سيرة جناب "زينب بنت جحش"

قيم هذا المقال
(18 صوت)

هي احدى زوجات الرسول الاكرم(ص) وابوها جحش بن رئاب وامها أميمة بنت عبدالمطلب عمة النبي (ص). وكان زواجه منها احدى اهم التطورات التي حدثت في العام الخامس للهجرة النبوية الشريفة. وللتعرف على قصة زواجه (ص) من ام المؤمنين زينب بنت جحش يجب التعرف اولا على قصة زواجها من زوجها الاول زيد بن حارثة.

لقد كان زيد بن حارثة الرجل الثاني الذي آمن بالرسول الاكرم (ص). حيث كان خادما في بيت ام المؤمنين خديجة بنت خويلد، واعتقه منها النبي محمد(ص) بعد ان وهبته له، واصبح من حينها ربيب النبي حتى ان اهل مكه كانوا يسمونه بـ: "زيد بن محمد" .

قصة اسر زيد ودخوله الرق:

كان زيد بن حارثة رضوان الله تعالى عليه من قبيلة بني كلب. وذات مرة حدثت نزاعات بين قبيلته واحدى القبائل العربية الاخرى، حيث تم اسره فيها، واقتيد مخفورا الى سوق عكاظ، ثم عرض للبيع في سوق العبيد. وكانت ام المؤمنين خديجة بنت خويلد قد اوصت ابن شقيقها حكيم بن حزام ليشتري لها عبدا، يخدمها في المنزل فما كان منه الا ان يشتري لها زيد بن حارثة من سوق عكاظن ويأتي به الى مكة. وما ان تزوجت خديجة من الرسول الاعظم(ص) حتى نشأت علاقة وثيقة بين النبي وزيد، حيث كان يسميه النبي بـ "زيد الحب". وما ان شاهدت خديجة تنامي هذه العلاقة بينهما وهبته للنبي (ص).

وبعد فترة حج جمع من قبيلة بني كلب وشاهدوا زيدا وعرفوه، كما عرفهم هو الآخر وقال لهم: صحيح اني اعلم ما تحمّل والداي من جزع وفزع في غيابي، الا اني آثرت الحياة هنا، ثم انشد اشعارا تؤكد ريعه وسلامته ورضاه بما هو فيه ويحمد الله على ان جعله ربيب بيت النبوة والكرم والمجد. وقدم لهم القصيدة التي كان مطلعها:

فإني بحمد الله في خير اُسرة كرام مَعَدٍّ كابرا بعد كابر...ِ

ولدى عودتهم الى ديارهم، حمل حجاج قبيلة بني كلب اخباره الى ابيه، فما كان من ابيه وعمه، الا ان يقدموا على تقديم فدية للمسلمين، حتى يطلقوا سراحه ويخلصوه من الأسر والرق، فجاءوا الى رسول الله (ص) وقالوا له:

يا ابن عبد المطلب، ويا ابن هاشم ويا ابن سادة قريش!!.. قدمنا اليك لنُحدثك عن ابننا المتواجد بين ظهرانيكم. فتلطف علينا متفضلا وتقبل فديتنا، وخل سبيله ليعود معنا.

فقال النبي الاكرم(ص): فمن هو ابنكم؟

قالوا: زيد بن حارثة.

فقال النبي(ص): لماذا لم تقدموا اقتراحا آخر.

قالوا: اي اقتراح؟

فقال النبي(ص): كلموه، واتركوا الامر له ليختار ما يريد! فان اختاركم فهو لكم، وان اختارني، فو الله من يختارني و يفضل البقاء معي فلن ابدله بأي شيئ!

قالوا: ما انصفك، لقد احسنت الينا اكثر مما كنا نتوقع.

فطلب الرسول(ص) زيدا وقال له: اتعرف هؤلاء؟

قال: بلى. فهذا ابي، وذلك هو عمي.

فقال النبي(ص): أنا كما عرفتني وقد شهدت معاشرتي اياك. والآن الامر اليك، ويمكنك ان تختار الحياة مع اي منا.

