تراجع حقوق الإنسان في الغرب

قيم هذا المقال
(1 Vote)

تراجع حقوق الإنسان في الغرب

بالرغم من امتداد الأفكار الليبرالية التي تقر حقوق الإنسان والمواطن خارج القارة الأوروبية، فقد عرفت هذه المبادئ تراجعا في البلدان التي نبعت منها وأحيانا من قبل باعثيها أنفسهم، إذ وقع خرقها أثناء الثورة الفرنسية ثم في أوروبا الرجعية بعد 1815م وكذلك على حساب الطبقة الشغلية خلال الثورة الصناعية وأخيراً في المستعمرات الأوروبية.

فقد تجاهل رجال الثورة الفرنسية جانبا من المبادئ التي حددوها في صائفة 1789م بإنكارهم للمساواة الفعلية، وذلك بإقصاء الفقراء عن الحياة السياسية، إذ اقتصر حق الاقتراع سنة 1791 على ما كان يدفع قدرا أدنى من الضرائب، أي على الفئات الميسورة، وبذلك أصبحت الامتيازات والحقوق تقوم على الحسب عوضا عن النسب، كما تجاهلت الطبقات البورجوازية الحاكمة في إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا وضع الرقيق، وأبقت على نظارم العبودية على الرغم من كونه يتنافى مع حقوق الإنسان، وذلك حتى 1848م بالنسبة إلى فرنسا و1863بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كما انتصرت الأنظمة الرجعية بقيادة إنجلترا ـ حيث تغلبت المصالح على مبادئ ثورة 1688 ـ على الحركات الثورية في أوروبا في بداية القرن التاسع عشر، وذلك إثر تحالفها ضد الثورة الفرنسية ووارثها نابليون بونابرت سنة 1815م. فحاولت عندئذ تركيز نظام قوامه الملكية والكنيسة والتقاليد الاجتماعية القديمة، مع إقامة حلف ملكي ضد الانتفاضات الشعبية.

وانتهكت كذلك الطبقات البورجوازية في أوروبا الغربية، علاوة على الحقوق السياسية للمواطن الفقير: حقوقه الاقتصادية والاجتماعية. وذلك في خضم الثورة الصناعية التي قامت على كاهل الطبقة الشغلية، إذ كانت حينئذ الأجور زهيدة وظروف العمل والسكن والحياة بصفة عامة قاسية جداً بالنسبة إلى الشغالين. فكان العامل يعمل في المصنع أكثر من عشر وحتى اثنتي عشرة ساعة يومياً، وذلك إلى جانب تشغيل النساء والاطفال في ظرروف لا إنسانية. وهكذا لم تتوان الطبقات البورجوازية الأوروبية في إنتهاك حقوق الإنسان والمواطن عندما اقتضت مصالحها ذلك.

وكان ذلك الشأن في البلدان المستعمَرة. فقد سلكت الدول الأوروبية الكبرى في القرن التاسع عشر سياسية توسعية على حساب شعوب القارات الأخرى، وأخضعتها لهيمنتها سياسياً واقتصادياً. فكانت معاملتها لها معاملة الغالب للمغلوب من دون أي اعتبارلحقتها في تقرير مصيرها، ولحقوق الإنسان بصفة عامة. فعلى المستوى السياسي أصبحت القوى الاستعمارية سيدة الأمر بالمستعمرات على حساب سيادتها واستقلالها. وعلى المستوى الاقتصادي فتحت البلدان المستعمرة عنوة للبضائع الأوروبية على حساب ضاعاتها المحلية، ووقع ابتزاز مواردها، وذلك بالهيمنة على أخصب أراضيها ونهب ثرواتها الطبيعية، وبالتالي انتهاك حقها في التنمية، إذ انتقل قسط كبير من هذه الموارد لفائدة القوى الأوربية وجالياتها القاطنة بالمستعمرات. إلى جانب سياسة التمييز أو سياسة المكيالين التي يقوم عليها النظام الاستعماري.

