة أهل البيت (ع).

وموقف آخر متميّز جدّاً، صدر من الإمام زين العابدين (ع) ، فرغم ما به جراح، وما ألّمت به من مصائب جرّاء السياسات الأُموية الظالمة، نجده يهبّ لنجدة الكيان السياسي للدولة الإسلامية حينما تعرّضت لتحدّي الكافرين، وتهديد سيادتها، وذلك حينما واجه الحاكم الأُموي عبدالملك بن مروان التحدّي من قبل ملك الروم بشأن النقد الذي كان يُضرب في بلاد الروم، وعجز الجهاز الحاكم عن إيجاد الحلّ والردّ عليه، فاستنجد بالإمام زين العابدين (ع) وكان عنده الحلّ الناجع، فأسرع بإرسال ولده الإمام الباقر (ع) إلى الشام ليوضّح لهم منهج الخلاص من ذلك المأزق، فكانت الغلبة فيه للمسلمين بعد ذلك.

وهكذا دأب أهل البيت (ع) في رعايتهم للكيان السياسي للأُمة الإسلامية بقطع النظر عمّن هو الحاكم لأن الهدف هو إعلاء كلمة الله تعالى واستمرارية بقاء الرسالة المحمّدية الخاتمة.

 

المورد الرابع: مسؤوليتهم الرسالية في بناء الأجيال الواعية

لقد تحمَل أهل البيت (ع) هذه المسؤولية بجدارة فائقة، وجسّدوا مفرداتها بحذافيرها، غير عابهين إلى ضغط الطواغيت ، وتصاعد رهج الاستبداد هنا وهناك ، لأن ما يهمهم هو بناء الاُمّة الصالحة التي تتحلّى بالوعي الرسالي، وتتحمّل مسؤولية الدعوة إلى الله تعالى عندئذٍ ، وتأخذ على عاتقها نشر العلوم المعرفية للرسالة الإسلامية.

فهم الذين قد زُقّوا العلم زقاً لا يضاهيهم فيه أحد، وثنيت لهم الوسادة في تبوّء القمم العلمية السامية، فأضحت مرجعيتهم العلمية أبين من الشمس في رائعة النهار، إذ لم تكن مرجعيتهم العلمية حالة طارئة على الأُمة في برهة من الزمن، بحيث تفقد بريقها وعمقها وأثرها العلمي وبُعدها الديني في الواقع الإسلامي بمجرد رحيلها ، كما هي الأحكام الطارئة، وإنّما هي واقع حياتي ثابت ومستمر ومتجدّد حسب ما يتجدّد للمجتمع من حاجات ونتاجٍ علمي، فهي تفيض بظلالها العلمية، والدينية، والفكرية على الدوام، طبقاً لمعطيات الشريعة المحمّدية الغرّاء، ومن هنا اُلزمت الأُمّة التمسّك بهم، لتنجو من الضلال وتعيش الهداية بكلّ أبعادها ومعطياتها. وفي هذا الصدد يقول الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر:

«إن المرجعية الفكرية ـ لأهل البيت (ع) ـ حقيقة ثابتة مطلقة لا تتقيّد بزمن حياة الإمام، ومن هنا كان لها مدلولها العلمي الحيّ في كلّ وقت، فمادام المسلمون بحاجة إلى فهمٍ مُحدّدٍ للإسلام، وتعرّف على أحكامه وحلاله وحرامه ومفاهيمه وقيمه، فَهُمْ بحاجةٍ إلى المرجعية الفكرية المحدّدة ربّانياً المتمثّلة أوّلاً: في كتاب الله تعالى، وثانياً: في سنّة رسول الله (ص) والعترة المعصومة من أهل البيت (ع) التي لا تفترق ولن تفترق عن الكتاب كما نصّ الرسول الأعظم (ص)»(61) انتهى.

لِمَ لا يكونوا كذلك؟! وقد اعترف القاصي والداني بسعة علومهم وتنوّعها وأصالتها، فهذا أمير المؤمنين علي (ع) يقول: «علّمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم ينفتح عن كلّ بابٍ ألف باب»(62). وهذا الميدان العلمي الواسع لم يقترب إلى حريمه أحد من الصحابة فضلاً عن ادّعائه ، فلذا تميّز عليّ بهذا الشموخ العلمي من بين أصحاب محمّد (ص)، وقد شهد معاوية بن أبي سفيان بهذا الفضل لعليّ (ع) أيضاً فقال: «کان رسول الله (ص) يغُرّ عليّاً بالعلم غرّاً»(63).

