في ذكرى شهادة فاطمة الزهراء(س) سيدة نساء العالمين

قيم هذا المقال
(4 صوت)

الحديث عن الزهراء فاطمة يتجاوز الفسحة التي امتدّت بين ساعة أبصرت فيها النور وساعة انطفأت فيها من عينيها لمعة الحياة.

لقد حازت على كمال العقل وجمال الروح وطيب الصفاء وكرم المحتد، وعاشت في جوّ شعّت عليه وامتدّت به وعبّرت عنه فكراً وانتاجاً، وغدت خطّـاً في الرسالة التي انطلقت ثورةً، فكانت هي ركناً من أركانها التي لا يمكن فهم تاريخ الرسالة من دون فهم تاريخها.

فإنّها ابنة نبيّ هزّ جذور الفكر في الإنسان وقفز به فوق الأجيال، كما أنّها زوجة رجل هو ركنٌ من أركان الحقّ واُمّ أئمّة هم امتداد لأعظم نبيّ في تاريخ الإنسانيّة.

وقد مثّلت الزهراء (س) أشرف ما في المرأة من إنسانية وصيانة وكرامة وقداسة ورعاية وعناية، بالإضافة إلى ما كانت عليه من ذكاء وقّاد وفطنة حادّة وعلم واسع، وكفاها فخراً أنّها تربّت في مدرسة النبوّة وتخرّجت من معهد الرسالة وتلقّت عن أبيها الرسول الأمين (ص) ما تلقّاه عن ربّ العالمين، وممّا لا شك فيه أنّها تعلّمت في دار أبويها ما لم تتعلّمه طفلة غيرها في مكّة [1].

مظاهر من شخصية الزهراء(س)

* علمها ومعرفتها :

لم تكتفِ الزهراء فاطمة (س) بما هيّأ لها بيت الوحي من معارف وعلوم، ولم تقتصر على الاستنارة العلمية التي كانت تُهيّئها لها شموس العلم والمعرفة المحيطة بها من كلّ جانب.

لقد كانت تحاول في لقاءاتها مع أبيها المصطفى(ص) وبعلها المرتضى باب مدينة علم النبيّ أن تكتسبَ من العلوم ما استطاعت، كما كانت ترسل ولديها الحسن والحسين إلى مجلس أبيها الرسول الأعظم(ص) بشكل مستمر ثم تستنطقهما بعد العودة إليها، وهكذا كانت تحرص على طلب العلم كما كانت تحرص على تربية ولديها تربيةً فُضلى، ولقد كانت تبذل ما تكتسبه من العلوم لسائر نساء المسلمين بالرغم من كثرة واجباتها البيتية.

إنّ هذا الجهد المتواصل لها في طلب العلم ونشره قد جعلها من كبريات رواة الحديث ومن حملة السُنّة المطهرة، حتى أصبح كتابها الكبير الذي كانت تعتزّ به أشدّ الاعتزاز يُعرف باسم «مصحف فاطمة» وانتقل إلى أبنائها الأئمة المعصومين يتوارثونه كابراً عن كابر، كما سوف تلاحظه بالتفصيل في باب تراثها سلام الله عليها.

ويكفيك دليلاً على ذلك وعلى سموّ معرفتها وكمال علمها ما جادت به قريحتها من خطبتين خطيرتين[2] ألقتهما بعد وفاة أبيها رسول الله (ص) إحداهما بحضور كبار الصحابة في مسجد الرسول الأعظم(ص) والاُخرى في بيتها، وقد تضمّنتا صوراً رائعةً من عمق معارفها وأصالتها وسعة ثقافتها وقوّة منطقها وصدق نبوءاتها فيما ستنتهي إليه الاُمّة بعد انحراف مسيرة القيادة عن المسار النبوي، هذا فضلاً عن رفعة أدبها وعظيم جهادها في ذات الله وفي سبيل الحقّ تعالى.

لقد كانت الزهراء (س) من أهل بيت اتقوا الله وعلّمهم الله ـ كما صرح بذلك الذكر الحكيم ـ وهكذا فطمها الله بالعلم فسمّيت فاطمة، وانقطعت عن النظير فسمّيت بالبتول.

* مكارم أخلاقها :

كانت فاطمة (س): «كريمة الخليقة، شريفة الملكة، نبيلة النفس، جليلة الحس، سريعة الفهم، مرهفة الذهن، جزلة المروءة، غرّاء المكارم، فيّاحة نفّاحة، جريئة الصدر، رابطة الجأش، حميّة الأنف، نائية عن مذاهب العجب، لا يحدّدها ماديّ الخيلاء، ولا يثني أعطافها الزهو والكبرياء».

«لقد كانت سبطة الخليقة في سماحة وهوادة إلى رحابة صدر وسعة أناة في وقار وسكينة ورفق ورزانة وركانة ورصانة وعفة وصيانة.

عاشت قبل وفاة أبيها متهلّلة العزة وضّاحة المحيّا حسنة البشر باسمة الثغر، ولم تغرب بسمتها إلاّ منذ وفاة أبيها (ص).

كانت لا يجري لسانها بغير الحقّ ولا تنطق إلاّ بالصدق، لا تذكر أحداً بسوء، فلا غيبة ولا نميمة، ولا همز ولا لمز، تحفظ السرّ وتفي بالوعد، وتصدق النصح وتقبل العذر وتتجاوز عن الإساءة، فكثيراً ما أقالت العثرة وتلقّت الإساءة بالحلم والصفح».

«لقد كانت عزوفة عن الشرّ، ميّالة إلى الخير، أمينة، صدوقة في قولها، صادقة في نيّتها ووفائها، وكانت في الذروة العالية من العفاف، طاهرة الذيل عفيفة الطرف، لا يميل بها هواها، إذ هي من آل بيت النبيّ الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

وكانت إذا ما كلّمت إنساناً أو خطبت في الرجال يكون بينها وبينهم ستر يحجبها عنهم عفةً وصيانة.

ومن عجيب صونها أنّها استقبحت بعد الوفاة ما يصنع بالنساء من أن يطرح على المرأة الثوب فيصفها»[3] .

وكانت الزهراء (س) زاهدةً قنوعة، موقنة بأنّ الحرص يفرّق القلب ويشتّت الأمر، مستمسكة بما قاله لها أبوها: «يا فاطمة! اصبري على مرارة الدنيا لتفوزي بنعيم الأبد»[4] فكانت راضية باليسير من العيش، صابرة على شظف الحياة، قانعة بالقليل من الحلال، راضيةً مرضيّة، لا تطمح إلى ما لغيرها، ولا تستشرف ببصرها إلى ما ليس من حقّها، وما كانت تتنزّل إلى سؤال غير الله تعالى، فهي رمز لغنى النفس ، كما قال أبوها (ص): «إنّما الغنى غنى النفس»[5] .

إنّها السيّدة البتول التي انقطعت إلى الله تعالى عن دنياها وعزفت عن زخارفها وصدفت عن غرورها وعرفت آفاتها، وصبرت على أداء مسؤولياتها وهي تعاني شظف العيش ولسانها رطب بذكر مولاها.

لقد كان همّ الزهراء الآخرة، فلم تحفل بمباهج الدنيا وهي ترى إعراض أبيها (ص) عن الدنيا وما فيها من متع ولذائذ وشهوات.

وعرف عنها صبرها على البلاء وشكرها عند الرخاء ورضاها بواقع القضاء، وقد روت عن أبيها (ص): «إنّ الله إذا أحبّ عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه وإن رضي اصطفاه»[6] .

* جودها وإيثارها :

وكانت على هدي أبيها في جوده وسخائه، وقد سمعته يقول: «السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد عن النار»[7] . «وأنّ الله سبحانه جواد يحبّ الجواد»[8] .

وكان الإيثار من شعار المصطفى(ص) حتى قالت بعض زوجاته: ما شبع ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، وكان يقول (ص) : «ولو شئنا لشبعنا ولكنّا نؤثر على أنفسنا»[9] ، وكانت الزهراء خير من يؤثر على نفسه اقتداءً بأبيها حتى عُرف عنها إيثارها بقميص عرسها ليلة زفافها(س)، وكفى بما أوردناه في سورة الدهر شاهداً على عظيم إيثارها وجميل سخائها.

