نور البصيرة

قيم هذا المقال
(3 صوت)
نور البصيرة

أكّد القرآن وأهل البيت(ع) على ضرورة البصيرة، نظراً لأثرها في توضيح طريق الحقّ وإرشاد الناس إلى أن تكون مواقفهم صحيحة حيث يقع الالتباس واختلاط الحقّ بالباطل عند فقدان البوصلة التي ترشد إلى الإستقامة، قال تعالى: {قُلْ هذِهِ سَبِيلي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ  عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكينَ}[يوسف: 108]

البصيرة: هي قوّة عند الإنسان توجد نوعاً من الرؤية الواضحة للأمور حسنها وقبيحها جيّدها ورديئها صحيحها وسقيمها، وهي نظرة تنكشف بها للمتبصّر عواقب الأمور فيرى ما وراء الأعمال نتيجة إعمال الفكر فيصبح على يقين منها كمن يعاينها، فإذاً البصيرة هي قدرة على الرؤية الصحيحة التي يساعد في تشكلّها العقل والتجربة والتربية والعلم والثقافة والتي يصطلح على تسميتها في هذا الزمن بالوعي.

فالذي يفقد البصيرة كالذي يفقد البصر، لأنّ من يفقد البصيرة يقع في ضعف بل الخطأ في تشخيص الأمور، ولذا يخدعه الخادعون ويدلّس عليه المدلّسون، ويوقعه في الشبهات المشبِّهون، فإذا كان فاقد البصر أعمى العين، فإنّ فاقد البصيرة أعمى القلب، وماذا ينفع البصر مع عمى البصائر، قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج: 46]

للبصيرة ميادين وساحات نقتصر هنا على ثلاثة منها هي:

1 ـ  البصيرة على النفس

إنّ من أوضح معارف الإنسان معرفته بنفسه، فالإنسان يعرف نفسه بالعلم الحضوريّ، أي ليس من خلال استحضار صورة الشيء إلى النفس، وكذا يعلم الإنسان بعدّة أمور تتعلّق بنفسه من خلال حضورها عند نفسه، لا بحضور صورها، فالواحد منا يعرف نفسه بأنّه جائع أو عطشان، من خلال حضور نفس الجوع والعطش لديها، من هنا نعرف كثيراً من الصفات الراجعة إلى نفس الإنسان، فإنّ الإنسان يعرف صفات نفسه الواقعيّة، وإنْ أظهر خلافها أمام الناس، فهو يعرف ضعفها، وإن أظهر القوة، ويعرف بخلها، وإن أظهر الكرم، ويعرف جبنها، وإن أظهر الشجاعة، فهو قد يظهر ما ليس واقعًا في نفسه، ويلقي لذلك المعاذير، لكنّه في الواقع هو كما قال الله تعالى: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 ـ 15].

2- البصيرة في الدين

بما أنّ الدين يشكّل الطريق القويم الذي يوصل الإنسان إلى كماله الذي يمثّل غاية وجوده، وبما أنّ الدين لم يجعله الله تعالى نصّاً واحداً لا يمكن أن تحرّف مفاهيمه، فإنّ معرفة الدين الحقّ دون تحريف تحتاج إلى آليّة صحيحة، ومسار متقن لتتحقّق من خلال ذلك البصيرة فيه، وهذا المسار، وإن أوضحت بنوده العامّة، إلا أنّ أئمة أهل البيت(ع) أكّدوا على أنّ ذلك يحتاج إلى تسديد إلهيّ للإنسان، فأكّدو من خلال الدعاء:>اللهم إنّي أسألك أن تجعل النور في بصري، والبصيرة في ديني< [بحار الأنوار ج73 ص96]

ولعلّ هذا التأكيد بسبب المحاولات الحثيثة من إبليس ومن قد يساعده من شياطين الإنسان لتحريف صورة الدين عبر محاولة تأثيره في النظام الإدراكي الوسيط، فإنّ تأثير إبليس في الإنسان يقتصر على الإدراك، ومحاولة إراءة الصورة على غير واقعها، كإراءته ما انجذب إليه الناس من بيان القرآن الإعجازي، في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه نوع من السحر. وقد عبّر القرآن الكريم عن دور إبليس هذا بقوله عزّ وجل:  {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39ـ 4]. فالمخلَصون هم الذين ثبتت عندهم الحقائق بحيث لا يستطيع إبليس أن يغيّرها، أمّا غير المخلَصين، فهو يسعى جاهداً نحو تغييرها من خلال التأثير على النظام الإدراكي لديهم.

3 ـ  البصيرة الاجتماعيّة

إنّ وعي الأمور الاجتماعيّة على حقيقتها، أي البصيرة فيها، تحتاج إلى السير في ضوء البنود الأربعة، والتي هي:

1ـ  التأكّد مما أواجهه.

