حكمة العبادة في كلمات أمير المؤمنين علي (عليه السلام)

قيم هذا المقال
(0 صوت)
حكمة العبادة في كلمات أمير المؤمنين علي (عليه السلام)

نجد أن الإمام (عليه السلام) فيما روي عنه في نهج البلاغة يشير إلى لزوم العبادة ويؤكد عليها لاعتبارات عدة:
 
الأول: وقد مر ذكره ببيان أن العباد مقهورون ومجبرون ومضطرون إلى العبادة شاؤوا أم أبوا فإن لم يعبدوا اللَّه كانوا عبيداً لغيره وهم في هذا لا يخرجون عن كونهم عبيداً للَّه، لأنهم يكونون خاضعين للنظام والسنة الإلهية.
 
وقد مر الحديث عنه (عليه السلام): "فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون..."[1].
 
الثاني: بأن هذه العبادة هي اختبار للإنسان وامتحان، وليست أمراً اعتبارياً مجرداً من أي غاية وحكمة، بل يكون من خلالها المفاضلة في مراتب العباد.
 
عنه (عليه السلام):"ولكن اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره اخراجاً للتكبر من قلوبهم، واسكاناً للتذلل في نفوسهم..."[2].
 
وهذا الاختبار أيضاً ليس خالياً من الكرم الإلهي والفضل الرباني، فاللَّه يصلح به الإنسان وليس لمجرد معرفة الخبيث من الطيب، بل هو رحمة ولطف أيضاً، فالعبادة دواء وشفاء من أعظم الداء وهو الشرك، وهذا من آثارها كما سيأتي.
 
الثالث: الترغيب بالربح من خلال التجارة مع اللَّه، باعتبار أن بعض الناس قد يتعاملون حتى مع اللَّه )عزَّ وجلّ‏( من جهة انتظارهم للفائدة والربح المقابل.
 
فهم ينتظرون بدلاً معيناً وربحاً مضموناً وإلا تركوا العمل ويمكن أن تكون هذه العبادة عبادة التجار التي يتحدث الإمام(عليه السلام) عنها في نهج البلاغة أيضاً وسيأتي الكلام عنها، وهناك عبادة العبيد وهم المضطرون إلى هذه العبادة قهراً وخوفاً وكأن الطريقة الأولى التي مر ذكرها في بيان لزوم العبادة خطاباً لهؤلاء.
 
من كلامه(عليه السلام) المروي عنه الذي يستفاد منه الترغيب بالعبادة من باب التجارة مع اللَّه: "واختار من خلقه سُمَّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته... يحرزون الأرباح في متجر عبادته..."[3].
 
وهذا يناسب معنى قوله تعالى: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ... ﴾ [4].
  
الرابع: الامتنان والدعوة لشكر اللَّه على نعمه، فإن شكر المنعم لازم وواجب عقلاً.
 
عنه (عليه السلام): "فاتقوا اللَّه الذي نفعكم بموعظته، ووعظكم برسالته، وامتنّ‏ عليكم بنعمته، فعبِّدوا أنفسكم لعبادته، وأخرجوا إليه من حق طاعته"[5].
 
وكأنه (عليه السلام) يفرِّع لزوم العبادة على العباد بالنعمة الشاملة للرسالة التي هي نعمة معنوية والنعم الأخرى المادية. وعليه فيلزم على العباد أن يعبِّدوا أنفسهم للَّه )عزَّ وجلّ(‏  ويطيعوه مقابل ما أنعم عليهم، ووعظهم وهداهم.
 
ولعل ذلك أيضاً إشارة إلى عبادة الشكر للَّه سبحانه التي هي من المراتب العليا للعبادة، وهذا ما يشير إليه كلامه المروي عنه أيضاً في نهج البلاغة: "فاعتصم باللَّه الذي خلقك ورزقك وسواك وليكن له تعبدك..."[6].
فمن خلق وسوى هو من يستحق العبادة مقابل خلقه وفيه معنى الشكر للخالق على خلقه.
 
الخامس: أنها قضاء حق فإن من حق الخالق للوجود أن يعبده المخلوق دون غيره، وليس من باب الاضطرار بل من باب أداء حق ذلك الخالق، فهي حق له، وإن كان هذا الحق لا يستطيع أن يؤديه أحد مهما جهد وسعى، فالإنسان إنما يعبد بالوجود المعطى من اللَّه) عزَّ وجلّ، والذي يمن به عليه في كل لحظة من حياته فهو حتى في عبادته غير مستغن عن الخالق سبحانه.
 
عنه (عليه السلام): "من قضى حق من لا يقضى حقه فقد عبده"[7].
 
ويمكن أن يستفاد هنا أن المراد هو ما فرضه اللَّه (عزَّ وجلّ‏) وجعله حقاً له على العبد وبهذا المعنى يشابه ما روي عنه (عليه السلام) في النهج أيضاً:"... ولا عبادة كأداء الفرائض"[8].
 
وكأن قضاء حق من لا يقضى حقه هو أداء ما افترض وهو أمر ممكن للعبد، فيستطيع أن يأتي بالفرائض وهو أدنى العبادة وبدونه لا تكون عبادة، لأن ترك أي عبادة مفترضة هو عمل محرم وهو تجرؤ على اللَّه (عزَّ وجلّ‏) وهتك لحرمته ولحدوده فالفرائض هي حدود اللَّه سبحانه، الذي إذا تجاوزه العبد يكون قد أخل بأدب العبودية وخرج من حيّز عبادة اللَّه إلى عبادة الشيطان.
 


[1] -  نهج البلاغة، خطبة 216.
[2] - م. س، خطبة 111.
[3] - نهج البلاغة، خطبة 1.
[4] - القرآن الكريم، سورة فاطر: 29.
[5] - محمد عبده، شرح نهج البلاغة، خطبة 198.
[6] - ن.م، كتاب 31.
[7] - م.س، خطبة 164.
[8] - ن.م، ح 113.

قراءة 3 مرة