وروي عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه قال: صلّى بنا رسول الله (ص) صلاة العصر، فلمّا انفتل جلس في قبلته والناس حوله، فبينا هم كذلك إذ أقبل شيخ من مهاجرة العرب عليه سمل[10] قد تهلّل وأخلق، ولا يكاد يتمالك كبراً وضعفاً، فأقبل عليه رسول الله (ص) يستحثّه الخبر، فقال الشيخ: يا نبيّ الله، أنا جائع الكبد فأطعمني، وعاري الجسد فاكسني، وفقير فأرشني، فقال (ص): «ما أجد لك شيئاً، ولكنّ الدالّ على الخير كفاعله، إنطلق إلى منزل من يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، يؤثر الله على نفسه، انطلق إلى حجرة فاطمة». ـ وكان بيتها ملاصقاً لبيت رسول الله (ص) الذي ينفرد به لنفسه من أزواجه ـ وقال: «يا بلال قم فقف به على منزل فاطمة».

فانطلق الأعرابي مع بلال، فلمّا وقف على باب فاطمة; نادى بأعلى صوته: السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة، ومختلف الملائكة، ومهبط جبرئيل الروح الأمين بالتنزيل من عند ربّ العالمين، فقالت فاطمة: «عليك السلام، فمن أنت يا هذا؟» قال: شيخ من العرب أقبلتُ على أبيكِ السيّد البشير من شقّة، وأنا يا بنت محمّد عاري الجسد جائع الكبد فواسيني يرحمكِ الله.

وكان لفاطمة وعليّ ورسول الله (ص) ثلاثاً ما طعموا فيها طعاماً، وقد علم رسول الله(ص) ذلك من شأنهما، فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ كان ينام عليه الحسن والحسين(ع)، فقالت: «خذ أيّها الطارق، فعسى الله أن يختار لك ما هو خير فيه»، قال الأعرابي: يا بنت محمّد، شكوت إليك الجوع فناولتني جلد كبش ما أصنع به مع ما أجد من السغب؟

قال: فعمدت ـ لمّا سمعت هذا من قوله ـ إلى عقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمّها حمزة بن عبد المطلب، فقطعته من عنقها ونبذته الى الأعرابي وقالت: «خذ وبعه، فعسى الله أن يعوّضك به ما هو خير منه».

فأخذ الأعرابي العقد وانطلق إلى مسجد رسول الله (ص) والنبيّ جالس في أصحابه فقال: يا رسول الله، أعطتني فاطمة هذا العقد، فقالت: « بعه ».

قال فبكى رسول الله (ص) وقال: «كيف لا يعوّضك به ما هو خير منه ؟! وقد أعطتك فاطمة (س) بنت محمّد سيّدة بنات آدم».

فقام عمار بن ياسر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، أتأذن لي بشراء هذا العقد؟ قال: «اشتره يا عمار، فلو اشترك فيه الثقلان ما عذّبهم الله بالنار»، فقال عمار: بكم العقد يا أعرابي؟ قال: بشبعة من الخبز واللحم وبردة يمانية أستر بها عورتي واُصلّي بها لربّي ودينار يبلّغني أهلي ..

وكان عمار قد باع سهمه الذي نفله رسول الله(ص) من خيبر ولم يبق منه شيئاً، فقال: لك عشرون ديناراً ومئتا درهم هجرية وبردة يمانية وراحلتي تبلغك أهلك، وشبعك من خبز البرّ واللحم.

فقال الأعرابي: ما أسخاك بالمال يا رجل! وانطلق به عمّار فوفّاه فأضمن له، وعاد الأعرابي إلى رسول الله (ص) فقال له رسول الله (ص): «أشبعت واكتسيت ؟» قال الأعرابي: نعم، واستغنيت بأبي أنت واُمي قال: «فأجز فاطمة بصنيعها» فقال الأعرابي: اللهمّ إنّك إله ما استحدثناك ولا إله لنا نعبده سواك، وأنت رازقنا على كلّ الجهات، اللهمّ أعطِ فاطمة ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت.

فأمّن النبيّ على دعائه وأقبل على أصحابه، فقال: «إنّ الله قد أعطى فاطمة في الدنيا ذلك، أنا أبوها ولا أحد من العالمين مثلي، وعليّ بعلها ولولا عليّ; لما كان لفاطمة كفؤ أبداً، وأعطاها الحسن والحسين وما للعالمين مثلهما سيدا شباب أسباط الأنبياء وسيدا شباب أهل الجنة».

وكان بإزائه مقداد وعمار وسلمان. فقال: « وأزيدكم ؟ »، قالوا: نعم يا رسول الله، قال (ص): «أتاني الروح ـ يعني جبرئيل ـ أنّها إذا هي قُبضت ودفنت يسألها الملكان في قبرها: من ربّك؟ فتقول: الله ربّي، فيقولان فمن نبيّك؟ فتقول: أبي، فمن وليّكِ؟ فتقول: هذا القائم على شفير قبري ألا وأزيدكم من فضلها؟ إنّ الله قد وكّل بها رعيلاً من الملائكة يحفظونها من بين يديها ومن خلفها وعن يمينها وعن شمالها، وهم معها في حياتها وعند قبرها وعند موتها، يكثرون الصلاة عليها وعلى أبيها وعلى بعلها وبنيها، فمن زارني بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي، ومن زار فاطمة فكأنّما زارني، ومن زار عليّ بن أبي طالب فكأنّما زار فاطمة، ومن زار الحسن والحسين فكأنّما زار عليّاً، ومن زار ذريّتهما فكأنّما زارهما».

فعمد عمار إلى العقد فطيّبه بالمسك، ولفّه في بردة يمانية، وكان له عبد اسمه سهم ابتاعه من ذلك السهم الذي أصابه بخيبر، فدفع العقد إلى المملوك وقال له: خذ هذا العقد وادفعه لرسول الله وأنت له، فأخذ المملوك العقد فأتى به رسول الله (ص) فأخبره بقول عمار، فقال النبيّ (ص): «انطلق الى فاطمة فادفع إليها العقد وأنت لها»، فجاء المملوك بالعقد وأخبرها بقول رسول الله (ص) فأخذت فاطمة(س) العقد وأعتقت المملوك فضحك الغلام، فقالت: «ما يضحكك يا غلام؟»، قال: أضحكني عظم بركة هذا العقد، أشبع جائعاً وكسى عرياناً وأغنى فقيراً وأعتق عبداً ورجع إلى ربّه[11] .

* إيمانها وتعبّدها لله :

الإيمان بالله قيمة الإنسان الكامل، والتعبّد لله سُلّم الوصول إلى قمم الكمال ، وقد حاز الأنبياء والأولياء على مقاعد الصدق في دار الكرامة بما اشتملوا عليه من درجات الإيمان وبما اجتهدوا في الدنيا وأخلصوا فيه من العبادة لله سبحانه .

وقد شهد القرآن الكريم ـ كما لاحظنا في سورة الدهر ـ على كمال إخلاصها وخشيتها لله سبحانه وعظيم إيمانها به وباليوم الآخر، وشهد الرسول (ص) لها قائلاً : « إنّ ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيماناً إلى مشاشها[12] ففرغت لطاعة الله»[13] وأخبر عن عبادتها « أنّها متى قامت في محرابها بين يدي ربّها جلّ جلاله زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض. ويقول الله عزّوجل لملائكته : يا ملائكتي انظروا إلى أَمتي فاطمة سيّدة إمائي قائمة بين يديّ ترتعد فرائصها من خيفتي وقد أقبلت بقلبها على عبادتي ، أُشهدكم أنّي قد أمّنت شيعتها من النار»[14] .

وقال الحسن بن عليّ(ع): «رأيت اُمي فاطمة (س) قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعةً ساجدةً حتى إتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء ، فقلت لها : يا اُمّاه! لمَ لا تدعينَ لنفسكِ كما تدعين لغيرك ؟ فقالت : يا بُنيّ الجار ثم الدار»[15] .

وكانت تخصّص الساعات الأخيرة من نهار الجمعة للدعاء ، كما كانت لا تنام الليل في العشر الأخير من شهر رمضان المبارك وكانت تحرّض جميع من في بيتها بإحياء الليل بالعبادة والدعاء .

وقال الحسن البصري : ما كان في هذه الاُمّة أعبد من فاطمة ، كانت تقوم حتى تورّمت قدماها[16] . وكانت تنهج في صلاتها من خوف الله تعالى [17] .

وهل خرجت فاطمة في حياتها كلّها عن المحراب ؟ وهل كانت حياتها كلّها إلاّ السجود الدائم ؟ فهي في البيت تعبد الله في حسن التبعّل وفي تربية أولادها، وهي في قيامها بالخدمات العامة كانت تطيع الله وتعبده أيضاً، كما أنّها في مواساتها للفقراء كانت تقوم بعبادة الله بنفسها وبأهل بيتها مؤثرة على نفسها.