فعلى مستوى الأجور كان مرتب العامل أو الموظف أصيل البلاد المستعمَرة أدنى من مرتب نظيره من الأوروبيين، وعلى مستوى الجباية لم تكن الضرائب توزع على السكان حسب مداخيلهم بل كان أصيلو المستعمَرة ـ على رغم تدهور حالتهم ـ يخضعون للضرائب أكثر من الأوروبيين. مع أن القسم الأوفر يرصد مرتبات الموظفين الأوروبيين وتجهيز البلاد طبقا لحاجات المصالح الاستعمارية.

وتتجلى سياسة التمييز كذلك على مستوى التعليم، حيث يخصص جل المدارس الي أنشئت على كاهل ميزانيات للأوربيين المقيمين بها، في حين أنهم لا يمثلون سوى جزء نزير من سكانها. ومثل هذه السياسة تتنافى بطبيعة الحال مع مبدأ المساواة أمام القانون، وبالتالي مع حقوق الإنسان. ويتجلى ذلك بأكثر وضوح في المجال السياسي، حيث يتمتع الأوروبيون بجميع الحريات والحقوق والضمانات في حين يعاني السكان الأصليون القمع والفقر والاستبداد وشتى التجاوزات.

ولم يكن المعمرون يعدون عملية دمج الأهالي ـ أي المساواة بينهم وبين الأوروبيين ـ ممكنة ولا مرغوبا فيها، فمصير السكان الأصليين، حسب النظرية الداروينية السائدة آنذاك، هو الاضمحلال على غرار الهنود الحمر في أمريكا. فلم تجد إذن حقوق الإنسان والمواطن حظها، في المستعمرات. وبينما كانت القوى الاستعمارية ترفع شعار الرسالة الحضارية لتبرير الاستعمار؛ فإنها لا تتوانى في انتهاك حقوق الشعوب المستعمرة.

وقد نجمت عن كل ذلك حركات وطنية رفعت تدريجيا مبدأ حق الشعوب المستعمَرة في تقرير مصيرها، وطالبت بالمساواة أمام القانون لحماية الأهالي من جميع التجاوزات الاستعمارية، فكان ذلك الشأن في البلاد التونسية مثلا، حيث عملت الحركة الوطنية على التصدي للاستعماروالاستبداد والدفاع عن حقوق التونسيين وذلك بالمطالبة بالمساواة أمام القانون وكذلك في الأجور والضرائب والتعليم بينهم وبين الفرنسيين، والفصل بين السلطات وتوفير الحقوق السياسية والحريات العامة وجميع الضمانات ضد التجاوزات، كما كان هو الشأن بالنسبة إلى الأوروبين، ووضع حد لسياسية التمييز التي تتناقض مع المبادئ والقيم المستوحاة من ثورة 1789م التي يستند إلهيا النظام الجمهوري الفرنسي. وكانت تعتمد في كل هذا فلسفة التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية لتبين مدى تناقض السياسة الفرنسية في تونس مع هذه القيم الليبرالية. وبهذه الصفة قاومت الحركة الوطنية التونسية في جميع أطوارها الاستعمار باسم القيم الفرنسية، التي كان الوطنيون التونسيون متشبثين بها، ويعيبون على سلطان الجمهورية الفرنسية خرقها والتلاعب بها. ولتبليغ رسالتهم هذه للرأي العام الفرنسي كانوا كثيراً ما يعبرون عن وجهة نظرهم في جرائد تصدر بالفرنسية، وبذلك كانوا يقاومون الاستعمار باسم قيم الجمهورية الفرنسية، وبلغتها(1).

ولقمع الحركات الوطنية ازداد الاستعمار ضراوة وتعسفا. وتفنن الجهاز الاستعماري في القمع والسجن والتعذيب دون أي اعتبار لحقوق الإنسان. ففي الكونغو مثلا بُتِرت أيدي المناهضين للهيمنة البلجيكية. وفي أنغولا ذهب الأمر بالسلطات الاستعمارية البرتغالية إلى حد ثقب شفاه الوطنيين وغلقها بقفل(2).

