سيرة جناب "أم حبيبة"

قيم هذا المقال
(4 صوت)

ان السيدة ام حبيبة احدي زوجات النبي (ص) و هي بنت ابي سفيان بن حرب بن امية بن عبد الشمس ابن عبد مناف. و من المشهور أن إسمها (رملة) و جاء في بعض الأخبار انها سميت بهند. ولدت في مکة المکرمة قبل البعثة النبوية الشريفة بسبعة عشر سنة و أما امها فهي صفيية بنت ابي العاص بن عبد الشمس بن عبد مناف التي کانت عمة لعثمان بن عفان .

تزوجت رملة قبل البعثة النبوية الشريفة من عبد الله بن جحش الاسدي و هو اخو زينب بنت جحش احدي زوجات النبي (ص).

و آمنا کلاهما« اي رملة و عبد الله» بالنبي(ص) و دعوته و کانا من الأوائل السابقين في الإيمان بالإسلام و الدعوة النبوية(ص) الشريفة.

و لقد فضلت السيدة ام حبيبة، الله و رسوله علي کل شييء (النبي اولي بالمؤمنين من انفسهم) فقد ءامنت بالنبي ايماناً قلبياٌ و تمسکت بالإسلام بشکل تام حتي إنها کانت تخاف من العودة الي الکفر کخوف احدٍ من الوقوع في النار و تري ان الکفر لا يناسب منزلتها الإنسانية و هذا ادل دليل علي ان التزامها بالإسلام کان مبتنياٌ علي الوعي و منبعثاٌ من القبول العقلي.

و أما ابوها (ابو سفيان) فانه کان لا يتصور يوماٌ ما ان شخصاٌ من ابناء قريش يقف أمامه بهذه الصلابة و يخالفه في قوله و فعله و يعلن معارضته له في اي مسألة مهمة و اساسية, و خصوصااذا کانت تتعلق بامور الدين . فهو کبير مکة و قائداٌ لها و الکل او الغالب منقادون له، مطيعون لاوامره ولکن ابنته (رملة) ءامنت بالله الأحد و کفرت بکل اله سوي الله و ولَت عن ءامنت اتباعاً لزوجها عبيد الله، و لکن هذا القول لم يکن صحيحاً. بل ان هذه السيدة الجليلة اعتنقت الاسلام عن وعي و معرفة و ادل دليل علي هذا الأمر تبعيتها للإسلام في إبتداء الدعوة النبوية(ص), و في وقت کان المسلمون مضطربون, خائفون, مشردون ومضطهدون مِن قِبَل بني امية و بالذات أبيها ابو سفيان.

فقد ءامنت مع زوجها عبيد الله بن جحش بالنبي(ص) لا انها ءامنت متأثرة بإيمان زوجها. و اما ابو سفيان فقد بذل کل جهده و قواه ليعيد ابنتة و صهره الي دين آبائهم و اجدادهم ,اي (الوثنية) و لکنه لم ينال خيراٌ في هذا المجال !لأن الإيمان الذي غرس في عمق وجود السيدة رملة, کان اعمق و اثبت من ان يتزعزع بالتخويف و التهديد الناشيء من غضب ابو سفيان و کان ثبات ايمانها و اعتقادها بالإسلام عاملاٌ مؤثراٌ في غضب ابو سفيان و تألمه و سبباٌ في ضعفه و انهياره .

فهو صاحب الجاه و الجبروت , و السيطرة و الغلبة و صاحب الکلمة النافذة في قومه و قبيلته, لم يستطع أن يؤثر علي ابنته و يصرفها عن اتباع الرسول(ص) فکيف يمکن له أن يواجه قريش؟ و بأي وجه يلقاهم؟ وهوالذي يدعي الرئاسة عليهم و القيادة لهم؟!!.

و أما قريش فلما علموا أن ابو سفيان غاضب علي ابنته السيدة رملة و زوجها، تجرءوا عليهم بأنواع الأذي و التضييق و الحصار, و ءاذوهما بشتي طرق التعذيب الروحي و الجسمي الي حد لم يمکن لهما استمرار المعيشة في مکة المکرمة! و لذلک بمجرد ان سمح النبي(ص) للمسلمين بالهجرة الي الحبشة, هاجرت السيدة رملة مع ابنتها الصغيرة (حبيبة) و زوجها عبد الله بن جحش الي الحبشة ,وذالک مع الوفود الأوائل الذين ترکوا ديارهم حفاظاٌ علي عقيدتهم و اطاعتاٌ لخالقهم.وقال سبحانه: (و من يخرج من بيته مهاجراٌ الي الله و رسوله فقد وقع اجره علي الله).

