سيرة جناب "سودة بنت زمعة"

قيم هذا المقال
(1 Vote)

هي السيدة سودة بنت زمعة بن قيس، ومن أهالي مكة المكرمة، واصولها من قبيلة قريش. ويعود نسبها الى "لؤي" جد رسول الله(ص). وكان ابوها زمعة بن قيس من اوائل الذين لبوا دعوة الرسول و آمنوا برسالته في الصدر الاول للاسلام.

وقد تزوجت السيدة سودة في البداية من ابن عمها، سكران بن عمرو بن عبد شمس و رُزقت منه ولدا سمي عبدالرحمان، ومع بزوغ فجر الاسلام، لبت دعوة رسول الله فتبعها زوجها، وما ان زاد إيذاء قريش وكفارها للنبي(ص)، هاجرت السيدة سودة مع زوجها وباقي المسلمين الى الحبشة.

وما ان مكثت السيدة سودة وزوجها في الحبشة مع عدد من المسلمين حتى بلغهم نبأ انتصار المسلمين في مكة واستسلام اهلها لرسالة النبي محمد(ص)، فما كان من بعض المسلمين ومن بينهم السيدة سودة و زوجها الا ان يغادرو الحبشة باتجاه مكة المكرمة، إلا ان الأجل حال بين وصول زوج سودة الى مكة حيث وافته المنية في الطريق، واضطرت زوجته لمواصلة الطريق وحدها. لكنها ما ان وصلت و المسلمين الى مكة، حتى وجدوا الامر عكس ما سمعوه، حيث زاد إيذاء قريش للنبي والمسلمين. الأمر الذي زاد هموما للسيدة سودة اضافة الى همها فقدان زوجها، خاصة وان قلقها ازداد من جهة ان اهلها وعشيرتها لم تكن تؤمن برسالة الرسول الاعظم حتى ذلك الحين.

على صعيد آخر بقاء السيدة سودة بنت زمعة وحيدة بعد زوجها ودون مدافع، كان يضاعف الاخطار عليها، ما حملها انتهاج السبل المتعبة آنذاك، حيث كان الغريب ينضوي تحت لواء عشيرة او قبيلة ما، لتحميه من الآخرين ويواصل حياته، ففعلت السيدة سودة كذلك.

اقتراحها الزواج من النبي الاكرم(ص):

تتابع الاحداث وبقاء السيدة سودة وحيدة بعد رحيل زوجها زاد من همومها ومتاعبها، خاصة وان ابي طالب عم الرسول واكبر حماته حتى ذلك الحين توفي والمسلمون مازالوا مقاطَعين من قبل قريش و مشركي مكة، ومحاصرون في شعب ابي طالب. وما فتئ الزمان حتى لبت ام المؤمنين خديجة بنت خويلد، نداء ربها بعيد فترة قصيرة من رحيل ابي طالب(رض)، حتى المّ الحزن بكل المسلمين وعلى رأسهم النبي الاكرم(ص) حيث اسمى ذلك العام عام الحزن، وظل حزينا ويصارع المشاكل والمتاعب التي تفتعلها امامه قريش وكفارها.

ويروي المؤرخون ان الرسول(ص) لم يتزوج حتى مضى عاما كاملا على رحيل السيدة خديجة(رض)، الامر الذي أقلق المسلمين خاصة وان الصحابة كانوا يعرفون مكانة السيدة خديجة لدى رسول الله، ومدى الاسى والحزن الذي لحق به اثر رحيلها، ففكروا بتخفيف الحزن عن رسول الله. فما كان منهم الا ان ارسلوا اليه السيدة خولة بنت حكيم زوجة الصحابي عثمان بن مظعون التي كانت امرأة مؤمنة صالحة، وترفد النبي بحنانها ورأفتها. فما ان التقته السيدة خولة قالت له يارسول الله، أرى أن رحيل السيدة خديجة أخذ مأخذه منك والبسك لباس الحزن طويلا. فقال لها النبي(ص) نعم يا خولة انها كانت ام ابنائي وربة بيتي.

فقالت خولة: يا رسول الله فلماذا لم تتزوج بعدها؟ فأطرق الرسول الاعظم برأسه متأملا، حتى اغرورقت عيناه بالدموع، ثم قال لها: وهل من امرأة يمكن ان تحل محل السيدة خديجة؟!!!...

تأمُّل النبي ونُطقه بهذه الكلمات كانت فرصة مناسبة تتحينها السيدة خولة، فبادرته بالقول: أتسمح لي يا رسول الله لأتقدم نيابة عنك للخطوبة؟

واستمر الحديث حتى اتفق الجانبان على خطبة السيدة سودة بنت زمعة، التي كانت امرأة رزينة زادتها سنين عمرها حكمة وتجربة ووقارا. فما كان من السيدة خولة حتى ذهبت الى السيدة سودة وقالت لها بُشراك يا سودة، لیکُن الیوم اسعد ايامك مذ ولدتك امك حتى اليوم.

فسألتها سودة قائلة: فماذا حدث حتى يكون كذلك؟

فأجابتها خولة: ان رسول الله بعثنی لاطلب يدك له.