ويتضح من كل هذا أن حقوق الإنسان والمواطن وحق الشعوب في تقريرمصيرها، الذي أكد عليه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ولسون في بداية 1918م، هي بضاعة غريبة غير قابلة للتصدير إلى بلدان الجنوب، وبالتالي لا تخص سوى الإنسان والشعوب في الشمال. فلم ينزعج الرأي العام الأوروبي والأمريكي إلا عند انتهاكها في القارة الأوروبية نفسها. وذلك مع صعود الحزب الفاشي للحكم في إيطاليا سنة 1922م، ثم الحزب النازي في ألمانيا في بداية 1933م، وانتصار الفاشية التي تقوم على مبادئ تتناقض تماما مع حقوق الإنسان والمواطن، إذ كانت بمنزلة رد فعل قوى وشرس على القيم والمبادئ الليبرالية التي قامت عليها الحضارة الغربية الحديثة، فبينما يعتمد النمط الليبرالي الحريات الديموقراطية وتعدد الأحزاب والمساواة أمام القانون، وبالتالي المواطنة وسيادة الشعب، وتكريس الدولة في خدمة مصلحة الفرد وضمان حقوقه، تنبذ الفاشية جملة هذه القيم لتعتمد الكليانية، أي نظام الحزب الواحد والزعيم الأوحد، وتكريس الفرد في خدمة الدولة، التي هي غاية في حد ذاتها. وقد فند زعيم الحركة الفاشية الإيطالية موسوليني بوضوح المبادئ الليبرالية التي تقوم على الحقوق الطبيعية للإنسان كما يلي: «إن الفاشية تؤكد على اللامساواة بين البشر، والتي لا يمكن محوها بعملية ميكانيكية خارجية مثل الاقتراع العام، فالفاشية ترفض ما في الديموقراطية من افتراء سخيف يقول بالمساواة السياسية.. إن المفهوم الفاشي للدولة مناقض للفردانية.. وبالنسبة إليه كل شيء يوجد ضمن الدولة ولا يوجد أي نشاط بشري خارجها. فلا المجموعات (أحزاب سياسية، جمعيات، نقابات..) ولا الأفراد يمكن لهم الوجود خارج الدولة..».

ولابد من أن تؤول مثل هذه المبادئ إلى انتهاك حقوق الإنسان والمواطن من طرف النظام الفاشي في إيطاليا والنظام النازي في ألمانيا اللذين لم يترددا لحظة في قمع كل الحريات واستعمال أشد العنف والتعذيب ضد كل من يعارضهما.

كما استمت الفاشية والنازية بالعنصرية والعدوانية والتوسعية من دون أي اعتبار لحقوق الإنسان ولحق الشعوب في تقرير مصيرها. وتجسم ذلك في احتلال إيطاليا الفاشية لأثيوبيا وألبانيا، والعمل على قمع المقاومة الليبية للاستعمار الايطالي بصفة وحشية وكذلك إلحاق النمسا واكتساح تشيكوسلوفاكيا وبولونيا من طرف ألمانيا النازية التي لم تتردد إلى جانب ذلك، في العمل على إبادة العنصر السامي، وبالخصوص اليهود المقيمون بألمانيا وبلدان أوربا الشرقية.

ومع تغيير موازين القوى في أوروبا بين الليبرالية والفاشية إثر صعود الحزب النازي إلى الحكم في ألمانيا في بداية 1933 أصبحت حقوق الإنسان ولمواطن مهددة بكامل البلدان الأوروبية. فإن فشلت الحركات الفاشية في الصعود إلى الحكم في فرنسا، حيث تسود ثقافة ديموقراطية عميقة يعود عهدها إلى ثورة 1789م، لم يكن الامر كذلك بالنسبة لإسبانيا التي خضعت منذ 1939م لنظام فاشي إثر حرب أهلية مريرة انتصر فيها الفاشيون على الجمهوريين بفعل مساندة كل من ألمانيا وإيطاليا.

ومثل هذا الوضع، من شأنه أن يزيد في وعي الأوروبيين بحقوق الإنسان والمواطن خصوصاً أن السياسة العدوانية للقوى الفاشية قد أسفرت في نهاية الأمر عن اندلاع الحرب العالمية الثانية، التي بدت بمنزلة الصراع بين فلسفتين سياسيتين متناقضتين، أي الليبرالية والفاشية، والتي كثر في أثنائها الحديث حول حقوق الإنسان والمواطن، وحق الشعوب في تقرير مصيرها. وبرز ذلك خصوصاً في صفوف الحلفاء في سياق دعايتهم المناهضة للفاشية، وذلك لكسب تأييد الشعوب الأوروبية وحتى المستعمرة ضد قوى المحور.