و بالطبع, فان ابو سفيان و باقي الکبراء و اعلام الکفر و الشرک في مکة, لم يکفوا عن اعمالهم في الأعتداء و الأذي, فأنه کان من الصعب عليهم ,يرون ان المسلمين قد فروا من ايديهم, و خرجوا عن طوق حکومتهم ,ومن الممکن ان يذوقو طعم الأستقرار و الراحة والطمأنينة تحت ضل حکومة النجاشي في الحبشة و خصوصا ان النبي (ص) وصفه بالعدالة.

فلذالک ارسلوا ممثلين الي النجاشي حاکم الحبشة ليحرضوه علي المسلمين ويطلبون منه ان يعيد المسلمين و يطردهم من الحبشة. و ايضاٌ اتهموا المسلمين بالاعتقادات السيئة بالنسبة لعيسي المسيح(ع) و امه مريم و بما ان نجاشي کان مسيحياٌ فأرادو أن يغضب علي المسلمين و يعاقبهم علي ما يعتقدون و يتصورون. ولکن الأمر لم يتم کما أراد الکفار و المشرکون فأن نجاشي دعي کبار المهاجرين و طلب منهم ان يکشفوا عن رأيهم في عيسي ابن مريم(ع) و امه, و يظهروا حقيقه دينهم. و کذالک طلب منهم أن يتلون عليه الأيات التي نزلت علي نبي الاسلام (ص) في شأن عيسي بن مريم(ع) و امه.

فلمسلمون بينوا له حقيقة الدين الإسلامي وتلوا عليه ءايات من القرآن و حينما سمع النجاشي کلام الله انهدرت الدموع من عينيه و ءاخذ بالبکاء, الي أن بلت محاسنه ثم قال {إن ما نزل علي نبيکم محمد(ص) و ما نزل علي عيسي(ع) منشأه واحد واذا به قد اعلن اسلامه و صدق رسالة النبي المصطفي محمد(ص)فطوبي له و حسن مآب.

و من ما ثبت في التاريخ أن قادة الجيش و الزعماء في الحبشة لم يؤمنوا بالإسلام و تمسکوا بالمسيحية و لکن النجاشي استمر في حمايته و دعمه للمسلمين المهاجرين, و اعلن دفاعه عنهم بکل قوة .

و في هذه الأوضاع ضنّت السيدة ام حبيبة أن ايام المحنة قد انتهت و الراحة قد حلّت و اطلّت علي حياتها، فلقيت البلاد التي تتمکن أن تعيش فيها بأمن و سلام. لکنّها لا تعلم ما تضم لها الأيام من مقدرات, و ما يحمل لها الزمن من مستورات! فإن الحکمة الإلهية اقتضت أن تقع السيدة ام حبيبة في معرض ابتلاء الهي عظيم, و تفتن بأخبارٍ کاد أن لا يفلح فيه الکبار من الرجال و لا ينجوا منه بعض العظماء.!حيث وعدنا الله جل وعلي في کتابه الکريم :(أحسب الناس أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون)!!! و اما هي, فغلبت و انتصرت و خرجت مرفوعة الرأس,محافظة علي القيم و الأسس الألهية لأنها کانت من المومنين . و في احدي الليالي رأت السيدة ام حبيبة في عالم الرؤيا زوجها عبيد الله بن جحش و هو في حال الغرق في بحر مواج قد غلبت علي هذا البحر الظلمة و هو في وضع مأساوي قد اشرف علي الهلاک. و لما استيقظت من النوم مرعوبة, قد عم وجودها الخوف و الوحشة و کانت قد حرصت علي أن لا يطلع زوجها أو أي شخص آخر علي ما رأته في المنام.

