قريش تواجه النبي (ص) بالمفاوضات والتهديد (15)

قيم هذا المقال
(26 صوت)
قريش تواجه النبي (ص) بالمفاوضات والتهديد (15)

بعد أن أعلن رسول الله (ص) الدعوة على الملأ، واجهته قريش بأشكال عديدة مثل تكذيبه والاستهزاء به والاستخفاف برسالته. ولكن لم يصل رد فعلها إلى حد التفكير الجدي بمواجهته ووضع حد لدعوته.

فاستمرار النبي (ص) بالدعوة وإصراره عليها من جهة، وتعرضه لإلهة قريش واسستخفافه بأصنامهم ومعتقداتهم من جهة ثانية وازدياد عدد المسلمين وبداية تكاثرهم واتساع نشاط النبي (ص) دفع بالمشركين إلى الشعور بجدية الموقف وبالخطر الحقيقي على مصالحهم. فأجمعوا على مواجهته والوقوف بوجه دعوته.

وبدأوا يفكرون في الطرق المناسبة لهذه المواجهة، حيث يضعون بها حداً لدعوته وحركته ولكن بعيداً عن أساليب العنف والقتل والمواجهة المسلحة. لأن هذا النوع من المواجهة ليست خياراً سهلاً بالنسبة إليهم لعدة أسباب.

أولا : إن مواجهة النبي (ص) بأساليب العنف والاعتداء على شخصه سوف يتسبب في صراع مسلح لم يعدوا له العدة اللازمة والناجعة. إذ إن أبي طالب ومن ورائه جميع بني هاشم وحلفائهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذا الاعتداء، وسوف تصبح مكة مسرحاً لحرب أهلية لا تبقي معه ولا تذر.

ثانياً : إن أفراد هذه الجماعة وعناصرها ليسوا من قبيلة واحدة حتى يمكن مواجهتهم بالعنف والقتل، بل إن منهم من يميل للإسلام كانوا من قبائل متعددة. ومن هنا لم يتمكنوا من اتخاذ قرار حاسم بحقهم إذ إنه ليس أمراً سهلاً وبسيطاً.

ثالثاً : إن الدخول في أي صراع مسلح في تلك المرحلة للقضاء على دعوة محمد لم يكن مضمون النتائج. والمشركون أنفسهم ليسوا على يقين من تحقق النتيجة لصالحهم، وخصوصاً أن لبني هاشم علاقات مع حلفاء يسكنون خارج مكة وخزاعة وغيرهم. فقد توجب هذه الحرب لو حدثت تمكين النبي (ص) من نشر دعوته ورسالته. فقرروا الابتعاد عن خيار الحرب وأساليب العنف واتباع طرق أخرى.

قريش تفاوض النبي (ص) :

وبعد التداول فيما بينهم رأوا أن يفاضوا النبي (ص) ويساوموه عبر عمه أبي طالب. فنشأت مفاوضات بين قريش وبين أبي طالب والنبي (ص)، في محاولة منها للقضاء على الدعوة الإسلامية عن طريق المساومات والتسويات. ولقد ذكر المؤرخون أن هذه المفاوضات مرّت بعدة مراحل انتهت كلها بالفشل الذريع لقريش ومحاولاتها. إذ كان المشركون في كل مرحلة منها يصطدمون بصلابة موقف الرسول (ص) وثباته وعدم استعداده لأي تنازل أو المساومة على حساب العقيدة والمبدأ.

فقد اجتمعت في المرحلة الأولى من هذه المفاوضات رجال من أشراف وزعماء قريش عند أبي طالب. وقالوا له :" يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ ألهتنا وعاد ديننا وسفّه أحلامنا وضلّل أبناءنا، فإما أن تكفّه عنا وإما ان تخلي بيننا وبينه". فردهم أبو طالب رداً رفيقاً، على تعبير المؤرخ الطبري فانصرفوا عنه.

واستمر النبي (ص) في طريقه يظهر طريق الله سبحانه وتعالى ويدعو إلى رسالة الدين الإسلامي، ولا يبالي بتحركات قبيلة قريش، فأصبح الرسول حديث القريب والبعيد في مكة وجوارها. وهنا قررت قريش القيام بجولة ثانية من المفاوضات، لكنها تواصت هذه المرة فيما بينها بالشدة وعدم التهاون. فذهب المشركون إلى أبي طالب وقالوا له :" يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنّا كنا قد استهيناك عن ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنّا والله لنصبر على هذا من شتم أباءنا وتسفيه أرائنا وعيب إلهتنا حتى تكفّه عنا أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين". فأدرك أبو طالب بذكائه وفطنته أن عليهم الصبر أمام هؤلاء الذين يرون وجودهم ومصالحهم في خطر. فلاطفهم ووعدهم بتبليغ ابن أخيه كلامهم وأقوالهم.

ولمّا انصرفوا أرسل أبو طالب إلى الرسول (ص) وأخبره بكلامهم. وكان ردّه ذلك الرد الخالد المشهور المعبر عن مدى تصميمه على متابعة الطريق مهما كان حجم التضحيات، إذ قال لعمه :"والله يا عم لو وضع الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته أبداً". وأمام هذا الموقف الصامد والخالد من الرسول (ص) وقف أبو طالب وأظهر استعداده الكامل للوقوف إلى جانب ابن أخيه ووعده بالنصر، وقال له :" اذهب يا ابن أخي وقل ما شئت فوالله لأسلمك لشيء أبدا".

قريش تطلب من أبي طالب تسليمها ابن أخيه :

فانطلق النبي (ص) وتابع طريقه في الدعوة إلى الإسلام. وكان المسلمون يزدادون يوماً بعد يوم، عدداً وقوة وثباتاً. وهنا شعر المشركون بأن الإسلام يزداد انتشاراً وأن أبا طالب ليس في وارد الاستجابة لمطالبهم فقرروا العودة إليه في جولة ثالثة من المفاوضات وهذه المرة بأسلوب أخر. فجاءوا إليه ومعهم عمارة بن الوليد شقيق خالد بن الوليد وقالوا له :"يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجملهم فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولداً لك وسلمّنا ابن أخيك الذي خالف دينك ودين أبائك لنقتله فإنما هو رجل برجل".

هؤلاء يعرضون على أبي طالب أن يسلمهم ابن أخيه محمداً (ص) ليقتلوه على أن يأخذ بديلاً عنه عمارة بن الوليد أجمل فتى في قريش ليكون في رعايته وكفالته. وظنوا أن أبا طالب يمكن أن يقبل بهذا العرض، ولم يدروا أن أبا طالب لا يساوم مطلقاً على ابن أخيه بالدنيا وما فيها. ولهذا وقف أبو طالب وقال موبخاً لهم :"لبئس ما تسمونني عليه أتعطونني ابنكم إغذوه لكم وأعطكيم ابني تقتلونه ؟!!.. هذا والله ما لا يكون أبداً". فقال له أحدهم :"والله لقد أنصفك قومك وأشهد على التخلص مما تكرهه فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً". فقال له أبو طالب :"والله ما أنصفوني ولكنك لقد أجمعت على خذلان ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك".

وهكذا أخفق المشركون رغم إغرائهم وإرهابهم وفشلت كل مراحل المفاوضات وأدركوا أن أبا طالب لا يمكن أن يتخلى عن النبي (ص)، والذي هو بدوره لا يمكن أن يتنازل لهم أو يساومهم على دينه مهما كانت النتائج.

قراءة 5525 مرة