ليلة القدر في القرآن الكريم

قيم هذا المقال
(0 صوت)

بسم اللة الرحمن الرحيم

 

إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلآَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.

[1] عندما انهمر فيض الوحي على قلب الرسول صلى اللة علية وآلة في ليلة القدر في شهر رمضان، وتنـزلت ملائكة الرحمة و الروح بالقرآن، رسالة السلام، وبشير الرحمة، عندئذ خلد اللة هذة المناسبة المباركة التي عظمت في السماوت و الارض، وجعلها ليلة مباركة خيراً من ألف شهر .

إنها حقاً عيد الرحمة، فمن تعرض لها فقد حظى بأجر عظيم !! فقال اللة سبحانه: [إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ]

وكذلك قال ربنا سبحانه: [إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ] (الدخان/3-4)

كذلك نزل القرآن كلة على قلب الرسول في تلك الليلة، ثم نزل بصورة تدريجية طيلـة ثلاث و عشرين عاماً، لتأخذ موقعها من النفوس، وليكون

كتاب تغيير يبني الرسول بة أمة وحضارة، ومستقبلاً مشرقاً للإنسانية.

وكذلك قال ربنا سبحانه: [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي اُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْانُ] (البقرة/185)

ومعروف أن القرآن تنـزل بصورتة المعهودة في أيام السنة جميعاً، فلة إذاً نزلة أخرى جملة واحدة .

والسؤال: لماذا سميت هذة الليلة بليلة القدر؟

يبدو أن أهم ما في هذة الليلة المباركة تقدير شؤون الخلائق، وقد استنبط اللفظ منه، فهي ليلة الأقدار المقدرة، كما قال ربنا: [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ].

وقال بعضهم: بل لأنها ليلة جليلة القدر، قد أنزل اللة فيها كتاباً قديراً، ولأن الذي يحييها يكون عند اللة ذا قدر عظيم.

[2] من ذا الذي يستطيع أن يدرك أبعاد تلك الليلة التي باركها اللة لخلقة بالوحي، وجعلها زماناً لتقدير شؤون العالمين؟ من ذا الذي يدرك عظمة الوحي، وجلال الملائكة، ومعاني السلام الإلهي؟ إنها ليست فوق الإدراك بصورة مطلقة، ولكنها فوق استيعاب الإنسان لجميع أبعادها، وعلى الإنسان ألا يتصور أنة قد بلغ علم ليلة القدر بمجرد معرفة بعض أبعادها، بل يسعى ويسعى حتى يبلغ المزيد من معانيها، وكلما تقدم في معرفتها كلما استطاع الحصول على مغانم أكبر منها.

[وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ]

سبق القول من البعض: إن هذة الجملة وردت في القرآن لبيان أهمية الحقيقة التي تذكر بعدها.

بينما تترك الحقيقة مجملة إذا ذكرت عبارة وما يدريك .. هكذا قالوا، واعتقد أن كلتا الجملتين تفيدان تعظيم الحقيقة التي تذكر بعدها .

[3] كيف نعرف أهمية الزمان ؟ أليس عندما يختصر المسافة بيننا وبين أهدافنا، فاذا حصلت في يوم على ميلون دينار، وكنت تحصل علية خلال عام أليس هذا اليوم خير لك من عام كامل ؟ كذلك ليلة القدر تهب للإنسان الذي يعرف قدرها ما يساوي عمراً مديداً؛ ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر. وبتعبير أبلغ؛ ألف شهر.

[لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ]