* حنُوّها وشفقتها :

«لمست الزهراء(س) من أبيها المصطفى سيّد الأنبياء(ص) حبّه ومودّته وحنوّه وشفقته فكانت نعم البرّة به، أخلصت له في حبّها وولائها وحنوّها ووفائها له ، فآثرته على نفسها ، وكانت تتولّى تدبير بيت أبيها البارّ بها وتقوم بإدارته ، فتنجز ما يصلحه وتبعث فيه الهدوء والراحة له ، وكانت تسارع إلى كلّ ما يرضي أباها رسول الله(ص)، تسكب له الماء ليغتسل وتهيّئ له طعامه وتغسل ثيابه ، فضلاً عن اشتراكها مع النساء في الغزو لحمل الطعام والشراب وسقاية الجرحى ومداواتهم، وفي غزوة اُحد هي التي داوت جراح أبيها حينما رأت أنّ الدم لا ينقطع، فأخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رماداً ثم ذرّته على الجرح فاستمسك الدم[18] .. وجاءته في حفر الخندق بكسرة من خبز فرفعتها إليه فقال: ما هذه يا فاطمة ؟ قالت : من قرص اختبزته لابنيّ جئتك منه بهذه الكسرة ، فقال: «يا بُنيّة: أما إنّها لأوّل طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيّام »[20][19] .

وقد استطاعت الزهراء أن تسدّ الفراغ العاطفي الذي كان يعيشه الرسول(ص) بعد أن فقد أبويه في أوّل حياته وفقد زوجته الكريمة خديجة الكبرى في أقسى ظروف الدعوة والجهاد في سبيل الله .

إنّ مواقف الاُمومة التي صدرت عن الزهراء بالنسبة لأبيها وحدّثنا التاريخ عن نتف منها تؤكّد نجاح فاطمة في هذه المحاولة التي أعادت إلى النبيّ ـ الذي كان قد فقد أعزّته ـ المصدر العاطفي الذي ساعده دون شك في تحمّل الأعباء الرسالية الكبرى ، ومن هنا قد نفهم السرّفي ما تكرّر على لسانه (ص) من قول: « فاطمة اُم أبيها»[21] .

لقد كان يعاملها معاملة الاُم فيقبّل يدها ، ويبدأ بزيارتها عند عودته إلى المدينة ، كما يودّعها وينطلق من عندها في كلّ رحلاته وغزواته. كان يتزوّد من هذا المنبع الصافي عاطفةً لسفره ورحلته ، كما نلاحظ في سيرته كثرة دخوله عليها في حالات تعبه وآلامه، أو حال جوعه، أو حال دخول ضيف عليه ، ثم تقابله فاطمة البتول (س) كما تقابل الاُم ولدها فترعاه وتحتضنه وتخفّف آلامه كما كانت تخدمه وتطيعه .

* جهادها المتواصل :

لقد ولدت فاطمة في حدّة الصراع بين الإسلام والجاهلية، وفتحت عينيها والمسلمون في ضراوة الجهاد مع الوثنية الجائرة، وقد فرضت قريش الحصار على رسول الله (ص) وبني هاشم جميعاً، فدخل الرسول مع زوجته المجاهدة وابنته الطاهرة الشِعب، وحاصرتهم ثلاث سنين وأذاقتهم فيها ألوان الحرمان، وهكذا عايشت الزهراء هذا الحصار القاسي وذاقت في طفولتها مرارة الحرمان وشظف العيش دفاعاً عن الحقّ وتضحيةً من أجل المبدأ .

ومرّت سنون الحصار صعبةً ثقيلةً، وخرج رسول الله منها منتصراً، وشاء الله أن يختار خديجة لجواره في ذلك العام ويتوفى أبا طالب عمّ الرسول وحامي الدعوة وناصر الإسلام، ويأخذ الحزن والأسى من قلب الرسول(ص) مأخذه بعد أن فقد أحبّ الناس إلى قلبه وأعزّهم عليه .

وهكذا رزئت فاطمة وهي لم تشبع بعد من حنان الاُمومة ، وشاطرت أباها المأساة والألم بالرغم من أنّها قد فقدت مصدر الحنان الثر. ولقد صبّت قريش كلّ حقدها وأذاها على الرسول بعد وفاة عمّه وحاميه والزهراء ترى باُمّ عينيها ما يقوم به سفهاء قريش وطغاتهم من انتقاص الرسول وإيذائه وهو يريد إخراجهم من الظلمات إلى النور ، وكان الرسول يحاول أن يخفّف عنها عبء الألم ويحثّها على التجلّد قائلاً : «لا تبكي يا بنيّة ، فإنّ الله مانع أباك وناصره على أعداء دينه ورسالته»[22] ، وهكذا كان يزرع الرسول(ص) في نفس ابنته روحاً جهاديةً عاليةً ويملأ قلبها بالصبر والثقة بالنصر .

وهاجرت الزهراء بعد هجرة أبيها إلى المدينة في جوّ مكّة المرعب مع ابن عمّها عليّ بن أبي طالب الذي كان مستهيناً بكبرياء قريش وغرورها، ليلتحق بالرسول الأعظم (ص) في «قباء» بعد أن تورّمت قدماه من مواصلة السير على قدميه .

وانتقلت الزهراء إلى بيت زوجها المتواضع في المدينة بعد أن أرسى أبوها خاتم النبيّين دعائم دولته المباركة ، وشاركته في جهاده صابرةً على قساوة الحياة ومصاعب الجهاد في سبيل الله، وهي تحاول أن تقدّم صورة الحياة العائلية الفريدة ، ولعبت الزهراء دوراً بارزاً وشاقاً في نصرة الحقّ والدفاع عن وصيّة الرسول الأعظم (ص) حينما وقفت موقفاً لا مثيل له إلى جانب الوصيّ المرتضى عليّ بن أبي طالب(ع) في أحرج أيّام حياته مؤكّدةً أنّ الجبهة الداخلية في حياة عليّ صامدة لا تشعر بالضعف، ولكنها تترك تقدير الظروف وانتخاب الموقف لقائدها وزوجها الإمام المفترَض الطاعة فهو الذي، يقرّر ويصمّم ويأمر فيطاع .

لقد كانت الزهراء تأتي قبور الشهداء كلّ غداة سبت وتترحم عليهم وتستغفر لهم، وهذه البداية لأعمال الاُسبوع تفصح عن مدى تقدير فاطمة للجهاد وللشهادة، وتعبّر بوضوح عن حياتها العمليّة التي تبدأ بالجهاد وتستند على الجهاد والتضحية إلى درجة الاستشهاد [23] .

* الساعات الأخيرة قبل الرحيل :

كانت السيّدة فاطمة الزهراء (س) في ذلك اليوم الذي توفيت فيه طريحة الفراش، وقد أخذ منها المرض مأخذه، ولم يسمع لها سوى الأنين والحنين لأبيها، لقد رأت أَباها في المنام وهو يقول لها : «هلمّي إليّ يا بُنَيَّة فإنّي إليك مشُتاقٌ ثمّ قال لها : أنتِ الليلةَ عندي»[24] .

انتبهت من غفوتها واستعدّت للرحيل إلى الآخرة ، فقد سمعت من أبيها الصادق المصدَّق الذي قال : «من رآني فقد رآني»[25] . سمعت منه نبأ ارتحالها فلا مجال للشكّ والتردّد في صدق الخبر .

فتحت عينها واستعادت نشاطها ولعلّها كانت في صحوة الموت وقامت لاتّخاذ التدابير اللازمة ، واغتنمت تلك السويعات الأخيرة من حياتها، أقبلت الزهراء تزحف أو تمشي متّكئة على الجدار نحو الموضع الذي فيه الماء من بيتها، وشرعت تغسل ثياب أطفالها بيديها المرتعشتين، ثم دعت أطفالها وطفقت تغسل رؤوسهم، ودخل الإمام عليّ (ع) البيت وإذا به يرى عزيزته قد غادرت فراش العلّة وهي تمارس أعمالها المنزلية .

رقّ لها قلب الإمام حين نظر إليها وقد عادت إلى أعمالها التي كانت قد اعتادت على بذل الجُهد فيها أيّام صحّتها، فلا عجب إذا سألها عن سبب قيامها بتلك الأعمال المجهِدة بالرغم من انحراف صحّتها، وإذا بها تجيبه بكلّ صراحة بأنّ: هذا اليوم هو آخر يوم من أيام حياتي، قمت لأغسل أطفالي وثيابهم لأنّهم سيصبحون يتامى بلا اُمّ، سألها الإمام عن مصدر هذا النبأ فأخبرته بالرؤيا ، فهي بذلك قد نعت نفسها إلى زوجها بما لا يقبل الشك .