وقد نقل بعض المورخين الرءيا بصورة اخري تشابه ما ذکرناه بعض الشي . إلا أنهم يروون ان ام حبيبة أخبرت زوجها عبد الله بن جحش بما رأته, لکنه لا يهتم لهذا الأمر ولا يتفهم خطورته ! و سرعان ما تبدلت هذه الرؤيا الي الحقيقة !!! و في يوم تلک الليلة نفسها, ارتد عبيد الله عن دينه, و أصبح مسيحياً و أقبل علي شرب الخمر الي أن اعتاد علي تناول الخمر,و أدمن عليه الي أن مات بأثر الإسراف في الشرب . نعم انه اعتاد علي اثم يعد من الذنوب التي تؤدي الي ءاثام اخري و يسير بالأنسان نحو الهلاک . وقد عثرنا في التاريخ علي روءيا اخري ثبتت لأم حبيبة أنها قالت :رأيت عبيد الله بن جحش و هو يناديني يا أم المومنين !فاستغربت من ما رأيت! ولکني في نفس الوقت تأملت أن أکون يوما ما زوجة للنبي (ص). و في هذه الظروف الصعبة وجدت السيدة ام حبيبة نفسها مخيرة بين أمور ثلاثة:اولا: أن ترتد عن الإسلام و تعتنق المسيحية .لأن عبيد الله بن جحش کان يعرض عليها المسيحية باستمرار و إن لبَت طلبه فقد خسرت الدنيا و الأخرة و نالت الفضيحة في الدارين. لکنها سيده مسلمة ،ءامنت بربها و بدعوة النبي(ص)بعمق وجدانها, و لذالک لن ترتدعن دينها و اسلامها و إن ابتليت بأنواع الأذي و إن جري عليها ما جري.

ثانياً: ان تعود الي بيت أبيها في مکة، ذلک البيت الذي بات مرکزاً و مأوي لأهل الکفر و الشرک و العناد. و هذا ما لا يمکن ان يحدث لهذه السيدة المؤمنة.فکيف لها أن تعيش في ظل الکفرة؟حيث لن يجعل الله للکافرين علي المومنين سبيلا.

ثالثاً: و إما أن تبقي بعيدة عن الأهل و الوطن من دون معيلٍ و کفيلٍ . و قد إختارت الخيار الثالث, ذالک الوجه الذي فيه رضا الله لارضاء غيره. فعزمت علي البقاءفي الحبشة متأملة الفرج من جانب الرب الرحمن الرحيم .و سرعان ما حل الفرج و اليسر.( أن مع العسر يسري)و(من يتق الله يجعل له فرقانا)

زواج الرسول(ص)من السيدة ام حبيبة وبمجرد انقضاء العدة ,نري الخير کله يطرق ابواب بيتها الحزين ,و هذه حمامة السعادة ترفرف علي منزلها تبلغها البشري. و أي بشري اروع من ما عرض عليها؟

في صباح يومٍ مشرق جاءت جارية للنجاشي تدعي (أبرهة) طرقت أبواب بيت السيدة ام حبيبة ففتحتها و لقت أبرهة امامها فسلمت أبرهة عليها بأدب و إحترام و استأذنتها في الدخول ثم قالت: أن الملک يبلغک السلام و يقول: ان محمد رسول الله (ص) ارسل لي مکتوب يطلب فيه يدک (أي يخطبک ) و قد جعلني وکيلاً عنه، فأنت إجعلي من شئت حتي يکون وکيلاً لک ففي هذه اللحظة غمرت السعادة قلبها و عمت الفرحة وجودها و نادت أبرهة قائلة لها: بشرک الله خيراً

و بدأت تخرج من يديها و رجليها الزينة و الخلخال و ما تملک معها من قرطٍ و سوارٍو خاتم و غير ذلک , فأعطتها لأبرهة، فرحة و سروراً بما بشرتها به و ربما لو کانت تملک خزائن الذهب و الفضة في ذلک اليوم لقدمته جميعهاً لأبرهة. نعم إن هذه السيدة المؤمنة علمت و بجد, ما تفضل الله عليها من نعمة عظيمة وأي منحة افضل من أن رسول الله يتقدم لخطبتها....؟؟؟

ثم قالت لأبرهة: أنا أجعل خالد بن سعيد بن العاص وکيلا عني لأنه أقرب الناس لي في هذه البلدة اي (الحبشة). و بدعوة من النجاشي في تلک الليلة حضر جمع من اصحاب الرسول(ص) کجعفر بن ابي طالب و خالد بي سعيد بن العاص و عبد الله بن حذافة السهمي و ءاخرون.