أجل الواحد منا مسمى عند الله، وقد يكون قصيراً، قد لا يبلغ الواحد منا معشار أهدافة فيه، فهل يمكن تحدي هذا الواقع ؟ بلى؛ ولكن ليس بالصورة التي يتخيلها الكثير، حيث يتمنون تطويل عمرهم، وقليل هم الذين يحققون هذة الأمنية، لأن عوامل الوفاة عديدة وأكثرها خارج عن إرادة الإنسان. فما هو إذاً السبيل الى تمديد العمر؟ إنما بتعميقه، ومدى الانتفاع بكل لحظة لحظة منه. تصور لو كنت تملك قطعة صغيرة من الارض، ولا تستطيع توسيعها فكيف تصنع ؟ إنك سوف تبني طوابق فيها بعضها تحت الأرض وبعضها يضرب في الفضاء وقد تناطح السحب. كذلك عاش بعض الناس سنين معدودات في الأرض، ولكنهم صنعوا عبرها ما يعادل قروناً متطاولة؛ مثلاً عمر رسولنا الكريم صلى اللة علية وآلة لم يتجاوز الثلاث والستين، وأيام دعوتة ثلاث وعشرون عاماً منها، ولكنها أبعد أثراً من عمر نوح المديد، بل من سني الأنبياء جميعاً. وهكذا خص اللة أمتة بموهبة ليلة القدر، التي جعلها خيراً من ألف شهر، ليقدروا على تمديد أعمارهم في البعد الثالث (أي بعد العمق) ولعل الخبر المأثور عن رسول اللة صلى اللة علية وآلة يشير الى ذلك، فقد روي ان رسول اللة صلى اللة علية وآلة وسلم أري أعمار الأمم قبلة فكأنة تقاصر أعمار أمتة ألاّ يبلغوا من العمر مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاة اللة تعالى ليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر . ([2])

وفي حديث آخر؛ أنة ذكر لرسول اللة رجل من بني إسرئيل أنة حمل السلاح على عاتقة في سبيل اللة ألف شهر، فعجب من ذلك رسول اللة عجباً شديداً، وتمنى أن يكون ذلك في أمته، فقال: يارب! جعلت أمتي أقصر الناس أعماراً، وأقلها أعمالاً. فأعطاة اللة ليلة القدر، وقال: [لَيْلَة الْقَدْرِ خَيْر مِّن ألْفِ شَهْر] الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل اللة لك ولأمتك من بعدك الى يوم القيامة في كل رمضان. ([3])

إنك قد تحيي ليلة القدر بالطاعة فيكتب اللة اسمك في السعداء، ويحرم جسدك على نار جهنم أبداً، وذلك بما يوفقك لة من إصلاح الذات إصلاحاً شاملاً. من هنا جاء في الدعاء المأثور في ليالي شهر رمضان مجموعة من البصائر التي تتحول بتكرار تلاوتها الى أهداف وتطلعات يسعى نحوها المؤمن بجد ومثابرة، ويجتهد في طلبها من ربه.

"اللهم اعطني السعة في الرزق، والأمن في الوطن، وقرة العين في الأهل والمال والولد، والمقام في نعمك عندي، والصحة في الجسم، والقوة في البدن، والسلامة في الدين، واستعملني بطاعتك وطاعة رسولك محمد صلى اللة علية وآلة أبداً ما استعمرتني، واجعلني من أوفر عبادك عندك نصيباً في كل خير أنزلتة وتنـزلة في شهر رمضان في ليلة القدر". ([4])

وهكذا ينبغي أن يكون هدفك في ليلة القدر تحقيق تحول جذري في نفسك، تحاسب نفسك بل تحاكمها أمام قاضي العقل، وتسجل ثغراتها السابقة، وانحرافاتها الراهنة، وتعقد العزم على تجاوز كل ذلك بالندم من إرتكاب الأخطاء، والعزم على تركها والالتجاء الى اللة ليغفر لك ما مضى ويوفقك فيما يأتي .

وقد جاء في تأويل هذة الآية: أنها نزلت في دولة الرسول التي كانت خيراً من دول الظالمين من بني أمية، حيث نقل الترمذي عن الحسن بن علي عليهما السلام: "أن رسول اللة صلى اللة علية وآلة أري بني أمية على منبرة فساءة ذلك، فنـزلت [إنَّا أعْطَيْنَاكَ الكَوْثَر] يعني نهراً في الجنة، ونزلت [إنَّا أنْزَلْنَا في لَيلة القَدْر وَمَا أدْرَاك مَا لَيْلة القَدْر * لَيْلَة القَدْر خَير مِّن ألْفِ شَهْر] يملكها بعدك بنو أمية"([5]) وكانت حكومة بني أمية ألف شهر لا تزيد ولا تنقص .

وهكذا فضيلة حكومة العدل وأثرها العظيم في مستقبل البشرية أكثر من ألف شهر من حكومة الجور .