وقد كان النّبيّ (ص) يدّخر عليّاً ليكون مرجعاً للأُمّة من بعده، والمبيّن لهم ما اختلفوا فيه من جهة، ومن جهة اُخرى ما لمسه (ص) من استعداد فائقٍ لعليٍّ (ع) في التضحية والتفاني للرسالة، وعمقه العلمي، وإدراكه الواسع في فهم المسائل القضائية وغيرها، حتّى قال له رسول الله (ص):

«ليهنئك العلم يا أبا الحسن لقد شربت العلم ونهلته نهلاً»(64).

لقد صنع رسول الله (ص) شخصية عليٍّ (ع) بيده المباركة ، وصاغ معدنها صياغة جوهرية نفيسة منذ فجر الصبا، وبنى لبناتها لبنةً لبنة، و شيّد أركانها في ضوء معطيات السماء فغرس فيه شجرة الإمامة، وراح يداوم على رعايتها، ساهراً عليها، حادباً على الاهتمام بها، فلذا سقاها بالرحيق النبوي المفعم بالروح الأحديّة، لتنمو شجرة الإمامة في عليٍّ (ع) باسقة شاهقة زاهية تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها، فلذا تفرّعت وتبرعمت أغصانها القوية في إمامة الأئمّة من بعده.

وقد تجسّدت العدالة الإنسانية في عليّ (ع) بأجلى صورها فلم يعد مَن يستطيع أن يفرَق بين العدل وبينه (ع)، فكان هو العدل، والعدل هو عليٌّ ، وذلك ما سمعناه عن رسول الله (ص) حيث قال: «عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ ولن يتفرّقا حتّى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة»(65) ، كما بيّن النّبيّ (ص) سعة علوم أهل البيت (ع) فجاء في كلامه الشريف في ضمن حديث الثقلين : «... فلا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم»(66).

وقد عكس الجدّ الأكبر رسول الله (ص) والأب الأفقه أمير المؤمنين (ع) في ولديهما الحسن والحسين‘ خلاصة العلوم الربّانية ، فتمتّعا بالنبوغ العلمي منذ نعومة أظفارهما، والحديث عن ذلك يعد من نافلة القول لا محالة. وقد شهد الصحابة بذلك، فهذا الصحابي أنس بن مالك يشير إلى علمية الإمام الحسن (ع) وقوّة حفظه، فيقول: «سلوا مولانا الحسن فإنّه سمع وسمعنا وحفظ ونسينا»(67).

وهذا الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) انبهرت به العقول لسعة علومه وتنوّعها وتبحّره فيها، فأشاد بعلومه العلماء والفقهاء، ونُقل عنه من العلوم ما لم ينقل عن أحدٍ من الأئمّة والعلماء، قال ابن حجر : «نقل النّاس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان» (68).

فتلمّذ عليه أئمّة المذاهب إما بالمباشرة أو بصورة غير مباشرة فهذا الإمام مالك بن أنس إمام المذهب المالكي يقول:

«ما رأت عين ولا سمعت اُذن و لاخطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمّد الصادق علماً وعبادة وورعاً» (69).

ولا يسعني الإسهاب في هذا المقام، لأن المقالة مختصرة، وقد حان الوقت لبيان الأساليب التي اتّبعها أهل البيت (ع) بشأن تحمّل مسؤولية توعية وبناء الجماعة الصالحة، وإليك بعض هذه الأساليب.

أوّلاً: تحدّي قوانين المنع من أجل التوعية الدينية

لقد أخذ أهل البيت (ع) على عاتقهم توعية أجيال الأُمّة، وتربيتهم وفق المنهج الرسالي الإسلامي، متفانين في ذلك، لا تأخذهم في الله لومة لائم، فمهما كانت الظروف، ومهما تجاوز الحكّام بأحكامهم الجائرة، نجد أهل البيت (ع)، لا يتخلَفون عن هذه المسؤولية قيد أنملة، فعلى سبيل المثال، بعد استشهاد رسول الله (ص) وارتحاله عن الدنيا، قد صدر المنع من تداول سُنّته (ص)، فكان أمير المؤمنين (ع) قد تحدّى هذا المنع، وأخذ يسير في أزقّة المدينة المنوّرة، وينادي: «مَن يشتري علماً بدرهم» فلم يتنازل عن مسؤوليته الشرعية اتّجاه أبناء الأُمّة، بدعوى المنع والتحذير ، فأملى الكثير من سُنّة رسول الله (ص) ومن تفسير القرآن لمن رغب في التلمّذ عليه.