* وصيّة الزهراء (س) للإمام عليّ (ع) :

وفي الساعات الأخيرة من حياتها حان لها أن تكاشف زوجها بما أضمرته في صدرها طيلة هذه المدّة من الوصايا التي يجب تنفيذها.

فقالت لعليّ(ع): « يابن عمّ إنّه قد نُعيت إليَّ نفسي وإنّني لا أرى ما بي إلاّ أننّي لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة ، وأنا اُوصيك بأشياء في قلبي» .

قال لها عليّ (ع) : «أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله(ص) » . فجلس عند رأسها ، وأخرج مَن كان في البيت .

ثم قالت : « يابن عمّ ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني » .

فقال عليّ (ع) : « معاذ الله أنتِ أعلم بالله ، وأبرّ وأتقى وأكرم وأشدّ خوفاً من الله من أن أُوبّخكِ بمخالفتي وقد عزّ عليَّ مفارقتكِ وفقدكِ إلاّ أنّه أمر لا بدّ منه، والله لقد جدّدتِ عليَّ مصيبة رسول الله(ص) وقد عَظُمَتْ وفاتُكِ وفَقدُكِ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضّها وأحزنها!! هذه مصيبة لا عزاء عنها، ورزية لا خلف لها ».

ثم بكيا جميعاً ساعة ، وأخذ الإمام رأسها وضمّها إلى صدره ثم قال : « أوصيني بما شئت فإنّكِ تجديني وفياً أمضي كلّما أمرتني به ، وأختار أمركِ على أمري». فقالت (س) : «جزاكَ الله عنّي خير الجزاء، يابن عمّ اُوصيك أوّلاً أن تتزوّج بعدي . . . . فإنّ الرجال لا بدّ لهم من النساء»، ثم قالت (س) : «اُوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني فإنّهم عدوّي وعدوّ رسول الله ، ولا تترك أن يصلّي عليَّ أحد منهم ولا من أتباعهم ، وادفّني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار»[26] .

ثم قالت (س) : «يابن العمّ إذا قضيتُ نحبي فاغسلني ولا تكشف عنّي، فإنّي طاهرة مطهَّرة، وحنّطني بفاضل حنوط أبي رسول الله (ص)، وصَلِّ عليَّ، وليصلِّ معك الأَدنى فالأَدنى من أهل بيتي، وادفنّي ليلاً لا نهاراً، وسرّاً لا جهاراً ، وعفَّ موضع قبري، ولا تُشهِد جنازتي أحداً ممّن ظلمني ، يابن العمّ أنا أعلم أنّك لا تقدر على عدم التزويج من بعدي فإن أنت تزوّجت امرأة اجعل لها يوماً وليلةً ، واجعل لأولادي يوماً وليلةً ، يا أبا الحسن ! ولا تَصِح في وجوههما فيصبحا يتيمين غريبين منكسرين ، فإنّهما بالأمس فقدا جدّهما واليوم يفقدان اُمّهما»[27] .

وروى ابن عباس وصيّة مكتوبة لها جاء فيها :

«هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول الله (ص) أوصت وهي تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأَنّ الجنّة حقّ ، والنار حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأَنّ الله يبعث من في القبور. يا عليّ أنا فاطمة بنت محمّد ، زوّجني الله منك لأكون لك في الدنيا والآخرة ، أنت أولى بي من غيري ، حنّطني وغسّلني وكفّني بالليل، وصلِّ عليَّ وادفنّي بالليل، ولا تُعلم أحداً ، وأستودعك الله، وأقرأ على ولديّ السلام إلى يوم القيامة»[28] .

* أوّل نعش أُحدث في الإسلام :

روي عن أسماء بنت عميس أنّ فاطمة الزهراء (س) قالت لأسماء : إنّي قد استقبحت ما يصنع بالنساء، إنّه يطرح على المرأة الثوب فيصفها لمن رأى، فقالت أسماء : يا بنت رسول الله أنا اُريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجريدة رطبة فحسنتها ، ثم طرحت عليها ثوباً ، فقالت فاطمة (س) : «ما أحسن هذا وأجمله ، لا تعرف به المرأة من الرجل»[29] .

وعن أبي عبدالله الصادق (ع) : «أوّل نعش اُحدث في الإسلام نعش فاطمة ، إنّها اشتكت شكاتها التي قبضت فيها، وقالت لأسماء : إنّي نحلت فذهب لحمي ، ألا تجعلين لي شيئاً يسترني ؟ فقالت أسماء : إنّي إذ كنت بأرض الحبشة رأيتهم يصنعون شيئاً أفلا أصنع لك مثله ؟ فإن أعجبك صنعت لك، قالت (س) : نعم ، فدعت بسرير ، فأكبته لوجهه ، ثم دعت بجرائد ـ نخل ـ فشدّدته على قوائمه، ثم جلّلته ثوباً فقالت أسماء: هكذا رأيتهم يصنعون ، فقالت (س) : اصنعي لي مثله ، اُستريني سترك الله من النار»[30] .

* لحظات عمرها الأخيرة :

انتقلت السيّدة فاطمة الزهراء (س) إلى فراشها، واضطجعت فيه وهي مستقبلة القبلة .

وقيل : إنّها أرسلت بنتيها زينب واُمّ كلثوم إلى بيوت بعض الهاشميات لئلاّ تشهدا موت اُمّهما ، كلّ ذلك من باب الشفقة والرأفة والتحفّظ عليهما من صدمة مشاهدة المصيبة .

وكان الإمام عليّ والحسن والحسين(ع) خارج البيت في تلك الساعة ولعلّ خروجهم كان للسبب نفسه أو لسبب آخر.

وحين حانت ساعة الاحتضار وانكشف الغطاء فتحت السيّدة فاطمة (س) عينيها ثم قالت : «السلام على جبرئيل، السلام على رسول الله، اللهمّ مع رسولك، اللهمّ في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام، ثم قالت : هذه مواكب أهل السماوات وهذا جبرئيل وهذا رسول الله يقول : يا بنية أَقدمي فما أمامكِ خيرٌ لك». ثم قالت : «وعليك السلام يا قابض الأرواح عجّل بي ولا تعذّبني» ثم قالت : «إليك ربّي لا إلى النار» ثم غمضت عينيها ومدّت يديها ورجليها .

وجاء عن أسماء أنّ فاطمة الزهراء (س) لمّا حضرتها الوفاة قالت لأسماء : «إنّ جبرئيل أتى النبيّ ـ لما حضرته الوفاة ـ بكافور من الجنّة فقسّمه أثلاثاً، ثلثاً لنفسه، وثلثاً لعليّ، وثلثاً لي، وكان أربعين درهماً فقالت : يا أسماء ائتني ببقية حنوط والدي من موضع كذا وكذا، وضعيه عند رأسي ، فوضعته ثم قالت لأسماء ـ حين توضّأت وضوءها للصلاة ـ : هاتي طيبي الذي أتطيّب به ، وهاتي ثيابي التي اُصلي فيها فتوضأت» ثم تسجَّت بثوبها ثم قالت : «انتظريني هنيئةً وادعيني فإن أجبتك وإلاّ فاعلمي أنّي قدمت على أبي فأرسلي إلى عليّ».

فنادتها أسماء فلم تجبها ، فكشفت الثوب عن وجهها فإذا بها قد فارقت الحياة، فوقعت عليها تقبّلها وهي تقول : يا فاطمة إذا قدمت على أبيك رسول الله(ص) فاقرئيه عن أسماء بنت عميس السلام ، ودخل الحسن والحسين فوجدا اُمّهما مسجّاة فقالا : يا أسماء ما ينيم اُمّنا في هذه الساعة ؟ قالت : يا ابنَيْ رسول الله ليست اُمّكما نائمة ، لقد فارقت الدنيا .

فألقى الحسن(ع) نفسه عليها يقبّلها مرةً ويقول : «يا اُمّاه كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني»، وأقبل الحسين(ع) يقبّل رجلها ويقول : «أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن يتصدّع قلبي فأموت» .