وتجلى هذا الاتجاه في تصريحات رئيس الحكومة البريطانية تشرشل ورئيس الولايات المتحدة روزفلت، وخصوصا في المواثيق التي وقع إبرامها خلال وغداة الحرب العالمية الثانية، كالميثاق الأطلسي (14 أغسطس 1941م) وميثاق الأمم المتحدة (أكتوبر 1945م) والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجميعة العامة للأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر 1948م.

وقد وقع التأكيد في الميثاق الأطلسي الموقع من طرف روزفلت وتشرشل ـ على احترام «حق الشعوب كافة في اختيار نظام الحكم الذي يريدون أن يعيشوا في ظله» وعلى «عودة الحقوق الأساسية والحكومات المستقلة إلى أصحابها الذين انتزعت منهم بالقوة»، وكذلك على تحقيق، بعد القضاء التام على التعسف النازي، سلم يوفر لجميع الأمم أسباب عيشها بأمان داخل حدودها، ويؤمن الضمانة لكل الشعوب لتتمكن من العيش بحرية من دون خوف أو حاجة(3).

أما ميثاق الأمم المتحدة فقد أكد على الإيمان «بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامة الفرد، وقدرة وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها، من حقوق متساوية» ووكذلك على ضرورة التسامج والسلم والأمن الدولي والعمل على «ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها»(4).

غير أن هذه القيم قد وردت بأكثر وضوح في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو بمنزلة الحصيلة لهذه الحقوق وأسسها، منذ فلاسفة التنوير والإعلان الانجليزي عن الحقوق(1689م)، والإعلان عن استقلال الولايات المتحدة الأمريكية(1776م)، وإعلان الثورة الفرنسية عن حقوق الإنسان والمواطن(1789م). وقد جـُعـِل احترامها شرطا من شروط السلم في العالم الذي عانى ويلات الحرب العالمية الثانية بسبب تجاهلها.

وأكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حق الإنسان في الحياة وسلامة شخصه، وكذلك في حرية التملك والرأي والفكر والتعبير والتجمع والتنقل والضمير والمعتقد والعمل، وعلى ضرورة حمايته من الإيقاف التعسفي والتعذيب وضمان قضاء عادل له يقوم على أساس أن «كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونيا بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه»(5). وكل هذه الحقوق تستوجب إقرار المواطنة أي يكون «لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده إما مباشرة أو بواسطة ممثلين يُختارون اختيارا حرا»، باعتبار «أن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، يعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري، وعلى قدم المساواة بين الجميع، أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت»(6).

كما تقوم هذه الحقوق على المساواة أي أن لكل إنسان حق التمتع بها «دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين، أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني، أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد، أو أي وضع آخر من دون أي تفرقة بين الرجال والنساء»(7). وإلى جانب ذلك شجب الإعلان عن حقوق الإنسان العبودية والاستعمار وأقر المساواة في الحقوق بين الشعوب وحق كل شعب في تقرير مصيره. فهذا الإعلان هو إذن بمنزلة الدفاع عن التراث البشري لحقوق الإنسان لضمان بقائه وخلوده ولمراقبة أوضاع حقوق الإنسان في العالم، وقع إنشاء لجنة حقوق الإنسان تابعة لمنظمة الأمم المتحدة.