فاستغربت سودة وقالت: رسول الله يطلب يدي؟!!!

فقالت لها خولة: نعم انه ذكر اسمك، وطلب مني ان افاتحك بالامر.

اما السيدة سودة ورغم تقدمها في السنة واستقلالها في اتخاذ القرار، وانها كانت متزوجة سابقا، الا انها آثرت إلا أن تحترم الاعراف السائدة وقالت اسمحي لي لأستأذن ابي بالامر.

وتقول خولة: فأسرعتُ بالذهاب الى والد سودة وقلت له: ان محمد بن عبدالله يطلب يد ابنتك سودة ويريد ان يتقدم لخطبتها.

فقال والد السيدة سودة: ان محمدا رجل كريم وعظيم، ولكن اطرحي الامر على سودة نفسها لنرى ماذا تقول؟

وما ان اعلنت السيدة سودة رضاها الكامل عن الامر، حتى قال والدها: قولي لمحمد فليتقدم، على الرحب والسعة.

وكان هذا القران حدث في شهر رمضان العام العاشر للبعثة النبوية المباركة، ومكث الرسول الاكرم مع السيدة سودة قرابة الثلاثة اعوام ولم يتزوج غيرها.

هذا القِران بين النبي والسيدة سودة التي كانت متقدمة في العمر على النبي(ص) اثار دهشة ابناء مكة ما حملهم على ان يخجلوا ويقللوا من إيذائهم للرسول(ص).

بحيث ان شقيق السيدة سودة، عبد بن زمعة بعد ما اسلم كان يقول عندما تزوجت شقيقته من النبي(ص) كان يأسف لفعلتها ويعتبرها عملا غير مقبول، ويضيف انه كان يُهيل التراب على رأسه كالمجنون، لأن شقيقته تزوجت من الرسول (ص).

وما ان تم زواج النبي من السيدة سودة حتى زاد حُب النبي الاعظم(ص) بين عشيرتها، وأُعجبوا بأخلاقه التي تفوق اخلاق كل بني الانسان، حتى اقبلوا يعتنقون الدين الاسلامي الحنيف زرافات زرافات.

هذا الزواج الميمون، كان عاما واحدا قبل الهجرة وقد أبدعت السيدة سودة خلاله في إحتظان السيدة فاطمة الزهراء واختها ام كلثوم وخِدمة النبي(ص).

ويؤكد المؤرخون ان النبي(ص) اختار لنفسهثلاث أزواج في مكة المكرمة، وهن السيدة خديجة، والسيدة سودة والسيدة عائشة، فيما كانت باقي زوجات الرسول التحقن به بعد الهجرة وفي المدينة المنورة.

سعي السيدة سودة لإراحة النبي(ص):

تؤكدبعض كتب السِيَر، أن فارق العمر بين ام المؤمنين السيدة سودة ورسول الله (ص) كان كثيرا، فقد كانت امرأة مؤمنة وقورة ورؤوفة بالنبي(ص). وكانت دائما تسعى ليكون تعاملها وكلامها مع الرسول الاكرم(ص)بشكل يريح النبي ويفرحه،و كانت بالرغم من تقدمها في السن ازاء رسول الله، الا انها كانت كثيرة المزاح معه. فعلى سبيل المثال، كانت غالبا ما تكون منفتحة الوجه ومبتسمة امام النبي الاكرم، وتطرح قضايا مختلفة ومتنوعة، حتى ان المواضيع التي كانت تطرحها، كانت تبعث الفرح والسرور في نفس رسول الله.

وما ان هاجر النبي(ص) من مكة الى المدينة واستقر فيها، حتى بعث زيد بن الحارثة وغلامه ابا رافع مع ناقتين وخمسمائة درهم الى مكة، ليأتي بفاطمة الزهراء وام كلثوم والسيدة سودة والسيدة ام ايمن الحبشية(زوجة زيد بن الحارث واسامة بن زيد)الى المدينة المنورة. وما كان من زيد بن الحارثة الا ان يُنجِز المهمة ويُوصل الركب الى المدينة ويُسكنه في دار الحارثة بن النعمان.

ويقول الذهبي ان النبي (ص) بنى اول دار له في المدينة المنورة وكانت لأم المؤمنين السيدةسودة ومكث معها فيها لثلاث سنوات ولم يتزوج غيرهافي تلك الفترة.

وتؤكدبعض الروايات ان السيدة سودة كانت اكثر زوجات الرسول(ص)سخاء بعد السيدة خديجة(رض).

ويروي ابن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى" عن "ابن سِيرين"ان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بعث بقارورة مليئة بالاموال والدراهم لام المؤمنين سودة، فقالت ماهذه؟ فقيل لها: انها اموال ودراهم، فقامت بتوزيعها على المعوزين من المسلمين فوراً.

مواكبة السيدة سودة للنبي في بعض الغزوات والسرايا:

تؤكد بعض الروايات ان السيدة سودة كانت تواكب النبي(ص) في الغزوات والسرايا مثل غزوة خيبر، ويروي ابن سعد في طبقاته ان الرسول اعطى السيدة سودة سبعين رطلا من التمور وعشرين رطلا من القمح. وهذا ما يؤكد ان السيدة سودة كانت حاضرة في غزوة خيبر.