وهذا نهج اتّبعه الأئمّة (ع) ولو في أحلك الظروف، فهذا الإمام زين العابدين (ع) بعد واقعة كربلاء مباشرة، وفي مسجد دمشق، وفي ذلك المحفل الذي احتشدوا فيه ليتفرّجوا على سبايا رسول الله (ص)، وقف بكلّ جرأة وشجاعة مخاطباً يزيد بن معاوية وجهازه الحاكم، وهم في عنفوانهم وتعنّتهم وغطرستهم كاشفاً الزيف الذي طالماً سعى إليه الأُمويّون، ليطلوه على أهل الشام. فقال (ع) عندما أذّن المؤذن وهو يقول: «أشهد أن محمّداً رسول الله»: يا يزيد محمّد هذا جدّك أم جدّي؟

فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت!

وإن قلت أنّه جدّي فَلِمَ قتلت عترته وسبيت ذريّته؟!

 

ثانياً: إقامة المدارس العلمية في الحواضر الإسلامية:

لقد انبرى أئمّة الهدى من أهل البيت (ع) بإقامة وتأسيس وتشييد المدارس العلمية في التفسير، وعلوم القرآن، ودراية الحديث، وشرح السيرة النبويّة... في مسجد النّبّي (ص) ، وفي مسجد الكوفة، ومناطق اُخرى....

(فكان الإمام الحسن (ع) يجلس في مسجد رسول الله (ص) ويجتمع الناس حوله، فيتكلّم بما يشفي غليل السائلين، ويقطع حجج المجادلين) (70).

وقال الحافظ ابن كثير: «كان الحسن إذا صلّى الغداة في مسجد رسول الله (ص) يجلس في مصلّاه يذكر الله حتّى ترتفع الشمس ويجلس إليه مَن يجلس من سادات الناس يتحدّثون عنده»(71).

وأمّا الإمام زين العابدين (ع) فقد أصّل حركة الاجتهاد في مدرسته العلمية، وعقد حلقات البحث والدرس في مسجد رسول الله (ص) يحدّث الناس بصنوف المعارف الإسلامية، ولقد أدّت مدرسته العلمية دورها الكبير في دفع الخطر الوافد على الأُمّة نتيجة انفتاح المسلمين على ثقافات متنوعة، وأوضاع اجتماعية مختلفة جرّاء التوسّع في الفتوحات الإسلامية.

لقد ترك الإمام زين العابدين (ع) تراثاً فكرياً، وتربوياً، وروحياً ضخماً للأُمة الإسلامية، يعالج أزماتها، ويرتقي بها إلى القمم الإنسانية العالية، وذروة الكمال، لتعيش سموّ الروح، ونقاء الفكر، وصفاء النفس، لتنبت فيها بذور الخير بكلّ معانيه، فتنمو فيها القيم الإنسانية، وتتعاظم فيها مُثُل الإسلام العليا، لتبنّي صرح مجدها عالياً زاهراً زاخراً بكلِّ معاني الخير، والحبّ ، والعدالة، والوعي، والإيمان(72).

وأمّا الإمام محمّد بن عليّ الباقر (ع) فقد تفتّقت عبقريته العلمية علوماً جمّة.

فقد تلمّذ على يديه الكثير، وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة، ووجوه التابعين، ورؤساء فقهاء المسلمين، وصار ـ بالفضل به ـ عَلَماً لأهله تُضرب به الأمثال وتسير إليه قوافل العلماء بخوض اللّجج وسفك المهج من أجل أن يظفروا بنعيم معارفه الحقّة، فتصاغر بين يديه أكابر علماء عصره إذعاناً منهم بأعلميته وعظم مرجعيّته، فهذا «عبدالله بن عطاء» يقول:

«ما رأيت العلماء عند أحدٍ أصغر علماً منهم عند أبي جعفر محمّد بن عليّ لتواضعهم له، ومعرفتهم بحقّه، وعلمه واقتباسهم منه، ولقد رأيت الحكم بن عُتَيْبَة(73) على جلالته وسنّه، وهو بين يديه يتعلّم منه، ويأخذ عنه كالصبي بين يدي المتعلّم»(74).

وقال ابن زهرة: «فعليّ زين العابدين كان إمام المدينة نبلاً وعلماً، وكان ابنه محمّد الباقر وريثه في إمامة العلم ، ونبل الهداية..

فكان مقصد العلماء من كلّ بلاد العالم الإسلامي ، وما زار أحد المدينة إلا عرّج على بيت محمّد الباقر يأخذ عنه، وكان يقصده أئمة الفقه الإسلامي كسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وأبي حنيفة شيخ فقهاء العراق، وكان يرشد مَن يجيء إليه»(75).