وقد ساعد بروز هذه المبادئ بقوة إثر الحرب العالمية الثانية وانهيار الأنظمة الكليانية التي بالغت في انتهاكاتها في نمو الوعي الوطني لدى العديد من الشعوب المستعمرة، التي دخلت عندئذ بجرأة أكثر في صراع مع الاستعمار أسفر عن تحرير العديد من المستعمرات، منذ أواخر الأربعينيات إلى بداية الستينيات. وبقيت بعض البلدان تخضع للهيمنة الأجنبية من بينها فلسطين حيث حل منذ 1948م الاستعمار الصهيوني محل الاستعمار البريطاني من دون أي اعتبار لمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. فبرزت عندئذ دول مستقلة عملت إجمالا، في بداية الأمر، على سن أنظمة سياسية تقوم على دساتير تقر الفصل بين السلطات والمساواة أمام القانون والحريات العامة وتضمن مبدئيا حقوق الإنسان والمواطن، طبقا للقيم التي اعتمدتها الحركات الوطنية في نضالها ضد الاستعمار. غير أنه تبين، فيما بعد، أن جل هذه الدساتير هو بمنزلة الحبر على الورق، إذ سرعان ما وقع خرقها من طرف واضعيها الذين سنوا قوانين تحد من جميع الحريات وتفرغها بذلك من فحواها. وتسنى لهم ذلك في غياب مجالس دستورية مستقلة تسهر على دستورية القوانين، وتقوم بإلغاء كل قانون يتنافى مع الدستور باعتباره القانون الأسمى الذي يعلو ولا يعلى عليه، فسادت عندئذ في جل بلدان الجنوب أنظمة سياسية تقوم على الحزب الواحد والقائد الأوحد، وبالتالي على الحكم المطلق الذي هو مجلبة للظلم لقمعه للحريات وخرقه لحقوق الإنسان والمواطن، وذلك بدعوى ضرورة إرساء دولة قوية قادرة على النهوض بالبلاد، وغياب النضج السياسي لسكان جلهم أميون، وباعتبار أن الأولوية في بلدان مختلفة اقتصاديا تكمن في العمل على توفير مرافق الحياة للمواطنين، أي الشغل والسكن والمدارس والمستشفيات، كأنما الديموقراطية وحقوق الإنسان عقبة أمام التنمية والتقدم. من ذلك رداءة أوضاع حقوق الإنسان والمواطن في جل هذه البلدان بالرغم من تعاقب الحكومات، ومن نضالات المدافعين عنها على حساب حريتهم وكرامتهم، فالتطور الوحيد في هذا المجال يكمن في تشدق هذه الأنظمة بالديموقراطية وحقوق الإنسان مع عدم التواني في خرقها. ولكي تضفي شرعية على ذلك توظف مجالس نواب موالية لها للمصادقة على قوانين، تبرر بها تجاوزاتها حرية المواطنين وحقوقهم. وكانت الغاية من ذلك خداع الرأي العام في بلدان الشمال، حيث تمثل حقوق الإنسان والمواطن العقيدة السياسية السائدة، وتحاشي حملات وسائل الإعلام الغربية ضدها.

العلاقات شمال ـ جنوب وحقوق الإنسان

غير أن العلاقات شمال ـ جنوب تقوم أساسا على مصالح القوى الكبرى، ولو تناقض ذلك مع حقوق الإنسان والمواطن، كما كان الشأن في عهد الاستعمار. وقد بقيت هيمنة الشمال على الجنوب في عديد البلدان ـ قائمة الذات إثر استقلالها وذلك في نطاق «الاستعمار الجديد» الذي حل محل الاستعمار التقليدي، والذي يكمن أساساً في محافظة الدول الكبرى على مصالحها الاقتصادية في مستعمراتها القديمة وفي مراقبة مواردها.

ثم إن القوى العظمى أحكمت سيطرتها على الاقتصاد العالمي طبقا لمصالحها وعلى حساب «العالم الثالث» واضعة بذلك علاقات لا متكافئة بين الشمال والجنوب، فهي التي تحدد الاستعمار العالمية لجميع المنتوجات وفقا لما تقتضيه مصالحها. وقد نجم عن ذلك انخفاض متزايد في أسعار منتوجات العالم الثالث، مقارنة بأسعار منتوجات القوى الكبرى، وبالتالي في اختلال التوازن في المبادلات التجارية بين الشمال والجنوب. ومثل هذا الوضع المتميز بعجز الميزان التجاري في جل بلدان العالم الثالث يجعل هذه البلدان الفتية تلجأ إلى الاقتراض لاستيراد التجهيزات اللازمة للنهوض باقتصادها، غير أن سياسة المديونية زادت في تبعية الجنوب الاقتصادية، وبالتالي السياسية للشمال، وأصبحت حاجزا أمام تنمية بلدان العالم الثالث التي هي ملزمة بتخصيص جزء لا يستهان به من مواردها لاستيفاء ديونها.