فقال زيد: لا اريدهم، ولن افضل احداً عليك، فأنت البديل عن ابي وعمي لي.

فقال والد زيد وعمه: ويحك يازيد! ويحك؟ أتُفضّل ان تبقى عبدا وترفض العودة الى احضان اسرتك وأبيك وعمك؟

فقال زيد: نعم ان هذا الرجل فيه خصال لا افضل احداً عليه بسببها.

ولما سمع الرسول الاكرم(ص) كلام زيد، اصطحبه الى حجر اسماعيل حيث المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته: ايها الحضور، اشهدوا واعلموا ان زيدا هذا ولدي، انه يرثني وانا ارثه. ... فلما شهد والد زيد وعمه الواقعة اطمأنا و ابتهجا سرورا وقفلا عائدين الى ديارهما.

وما ان نزل الوحي على النبي وصار مبعوثا بالرسالة الاسلامية مضت على تلك الحادثة عدة سنوات، حتى نزلت الآيتين الخامسة والسادسة من سورة الاحزاب، وأمرتا الرسول ان يبلغ الناس، ليدعو ادعياءهم وربائبهم باسم آبائهم حيث قال سبحانه وتعالى:

" ادعوهم لآبائهم هو اقسط عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما اخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما".

كما قال سبحانه تعال في الآية الاخرى:

" النبيُ اولى بالمؤمنين من انفسهم وازواجه امهاتهم واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين و المهاجرين، الا ان تفعلوا الى اوليائكم معروفا، كان ذلك في الكتاب مسطورا".

هاتان الآيتان نسختا الحكم السابق اي حكم تبني الرسول الاكرم(ص) لزيد بن حارثة، واصبح من الواجب دعوة الربائب بإسم آبائهم الحقيقيين، ومنذ ذلك الحين قيل لزيد، زيد بن حارثة ثانية.(1)

زواج زيد بن حارثة من زينب بنت جحش:

ومن الطاف النبي الاكرم(ص) على زيد انه قرر اختيار زوجة له، ومن اجل ذلك ارسل الخاطبين الى زينب بنت جحش وعشيرتها. فظنت زينب وعشيرتها ان الخاطب هو الرسول (ص) وانه هو الذي سيتزوجها، فتمادوا فرحا وابتهاجا ورحبوا بالخاطبين، لكنهم عندما عرفوا ان الخطبة لزيد بن حارثة، ندموا على استقبالهم للركب الخاطب، وارسلوا الى الرسول (ص) عدم موافقتهم بالامر، لأنه يتنافى والاعراف السائدة في قبيلتهم، مؤكدين بذلك رفضهم للامر جملة وتفصيلا. لكن عندما نزلت الآية 36 من سورة الأحزاب ونصت على الامر بقوله تعالى:

"ما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا".

مع نزول هذه الآية عدلت زينب بنت جحش وعشيرتها عن رأيها وحملت الآية الكريمة السيدة زينب بنت جحش على موافقتها للخطبة والزواج من زيد بن حارثة. ومافتئ العريسان يعيشان الحياة الزوجية، حتى حدثت مشاكل وخلافات عائلية فيما بينهما. فجاء زيد الى النبي(ص) شاكيا الامر، وطالبا الانفصال والطلاق من زينب، الا ان الرسول الاكرم(ص) دعاه للتحلي بالصبر وقال له إحتفظ بزوجتك الآن، حيث جاء في الأثر:

"ان زيدا جاء يشكو زوجته فجعل النبي يقول: اتق الله وامسك عليك زوجك"(2). وبعد فترة جاء زيد الى الرسول(ص) وقال يا رسول الله قد وصل الامر بنا الى حد الانفجار وقد اتفقنا على الانفصال. عندها نزل الوحي على النبي الاكرم(ص) ليبلغه الارادة الربانية حيث قال سبحانه وتعالى:

" واذ تقول للذي انعم الله عليه وانعمت عليه امسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله احق ان تخشاه، فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في ازواج ادعيائهم اذا قضوا منهن وطرا وكان امر الله مفعولا" (37 الاحزاب).