ولقد روي عنه الكثير من الأحاديث ، فقد روى عنه أحد تلامذته «جابر بن يزيد الجعفي» ما يقرب من عشرة آلاف مسألة (000/10) كما ذكر ذلك الذهبي بروايته عن ابن شريك(76).

وأمّا الإمام الصادق (ع) فقد تشعبّت علومه وتنوّعت ، وقد ثنيت له الوسادة في نشر علوم آل محمّد (ص) ولو أردنا أن نفهرس فضائله العلمية على الأُمة لما استوعبته المجلّدات. فقد ازدهرت المدينة المنوّرة في عصره وزخرت بطلاب العلم ووفود الأقطار الإسلامية، يفدون إليه من كل حدب ينسلون، وانتظمت لديه حلقات الدرس، وكان بيته جامعة إسلامية، يزدحم فيه رجال العلم وحملة الحديث من مختلف الطبقات، وقد تلمّذ على يديه جيش من العلماء والفضلاء بلغ زهاء (4000) أربعة آلاف طالب، يقول الحسن بن عليّ الوشاء: «أدركت في مسجد الكوفة تسعمائة (900) شيخاً كلّ يقول حدّثني جعفر بن محمّد الصادق (ع)»(77)، بمعنى أن كلَّ شيخ كان محدّثاً ويترأ س حلقة علمية وهو يحدّث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع).

كانت مدرسته العلمية تقوم على قاعدة علمية كبرى تتفرّع منها بقية العلوم التي يتلقّاها الطلاب، فربط (ع) ضروب النشاط العلمي في مجمع مدرسته ومنتداها بالتوحيد والإيمان، وجعل من وجوب المعرفة بالله تعالى أصلاً لذلك. وتنوّعت علومه فلم تقتصر على علوم الشريعة فحسب، بل تعدّاها لتشمل الطب، وعلم الفلك، والكيمياء. يقول عارف ثامر:

«إنّه أصبح من الواجب العلمي التحدّث عن الإمام الصادق (ع) كعميد لأوّل مدرسة فكرية ، ورئيس لأوّل مركز لتعليم الفلسفة الباطنية، وموجِد علم الكيمياء الذي تكّلم عنه جابر بن حيّان الصوفي الطرسوسي، ومُخرج العقل الإسلامي من نطاقه المحدد إلى فضاء رحيب تسيطر في أجوائه حرّية الفكر العلمي السليم، القائم على الحقيقة والمنطق والواقع. وناقل أكبر عدد من المخطوطات إلى اللاتينية، فقد جاء أنّه أوّل شخصية ظاهرة اشتغلت في الكيمياء لظهور عدد لا يستهان به من المخطوطات اللاتينية في الكيمياء»(78).

 

ثالثاً : تربية الخواص والمتخصّصين

اهتمّ أهل البيت (ع) بتربية الخواص والحواريين ليكونوا أفذاذاً ، وقادة للأُمة، تقتدي بهم، وتحفّ من حولهم، لنشر المكارم والقيم الإلهية فيكونوا قدوة مجسّدة للتعاليم الإسلامية.

فكان أمير المؤمنين (ع) يصحر بأمثال كميل بن زياد ، وميثم التمار، وحجر بن عدي الكندي، وعمر بن الحمق الخزاعي، ويبثّهم العلوم والأسرار التي ربّما لا يتحمّلها عموم الناس، وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص) : «نحن معاشر الأنبياء اُمرنا أن نحدّث الناس على قدر عقولهم». فكان لهؤلاء الدور الكبير في تثبيت دعائم الإيمان، وأركان الإسلام.

وكان الإمامان الباقر والصادق‘ يدعوان النابهين من تلامذمتهما للتخصّص في بعض فنون العلم وفروعه، فمثلاً كان الباقر (ع) يحثّ أبان بن تغلب على التعمّق في الفقه والافتاء، فكان يخاطبه ويقول:

«اجلس في مسجد المدينة وافتِ الناس فإنّي اُحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك»(79)، وليست هذه الدعوة جزافاً، وإنّما حصلت عبر دروس بليغة في التربية والإعداد والتخصّص، ولذلك ورد عن الإمام الصادق (ع) لمّا أتاه نعيه : «أما والله لقد أوجع قلبي موت أبان»(80).

كما أن الإمام الصادق (ع) كان يدعو هشام بن الحكم لمناظرة المخالفين بمناظرات علمية في مجال الحكمة وعلم الكلام. كما أملى على جابر بن حيان الصوفي الكثير من أسرار الكيمياء، وهكذا بقية أئمّة أهل البيت (ع) .