لقد عقد النجاشي هذا المجلس في قصره الذي بُني علي منطقة مرتفعة تحيط به اشجاراً جميلة و کان مشرفاً علي أحد البساتين الجميلة ذات المناظر الجذابة في الحبشة...

و من ما يزيد هذا القصر جمالاً و بداعة، الأنارة و السجاد و الزخارف المتخذة فيه و غيرها!

ولما اجتمع المدعويين ابتداء النجاشي بالکلام فخطب فحمد اللـه تعالى وأثنى عليه وتشهـد قائلاً:اشهد أن لا إله الا الله الملک القدوس السلام المومن المهيمن الجبار المتکبر. ثم قال : أما بعد ، فإن رسـول اللـه (ص) كتب إليّ أن أزوّجه أم حبيبة ، فأجبت وقد أصدقتُها قل النجاشي لاعنه أربعمائة دينار ) ثم سكب الدنانير ، ثم خطب خالـد بن سعيـد فقال : قد أجبتُ إلى ما دعا إليه رسـول اللـه (ص) وزوّجته أم حبيبة )00وقبض الدنانير ، فلما تم الأمر و أرادوا الخروج فقال لهم النجاشي إجلسوا, إن الوليمة سنة الأنبياء في الزواج .فأمر ل النجاشي أن يأتوا بالطعام فأكلوا

تقول أم حبيبة -رضي الله عنها- : فلمّا وصل إليّ المال ، أعطيتُ( أبرهة) منه خمسين ديناراً ، فردتّها عليّ وقالت : إن الملك عزم عليّ بذلك ) وردّت عليّ ما كنتُ أعطيتُها أوّلاً ثم جاءتني من الغَد بعودٍ ووَرْسٍ وعنبر ، وزبادٍ كثير -أي طيب كثير- ، فقدمتُ به معي على رسول الله (ص)

ولمّا بلغ أبا سفيان أن النبي (ص) نكح ابنته قال : هو الفحلُ لا يُجْدَعُ أنفُهُ ) أي إنه الكُفء الكريم الذي لا يُعاب ولا يُردّ

عودة المهاجرة:

لقد كانت عـودة المهاجـرة ( أم حبيبة ) عقب فتح النبـي (ص) خيبر ، عادت مع جعفر بن أبي طالب ومن معه من المهاجرين الى الحبشة ، وقد سُرَّ الرسـول (ص) کل السرور لمجـيء هؤلاء الصحابـة بعد غياب طويل ، ومعهم الزوجة الصابرة الطاهرة وقد قال الرسـول (ص) :والله ما أدري بأيّهما أفرحُ ؟ بفتح خيبر ؟ أم بقدوم جعفر )

الزفاف المبارك:

ولما وصلت السيدة أم حبيبة -رضي الله عنها- الى المدينة ، حتى استقبلها الرسول (ص) بالسرور والبهجة ، وأنزلها إحدى حجراته بجوار زوجاته الأخريات ، واحتفلت نساء المدينة بدخول أم حبيبة بيت رسول الله (ص) وهن يحملن لها إليها التحيات والتبريكات ، وقد أولم خالها عثمان بن عفان وليمة حافلة ، نحر فيها الذبائح وأطعم الناس اللحم

تذکر السيدة ام حبيبة: لما جاءوا بي الي النبي (ص) و التقبت به بدأت اتحدث عن الخطبة التي کانت في الحبشة و محفل العقد الذي عقده النجاشي و ايضا عن کيفية لقائي بأبرهة و مدي الفرحة من الخبر السار الذي جاءت به ابرهة الي الاّ و هو الخبر الذي غمر قلبها سروراً و فرحاً نعم طلب الرسول (ص) ليد ام حبيبة و ايضاً بلغت سلام ابرهة و ايمانها و اسلامها بدعوة النبي ّ الخاتم محمّد (ص) فقال النبي (ص) و عليها السلام و رحمه الله و برکاته.

