النبي (ص) في كفالة جده عبد المطلب(4)

قيم هذا المقال
(40 صوت)

نسب النبي (ص) ونشأته(3)

لقد شاءت الإرادة الإلهية أن يفقد النبي (ص) أباه وهو لايزال جنيناً في بطن أمه، ثم فقد أمه آمنة بنت وهب بعد عودته من حي بني سعد من عند حليمة السعدية وله من العمر ست سنوات على أشهر الروايات.

وهكذا أصبح النبي (ص) وحيداً، وفي السن السادسة يتيم الأبوين. بعد وفاة أمه عاش في كفالة ورعاية جده عبد المطلب. فكان هذا الرجل العظيم يرعاه خير رعاية ولا يأكل طعاماً إلا إذا حضر، وكان يفضله على سائر أبنائه.

وكان عارفا بنبوته وما تحمله له السنوات القليلة الآتية من مستقبل زاهر وحافل بالأحداث الكبيرة، حتى إن بعض النصوص تنقل لنا أنه كان يوضع لعبد المطلب فراش مرتفع في ظل الكعبة، يجلس عليه يحيط به أبناؤه وأشراف مكة، فكان النبي (ص) يأتي وهو غلام صغير يدرج فيجلس على فراش جده فيستعظم أعمامه ذلك فيأخذونه يصرفوه عن ذلك، فيقول عبد المطلب :" دعوا ابني فوالله إن له لشأناً عظيماً، إني أرى أنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم. إني أرى غرّته غرّة تسود الناس".

ثم يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبّله ويقول :"ما رأيت قبلة أطيب منه ولا أطهر قط ولا جسدا ألين منه ولا أطيب". ثم يحمله على عنقه ويطوف به سبع مرات حول الكعبة الشريفة.

ويبدو أن عبد المطلب كان يعرف نبوة حفيده، وما سيكون من أمره وشأنه من خلال أمرين:

الأول : من الصفات والملامح التي كانت تظهر على النبي (ص) والبركات والأحداث غير العادية التي رافقته منذ ولادته وفي أحضان أمه آمنة ومرضعته حليمة السعدية.

الأمر الثاني: من بشائر وتلميحات الأحبار لمستقبله ونبوته.

فقد جاء في بعض النصوص أن عبد المطلب ذهب على رأس وفد من وجوه وأشراف مكة لتهنئة سيف ذي يزن، لمّا تغلّب على اليمن وتمكن من احتلالها. وبعد الانتهاء من مراسيم التهنئة عقدت خلوة بين سيف ذي يزن وعبد المطلب فبشره سيف بمولود يولد لقريش في مكة يكون رسولاً للناس جمعياً، ووصفه له بصفاته وعلاماته.

فوجد عبد المطلب أن تلك الصفات والعلامات لا تتوافر في غير حفيده، فسجد لله شاكراً. وهنا شعر "سيف" أن المولود الذي يتحدث عنه موجود في بيت عبد المطلب فأوصاه به خيرا، وحذره من خطر اليهود وغيرهم عليه. إن هذا النوع من البشارات وغيره من الدلائل والعلامات والمؤشرات رسّخت في نفس عبد المطلب الاعتقاد بنبوة حفيده، وجعلت له (أي النبي) مكانة خاصة عنده بحيث كان يعطيه من الحب والعطف والحنان والرعاية والاهتمام ما لم يعطه لأحد غيره.

معاملة عبد المطلب لحفيده "المختار"

إلا أن هذا الحنان الدافق وهذه الرعاية الكريمة التي لمسها النبي (ص) من جده لم تدم طويلاً، فقد توفي عبد المطلب والنبي (ص) في الثامنة من عمره.

ولكن قبل الوفاة كان عبد المطلب قد جمع أولاده العشرة ووزع عليهم المهمات والأدوار التي كان يقوم بها في مكة، والخدمات التي كان يقدمها للمكيين وغيرهم من الوافدين إلى مكة في المواسم. ولم يكن عبد المطلب يفكر في شيء كما كان يفكر في حفيده محمد الذي سيمضي عنه ويتركه وحيداً في هذه الدنيا بلا مال وبلا أب ولا أم ، ولذلك فقد أوصى أولاده العشرة به ولمّح لهم بما سيكون من شأن حفيده محمد في المستقبل.