 

رابعاً: الرعاية والمحاسبة

لقد بلغ اهتمام أئمّة أهل البيت (ع) بتلامذتهم، وبما ينشرونه من معارف وعلوم، بأن كانوا يرعونهم رعاية خاصّة ويوجهون أنظار الناس إليهم، ليعزّزوا من مكانتهم بين الناس، فمثلاً يدخل عبدالعزيز بن المهتدي(81) على الإمام الرضا (ع) فيقول له: إنّي لا ألقاك في كلّ وقت فعن مَّن آخذ معالم ديني؟

فيقول الإمام (ع): «خُذ من يونس بن عبد الرحمن...» (82) وهذا دليل على اعتمادهم البالغ من قدرته الفقهية وما وصل إليه من معارف دينية. إضافة إلى الرعاية المادية وقضاء حوائجهم الدنيوية، ومساعدتهم في ذبّ أخطار الظالمين عنهم.

وأما بشأن المحاسبة، فكانوا يحاسبون رواتهم وتلامذتهم على سلوكهم وتصرفاتهم وما يفتون وما يسلكون من مسالك، ربما تؤدّي إلى ضلالهم وانحرافهم. وكنموذج لذلك: أرسل الإمام زين العابدين (ع) رسالة وعظية وتحذيرية إلى محمّد بن مسلم الزُهري ـ الذي كان تلمّذ عليه ـ حينما انحاز إلى دويلة بني اُمية فأضحى من علماء البلاط الأُموي، وضمّنها تحذيره الشديد عن الانزلاق في مهالك الملوك سعياً وراء الحطام الدنيوي بعد أن ذكر ما عليه من العلم والفضل(83).

وفي مجال المحاسبة في سلوك المسالك الفقهية الخاطئة نجدهم كذلك، فهذا الإمام الباقر (ع) يحاسب إمام الحنفية لاشتهار مسلكه الفقهي بالقياس ، فقد ذكر ابن زهرة هذه المحاسبة التي جرت من قبل الإمام الباقر (ع) لأبي حنيفة في أوّل لقاء له مع الإمام الباقر (ع) فقال له: «أنت الذي حوّلت دين جدّي وأحاديثه بالقياس» (84).

ويستنتج الشيخ ابن زهرة من هذا الواقعة، فيقول:

«ومن هذا الحديث نتبيّن إمامة الباقر (ع) للعلماء، يحاسبهم على من يبدر منهم وكأنّه الرئيس يحاكم مرؤوسيه ليحملهم على الجادة، وهم يقبلون طائعين تلك الرئاسة»(85).

 

خامساً: المناظرات العلمية:

لو اطّلعنا على أخبار الأئمّة (ع) ومناظراتهم العلمية لعلمنا حقائق ووقائع تلك العصور في جوانبها الدينية والحياتية والفكرية، فقد تنوّعت الأفكار والمشارب العلمية وحصل الاختلاط الكبير مع باقي شعوب الأرض وانضمام طوائف من الديانات السابقة ، وشعوب من حضارات اُخرى إلى صفوف المسلمين فقد استهوت مناهج هؤلاء وطرقهم عقول بعض المسلمين فتوغّلوا في تقليدهم وتوسّعوا في مجاراتهم، فكان أن اختل ثبات الرأي وضوابطه المعروفة، وأقحموا أنفسهم في مبهمات عقدية ووجودية، ربّما كان وراء بعضها الحكام من أجل أن ينشغل الناس بها وينقسم المجتمع من حولها ويلهو الناس بها فيصفو لهم سلطانهم.

فلذا برز الأئمة (ع) في خضّم هذا المعترك الفكري والديني والفلسفي وأفحموا الخصوم، فكانوا الروّاد الأوائل في ميدانه، من دون منازع، لذا فزع الناس إليهم وحضروا مناظراتهم العلمية تلك ليتعلّموا وينتهلوا المعارف. فناظروا الملحدين، والمشكّكين، والدهريين، والوجوديين، والمخالفين، والخوارج، والمنافقين، والمشركين وغيرهم ببيانات باهرة، مستندين في ذلك إلى كتاب الله العزيز، والسُّنة الشريفة، وبأدلّة علمية رصينة ، لا يمكن لمن يطّلع على فحواها إلا ويقتنع بأجوبتها واستدلالاتها فأضحت مادة علمية فاخرة، تدعو الأجيال إلى الوعي والمعرفة، ليكونوا على معرفة تامة باُمور دينهم وعقائدهم(86).

وهكذا أضحى أئمّة الهدى (ع) معياراً واضحاً في توعية المسلمين ويقظتهم، ونبذهم للسبات الفكري والاستسلام للتخلّف .