ترى ما الذي كه يخفيه الرسول الاكرم(ص) في نفسه خشية الناس؟!!!... نعم، ان الله كان يريد اثبات حكم واظهاره للناس ولكن بطريقة اخرى، وليطلعهم على انه لايتماشى والاعراف الجاهلية وسننها. حيث كان الاعراب اذا قبلوا ربيبا بين ظهرانيهم، منحوه لقبهم، ولن يردوه بعد ذلك الى ابيه الحقيقي، كما ذُكر في الآية 40 من سورة الاحزاب حيث قال فيها سبحانه وتعالى:

"ما كان محمد ابا احد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيئ عليما". ففي هذه الآية اراد الله سبحانه وتعالى ان يضع حدا ونهاية لتلك السُّنة البائدة، ويستبدلها بترسيخ الاحكام والسنن الاسلامية الحديثة. ومنذ ذلك الحين حدث الانفصال بين زينب وزيد بن الحارثة ربيب الرسول الاكرم(ص).(3)

زواج رسول الله(ص) من السيدة زينب بنت جحش:

بعد ان رضخت زينب لأمرالوحي بزواجها من زيد الذي كان اقل منها شأنا خلافا للاعراف العربية وميولها الباطنية، و إمتثلت لامر الله سبحانه وتعالى، اراد الله ان يُكرمها ثانية ويُزوجُها من الرسول الاكرم (ص). حيث كانت زينب من النساء المهاجرات ومن عائلة عرفت بسيادتها في مكة المكرمة لفترات طويلة، وبعد انفصالها عن زيد بن حارثة في العام الثالث او الخامس للهجرة النبوية الشريفة، هبط الوحي من جانب الله ليأمر النبي بزواجه من زينب بنت جحش و يضع حدا لتلك الاعراف الجاهلية، حيث تزوجت زينب من رسول الله، ثم صامت شهرين متتابعين تقديرا وشكرا لله على هذه النعمة التي منحها اياها.(4).

وما ان تزوجت زينب من النبي الاعظم(ص) راحت تباهي بنفسها وخاطبت ازواج النبي بالقول: بأني اختلف عنكن، فقد زوجكن اهلكن من النبي(ص)، فيما زوجني الله منه في السماوات العلى. حتى جاء في الاحاديث انها كانت تقول: "زوجكن اهاليكن وزوجني الله من فوق السماوات".(5)

كما ان السيدة عائشة كانت تقول: " لم تنافسني ايا من زوجات الرسول(ص) سوى زينب بنت جحش".(6)

وكانت رضوان الله عليها كثيرة الخشوع والطاعة لله حتى وصفها النبي (ص) بـ "الأواهة" اي التي تهتم وتتأثر بأمور الاخرين وتكثر الخشوع والتضرع لله سبحانه وتعالى.

وفي هذا السياق تقول السيدة عائشة عنها: ما رأيت إمرأة قط خيرا في الدين من زينب، وأتقى لله، واصدق حديثا، واوصل للرحم، واعظم أمانة وصدقة.(7)

ورغم مكانتها في المجتمع وتقواها، كانت ام المؤمنين زينب بنت جحش إمرأة نشيطة، حيث كانت تصبغ الجلود وتخيط الملابس اضافة الى شهرتها بانها صائمة في النهار وقائمة في الليل.(8) وكانت تقوم بأداء الاعمال بنفسها وتنفق على الفقراء وتتصدق على المعوزين في سبيل الله، والاهم من كل ذلك كانت رضوان الله تعالى عليها من رواة الاحاديث حيث روت عن رسول الله احد عشر الف حديثا.(9)

حياة السيدة زينب بعد الرسول الاكرم(ص):