ظهور الخلافات:

عندما انزعجت ازواج النبي(ص) من كيفية توزيعه النفقة عليهن وطالبت بعضهن بزيادتها، ما كان منه الا ان يخيرهن بين البقاء معه وقبول القسمة التي حددها لهن من النفقة او اختيارهن الطلاق والانفصال عنه، فسدده الله سبحانه وتعالى بالآيتين المحكمتين الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين من سورة الاحزاب حيث خاطبه الله سبحانه وتعالى:

« يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا«.

فقد اكدت هاتان الايتان لأزواج النبي(ص)إن كُنَّ يُردن الحياة الدنيا والظهور بمظهر الجمال والزينة الظاهرية، فهذا لايليق بالنبي وشخصيته، وعليهن ان يخترن بين البقاء معه في تلك الحالة، والإعراض عن التبرج الجاهلي، وبين الانفصال عن الرسول الاكرم، لكن إن أردن البقاء مع الرسول والقبول بتعاليم الله ورسوله، فإن الله سيجزيهن يوم القيامة اجرا عظيما.

وما ان سمعت السيدة سودة بنزول الآيتين الشريفتين حتى سارعت الى رسول الله(ص) لتقول له: يا رسول الله انا لم اطالب بشيئ.

ویروى عن السيدة عائشة، انها كانت تقول: "ان سودة كان يساورها القلق دائما، بأن محمدا قد يطلقها لكبر سنها".

وكانت سودة كالجدة بالنسبة لأم المؤمنين عائشة، وطالما كانت تقول احب ان يختارني الله سبحانه و تعالى يوم القيامة زوجة للرسول (ص).

ويروي بعض المؤرخين ان ذات يوم حدثت بعض القضايا بين السيدة سودة والرسول الاكرم(ص)، ما حمل السيدة سودة لتتصور ان النبي سيُطلقها، فبادرته بالقول يارسول الله، ارجو ان لا تُطلقني لكي اكون في زمرة ازواجك يوم القيامة، ما حمل الرسول الاكرم(ص) على ان لايُطلقها.

السيدة سودة في حجة الوداع:

رافقت السيدة سودة باقي ازواج النبي، رسول الله(ص) في حجة الوداع الى بيت الله الحرام، لكن ما رحل النبي الاكرم الى بارئه سبحانه وتعالى حتى استقرت في بيتها كما امرها الله ولم تذهب حتى لزيارة بيت الله الحرام، حتى توفيت رضوان الله تعالى عليها.

ومما هو مؤكد ان الحاج المحرم بعد إفاضته من عرفات، عليه الذهاب الى المزدلفة والمكوث فيها حتى طلوع الفجر، كما عليه ان يقف في المشعر الحرام حتى طلوع الشمس، ومن ثم عليه ان يتحرك باتجاه منى ومن ثم الجمرات ليرمي الجمرة الكبرى. فعندما كانت السيدة سودة مع النبي(ص) في حجة الوداع، فكان من الصعب عليها التحرك كثيرا لكِبَر سِنها، فقالت للنبي، يارسول الله، لا اتمكن من البقاء في المشعر حتى الصباح. فأجاز لها النبي الذهاب، واصبحت هذه الرخصة جوازا لكبار السن، ليتمكنوا من المكوث قليلا في المشعر الحرام، ومن ثم يتحركوا باتجاه رمي الجمرة ليلا، ومن ثم اداء ما تبقى من مناسك الحج(من طواف وصلاة طواف وسعي وطواف النساء وصلاته خلف مقام النبي ابراهيم)لقلة الزحام.

وما ان وصل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الى الخلافة حتى انه ذات مرة اجاز لكل ازواج النبي ان يذهبن الى حج بيت الله الحرام، فقُمن بذلك سوى السيدتين سودة وزينب بنت جحش، اللتين قالتا اننا لن نركب اي راحلة بعد النبي(ص). فيما اكدت السيدة سودة انها ستبقى في منزلها كما امرها رب العزة جل وعلى.

طاعتها لله والرسول(ص):

يروي الراوية والمحدث الكبير الشيخ جلال الدين السيوطي ان بعد نزول الآية الكريمة:

«وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّة الأولى؛...»، عندما كانوا يسألون السيدة سودة عن سبب عدم ذهابها الى الحج، فكانت تقول: لقد اديت الحج والعمرة لله، والله امرني ان ابقى في منزلي، ومن اجل ذلك ان لا اغادر المنزل.

ويروي المؤرخون واصحاب السِيَر انها رضوان الله تعالى، عليها لم تخرج من بيتها حتى وافاتها المنية واُخرجت جنازتها من الدار.

وفاة السيدة سودة:

يقال ان ام المؤمنين السيدة سودة توفيت اثناء خلافة عمر بن الخطاب، وتم تشييعُها ودفنها في جنة البقيع الغرقد بالقرب من المسجد النبوي بالمدينة المنورة.

قراءة 6948 مرة
المزيد في هذه الفئة: سيرة جناب "زينب بنت خزيمة" »