ختاماً؛ نسأل الله تعالى أن يهدينا بهديهم وأن يرشدنا إلى طريقهم الأقوم ..

ومسك الختام ، كلام الإمام، لأنّه إمام الكلام. فيقول الإمام زين العابدين (ع) في الصحيفة السجادية، حيث جاء في دعائه السابع والأربعين:

«رَبِّ صَلِّ على أطائِبِ أهلِ بَيتِهِ الذين اخترتَهُم لأمرِكَ، وَجَعَلْتَهَهم خَزَنَةَ عِلْمِكَ، وَحَفَظَةَ دينِكَ وَخُلفاءكَ في أرضِكَ، وَحُجَجِكَ على عِبادِكَ وَطَهّرْتَهُمْ مِن الرِّجْسِ وَالدَّنَسِ تَطْهيراً بِارادَتِكَ، وَجَعَلْتَهُم الوَسيلَةَ إليكَ وَالمَسْلَكَ إلى جَنَّتِكَ»(87).

هذا النّصّ على إيجازه يتضمّن معانٍ ضخمة، ومفاهيم عميقة، حيث يعطي لأهل البيت (ع) مفهوماً خاصّاً وواسعاً، تتجلّى فيه منزلة أئمة الهدى (ع)، وخصائصهم الرسالية، فلا يشاركهم فيها أحد من المسلمين، ولا يصل إلى دقائقها غيرهم من السابقين، فهذه المميّزات الإلهية المبرمجة فيهم، تجعلهم الأهل في تولّي إدارة شؤون الولاية الإلهية الحقّة، والأحقّ بقيادة الأُمّة، والامتداد الطبيعي للنبوّة الخاتمة في إطار منصب الإمامة، لما لهم من خصائص الكمال والقيم الإنسانية، فالنص يثير بيان أسرار استمرارية جوهر الرسالة بهذا الاستخلاف الواسع الذي لم تجتمع مفرداته الهائلة إلا بتلك الصفوة المختارة الطاهرة من عباده المقرّبين. فَبِهِم تتحقّق الوسيلة إلى الله تعالى، والتزام طريقهم وهديهم يؤدّي بالضرورة إلى جنان الخُلد ونعيمها إن شاء الله تعالى.

هدانا الله تعالى لهذا المسلك وهذا السبيل، إنّه نعم المولى ونعم النصير وهو يتولّى الصالحين، والحمد لله ربّ العالمين.

السيد راضي الحسيني

 

الهوامش

(1) سبأ : 28.

(2) الأنبياء: 107.

(3) الشورى : 23.

(4) التوبة: 33.

(5) الحشر : 7.

(6) المناقب لابن شهر آشوب 2: 51 ، فتح الباري 10: 386، والإتقان ، للسيوطي 1: 181، بحار الأنوار 89: 47/ 7.

(7) العُسُب : جمع عسب، جريدة النخل العريض إذا كشط خوصها. واللّخف: حجارة بيض رقاق، أو صفائح الحجارة. والأديم: الجلد المدبوغ..

(8) انظر التمهيد ، للشيخ هادي معرفة 1: 280 ـ 281.

(9)الاتقان في علوم القرآن 1: 181، مناهل العرفان 1: 240.

(10) التسهيل لعلوم التنزيل 1: 4، نقلاً عن التمهيد 1: 282.

(11) الإتقان في علوم القرآن 1: 183.

(12)الإتقان في علوم القرآن 1: 183.

(13) المصدر السابق.

(14) ولعّله سهو من الراوي أو الناسخ: لأن الصحيح أنّه (ع) أكمل جمع القرآن مدّة ستة أشهر، كان لا يرتدي خلالها إلا للصلاة، انظر المناقب 2: 51، ومن المستبعد جدّاً أن يُجمع المصحف الكريم وهو على ما كان عليه مكتوباً في العُسب واللّخاف، والرقاع، وقطع الأديم... في ثلاثة أيّام.

(15) قال ابن عبّاس: فجمع الله القرآن في قلب عليّ، وجمعه عليّ بعد موت رسول الله (ص) بستّة أشهر، المصدر السابق.

(16) الفهرست ، لابن النديم : 44.

(17) بحار الأنوار 89: 88 / 27.

(18) المناقب، لابن شهر آشوب 2: 51.

(19) كتاب سليم بن قيس: 32.

(20) بحار الأنوار 89: 99، وما يقرب من هذا المعنى انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 257، تاريخ دمشق 42: 398، الاستيعاب 3: 208، مطالب السؤول 1: 125، الصواعق المحرقة 2: 375، الإصابة 4: 267، كفاية الطالب : 207، حلية الأولياء 1: 67.

