الهجرة إلى المدينة المنورة (26)

قيم هذا المقال
(1 Vote)
الهجرة إلى المدينة المنورة (26)

مهّد النبي (ص) للهجرة إلى المدينة المنورة ببيعتين مع أهل المدينة، هما بيعتا العقبة الأولى والثانية.

ويبدو أن النبي (ص) بعد إبرامه هاتين البيعتين سمح للمسلمين وخاصة أولئك الذين كانوا يتعرضون للتعذيب والاضطهاد من قبل قريش والمشركين بالهجرة إلى المدينة.

وقال لهم – كما يروي المؤرخون:"إن الله عزّ وجل قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها". فراح المسلمون يتوافدون إلى المدينة المنورة أفراداً وجماعات مضحين بمسقط رأسهم، وعلاقاتهم. وكثير منهم ضحى بثرواته وممتلكاته ومكانته الاجتماعية في سبيل دينهم وعقيدتهم.

 

تضحية المسلمين الأوائل بكل ما يملكون :

ويبدو أن خروج المسلمين من مكة إلى المدينة أخذ في بعض الحالات طابع السرية. كما لم يكن خروجهم دفعة واحدة وإنما حصل على دفعات ومراحل. وذلك كي لا يثيروا حفيظة قريش فتقف في طريقهم وتمنعهم من الهجرة.

ولكن رغم ذلك أحست قريش بحركة المسلمين هذه وخروجهم من مكة إلى المدينة. فراحت تمنعهم من الهجرة بمختلف الوسائل، تلاحقهم وتنكل بمن يقع في قبضتها بالضرب والإهانة والحبس والضغط عليهم لحملهم على التراجع عن دينهم، وتمارس ضدهم كل أساليب الإرهاب.

والسبب الذي دفع المشركين لاتخاذ هذا الموقف السلبي من هجرة المسلمين هي أنهم كانوا يرون أعظم الخطر على مصالحهم ووجودهم المستقبلي. فقد كانوا يدركون جيدا أن هؤلاء المهاجرين سوف يتكاملون مع أنصار النبي (ص) من أهل المدينة الذين بايعوه على السمع والطاعة والجهاد، مما يعني أنهم سيشكلون قوة في وجه قريش ومصالحها. خاصة، أن تجارة قريش إلى الشام ذهابا وإياباً كانت تمر عبر طريق المدينة.

ولكن رغم كل إجراءات قريش تلك لمنع المسلمين من الهجرة لم تستطع تحقيق هدفها. بل تمكّن أكثر المسلمين من الهجرة حيث لم يبق في مكة بعد بيعة العقبة الثانية بمدة قصيرة سوى النبي (ص) والإمام علي (ع) وعدد قليل من المسلمين المستضعفين.

وهكذا بقي النبي (ص) في مكة ينتظر الإذن الإلهي للخروج.

 

قريش تتآمر على النبي بخطة لقتله :

وبعد هذه الهجرة الواسعة للمسلمين إلى المدينة شعرت قريش بأن الدعوة الإسلامية قد انتقلت من مكة إلى المدينة حيث يوجد الأنصار والأعوان الذين هم على أتمّ الاستعداد للتضحية بأنفسهم وأموالهم دفاعاً عن نبيهم وعن الرسالة. وأدركت أيضاً أن محمداً بين عشية وضحاها سيلتحق بأصحابه ويهاجر هو بنفسه إلى المدينة ليمارس بحرية كاملة عملية القيادة والدعوة لدينه.

وقدّرت بأن محمداً سوف تكون له الغلبة عليهم عاجلاً أم أجلاً إن هو ترك مكة وارتحل إلى المدينة. لأجل ذلك لم يكن أمامها إلا أن تتخذ بحق النبي (ص) قراراً نهائياً وحاسماً قبل فوات الأوان، فهو لا يزال بينهم وفي قبضتهم، فلا بد من تدبير أمر ما قبل أن يتحول إلى قوة فعلية تهدد مصلحتهم.

ومن هنا اجتمع طواغيت قريش في دار الندوة ليتخذوا القرار المناسب بشأن النبي محمد (ص). وبعد مشاورات سرية للغاية فيما بينهم أقروا خطة لاغتياله والقضاء عليه بشكل نهائي، يريحهم منه للأبد.