فقالت لهما أسماء : يا ابنَيْ رسول الله ، إنطلقا إلى أبيكما عليّ فأخبراه بموت اُمّكما ، فخرجا حتى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء فابتدر إليهما جمع من الصحابة وسألوهما عن سبب بكائهما فقالا : «قد ماتت اُمّنا فاطمة (س)» . فوقع الإمام عليّ (ع) على وجهه يقول : «بمن العزاء يابنت محمّد»[31] ؟

* مراسم التشييع والدفن :

وارتفعت أصوات البكاء من بيت عليّ (ع) فارتجّت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله (ص) ، واجتمعت نساء بني هاشم في دار فاطمة (س) فصرخن وبكين ، وأقبل الناس إلى عليّ (ع) وهو جالس والحسن والحسين بين يديه يبكيان ، وخرجت اُمّ كلثوم وهي تقول : يا أبتاه يا رسول الله! الآن حقاً فقدناك فقداً لا لقاء بعده أبداً.

واجتمع الناس فجلسوا وهم يضجّون ، وينتظرون خروج الجنازة ليصلّوا عليها ، وخرج أبو ذر وقال : انصرفوا فإنّ ابنة رسول الله قد اُخّر إخراجها في العشية[32] .

وأقبل أبو بكر وعمر يعزّيان علياً (ع) ويقولان له : يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله (ص)[33] .

وهكذا تفرّق الناس ، وهم يظنّون أنّ الجنازة تشيّع صباح غد. وروي أنّ وفاتها كانت بعد صلاة العصر أو أوائل الليل .

ولكنّ الإمام عليّاً (ع) غسّلها وكفّنها هو وأسماء في تلك الليلة، ثم نادى: يا حسن يا حسين يا زينب يا اُمّ كلثوم هلمّوا فتزوّدوا من اُمّكم فهذا الفراق واللقاء الجنّة ، وبعد قليل نحّاهم أمير المؤمنين (ع) عنها[34] .

ثم صلّى عليٌّ على الجنازة ورفع يديه إلى السماء فنادى « اللهمّ هذه بنت نبيّك فاطمة أخرجتها من الظلمات إلى النور ، فأضاءت ميلاً في ميل »[35] .

فلمّا هدأت الأصوات ونامت العيون ومضى شطر من الليل تقدّم أمير المؤمنين والعباس والفضل بن العباس ورابع يحملون ذلك الجسد النحيف، وشيّعها الحسن والحسين وعقيل وسلمان وأبوذر والمقداد وبريدة وعمار [36].

ونزل عليّ (ع) إلى القبر ، واستلم جسد بضعة رسول الله (ص) وأضجعها في لحدها وقال : « يا أرض أستودعك وديعتي ، هذه بنت رسول الله ، بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله محمّد بن عبدالله (ص)، سلّمتكِ أيتها الصدّيقة إلى من هو أولى بكِ منّي ، ورضيت لكِ بما رضي الله تعالى لكِ » ، ثم قرأ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[37] ، ثم خرج من القبر ، وتقدّم الحاضرون وأهالوا التراب على تلك الدرّة النبويّة، وسوّى عليّ (ع)[38] قبرها.

* تأبين الإمام عليّ (ع) للزهراء (س) :

انتهت مراسم الدفن بسرعة خوفاً من انكشاف أمرهم وهجوم القوم عليهم ، فلمّا نفض الإمام يده من تراب القبر هاج به الحزن لفقد بضعة الرسول وزوجته الودود التي عاشت معه عيشة الصفاء والطهارة والتضحية والإيثار، وتحمّلت من أجله الأهوال والصعاب ، فأرسل دموعه على خدّيه ، وحوّل وجهه إلى قبر رسول الله(ص) ثم قال:

«السلام عليك يا رسول الله عنّي ، والسلام عليك عن ابنتك وحبيبتك وقرّة عينك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك ، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك ، قلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، وعفى عن سيدة نساء العالمين تجلّدي، إلاّ أنّ في التأسي لي بسنَّتك في فرقتك موضع تعزي، فلقد وسّدتُك في ملحودة قبرك بعد أن فاضت نفسك بين نحري وصدري ، وغمضتك بيدي ، وتوليت أمرك بنفسي .

بلى ، وفي كتاب الله لي أنعم القبول، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، قد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة، واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله!

أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد ، لا يبرح الحزن من قلبي، أو يختار الله دارك التي أنت فيها مقيم ، كَمَدٌ مقيّح ، وهم مهيّج ، سرعان ما فرّق الله بيننا وإلى الله أشكو ، وستنبّئك ابنتك بتضافر اُمّتك عليَّ ، وعلى هضمها حقّها فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً ، وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين، والسلام عليكما يا رسول الله سلام مودّع لاسئم ولا قال، فإن أَنصرف فلا عن ملالة ، وإن أُقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله الصابرين، والصبر أَيمن وأجمل .

ولو لا غلبة المستولين علينا لجعلتُ المقام عند قبرك لزاماً، والتلبّث عنده عكوفاً ، ولأعولتُ إعوال الثكلى على جليل الرزية ، فبعين الله تُدفَن ابنتك سرّاً ، ويُهتضم حقّها قهراً، ويُمنع إرثها جهراً ولم يطل منك العهد ، ولم يخلق منك الذكر، فإلى الله ـ يا رسول الله ـ المشتكى ، وفيك ـ يا رسول الله ـ أجمل العزاء ، فصلوات الله عليها وعليك ورحمة الله وبركاته»[39] .

* تاريخ شهادتها (س) :

لا شك أنّ وفاة الزهراء (س) كانت في السنة الحادية عشرة من الهجرة ، لأنّ النبيّ (ص) حجّ حجّة الوداع في السنة العاشرة ، وتوفّي في أوائل السنة الحادية عشرة ، واتّفق المؤرّخون على أنّ السيّدة فاطمة (س) قد عاشت بعد أبيها أقلّ من سنة ، علماً بأنّها كانت في ريعان شبابها كما كانت في أتمّ الصحة في حياة أبيها ، نعم اختلفوا في يوم وشهر وفاتها اختلافاً شديداً .

فقد روي أنّها عاشت بعد النبيّ (ص) ستة أشهر . وقيل : خمسة وتسعين يوماً . وقيل: خمسة وسبعين يوماً أو أقلّ من ذلك[40] .

فعن الإمام الصادق (ع) : «أنها قبضت في جمادى الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه ، سنة إحدى عشرة من الهجرة»[41] .

وعن الإمام الباقر (ع) : « وتوفّيت ولها ثماني عشرة سنة وخمسة وسبعون يوماً»[42] .

وعن جابر بن عبدالله الأنصاري : وقبض النبيّ ولها يومئذ ثماني عشرة سنة وسبعة أشهر[43] .

قال أبو الفرج الإصفهاني : وكانت وفاة فاطمة الزهراء (س) بعد وفاة النبيّ (ص) بمدّة يختلف في مبلغها، فالمكثر يقول ستة أشهر ، والمقلّ يقول أربعين يوماً ، إلاّ أنّ الثابت في ذلك ما روي عن الإمام الباقر (ع) أنّها توفيت بعد النبيّ بثلاثة أشهر[44] .

وهكذا انتهت حياتها الزاخرة بالفضائل والمناقب والمواقف المبدئية المشرّفة ، فالسلام عليها يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيةً ورحمة الله وبركاته .

* مصحـف فاطمة (س) :

لقد كانت الزهراء ربيبة العلم والتقى وكان حظّها منهما وفيراً ، ويدلّنا على شيء من ذلك بعض ما اُثر عنها من الأحاديث التي روتها عن رسول الله(ص) بالمباشرة في الأحكام والآداب والأخلاق وفضائل أهل البيت(ع) وقد جُمع في ما سُميّ بــ « مسند فاطمة الزهراء » لعدّة مؤلفين، أولهم السيوطي المتوفّى عام 911 هـ ، والثّاني للسيّد حسين شيخ الإسلامي التويسركاني، وقد جمع فيه 260 حديثاً مما نُقل عن الزهراء عن رسول الله(ص)، أو ممّا يرتبط بها صلوات الله عليها مع رسول الله (ص) ، والثّالث للشيخ عزيز الله العطاردي، والرّابع للشيخ أحمد الرحماني الهمداني، حيث جمع في كتابه «فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى» حوالي 84 حديثاً ممّا نُقل عنها في كتب الخاصة والعامة .

ومن هنا نعود إلى ما كتبه السيّد هاشم معروف الحسني عن مصحف فاطمة الذي تشير الروايات إليه وتفصح مرويّاتها عن سعة علومها وفضلها عند الله وعند رسوله وأهل بيته، قال رضوان الله عليه : « فليس بغريب ـ والحال هذه ـ أن تكون السيّدة فاطمة (س) قد جمعت قسماً ممّا سمعته منه ومن زوجها في التشريع والأخلاق والآداب وما سيحدث في مستقبل الزمان من الأحداث والتقلبات ، وقد ورث الأئمة من أبنائها في جملة ما ورثوه عنها هذا الكتاب واحداً بعد واحد »[45] .