وكان لمثل هذه العلاقات انعكاسات وخيمة على بلدان الجنوب وعلى حقوق الإنسان والمواطن فيها، إذ إنها تحول دون النهوض بمجتمعات «العالم الثالث»، وبالتالي دون القضاء على الفقر والفاقة والأمراض والجهل فيها، وتتناقض بذلك مع حق الشعوب في التنمية وتقرير المصير. ولابد من أن يدفع مثل هذه الأوضاع إلى المزيد من الغضب والهيجان في صفوف الفئات الاجتماعية المتضررة منها، فتزيد عندئذ أنظمتها السياسية من مقدرتها الدفاعية لحماية نفسها، وتتدخل أجهزتها الأمنية بقوة لقمع المناهضين لها، والتنكيل بهم بجميع الوسائل المنافية لحقوق الإنسان والمواطن.

وقد استفحلت هذه الأوضاع منذ قيام العولمة، أي النظام العالمي الجديد الذي وضعته القوى الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، والذي يرمي أولاً، وبالذات، إلى خدمة مصالح الشمال على حساب الجنوب، إذ يقوم على حرية المبادلات التجارية بقصد فتح آفاق أوسع أمام بضائع بلدان الشمال ورؤوس أموالها، وذلك بإلغاء المكوس الجمركية تدريجيا وانتزاع السلاح الوحيد الذي يخول لبلدان الجنوب حماية صناعاتها الفتية وزراعتها من المنافسة الأجنبية. وهي الظاهرة نفسها التي عانتها بلدان الجنوب في القرن التاسع عشر عندما فرضت عليها القوى الكبرى معاهدات لامتكافئة تقوم كذلك على حرية المبادلات التجارية وتخفيض المكوس الجمركية. وأسفر ذلك عن تدهور الصناعات المحلية لهذه البلدان التي لم يعد بوسعها منع أو تحديد دخول البضائع الأجنبية إلى أسواقها، وحتى التحكم في سياستها الجمركية لحماية اقتصادها من المنافسة الغربية.

فالعولمة هي إذن امتداد للإمبريالية على مستوى الأهداف، وكذلك على مستوى النتائج، إذ كانت لها انعكاسات وخيمة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلدان الجنوب. فقد انخفضت في البلاد التونسية مثلا مداخيل الخزينة 20%(8) نتيجة التخفيض تدريجيا في المكوس الجمريكية إلى حد إلغائها سنة 2008م، بمقتضى اتفاقية الشراكة التي أبرمتها مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995م في إطار فلسفة العولمة. هذا علاوة على إفلاس ثلث مؤسساتها الصناعية ومرور الثلث الآخر بصعوبات جمة من جراء المنافسة الأوروبية(9).

وقد يؤول منطق العولمة هذا إلى تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي في العديد من بلدان الجنوب وحتى إلى انفجاره ويسفر ذلك حتما عن تدخل جهاز الدولة لقمع الاضطرابات بالعنف الشديد، ومن دون أدنى اعتبار لحقوق الإنسان والمواطن. ثم إن البعد الثقافي للعولمة الذي يتمثل في غزو الثقافة الغربية لبلدان الجنوب وتهديد هوايتها بالذوبان، من شأنه توفير الظروف الملائمة لنمو الحركات السلفية المعادية للنمط الغربي، خصوصا في البلدان الإسلامية. فتكون هذه الحركات أمام الرأي العام بمنزلة المدافعة الحقيقية عن الثقافة والهوية الوطنية، وتجد دعوتها صدى كبيرا، خصوصا في صفوف ضحايا العولمة. وينجم عن ذلك حتما توتر سياسي يزيد في سياسة القمع ضد الحركات الإسلامية، في بداية الأمر، ثم كل من يناهض الأنظمة السياسية القائمة، فيتقلص بذلك مجال الحريات في جل بلدان الجنوب على حساب حقوق الإنسان والمواطن.