واستقبلت أمهات المؤمنين هذه الشريكة الكريمة بالإكرام والترحاب ، ومن بينهن العروس الجديدة ( صفية ) التي لم يمض على عرسها سوى أيام معدودات ، وقد أبدت السيدة عائشة استعدادا لقبول الزوجة الجديدة التي لم تُثر فيها حفيظة الغيرة حين رأتها وقد قاربت سن الأربعين ، وعاشت أم حبيبة بجوار صواحبها الضرائر مع الرسول (ص) بكل أمان وسعادة

إسلام أبو سفيان:

وبعد فتح مكة أسلم أبو سفيان ، وأكرمه الرسول (ص) فقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن )و وصل هذا الحدث المبارك الى أم المؤمنين ( أم حبيبة ) ففرحت بذلك فرحاً شديداً ، وشكرت الله تعالى أن حقَّق لها أمنيتها ورجاءَها في إسلام أبيها وقومها

مكانة أم حبيبة وفضلها:

هي من بنات عمِّ الرسول ، ليس في أزواجه مَنْ هي أكثر صداقًا منها، ولا مَنْ تزوَّج بها وهي نائية الدار أبعد منها

وهي -رضي الله عنها- ابنة زعيم مكة وقائدها أبو سفيان بن حرب، ورغم ذلك فقد أعلنتْ إسلامها رغم معرفتها بعاقبة هذا الأمر عليها وسخط أبيها، وما يجره ذلك من متاعب وآلام انتهت بهجرتها وزوجها المسلم آنذاك إلى الحبشة

وقد هاجرت -رضي الله عنها- إلى الحبشة وهي حامل بابنتها حبيبة ووَلَدَتها هناك، وفي هذا ما فيه من المشقَّة والتعب والتضحية في سبيل الله؛ ممَّا يدلُّ على عمق إيمانها وصدق يقينها بالله تعالى، وقد تنصَّرَ زوجها عبيد الله بن جحش، وساءت خاتمته، فتُوُفِّيَ على الكفر والعياذ بالله.

ومع هذا فقد ثبتَتْ -رضي الله عنها- على الإسلام، ثبتت رغم كُفْرِ أبيها وتنصُّر زوجها، ثبتَتْ لمَا أراد الله بها من الخير، ولمَا أَعَدَّ لها من الخير في الدنيا والآخرة.

الحكمة من زواج الرسول بأم حبيبة:


تزوَّج النبي السيدة أمَّ حبيبة في العام السابع من الهجرة النبويَّة المشرَّفة، وكان زواجه منها تكريمًا لها على ثباتها في دين الله، فكم من امرأة تَتْبَعُ زوجها في كل حركة وسكنة في حياته، تفعل الخير بفعله، وتكفُّ عن الشرِّ بِكَفِّه!! لكنَّ هذه المرأة المهاجرة تبعت زوجها في الهجرة الي حبشة لما کانت مطمئنة بطريقه و دينه و انتمائه لرسول الله (ص) فلم يزعزعها الم الفراق بينها و بين عائلتها و لدتها فتبعيتها له کانت تبعية لعقيدتها ولکنّه لما بدت عليه ءاثار المعصية و الفسق و خصوصاً في شربه للخمر لم تترکه و شأنه لأنها لم تکن ضعيفة، وإنما حاولتْ بكل ما أُوتيتْ من قوَّة أن تثني زوجها عن تغيير عقيدته إلى عقيدة التوحيد، لكنَّه أصرَّ وتولَّى، فصبرتْ وشكرتْ، فكافأها الله بزواجها من رسول الله ، وجعلها أُمًّا للمؤمنين.

لم يكن رسول الله بمنأًى عمَّا يحدث لأصحابه أينما كانوا، فقد كان القائد الأوَّل للمسلمين يتابع أحوال الجميع، إنه مسئول يتفقَّد رعيَّته، ولم تكن أحوال المسلمين المهاجرين إلى الحبشة لِتَخْفَى عليه، فقد كان يُتابعها بشكل دائم، وقد وصلت إليه أخبار السيدة الكريمة الشريفة أمِّ حبيبة وما لاقتْ من مصاعب ومتاعب، وكيف صبرتْ وثبتتْ وتمسَّكتْ بالإسلام، رغم كل ما مرَّتْ به من أحوال، فكانت مواساة رسول الله لها أن طلب الزواج منها....

فكان هذا الزواج تعويضًا لها عمَّا لاقته -رضي الله عنها- من عَنَتٍ ومشقَّة، ومكافأة لها من الله لصبرها وثباتها، وما ادَّخره لها في الآخرة خيرٌ وأبقي...