نماذج مختارة من مسند فاطمة (س)

* اهتمامها بالعلم وتدوين السنة :

1 ـ قال أبو محمّد العسكريّ (ع) : حضرت امرأة عند الصدّيقة فاطمة الزهراء(س) فقالت : إنّ لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليكِ أسألكِ ، فأجابتها فاطمة (س) عن ذلك فثنَّت فأجابت ، ثمّ ثلَّثت إلى أن عشّرت ، فأجابت ، ثمّ خجلت من الكثرة فقالت لا أشقّ عليك يا ابنة رسول الله، قالت فاطمة : هاتي وسلي عمّا بدا لك ، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار ، أيثقل عليه ؟ فقالت : لا ، فقالت : اكتريت أنا لكلّ مسألة بأكثر من مِلء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً ، فأحرى أن لا يثقل عليَّ ، سمعت أبي(ص) يقول :

«إنّ علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد الله حتّى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلَّة من نور، ثمّ ينادي منادي ربّنا عزّوجلّ : أيُّها الكافلون لأيتام آل محمّد (ص) الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الّذين هم أئمَّتهم ، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الّذين كفلتموهم ونعشتموهم ، فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا ، فيخلعون على كلّ واحد من اُولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم حتّى إنّ فيهم ـ يعني في الأيتام ـ من يخلع عليه مائة ألف خلعة ، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلّم منهم ، ثمّ إنّ الله تعالى يقول : أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتّى تتمّوا لهم خلعهم وتضعّفوها لهم ، فيتمّ لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم ، ويضاعف لهم ، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلّم منهم، ثمّ إنّ الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتّى تتمّوا لهم خلعهم وتضعّفوها لهم، فيتمّ لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم ، ويضاعف لهم ، وكذلك من يليهم ممّن خلع على من يليهم».

وقالت فاطمة (س) : «يا أمة الله إنّ سلكة من تلك الخلع لأفضل ممّا طلعت عليه الشمس ألف ألف مرّة وما فضل فإنّه مشوب بالتنغيص والكدر»[46] .

2 ـ عن ابن مسعود قال : جاء رجل إلى فاطمة (س) فقال : يا ابنة رسول الله هل ترك رسول الله عندك شيئاً تطرفينيه ؟ فقالت : « يا جارية هات تلك الحريرة»، فطلبَتْها فلم تجدها، فقالت : «ويحكِ اُطلبيها فإنّها تعدل عندي حسناً وحسيناً»، فطلبتها فإذا هي قد قممتها في قمامتها[47] ، فإذا فيها : قال محمّد النبيُّ: «ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت ، إنّ الله يحبُّ الخيّر الحليم المتعفّف ، ويبغض الفاحش الضنين السئّال الملحف ، إنَّ الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنّة ، وإنَّ الفحش من البذاء ، والبذاء في النار»[48] .

* التعريف بأهل البيت(ع) :

ـ وعنها سلام الله عليها أنَّ رسول الله(ص) قال لها : «أما ترضين أنّي زوَّجتك أوَّل المسلمين إسلاماً ، وأعظمهم علماً ؟ فإنّك سيِّدة نساء العالمين كما سادت مريم نساءَ قومها»[49] .

ـ عن يزيد عن عبد الملك النفليِّ ، عن أبيه ، عن جدِّه قال : دخلت على فاطمة بنت رسول الله(ص)، قال : فبدأتني بالسلام ، قال : وقالت : قال أبي وهو ذا حيٌّ : من سلَّم عليَّ وعليك ثلاثة أيّام فله الجنَّة . قلت لها : ذا في حياته وحياتك أو بعد موته وموتك ؟ قالت : في حياتنا وبعد وفاتنا [50] .

ـ إنّ فاطمة رضي الله عنها قالت : أتيت النبيَّ (ص) فقلت : السّلام عليك يا أبة، فقال : وعليك السّلام يا بنيَّة، فقلت : والله ما أصبح يا نبيَّ الله في بيت عليّ حبّة طعام، ولا دخل بين شفتيه طعام منذ خمس ، ولا أصبحت له ثاغية ولا راغية ، ولا أصبح في بيته سفَّة ولا هفَّة [51] .

فقال النبيُّ (ص) : ادني منّي ، فدنوت ، فقال : أدخلي يدك بين ظهري وثوبي ، فإذا حجر بين كتفي النبيِّ (ص) مربوط إلى صدره ، فصاحت فاطمة صيحة شديدة ، فقال لها: ما اُوقدت في بيوت آل محمّد نار منذ شهر .

ثمّ قال (ص) ورفع باب خيبر وهو ابن نيِّف وعشرين ، وكان لا يرفعه خمسون رجلاً .

فأشرق وجه فاطمة ، ثمّ أتت عليّاً فإذا البيت قد أنار بنور وجهها ، فقال لها : يا ابنة محمَّد ! لقد خرجت من عندي ووجهك على غير هذا الحال ؟ فقالت : إنَّ النبيَّ (ص) حدَّثني بفضلك ، فما تمالكت حتّى جئتك [52] .

* الأخلاق والآداب والسلوك :

ـ عن الحسين رضي الله عنه ، عن اُمِّه فاطمة رضي الله عنها ، قالت : قال لي رسول الله (ص) : «إيّاكِ والبخل ، فإنَّه عاهة لا تكون في كريم . إيّاكِ والبخل فإنه شجرة في النار ، وأغصانها في الدنيا ، فمن تعلّق بغصن من أغصانها أدخله النار . وعليكِ بالسخاء ، فإنَّ السخاء شجرة من شجر الجنّة ، أغصانها متدلّية إلى الأرض ، فمن أخذ منها غصناً قاده ذلك الغصن إلى الجنَّة»[53] .

ـ عن فاطمة البتول بنت رسول الله (ص) قالت : «قال رسول الله(ص) : شرار اُمّتي الَّذين غُذّوا بالنعيم، الَّذين يأكلون ألوان الطعام ، ويلبسون ألوان الثياب ، ويتشدَّقون في الكلام»[54] .

ـ عن فاطمة بنت الحسين ، عن جدّتها فاطمة الزهراء (س) قالت : كان رسول الله (ص) إذا دخل المسجد صلّى على محمَّد وسلَّم ، وقال : « اللّهمَّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك » . وإذا خرج صلّى على محمّد وسلّم ثمّ قال : « اللّهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك »[55] .

ـ قالت (س) : «البشر في وجه المؤمن يوجب لصاحبه الجنّة ، والبشر في وجه المعاند المعادي يقي صاحبه عذاب النار»[56] .

ـ عن زيد بن عليّ ، عن آبائه ، عن فاطمة ابنة النبيّ (ص) قالت : سمعت النبيَّ (ص) يقول : «إنَّ في الجمعة لساعةً لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله عزّوجلّ فيها خيراً إلاّ أعطاه . قالت : فقلت : يا رسول الله أيُّ ساعة هي ؟ قال : إذا تدلّى نصف عين الشمس للغروب . قال : وكانت فاطمة تقول لغلامها: اصعد على السطح ، فإن رأيت نصف عين الشمس قد تدلّى للغروب فأعلمني حتّى أدعو» [57] .

ـ قال ابن حمّاد الأنصاريُّ الدولابيُّ المتوفّى 310 : حدَّثنا أبو جعفر محمَّد بن عوف بن سفيان الطائيُّ الحمّصيُّ ، حدّثنا موسى بن أيُّوب النصيبيُّ، حدّثنا محمَّد بن شعيب ، عن صدقة مولى عبد الرحمن بن الوليد ، عن محمّد بن عليّ بن حسين ، قال : خرجت أمشي مع جدّي حسين بن عليّ إلى أرضه ، فأدركنا النعمّان بن بشير على بغلة له فنزل عنها ، وقال للحسين: اركب أبا عبدالله ، فأبى، فلم يزل يقسم عليه حتّى قال : أما إنّك قد كلَّفتني ما أكره ، ولكن أُحدِّثك حديثاً حدَّثتنيه أمّي فاطمة : إنَّ رسول الله (ص) قال : « الرجل أحقُّ بصدر دابَّته وفراشه والصلاة في بيته ، إلاّ إماماً يجمع الناس » . فاركب أنت على صدر الدابّة و ] أردفني خلفك [ .