وكان مما قاله لهم :"إني قد خلّفت لكم الشرف العظيم الذي تطأون به رقاب الناس"، على حد تعبير يعقوب في تاريخه المعروف بـ"تاريخ اليعقوب". وقد اختار عبد المطلب من بين أبنائه لرعاية حفيده محمد أبا طالب بالخصوص ليكون هو من يكفل محمداً بعده ويقوم برعايته باعتبار أن أبا طالب كان أخا لوالد النبي (ص) من أم واحدة، فإن أمهما هي فاطمة ابنة عائذ المخزومية.

وطبيعي أن يكون أبو طالب أكثر حنانا وعطف وحباً لابن أخيه من أبيه وأمه من بقية أخوانه الأخرين كالحارث والعباس وغيرهما الذين كانوا من أمهات شتى. أضف إلى ذلك أن أبا طالب كان أنبل أخوته وأكرمهم وأعظمهم مكانة في قريش وأجلهم قدراً، وقد ورث زعامة أبيه عبد المطلب، وخضع لزعامته القريب والبعيد والقاصي والداني رغم أنه كان فقيراً لا يملك شيئاً.

أبو طالب وزوجته يرعيان النبي (ص)

ولقد ورد عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال :" إن أبي ساد الناس فقيراً"، أي أصبح سيداً وزعيماً، وما ساد فقير قبله".

وهكذا انتقل النبي (ص) إلى بيت عمه أبي طالب، بعد أن رحل جده من هذه الدنيا. فقام أبو طالب برعايته خير رعاية وأدى الأمانة وحفظ الوصية، وبقي محمد شغله الشاغل الذي شغله حتى عن أولاده في أشد المراحل ضيقاً وحرجاً حتى النفس الأخير من حياته.

ظل محمد في أحضان عمه وزوجته فاطمة بنت أسد لا يشعر بالغربة بين أولاده ولا يحس بمرارة اليتم والفقر، ووجد منهما الحرص والرعاية فوق ما يتصوره إنسان من أبويه بالنسبة إلى ولد وحيد عزيز عليهما. لقد بلغ من حرص فاطمة بنت أسد على النبي (ص) أنها كانت في سني القحط والفقر التي مات فيها الناس جوعا وعطشا تحرم أولادها من القوت الضروري من أجل أن تطعمه لنبينا محمد (ص). واستمرت تعامله هذه المعاملة الكريمة حتى أصبح شابا.

وعندما بعث النبي بالرسالة أسرعت فاطمة بنت أسد إلى تصديقه والإيمان برسالته والإخلاص لهذه الرسالة في السر والعلانية، هي وزوجها وأولادها منذ بدأ النبي (ص) يدعوة الناس إلى الإسلام وعبادة الله وحده. الرسول يردّ الجميل لزوجة عمه ولم يكن محمد بن عبدالله، وهو الرجل الوفي الكريم الذي علّم الناس الوفاء والإحسان، لينسى لفاطمة بنت أسد مواقفها التي أنسته فقد أمه وأبيه وجده. والتاريخ ينقل لنا أنه عندما توفيت هذه المرأة المعطاءة بكى النبي (ص) عليها، وقال والدموع تنهمر من عينيه :"اليوم ماتت أمي"، ثم كفّنها وصلى عليها وتولى دفنها ونزع قميصه وألبسها أياه ونزل في قبرها واضطجع فيه، وقرا فيه القرآن الكريم، وأحسن الثناء عليها، وصنع ما لم يصنعه مع مسلم قبلها.

وعندما رأى منه المسلمون صنعه هذا الذي لم يعهدوه منه مع أحد قبلها سأله بعضهم عن سبب فعله ذلك، فقال النبي (ص) :"ألبستها قميصي لتلبس من ثياب الجنة، واضطجعت في قبرها لأخفف عنها ضغطة القبر إنها كانت أمي تؤثرني بالشيء على نفسها وولدها، إنها كانت أحسن خلق الله صنعاً بي بعد أبي طالب". وهكذا فكما كان أبو طالب كانت زوجته حريصة على النبي (ص) وقدمت وضحت بالشيء الكثير في طريق محمد ورسالته ودفاعا عنه وعن هذه الرسالة في جميع المراحل والظروف.

قراءة 13140 مرة