وكانت -رضي الله عنها- مع غَيْرتها على رسول الله تحبُّ أن تشاركها فيه أختها عزَّة بنت أبي سفيان؛ فقد سمِعَتْ أن رسول الله همَّ أن يتزوَّج دُرَّة بنت أمِّ سلمة؛ فعن زينب بنت أبي سلمة أن أمَّ حبيبة قالت: قلتُ: يا رسول الله، انكح أختي بنت أبي سفيان. قال: "وَتُحِبِّينَ؟". قلتُ: نعم، لست لك بمُخْلِيَةٍ، وأحبُّ مَن شاركني في خيرٍ أُختي. فقال النبي : "إِنَّ ذَلِكَ لا يَحِلُّ لِي". قلتُ: يا رسول الله، فوالله إنَّا لنتحدَّث أنك تريد أن تنكح دُرَّة بنت أبي سلمة. قال: "بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟". فقلتُ: نعم. قال: "فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي؛ إِنَّهَا لاَبْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ"

وقيل: إن قول الله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7] نزل في أبي سفيان صخر بن حرب، فإنَّ رسول الله تزوَّج ابنته أمَّ حبيبة، فكانت هذه مودَّة ما بينه وبينه

الأوصاف الاخلاقية المذکورة للسيدة ام حبيبة:


1- ينقل انها کانت من النساء العابدات و المنتميات في زمانها، تصلي کثيراً لوجه الله سبحانه و تذکره کثيراً امتثالاً لأمره سبحانه و تعالي في سورة الأحزاب و سورٍ اخري {و اذکروا الله ذکراً کثيراً و سبّحوه بکرة و اصيلا} و ايضاً نقل انها کانت تهتمّ بأمور دينها و تعاليم الإسلام الحنيف.

2- ان السيدة ام حبيبة کانت معروفة و مشهورة بالذکاء و الفطنة و حسن الرأي و في نفس الوقت کانت علي ارتباط حميم و حسنٍ مع السيدة عائشة و باقي نساء النبي (ص) هذا في وقت نري أنّ التاريخ يذکر لنا بعض المواقف الخلافية لبعض نساء النبي مع البعض الأخر لکن السيدة ام حبيبة امتازت في هذه الصفة و کما يذکر لنا ارباب التأريخ اًنها کانت تحرص علي رضائهن و ودهنّ و عدم التنازع معهن.

3- لم تصالح احداً و لا تغضي النظر علي فعل کل احد - في امور الدين و مصالح الإسلام – حتي مع ابيها لقد عقد صلح الحديبية بين المسلمين و قريش في حالٍ لم يکن ابوسفيان في مکة المکرمة، فلذلک قام أحد کبار قريش القداما ( سهيل بن عمرو العامري) بعقد الصلح و امضائه بدلاً من ابي سفيان و لابد من الألتفات لهذا الأمر ان – بني خزاعة- کانوا من المتعاعدين و المعاضدين للمسلمين و بناءً علي معاهدة صلح الحديبية لم يکن لقريش حقٌ في التعرض لهذه القبيلة. ولکن مجموعة من السفهاء و صاحبين العقول الساذجة نقضوا العهد و هجموا علي بني خزاعة فلما بلغ المسلمون هذا الأمر عزموا علي مساندة و نصرة بني خزاعة، وهنا علمت قريش بخطأها و تيقنت بخطورة هجوم المسلمين عليها و کذلک طلبوا من ابوسفيان بالذهاب الي المسلمين و ادرک الأمر ابوسفيان فعزم بالذهاب الي الرسول الاکرم (ص) ليطلب منه تمديد العهد الي اکثر من عشر سنين.

سار ابو سفيان نحو المدينة و ذهنه يعمل الآف الأفکار المتناقضة متحر و مضطرب لا يعلم ماذا يفعل أيحارب ام يصالح کان يفکر دائماً بأن ما هو الأمر الذي جعل المسلمين في هذه المنزلة و المرتبة و المکانة و في المقابل تنزلت قريش الي هذه المستوي الدني و تورطت في هذه الذلة و المهانة قبل أن يصل أباسفيان الي المدينة بدأ يفکر في أي بيت يبيت و ينزل رکبه فقال مع نفسه: لا احد اقرب الي من بيت البنتي رملة و إن کانت زوجة محمّد (ص) و لکني ابوها و تحملت الکثير في تربيتها ولي حق الأبوة عليها فستنصرني و تساعدني!!!