فقال النعمان : صدقت فاطمة ، حدَّثني أبي ـ وها هو ذا حيٌّ بالمدينة عن النبيّ (ص) قال : إلاّ أن يأذن، فلمّا حدّثه النعمان بهذا الحديث ركب حسين السرج ، وركب النعمان خلفه [58].

ـ حدَّثنا أحمد بن يحيى الأوديُّ ، حدّثنا جبارة بن مغلّس ، حدّثنا عبيد بن الوسيم ، عن حسين بن الحسن ، عن أمّه فاطمة بن حسن ، عن أبيها ، عن فاطمة بنت رسول الله (ص) ، قالت : قال رسول الله(ص): «لا يلومنّ إلاّ نفسه من بات وفي يده غَمَر»[59] [60] .

ـ حدّثنا أحمد بن يحيى الصوفيُّ ، حدّثنا عبد الرحمن بن دبيس ، حدّثنا بشير بن زياد ، عن عبدالله بن حسن ، عن اُمِّه ، عن فاطمة الكبرى(س)، قالت : قال رسول الله (ص) : «ما التقى جندان ظالمان إلاّ تخلّى الله منهما ، فلم يبال أيُّهما غلب، وما التقى جندان ظالمان إلاّ كانت الدائرة على أعتاهما»[61] .

ـ وقالت (س) في وصف ما هو خير للنساء : «خير لهنَّ ألاّ يرين الرجال ولا يرونهنَّ»[62] .

ـ عن جعفر بن محمّد عن أبيه محمّد بن عليّ عن أبيه علىّ بن الحسين عن أبيه الحسين بن عليّ عن اُمّه فاطمة بنت رسول الله (ص) قالت : «لمّا نزلت على النبىِّ (ص) لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً[63] ، قالت فاطمة : فتهيَّبت النبيَّ (ص) أن أقول له : يا أبه ، فجعلت أقول له : يا رسول الله، فأقبل عليَّ فقال لي : يا بنيَّة لم تنزل فيك ولا أهلك من قبل ، أنت منّي وأنا منك ، وإنّما نزلت في أهل الجفاء والبذخ والكبر ، قولي : يا أبه ، فإنَّه أحبُّ للقلب وأرضى للربِّ ثمَّ قبَّل النبيُّ(ص) جبهتي ، مسحني بريقه ، فما احتجت إلى طيب بعده»[64] .

ـ وقالت فاطمة (س) : «من أصعد إلى الله خالص عبادته; أهبط الله إليه أفضل مصلحته»[65] .

ـ عن ليث بن أبي سليم عن عبدالله بن الحسن عن اُمّه فاطمة بنت الحسين عن أبيها عن اُمّه فاطمة ابنة رسول الله (ص) : «خياركم ألينكم مَناكِبَ، وأكرمهم لنسائهم»[66] .

ـ سأل رسول الله (ص) أصحابه عن المرأة ما هي ؟ قالوا : عورةٌ ، قال: فمتى تكون أدنى من ربِّها؟ فلم يدروا، فلمّا سمعت فاطمة (س) ذلك قالت : «أدنى ما تكون من ربِّها أن تلزم قعر بيتها، فقال رسول الله(ص) : إنَّ فاطمة بضعة منّي»[67] .

ـ وعنها سلام الله عليها في حديث طويل ، قالت : «يا رسول الله! إنَّ سلمان تعجَّب من لباسي ، فو الَّذي بعثك بالحقِّ ما لي ولعليّ منذ خمس سنين إلاّ مَسك كبش نعلف عليه بالنهار بعيرنا ، فإذا كان اللّيل افترشناه ، وأنَّ مرفقتنا لَمِن أدم حشوها ليف ، فقال النبيّ (ص) : يا سلمان إنَّ ابنتي لفي الخيل السوابق»[68] .

ـ عن عليِّ بن الحسين بن عليّ(ص): «أ نَّ فاطمة بنت رسول الله (ص) استأذن عليها أعمى فحجبته ، فقال لها النبيُّ (ص) : لم حجبته وهو لا يراكِ؟ فقالت : يا رسول الله إن لم يكن يراني فأنا أراه ، وهو يشمّ الريح، فقال النبيُّ (ص) : أشهد أنّك بضعة منّي»[69] .

ـ حدَّثنا يزيد بن سنان ، حدثّنا الحسن بن عليّ الواسطيّ ، حدّثنا بشير ابن ميمون الواسطيّ ، حدَّثنا عبدالله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، قال : حدَّثتني اُمّي فاطمة بنت الحسين عن فاطمة الكبرى بنت محمّد : إنّ رسول الله (ص) كان يعوِّذ الحسن والحسين ويعلّمهما هؤلاء الكلمات كما يعلِّمهما السورة من القرآن ، يقول : « أعوذ بكلمات الله التامّة من شرِّ كلِّ شيطان وهامَّة ، ومن كلِّ عين لامّة »[70] .

ـ عن الزهراء صلوات الله عليها قالت : «دخل عليّ رسول الله (ص) وقد افترشت فراشي للنوم ، فقال: يا فاطمة لا تنامي إلاّ وقد عملت أربعة : ختمتِ القرآن ، وجعلت الأنبياء شفعاءَكِ، وأرضيت المؤمنين عن نفسك ، وحججت واعتمرتِ. قال هذا وأخذ في الصلاة ، فصبرت حتّى أتمّ صلاته ، قلت: يا رسول الله إنّك أمرت بأربعة لا أقدر عليها في هذا الحال ! فتبسَّم (ص) ] وقال [ : إذا قرأت قل هو الله أحد ثلاث مرّات فكأنَّك ختمت القرآن ، وإذا صلّيت عليَّ وعلى الأنبياءِ قبلي كُنّا شفعاءَك يوم القيامة ، وإذا استغفرت للمؤمنين رضوا كلُّهم عنك ، وإذا قلت : سبحان الله والحمد لله ولا اله إلاّ الله والله أكبر ، فقد حججت واعتمرتِ»[71] .

ـ في حديث طويل قالت (س) : «يا أبت فديتك ما الّذي أبكاك ؟» فذكر لها ما نزل به جبرئيل من الآيتين المتقدِّمتين وإنَّ جهنَّم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكلِّ باب منهم جزء مقسوم [72] فسقطت فاطمة (س) على وجهها وهي تقول : «الويل ثمَّ الويل لمن دخل النار» [73] .

فسلام عليها يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيّةً وهي تحمل كلَّ أوسمة الشرف والسمو وعليها حلل الكرامة.

الهوامش

1 ـ أهل البيت لتوفيق أبو علم : 116، بتصرّف.

2 ـ راجع الخطبتين من أحداث حياتها بعد وفاة أبيها (ص).

3 ـ أهل البيت : 132 ـ 134.

4 ـ انظر كنز العمّال 12: 422 / ح35475.

5 ـ مسند أحمد 2: 243 و 443 ما أسند عن أبي هريرة، كنز العمال 15: 900 / ح43549.

6 ـ مسكن الفؤاد: 80 الباب الثّالث، بحار الأنوار 79: 142 / ح26 ولم يورد الرواية بسند عن الزهراء(س)أرسلوها عن الرسول(ص)، وأوردها بهذا السند توفيق أبو علم في كتابه أهل البيت: 137.

7 ـ مصباح الشريعة: 83 باب 37 في السخاء، مشكاة الأنوار: 409 الباب 5 من الفصل 4 في السخاء، بحار الأنوار 68: 355 / ح17، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 222 ـ 223 بيان أحوال العافين، الجامع الصغير للسيوطي 2: 67 / ح4804، كنز العمال 6: 338 / ح15928.

8 ـ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي 6: 254 / ح11 من باب الشح، كنز العمال 6: 347 / ح15990، كشف الخفاء 1: 288 / ح922.

9 ـ جامع السعادات 2: 91 باب الإيثار، فتح الباري 11: 240 باب كيف كان عيش النبيّ(ص).

10 ـ سمل: سمل الثوب يسمل سمولاً، وأسمل: أخلق، والسمل: الخلق من الثياب. لسان العرب 11: 345 مادة سمل.

11 ـ بشارة المصطفى: 217 ـ 221 / ح44، بحار الأنوار 43: 56 ـ 58 / ح50.

12 ـ المشاش جمع مشاشة: وهي رؤوس العظام الليّنة، لسان العرب 6: 347 مادة مشش.

13 ـ دلائل الإمامة: 139 / ح47، المناقب لابن شهرآشوب 3: 116 باب مناقب فاطمة(س)، بحار الأنوار 43: 46.

14 ـ أمالي الصدوق: 175 ـ 176، 178، فضائل شاذان: 9 خبر ابن عبّاس في فضل عليّ(ع)، بحار الأنوار 43: 172 / ح13.