(21) انظر أسمى المطالب، للصلّابي 1: 55.

(22) انظر سعد السعود، لابن طاووس : 542.

(23) المصاحف، للسجستاني : 22، قال السيوطي، السند صحيح، الإتقان 1: 189، نقلاً عن التمهيد 1: 341 ـ 342.

(24) تفسير الطبري 17: 93، مجمع البيان 9: 218.

(25) بحار الأنوار 89: 88..

(26) الوسائل 4: 821 / ح3.

(27) المناقب 4: 457 ـ 458.

(28) فضائل القرآن، لابن كثير: 15 موقف عليّ أمير المؤمنين ، انظر أسنى المطالب، للصلّابي 1: 55.

(29) النجم: 2 ـ 5.

(30) أخرجه أبو داود بإسناده عن أحمد بن حنبل بسنده عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن رسول الله (ص). عون المعبود شرح سنن أبي داود 12: 232 / 4592، وأخرجه الترمذي ، في «الجامع الكبير» 4: 398/ 2663، والإمام الشافعي في «مسنده» 1: 17، والحميد في «مسنده» (ح551)، والإمام أحمد بن حنبل ، في «مسنده» 6: 8، وابن ماجة ، في «سننه» 1: 16/13، والطحاوي ، في «مشكل الآثار» 4: 209، وابن حبّان، في «صحيحه بترتيب ابن بلبان» 1: 190/13، مع تفاوت يسير، والطبراني في «المعجم الكبير» (934 ـ 936)، والحاكم النيسابوري ، في «المستدرك على الصحيحين» 1: 108، والبيهقي ، في «السنن» 7: 76« وابن بطّة الحنبلي ، في «الإبانة» 1: 49/ 61 .

(31) أخرجه الترمذي بإسناده عن المقدام بن معدي كرب. الجامع الكبير 4: 399/ 2664، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل، في «المسند» 4: 132، وابن ماجة ، في «سننه» 1: 15/12، والطحاوي ، في «مشكل الآثار» 4: 209، والطبراني ، في «المعجم الكبير»: ح (649)، والبيهقي، في «سننه» 7: 76.

(32) سنن الدارمي 1: 122/ 441، وللحديث ألفاظ مختلفة، وله مصادر كثيرة منها: مسند الإمام أحمد بن حنبل 3: 470 و4: 265، والمصنَّف ، للصنعاني 6: 12 / 10163، والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر 4: 27/ 4591، واُسد الغابة، لابن الأثير 3: 188/ 2845، وفي مجمع الزوائد ، للهيثمي1: 420/ 806، جاء فيه: قال النّبيّ (ص) : «والله لو كان موسى بين أظهركم ما حلّ له إلا أن يتّبعني».

(33) المصنَّف ، للصنعاني 6: 113/ 10165 و11: 110 / 20061.

(34) الإحكام في اُصول الأحكام، لابن حزم 2: 214.

(35) السُّنة مصدرٌ للمعرفة والحضارة، يوسف القرضاوي : 12.

(36) الحشر : 7.

(37) النساء: 80.

(38) آل عمران: 32.

(39) سنن أبي داود 3: 318 / 3646، كتاب العلم، وانظر المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري 1: 5/106، وتقييد العلم، للخطيب البغدادي : 80 ـ 81، ومسند أحمد 2: 1262، وجامع بيان العلم، لابن عبد البرّ 1: 71.

(40) يوسف : 3.

(41) تقييد العلم، للخطيب البغدادي: 54.

(42) تذكرة الحفّاظ للذهبي 1: 5، علوم الحديث ، لصبحي : 39.

(43) الطبقات الكبرى لابن سعد 5: 143.

(44) تقييد العلم، للخطيب البغدادي : 53.

(45) المصدر السابق: 49.

(46) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البرّ 1: 274.

(47) بحار الأنوار ، الشيخ المجلسي 26: 28/ 30، وانظر الصفحات (18 ـ 66) في جهات علوم أهل البيت (ع).

(48) المصدر السابق 26: 22 / 12.

(49) بحار الأنوار 26: 34/18.