وكانت هذه الخطة تقضي بأن يختاروا من كل قبيلة شخصاً قوياً، ويشتركوا جميعاً في قتله، بأن يضربوه ضربة رجل واحد. وذلك من أجل أن يتفرّق دمه بين القبائل جميعاً فلا يعود بإمكان أحد من أنصاره وأتباعه أو من بني هاشم عائلة النبي (ص) أن يثأر لقتله.

بهذه الطريقة بني هاشم لا تقدر على مقاتلة كل هذه القبائل، فيضطرون إلى القبول بالدية والاكتفاء بها. وهكذا اتفقوا على عشرة رجال أشداء من كل القبائل، وعيّنوا الليلة التي ستنفذ فيه هذه العملية.

ولكّن الله سبحانه أخبر رسوله الكريم بذلك من أجل تدبير خطة مضادة تفشل مخططهم ومؤامرتهم.

وأشار القرآن الكريم إلى هذه المؤامرة بقوله تعالى :{وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }الأنفال30 . والمقصود بمكر الله هنا أن الله قد فوت على المشركين مؤامرة اغتيال النبي (ص) إذ أخبر رسوله بواسطة الوحي جبرائيل بخطة الكافرين وأمره بالخروج ليلا من مكة، كما أمره أن يبيت علي (ع) مكانه على فراشه الخاص لإيهام المشركين بوجود النبي (ص) ليفوت عليهم خطتهم.

 

الإمام علي يفدي الرسول بنفسه :

فبات الإمام علي (ع) في فراش رسول الله (ص) في تلك الليلة التي قرر المشركون اغتيال النبي فيها. وعندما حانت ساعة الصفر لتنفيذ العملية واقتحموا مبيت النبي (ص) فوجدوا أنفسهم أمام علي بن أبي طالب وليس أمام محمد، لأن النبي (ص) كان قد خرج من الدار قبل ذلك ومن بينهم وهو يقرأ هذه الأية الكريمة :"وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فأغشيناهم فهم لا يبصرون".

ويذكر المؤرخون أن النبي (ص) أخذ بيده قبضة من تراب فرمى بها وجوه المشركين الذين كانوا يرصدون داره، ومرّ من بينهم، من دون أن يشعروا به، وتوجه نحو غار ثور حيث بقي في الغار ثلاثة أيام، حتى تمكّن من الخروج سالماً والتوجه نحو المدينة رغم ملاحقة قريش له.

وهكذا تمّت هجرة النبي (ص) إلى المدينة المنورة، في شهر ربيع الأول، بعد أن أمضى ثلاثة عشر عاماً في مكة يدعو إلى الله سبحانه ويواجه التحديات والصعاب. وكانت هذه الهجرة بداية التاريخ الإسلامي.

ما نستفيده من هجرة المسلمين هذه، ومن تضحياتهم بكل شيء يملكونه في سبيل الحفاظ على دينهم وعقيدتهم هو أن المسلم الحقيقي هو الإنسان الذي يكون حاضراً للتضحية بوطنه وبعلاقاته الاجتماعية وبكل ما يملك من متاع الحياة وزخرفها في سبيل الحفاظ على دينه وإسلامه. تماماً كما ضحى صهيب الرومي عندما أراد الهجرة إلى المدينة.

فقد ذكر المؤرخون أن صهيباً لما اتخذ هذا القرار حاولت قريش منعه عن ذلك. وقالت له :"أتيتنا صعلوكاً لا مال لك فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تهاجر بمالك ونفسك؟! .. والله لا يكون ذلك أبداً ". فقال لهم صهيب :"أرايتم إن تركت لكم مالي أتخلون سبيلي؟". قالوا :"نعم"، فقال لهم :" هو لكم ". فترك لهم صهيب ماله وهاجر إلى المدينة، ليواجه مستقبلا كان يعرف جيداً أنه مليء بالأحداث الجسام والأخطار والتحديات الصعبة، كل ذلك في سبيل هدفه. وإن المسلم الحقيقي بفهم جبداً أن الدين والعقيدة أغلى من كل شيء، الوطن والمال والجاه والسلطة. وكل شيء في هذه الدنيا لا قيمة له إذا كان دين الإنسان مهدداً بالخطر والزوال. وإذا كانت قيمه وأخلاقه وحريته مهددة بالزوال والسقوط.

قراءة 2982 مرة