فالنظام العالمي الجديد يمثل في نهاية التحليل عقبة أمام تقدم بلدان الجنوب في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وهو لذلك مجلبة لجميع أنواع التجاوزات لحقوق الإنسان والمواطن.

وعلى الرغم ذلك فإن المجتمع المدني في العالم الثالث ما زال يراهن على مساندة الغرب في الدفاع عن هذه الحقوق. غير أنه، علاوة على أن النضال من أجل المواطنة وحقوق الإنسان يخضع أولاً، بالذات إلى موازين القوى الداخلية. فإن العلاقات شمال ـ جنوب تقوم قبل كل شيء على المصالح. فالقوى العظيمة لا تناوئ الأنظمة الاستبدادية التي لا تتوانى في خرق حقوق الإنسان إذا كانت تتماشى مع مصالحها، بينما تتدخل ضد أنظمة وطنية وحتى ديموقراطية لكونها تناهض هيمنتها وتناوئ مصالحها. وهذا الاتجاه الذي تبلور في القرن التاسع عشر ما زال يطبع العلاقات شمال ـ جنوب إلى حد يومنا هذا.

فعندما أعلن الخديوي إسماعيل في مصر سنة 1879م تحت ضغط حزب الإصلاح عن دستور يقر المواطنة ويضمن بذلك حقوق الإنسان، تدخلت بريطانيا العظمى وفرنسا لإحباطه. فوقع خلع إسماعيل وتعويضه بابنه البكر توفيق ثم تعطيل الدستور. وعندما أعاد الحزب الوطني الكرة وأجبر الخديو توفيق سنة 1881م على تشكيل حكومة وطنية، وتأليف لجنة برلمانية لوضع دستور للبلاد، وقع الإعلان عنه سنة 1882م، أثار ذلك حفيظة بريطانيا العظمى وفرنسا اللتين احتجتا على هذا النظام الدستوري، الذي يقوم على مجلس نيابي له حق تقرير الميزانية، بدعوى أنه يتناقض مع التزامات الحكومة المصرية التي أوكلت، تحت الضغط منذ 1876م، التصرف في ميزانية الدولة إلى صندوق الدين العام أي إلى جهاز إنجليزي ـ فرنسي. فعوض أن يترك هذا الأمر ـ كما هو الشأن في البلدان الغربية ـ إلى برلمان ينبثق من الأمة، ويسهر على مصيرها وحقوقها، تدخلت بريطانيا العظمى عسكرياً سنة 1882م لإحباط النظام الدستوري وبسط نفوذها على مصر.

وقد تواصل هذا الاتجاه في القرن العشرين وتجسم، خصوصاً في طبيعة علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع بلدان أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. فهي لا تتوانى في دعم أنظمة سياسية مستبدة تتناقض ممارساتها مع حقوق الإنسان والمواطن، بينما تقر العداء لأنظمة تقدمية تعير الاعتبار لهذه الحقوق. فكان ذلك الشأن سنة 1952م في إيران، حيث تدخلت بواسطة وكالة مخابراتها ضد حكومة الدكتور مصدق التي عزمت على تأميم شركات النفط، وبالتالي على مناهضة الغرب ومصالحه، وذلك لفائدة نظام ملكي مستبد يخضع للقوى الغربية. كما تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في بداية السبعينيات بتشيلي للإحاطة بنظام اللندي الذي انبثق من انتخابات ديموقراطية، وتعويضه بنظام عسكري فاشي لا يتوانى في خرق حقوق الإنسان والمواطن. وكذلك الشأن في البدان العربية حيث تقوم العلاقات مع القوى الغربية على أساس المصالح، ومن دون اعتبار المبادئ والقيم. فكأنما الديموقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان بضاعة غربية صرفة لا تخص سوى سكان الشمال وغير صالحة للتصدير إلى بلدان الجنوب.