15 ـ علل الشرائع 1: 181 ـ 182 / باب 145، ح1، دلائل الإمامة: 152 أخبار في مناقبها(س)، بحار الأنوار 43: 81 ـ 82 / ح3.

16 ـ المناقب لابن شهرآشوب 3: 119 باب مناقب فاطمة(س)، بحار الأنوار 43: 76 / ح62 وص84 / ح7.

17 ـ أعلام الدين : 247 ذكر مواعظ متفرقة، عدّة الداعي: 139 في بيان لزوم الخوف والرجاء على كلّ حال، بحار الأنوار 67: 400 / ح72.

18 ـ مجمع البيان 2: 417 في تفسير سورة آل عمران، بحار الأنوار 59: 192 / ح4، صحيح مسلم 5: 178 باب غزوة أُحد، سنن ابن ماجة 2: 1147 ح3464، الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 48 ذكر من قتل يوم أُحد من المسلمين.

19 ـ ذخائر العقبى: 47 ذكر برّها بالنبيّ(ص).

20 ـ أهل البيت لتوفيق أبو علم: 141 ـ 142 بتصرّف.

21 ـ المناقب لابن شهرآشوب 1: 140 فصل في أقربائه وخدّامه(ص)، بحار الأنوار 22: 152 / ح4، المعجم الكبير للطبراني 22: 397 ذكر سن فاطمة ووفاتها(س)، تاريخ مدينة دمشق 3: 158 باب صفة خلقه(ص).

22 ـ السيرة النبويّة لابن هشام 2: 283 وفاة أبي طالب(ع)، تاريخ الطبري 2: 80 ذكر الخبر عن ابتداء أمر النبيّ(ص)، تاريخ مدينة دمشق 66: 338 في ترجمة أبي طالب(ع)، رقم 8613.

23 ـ من مقدمة كتاب فاطمة الزهراء وترفي غمد ، للسيّد موسى الصدر .

24 ـ بحار الأنوار 43: 179 / ح15.

25 ـ مسند أحمد 3: 55 ما أُسند عن أبي سعيد الخدري، المعجم الكبير للطبراني 22: 111 ذكر الهيثم بن حبيب عن أبي جحيفة.

26 ـ روضة الواعظين : 1 / 151 مجلس في ذكر فاطمة(س)، وفي رواية: إذا هدأت الأصوات ونامت العيون.

27 ـ بحار الأنوار : 43 / 178 و 192 / ح15 و 20.

28 ـ بحار الأنوار : 43 / 214 .

29 ـ كشف الغمّة 2: 126 فصل في وفاة فاطمة(س)، ذخائر العقبى: 53 ذكر وصيتها(س) إلى أسماء، بحار الأنوار 43: 189، السنن الكبرى للبيهقي 4: 34 باب ماورد في النعش للنساء، كنز العمال 13: 686 / ح37756.

30 ـ تهذيب الأحكام 1: 469 باب تلقين المحتضر، ح1540، بحار الأنوار 43: 212 ـ 213 / ح43.

31 ـ كشف الغمّة 2: 122 ـ 123 ذكر حالها بعد أبيها(س)، بحار الأنوار 43: 186 ـ 187 / ح18.

32 ـ روضة الواعظين: 151 ـ 152، بحار الأنوار 43: 192 / ح20.

33 ـ كتاب سليم بن قيس: 392 وقائع السقيفة عن ابن عبّاس، بحار الأنوار 43: 199 / ح29.

34 ـ بحار الأنوار 43: 179 / ح15.

35 ـ المصدر نفسه: 215 / ح44.

36 ـ روضه الواعظين: 152، بحار الأنوار 43: 193 / ح20.

37 ـ طه 20: 55.

38 ـ بحار الأنوار 79: 27 ـ 28 / ح13.

39 ـ الكافي 1: 458 ـ 459 / ح3 باب مولد الزهراء(س)، دلائل الإمامة: 137 ـ 138 خبر وفاتها(س)، أمالي الطوسي: 109 ـ 110 / ح 166، بحار الأنوار 43: 193 ـ 194 / ح21. وفيها اختلاف يسير باللفظ.

40 ـ انظر بحار الأنوار 43: 200 ـ 201، الإصابة لابن حجر 8: 266 ـ 267 ترجمة فاطمة(س) رقم 11587.

41 ـ دلائل الإمامة: 79 خبر ولادتها(س)و 134 خبر وفاتها(س)، بحار الأنوار 43: 9/ح16 و170 / ح11.

42 ـ الكافي 1: 457 / ح10 باب مولد الزهراء(س)، بحار الأنوار 43: 7/ح10.

43 ـ المناقب لابن شهرآشوب 3: 132 باب مناقب فاطمة(س)، بحار الأنوار 43: 6/ح8 .

44 ـ مقاتل الطالبيين: 19.

45 ـ سيرة الأ ئمة الإثني عشر : 1 / 96 ـ 97 .

46 ـ تفسير الإمام العسكري(ع): 340 ـ 341 / ح216، بحار الأنوار 2: 3 / ح3.

47 ـ القمامة ـ بالضمّ ـ : الكناسة .

48 ـ دلائل الإمامة: 65 ـ 66 / ح1.

49 ـ كنز العمّال 11، 605، حديث 32925، سبل الهدى والرشاد: 11: 291 ذكر جماع أبواب العشرة الذين شهد لهم الرسول(ص) بالجنّة، باب 10 .

50 ـ « المناقب » لابن المغازليّ الشافعيّ : ص364.

51 ـ الثاغية : الشاة . والراغية : البعير . والسفَّة : المأكول . والهفَّة : المشروب .

52 ـ دلائل الإمامة: 69 ـ 70 / ح8، ذكر مسند فاطمة(س)، أهل البيت(ع) لتوفيق أبو علم : 130 .

53 ـ دلائل الإمامة: 71 / ح9 مسندها(س).

54 ـ ذم الكلام وأهله للهروي 1: 116 ـ 117 / ح101، تاريخ مدينة دمشق 27: 366 ترجمة عبدالله بن الحسن الهاشمي رقم 3242. وتشدق في الكلام: أتسع فيه من غير احتياط.

55 ـ دلائل الإمامة: 75 / ح14 مسندها(س)، أمالي الطوسي: 401 / ح894، المصنف لابن أبي شيبة 1: 373 باب 110/ ح1، كنز العمال 8: 321 / ح23109.

56 ـ « تفسير الإمام العسكري» : 354 / ح243، بحار الأنوا 72: 401/ ح42، والمراد من الفقرة الثانية مداراة النواصب تقيّةً منهم .

57 ـ دلائل الإمامة: 71 / ح10 مسندها(س)، بحار الأنوار 86: 269 / ح8.

58 ـ الذريّة الطاهرة النبويّة: 137 / ح171.

59 ـ الغَمَر : الدَسَم .

60 ـ الذريّة الطاهرة النبويّة: 138 / ح172.

61 ـ كشف الغمّة 2: 176 ذكر من روى من أولاد الحسن(ع)، الذريّة الطاهرة النبوية: 149 / ح190.

62 ـ سؤالات حمزة للدارقطني: 280 / ح409، حلية الأولياء 2: 41 ترجمة فاطمة(س) رقم 133.

63 ـ النور 24 : 63 .

64 ـ المناقب لابن شهرآشوب 3: 102 باب مناقب فاطمة(س)، كشف اليقين: 354 ـ 355 / المبحث 20.

65 ـ تفسير الإمام العسكري(ع): 327 / ح177، عدة الداعي: 218 في بيان علاج الرياء، بحار الأنوار 67: 249 / ح25.

66 ـ دلائل الإمامة: 75 ـ 76 / ح15 مسندها(س).

67 ـ العُدد القوية: 224 / ح17، بحار الأنوار 43: 91 ـ 92 / ح16.

68 ـ الدروع الواقعيه: 275 التذكير بالآخرة، بحار الأنوار 43: 88 / ح9.

69 ـ دعائم الإسلام 2: 214 / ح792، بحار الأنوار 43: 91 / ح16.

70 ـ الذّرّية الطاهرة ، لابن حمّاد الأنصاريّ الدولابيّ : 149 / ح191.

71 ـ خلاصة الأذكار : 70، صحيفة الزهراء(س): 165 ـ 166 / ح37.

72 ـ الحجر 15 : 43 ـ 44 .

73 ـ الدروع الواقية: 275 التذكير بالآخرة، بحار الأنوار 43: 88 / ح9.

قراءة 8592 مرة