(50) صحيح البخاري، انظر الأحاديث تحت الأرقام: (111)، كتاب العلم، باب 39، باب كتابة العلم، (1870)، كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة، (3172)، كتاب الجزية والموادعة ، باب (10) باب ذمّة المسلمين وجوارهم واحدة، (6755)، كتاب الفرائض، باب (21)، باب إثم مَن تبرّأ من مواليه، صحيح مسلم 2: 1147/1370، الجامع الكبير (سنن الترمذي) 4: 6/2127، السنن الكبرى، للنسائي 2: 486/ 4278، سنن أبي داود 4: 180/ 4530 و2: 216/ 2034، السنن الكبرى، للبيهقي 7: 133 ـ 134 و5: 196، مسند الإمام أحمد بن حنبل 1: 79، 81، مسند عليّ بن أبي طالب ، مسند أبي يعلى الموصولي 1: 228/ 263، 1: 282/ 338، 1: 462/ 628، شرح السُّنة للبغوي 4: 419 / 2009 و6: 126/2531، صحيح ابن حبّان بترتيب ابن بلبان 9: 30/3716، 3717.

(51) نهج البلاغة : خ 147 /269.

(52) الطور: 30.

(53) أخرجه البخاري في صحيحه ، بإسناده عن سعد، صحيح البخاري 3: 1359/ 3503، صحيح مسلم 4: 1870/ 2404، مصنّف ابن أبي شيبة 11: 128/32611، تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر 42: 152 ـ 185، المناقب، للخوارزمي : 133، شواهد التنزيل ، للحاكم الحسكاني 1: 195، ويقول الحاكم : «إن حديث المنزلة هذا، الذي كان شيخنا أبو حازم الحافظ يقول: خرّجته بخمسة آلاف أسناد».

(54) نهج البلاغة : خ74/ 110.

(55) أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف : 89.. وكأن الشهيد أشار إلى الرواية التالية: «أخرج الموفق الخوارزمي بسنده إلى محمّد بن خالد الضبي قال: خطبهم عمر بن الخطّاب فقال: لو صرفناكم عمّا تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم صانعين؟ قال : فسكتوا، فقال ذلك ثلاثاً، فقام عليّ (ع) فقال: يا أمير المؤمنين إذن كُنّا نستتيبك ، فإن تبت قبلناك قال: فإن ]لم أتب[ قال: إذن نضرب الذي فيه عيناك، فقال: الحمدلله الذي جعل هذه الأُمّة مَن إذا أعوججنا أقام أودنا». المناقب ، للموفق الخوارزمي: 98 ح100.

(56)نهج البلاغة: كتاب 62: 626 ـ 627.

(57) الرتاج: الباب العظيم.

(58) انظر شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 2: 48.

(59) انظر : الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 375.

(60) وسائل الشيعة 15: 56 /17 ]19980[.

(61) نشأة التشيّع والشيعة: 85 ـ 86 ..

(62) تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر 42: 385.

(63) مختصر تاريخ دمشق 18 : 16، يغرّه أي يُلقمه.

(64) حلية الأولياء ، لأبي نعيم 1: 65.

(65) تأريخ مدينة دمشق 42: 449.

(66) الصواعق المحرقة، لابن حجر 2: 439، 654.

(67) المحصول في علم اُصول الفقه ، الفخر الرازي 4: 177.

(68) الصواعق المحرقة 2: 586 .

(69) التهذيب ، لابن حجر 2: 104، نقلاً عن (الأئمّة الإثنا عشر)، للسبحاني : 91.

(70) مطالب السؤول ، لمحمّد بن طلحة 2: 17، نور الأبصار ، للشبلنجي : 183.

(71) البداية والنهاية 7: 40.

(72) ويتمثّل جزء من هذا التراث بالصحيفة السجّادية، والتي يُعبّر عنها (زبور آل محمّد) ، ورسالة الحقوق، خطبه ورسائله، بياناته ومواعظه، مرويّاته وأحكام الشريعة.

(73) قال الذهبي: الحكم بن عُتيبة، الإمام الكبير عالم أهل الكوفة، سير أعلام النبلاء 6: 43.

(74) البداية والنهاية 9: 340.

(75) تاريخ المذاهب الإسلامية، لابن زهرة: 688.

(76) ميزان الاعتدال 2: 104.

(77) الرجال، للنجاشي : 139 رقم 79.

(78) جعفر الصادق ملهم الكيمياء: 32.

(79) منتهى المقال 1: 133.

(80) المصدر السابق.

(81) قال الفضل بن شاذان : كان ـ عبد العزيز ـ خير قمّيّ رأيته، وكان وكيل الرضا (ع) وخاصّته..

(82) المصدر السابق.

(83) انظر: تحف العقول، للشيخ الحسن بن شعبة الحراني: 198 ـ 200، انظر رسالة الإمام زين العابدين (ع).

(84) تاريخ المذاهب الإسلامية ، لابن زهرة : 689.

(85) المصدر السابق.

(86)انظر: كتاب الاحتجاج، للشيخ الطبرسي.

(87) الصحيفة السجادية: من دعائه (47).

قراءة 4866 مرة