ومن أهم خصال السيدة زينب التي امتازت بها من بين زوجات النبي(ص) انها كانت بالدرجة الثانية من الثراء بعد ام المؤمنين خديجة الكبرى، وكانت تنفق كثيرا على الفقراء والمعوزين. فقد حباها الله وعائلتها بثروة طائلة وجعلها تعيش حياة هنيئة دون انقطاع. وفي المقابل كانت هي الاخرى تكثر من الإنفاق على الفقراء. ولم تكترث رغم ثرائها من غسل الجلود وتدجينها وحياكة الحصران وبيعها للآخرين والتصدق بأموالها على الفقراء والتحدث مع باقي زوجات الرسول بالكلام الطيب. حيث ان الرسول الاعظم ذات يوم قال لأزواجه: "اسرعكن لحاقا بي الى الجنة، اطولكن يداً" فما كان منهن إلا ان يسارعن في قياس اذرعهن ليعرفن من هي صاحبة الذراع الاطول؟!!!...، لأنهن لم يفهمن من الحديث شيئا سوى ظاهره اللغوي، لكن سرعان ما فهمن فحوى كلام الرسول، وانه قصد، مَن تبذل وتنفق اكثر في سبيل الله، فهي اسرع اللحاق به الى الجنة، ولم تكن إمرأة من بينهن سوى السيدة زينب بنت جحش، رضوان الله تعالى عليها. وحتى بعد رحيل النبي الاكرم الى الرفيق الاعلى ظلت ام المؤمنين زينب بنت جحش على تقواها ومساعدتها للفقراء والمعوزين. حتى قيل في سخائها انها تنازلت عن حصتها من ازواج النبي(ص) التي خصصها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لهن سوى عام واحد حيث استلمت فيه اثني عشر الف درهم وانفقتها بين الايتام ثم دعت الله ان يمنعها عطايا عمر بن الخطاب لان "المال" فتنة.(11)

وما ان توفيت السيدة زينب بنت جحش في الثالثة والخمسين من عمرها الشريف عرفت زوجات الرسول(ص) انها كانت اكثرهن انفاقا، حيث لم تورث لا درهما ولا دينارا، بل تصدقت بكل اموالها في سبيل الله. وما ان لبت نداء بارئها حملها المسلمون بكل عز واحترام الى جنة بقية الغرقد حيث مثواها الاخير الى جانب باقي زوجات الرسول(ص). فسلام عليها يوم ولدت ويوم رحلت الى الرفيق الاعلى ويوم تبعث يوم يقوم الحساب.

إعداد وتنظيم: شهيدة بزركي

----------------------

الملحقات:

1- حياة النبي محمد(ص)، ص 462 لمؤلفه: رسولي محلاتي

2- صحيح البخاري حديث رقم 7420

3- التفسير الكبير للامام الفخر الرازي ج 13، ص 184

4- طبقات ابن سعد ج8 ص114/ امتاع الاسماع بما للنبي من الاحوال والاموال الحفدة والمتاع، لمؤلفه احمد بن علي المقريزي، تحقيق محمد عبدالحميد النميمي( التميمي) بيروت، دار الكتب العلمية، 1420، الطبعة الاولى ج 6، ص 61.

5- انساب الاشراف ج2 ص 67و68- اسد الغابة ج7 ص125 الى 127، وج4 ص 313 و314.

6- الإصابة في تمييز الصحابة، احمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق عادل احمد عبد الوجود وعلي محمد معوض، بيروت دار الكتب العلمية، 1415هـ. ق. الطبعة الاولى ج8، ص 153.

7- اسد الغابة في معرفة الغابة، عز الدين بن الاثير، بيروت – دار الفكر،1409 هـ.ق. ج20، ص127.

8- العسقلاني نفس المصدر، ص 54.

9- امتاع الاسماع بما للنبي من الاحوال والاموال والحفدة والمتاع، لاحمد بن علي المقريزي، تحقيق محمد عبد الحميد النميمي(التميمي)، بيروت، دار الكتب العلمية 1420، الطبعة الاولى، ج6 ص59.

10- الجواب الكافي لابن القيم ص 247.

11- اسد الغابة في معرفة الصحابة، لعز الدين بن الاثير بيروت- دار الفكر.

قراءة 11925 مرة