ويتجلى هذا المنهج بأكثر وضوح في وقتنا الراهن من خلال نظرة الغرب إلى القضية الفلسطينية. إذ يعتبر الصهيانة الذين اغتصبوا فلسطين عنوة بمعونته، بمنزلة الامتداد للحضارة والقيم الغربية في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي جديرين بجميع الحقوق، ولو كان ذلك عل حساب الشعب الفلسطيني. ومن ذلك سياسة المكيالين التي تنتهجها القوى الغربية، وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، تجاه الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني. إذ يعد نضال الشعب الفلسطيني لتحرير بلاده وممارسة حقه في تقرير مصيره إرهابا، بينما تقر العدوان الصهيوني عليه باعتباره مشروعا ودفاعا عن النفس.

فلا جدوى إذن في الاعتماد على القوى الغربية لإرساء أنظمة ديموقراطية تضمن حقوق الإنسان والمواطن خصوصا في البلدان العربية، حيث يمثل الغرب في مخيلة الشعوب العدو الوراثي وذلك نظرا إلى الخلافات التاريخية بينه وبين العرب التي تعود إلى الحروب الصليبية وقد استفحلت هذه الخلافات في العهد الحديث والمعاصر من جراء هيمنة القوى الغربية على جل البلدان العربية. وجاءت القضية الفلسلطينية لتغذية كراهية الشعوب العربية للغرب الذي كان وراء قيام الكيان الصهيوني ودعمه، والذي تستفز مواقفه مشاعر العرب، باعتبارها، خلافا للمنطق المعهود، الجلاد على حق والضحية على باطل.

فلابد إذن في مثل هذا الوضع، من أن يفرز كل نظام ديموقراطي يقوم على انتخابات حرة ونزيهة، مجالس نواب وحكومات تعكس شعور شعوبها وطموحاتها، وتكون بالتالي معادية للغرب ومناهضة لهيمنته ومصالحه.

وبطبيعة الحال، لا يمكن للقوى الغربية مساندة مثل هذه التيارات الديموقراطية، بل ستعمل جاهدة لتحول دون نجاحها، وتكون بذلك عقبة أمام تحقيق المواطنة وضمان حقوق الإنسان في البلدان العربية ما دامت الديموقراطية تتناقض مع مصالحها. فمسؤولية مثل هذا المشروع تعود بالدرجة الأولى إلى النخب العربية المثقفة التي هي كثيرة العدد وغالبا ما تكون مهمشة. إذ إنه بوسعها بعث ثقافة ديموقراطية في البلدان العربية وخلق المناخ الملائم لإرساء أنظمة سياسية تقوم على المواطنة واحترام حقوق الإنسان، وذلك يستوجب منها بطبيعة الحال المزيد من الشجاعة والعزيمة والتضحية، خصوصا أن كسب مثل هذا الرهان الذي يعين كذلك على تقارب البلدان العربية واتحادها، هو السبيل الوحيد لمواجهة تحديات العولمة وتحديات الصهيونية لتحرير العالم العربي من التبعية والتخلف والاستبداد والظلم، وبالتالي لإرساء المواطنة وحقوق الإنسان.

 

* د. علي بن حسين المحجوبي

***************

الهوامش:

(1) علي المحجوبي، النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر، تونس، 1999م: 191- 195.

(2) جان بول سارتر(Jean Paul Sartre) توطئة لكتاب «المعذبون في الأرض» لفرتز فانون (Frantz Fanon)، باريس، 1961م: 15.

(3) الميثاق الأطلسي (ورد شولنج: نصوص تاريخية، ج1: 271، تعريب لبيب عبد الستار(احداث القرن العشرين).

(4) ميثاق الأمم المتحدة.

(5) «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، مادة 11، (ورد في كتاب الإسلام وحقوق الإنسان) للدكتور عبد الحسين شعبان، بيروت، 2001م: 75-80.

(6)الاعلان العالمي لحقوق الإنسان المادة 21(المصدر نفسه).

(7) الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة 2.

(8) Jacques Ould Aoudia – Financement et croissance. Magherb - Masherk, n hors serie, Decembre 1997.

(9) Roula Khalaf, skepticism over E.U accord, Financial - Times, 22 september 1999.

قراءة 4883 مرة