ولما وصل الي المدينة کان عليه قبل کل شيء ان يذهب الي رسول الله (ص) و قد فعل. فقي بدء دخوله للمدينة، ذهب الي مسجد النبي (ص) فرأي الرسول مع جمع من اصحابه هناک تقدم نحو النبي و عرض مسائله و طلباته مع رسول الله (ص) و سعي بکل جهده ان يمدد المعاهدة الي عشر سنوات فرفض الرسول (ص) و امتنع من قبول طلب ابوسفيان. فأراد ابوسفيان ان يستعين على تحقيق مراده بابنته ( السيدة ام حبيبة) فدخل دار أم حبيبة ، وفوجئت به يدخل بيتها ، ولم تكن قد رأته منذ هاجرت الى الحبشة ، فلاقته بالحيرة لا تدري أتردُّه لكونه مشركاً ؟ أم تستقبله لكونه أباهـا ؟ وأدرك أبو سفيان ما تعانيـه ابنته ، فأعفاها من أن تأذن له بالجلـوس ، وتقدّم من تلقاء نفسه ليجلس على فراش الرسـول (ص) ، فما جلس إلا وابنته تجذب الفراش لئلا يجلس عليه ، فسألها بدهشة فقال : يا بُنيّة ! أرغبتِ بهذا الفراش عني ؟ أم بي عنه ؟) فقالت أم حبيبة : بلْ هو فراشُ رسول الله (ص) وأنت امرءٌ نجسٌ مشركٌ ) فقال : يا بُنيّة ، لقد أصابك بعدي شرٌّ فقالت لا يا أبتي بل إهتديت أنا للإيمان و أنت کبير قريش إبتليت بالکفر  فخرج من بيتها خائب الرجاء00

مروياتها عن رسول الله ومحافظتها على سنة النبي:


وبعد وفاة النبي ظلَّت السيدة أمُّ حبيبة -رضي الله عنها- مستمسِّكة بسُنَّته ؛ ولمَّا جاء نعي أبي سفيان من الشام دعتْ أمُّ حبيبة -رضي الله عنها- بصفرة في اليوم الثالث، فمسحتْ عارضيها وذراعيها، وقالت: إني كنتُ عن هذا لغنية، لولا أني سمعتُ رسول الله يقول: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا

روت أمُّ المؤمنين أمُّ حبيبة -رضي الله عنها- عن النبي عدَّة أحاديث، جعلها بَقِيّ بن مَخْلد خمسة وستِّين حديثًا، ولها في مجموع الكتب الستَّة تسعة وعشرون حديثًا، اتَّفق لها البخاري ومسلم على حديثيْن، وروى عنها أخواها معاوية وعنبسة، وابن أخيها عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان، وعروة بن الزبير، وشُتَير بن شَكَل، وشهر بن حوشب، وأبو سفيان بن سعيد بن الأخنس وهي خالته، وأبو صالح ذكوان السمَّان، وصفية بنت شيبة، وزينب بنت أبي سلمة. وحديثها -رضي الله عنها- مشهور في تحريم الربيبة وأخت المرأة، وأيضًا حديثها في فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن مشهور، وقد رواه عنها معظم التلاميذ الذين ذكرناهم، كما حوت مرويَّاتها أحاديث في وجوب الإحداد للمرأة المتَوَفَّى عنها زوجها، وعدم جوازه لغير الزوج فوق ثلاثة أيام، والكُحْل للحادَّة... وفي أبواب الحج روت في استحباب دفع الضعفة من النساء وغيرهن من المزدلفة إلى مِنى في أواخر الليل قبل زحمة الناس، وفي أبواب الطهارة: الوضوء ممَّا مسَّته النار، وفي صلاة الرجل في الثوب الذي جامع فيه، وما يجوز للرجل من المرأة الحائض... وفي أبواب الصوم: روت في جواز القُبْلَة للصائم، وفي الدعاء بعد الأذان... وروت في العير التي فيها الجرس لا تصحبها الملائكة، وغيرها

1- روي عن السيدة ام حبيبة زوجة النبي (ص): سمعت رسول الله (ص) يقول: ما من عبد مسلم يصلي في اليوم و الليلة 12 رکعة نافلة _ اي ( الصلاة غير الواجبة) _ لوجه الله تبارک و تعالي الّا و بنا الله عز و جل له قصراً في الجنة او يبني له قصراً في الجنة. (مسلم-728)