2ـ صحة المعلومات.

3ـ استحضار الاحتمالات الأخرى.

4ـ التحليل الصحيح على ضوء ما تقدّم.

وهنا لا بدّ من ملاحظة أمر يتعلّق بالبند الثاني، وذلك أنّ من ضمن المعلومات التي لا بدّ من الاعتماد عليها، وعدم إغفالها هو ناتج البصيرة في الدين، فالبصيرة الاجتماعيّة تعتمد على البصيرة الدينيّة، إذ الأخيرة تُشكّل أساساً ومدماكًا في البصيرة الاجتماعية.

وتَكوُّن البصيرة الاجتماعيّة، لا سيّما في نطاقها الأوّل في الأسرة والأصدقاء والأقرباء والجيران، يحتاج -عادةً- إلى تدخّل الواعين من الأهل والمعلّمين وغيرهم لتوجيه الأبناء والتلامذة نحو الوعي الاجتماعي من خلال السير في ضوء البنود الأربعة.

أمّا في الدائرة الاجتماعية العامّة، فإنّ البصيرة لا يكفي فيها توجيه الأهل والمعلّمين والمربّين، بل تحتاج إلى توجيه الوليّ العام للأمّة الذي يشكّل ضامنًا ضروريًا لتحصين بصيرتها، لا سيّما مع الجهود الكبيرة التي تبذل من شياطين الإنس والجن، كي يحرفوا القضايا عن حقيقتها.

وفي عصرنا شاهد عظيم على ذلك، ألا وهو الإمام الخميني+ الذي نقل الأمّة من حالة الإغلاق والتيه والانجذاب إلى الهاوية إلى البصيرة والوعي والإدراك لمحاولات شياطين الجنّ والإنس للتأثير في النظام الإدراكي للأُمّة فرسم خطوطًا حدّد من خلالها:

ـ عدوّ الأمة الوجودي، وهو إسرائيل.

ـ عدوّ الأمّة السياسي، وهو أمريكا.

- قضيّة الأُمّة الأساسيّة، وهي القدس.

- واجب الأمّة الأساس، وهو وحدتها.

واسترجع في منهجه العالم والمرأة والمسجد إلى أدوارهم الأصيلة.

وأوضح المعالم التي تحتاج الأُمّة إلى الاستنارة بها. وقد عرفت هذه الخطوط بخطّ الإمام الخمينيّ الذي اعتبره ولي الأمر الإمام الخامنئيّ  شاخصًا ضروريًا في صيانة بصيرة الأُمّة وحمايتها من أي انحراف.

فإن أردنا أن نكون من أهل البصائر، فمدرستهم عاشوراء، وصفتهم الشجاعة، وقائدهم وليّ الأُمّة، ومحصّن بصيرتها وهدفهم إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، فهم فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوم مستميتون.

آثار البصيرة:

1 ـ المساعدة على تشخيص خطّ المواجهة مع العدو، لأن هناك مَن يكون في صفّنا لكن حنجرته تردد حديث الأعداء.

2 ـ البصيرة تهدي إلى الحق وتؤدي إلى الرؤية الحقيقية للاعتماد على المسار الصحيح، وهي التي تنطلق من عقيدة سليمة ومنهج سليم وقد أنعم الله تعالى علينا بنعمة الإسلام ذلك الدين الكامل التام الذي يبيّن لنا طريق الحقّ ويعرّفنا على كيفية التعاطي مع الأحداث وتقييمها.

3 ـ البصيرة هي كشّاف النور، الذي يحتاج الإنسان إليه ليرسم هدفه في هذه الدنيا وليعرف الهدف ويحدّد الطريق، فالبصيرة تدلّ على الطريق، وإنّ أعظم ثروة يمتلكها الشباب المؤمن هي ما يجعله يزداد نوراً على نور. فإذا تمكّن الشاب من معرفة الله تعالى وعرض قلبه عليه من خلال الخشوع والذكر والتضرّع والتوسّل سيكون مصداقاً لقوله تعالى: {نُّورٌ عَلَى نُور}[النور: 35[

4 ـ البصيرة ضرورية لمواجهة الحرب الناعمة

فإنّ الأولوية الرئيسة في بلاد المسلمين اليوم هي مواجهة الحرب الناعمة للعدو، والتي تهدف إلى بثّ الريبة والتفرقة والتشاؤم بين أبناء الشعوب، وأن أهم سُبل مواجهة هذا الهجوم هو حفظ وتقوية البصيرة والروح التعبوية والأمل الكامل في المستقبل، والمراقبة الجادّة في حالات التشخيص.

قراءة 4425 مرة