2- نقل عن السيدة ام حبيبة و عبد الله بن عمر و ام سليم و السيدة عائشة و السيدة ميمونة و السيدة ام کلثوم و السيدة ام سلمة و ابن عباس (وهذا حديث حسن او صحيح)

و ايضاً نقل عن احمد و اسحاق انهم شهدوا ان رسول الله (ص) صلي علي الخمرة، يقول ابو عيسي (الخمرة) هي الحصيرة الصغيرة. (سنن الترمذي ج 2 ص 151-152)

3- روت زينب بنت السيدة ام سلمة عن السيدة ام حبيبة ان النبي (ص) قال: لا يجوز للمرأة المسلمة الّتي ءامنت بالله و اليوم الأخر ان تحتدّ اکثر من ثلاثة ايام - اي تترک الزينة للحداد – الّا المرأة التي توفي زوجها فتحد اربعة اشهر و عشراً.

حياة أم حبيبة بعد النبي:

عاشت السيدة أمُّ حبيبة -رضي الله عنها- بعد رسول الله ثلاثًا وثلاثين سنة، متمسِّكة بهدية، سائرة على سُنَّتِه، عميقة الصلة بالمؤمنين جميعًا، مشارِكة للمسلمين في الأحداث العظمى؛ ففي أيام الفتنة الكبرى، ولما اشتدَّ أذى المتمرِّدين على عثمان بن عفان قال الناس: لو جئتم بأمِّ المؤمنين؛ عسى أن يكفُّوا عنه. فجاءُوا بأمِّ حبيبة بنت أبي سفيان، فنظرتُ إليها وهي على بغلة بيضاء في محفة، فلمَّا جاءُوا بها إلى الدار، صرفوا وجه البغلة حتى ردُّوها.

كما كانت حسنة الصلة بأُمَّهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعًا، حريصةً على وُدِّهن واسترضائهن، ففي اللحظات الأخيرة من حياتها استدعت السيدة عائشة -رضي الله عنها- لتقول لها أمرًا غاية في الأهمِّيَّة بالنسبة لها؛ فعن عوف بن الحارث قال: سمعتُ عائشة -رضي الله عنها- تقول: دعتني أمُّ حبيبة زوج النبي عند موتها، فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك. فقلتُ: غفر الله لكِ ذلك كله، وتجاوز وحلَّلَكِ من ذلك. فقالت: سررتني سرَّك الله. وأرسلت إلى أمِّ سلمة، فقالت لها مثل ذلك...

المنابع و المآخذ:

ابن سعد: الطبقات الكبرى 8/97، وابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 7/651، وقيل: ولدتها بمكة.

الخَدَمتين: الخَلْخالانِ، وهي حُلِيّ تلبس في الرجل من الذهب والفضة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة خدم 12/166.

رزأ الشيء: أخذه، أو انتقصه وأصاب منه. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة رزأ 1/85.

الزباد: نوع من الطيب، قيل: يستخرج من دابة مثل السِّنَّور. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة زبد 3/192

ابن سعد: الطبقات الكبرى 8/97، 98، وابن عساكر: تاريخ دمشق 69/ 143، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 11/194.

ابن سعد: الطبقات الكبرى 8/97، والذهبي: سير أعلام النبلاء 2/221.

الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 5/206.

ثويبة مرضعة النبي مولاة أبي لهب. انظر: ابن حجر العسقلاني: الإصابة 7/548 (10964)، وابن الأثير: أسد الغابة 7/51.

البخاري: كتاب النكاح ، باب "وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف" (4818.

ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 8/89.

البخاري: كتاب الجنائز، باب حد المرأة على غير زوجها (1221)، ومسلم: كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة... (1486.

المحفة: مركب للنساء كالهودج إلا أنه لا قبة له. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة حفف 9/49.

الذهبي: سير أعلام النبلاء 4/569.

ابن سعد: الطبقات الكبرى 8/100، والذهبي: سير أعلام النبلاء 2/223، وابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 7/653.

ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 7/653.

سير أعلام النبلاء/أم حبيبة

سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي

قراءة 8072 مرة