لماذا أمست ليلة القدر خيراً من ألف شهر ؟ لأنها ملتقى أهل السماء بأهل الأرض، حيث يجددون ذكرى الوحي، ويستعرضون ما قدر اللة للناس في كل أمر.

[تَنَزَّلُ الْمَلآَئِكَةُ]

والكلمة أصلها تتنـزّل، وصيغتها مضارع تدل على الاستمرار، فنستوحي منها؛ إن ليلة القدر لم تكن ليلة واحدة في الدهـر، وإنما هـي في كل عـام مرة واحدة، ولذلك أمرنا النبـي صلى اللة عليـة وآلـة بإحيائهـا .

فقد جاء في الأثر عن رسول اللة صلى اللة علية وآلة أنة لما حضر شهر رمضان - وذلك في ثلاث بقين من شعبان - قال لبلال: "ناد في الناس" فجمع الناس، ثم صعد المنبر، فحمد اللة وأثنى عليه، ثم قال: " أيها الناس؛ إن هذا الشهر قد خصكم اللة به، وحضركم، وهو سيد الشهور، ليلة فية خير من ألف شهر". ([6])

وروي عن الإمام أمير المؤمنين علية السلام أنة قال لابن العباس: "إن ليلة القدر في كل سنة وإنة ينـزل في تلك الليلة أمر السنة، ولذلك الأمر ولاة بعد رسول الله. فقال ابن عباس من هم ؟ قال علية السلام: " أنا وأحد عشر من صلبي". ([7])

[وَالرُّوحُ]

ما هو الروح ؟ هل هو جبرائيل علية السلام أم هم أشراف الملائكة ؟ أم هم صنف أعلى منهم وهم من خلق الله، أم هو ملك عظيم يؤيد بة أنبياءة ؟

استفاد بعضهم من الآية التالية، أن الروح هو جبرئيل علية السلام، حيث قال [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَمِينُ]. (الشعراء/193)

واستظهر البعض من الآية التالية، أن الروح هي الوحي، فإن الملائكة يهبطون في ليلة القدر بة قال اللة تعالى: [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا]. (الشورى/52)

وجاء في حديث شريف ما يدل على أن الروح أعظم من الملائكة، فقد روي عن الإمام الصادق علية السلام أنة سئل هل الروح جبرئيل علية السلام؟ فقال: جبرئيل من الملائكة، والروح أعظم من الملائكة، أليس أن اللة عز وجل يقول: [تَنَزَّلُ الْمَلآَئِكَةُ وَالرُّوحُ]. ([8])

وقد قال ربنا سبحانه: [وأيَّدَة بِروح مِّنْهُ] مما يدل على أن الروح هو ما يؤيد اللة بة أنبياءة .

ويبدو أن الروح خلق نوراني عظيم الشأن عند الله، وأن اللة ليس يؤيد أنبياءة عليهم السلام بة فقط، وإنما حتى الملائكة ومنهم جبرائيل يؤيدهم به. وبهذا نجمع بين مختلف الاحتمالات والأدلة، واللة العالم .

[فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم]

عظيمة تلك الليلة التي تتنـزّل الملائكة فيها، وعظيمة لأن الأعظم منهم هو الروح يتنـزّل أيضاً، ولكن لا ينبغي أن نتوجة الى عظمة الروح بعيداً عن عظمة الخالق سبحانه، فإنهم عباد مكرمون، مخلوقون مربوبون، وليسوا أبداً بأنصاف آلهة، وليس لهم من الأمر أي شيء، ولذلك فإن تنـزّلهم ليس باختيارهم، وإنما بإذن ربهم.

[مِن كُلِّ أَمْرٍ]

قالوا: معناة لأجل كل أمر، أو بكل أمر. فالملائكة - حسب هذا التفسير- يأتون لتقدير كل أمر، ولكن أليس اللة قد قدر لكل أمر منذ خلق اللوح وأجرى علية القلم ؟ بلى؛ إذاً فما الذي تتنـزّل بة الملائكة في ليلة القدر؟ يبدو أن التقديرات الحكيمة قد تمت في شؤون الخلق، ولكن بقيت أمور لم تحسم وهي تقدر في كل ليلة قدر لأيام عام واحد، فيكون التقدير خاصاً ببعض جوانب الأمور، وليس كل جوانبها. بلـى؛ فالتقديرات جميع الأمور، ولكن من كل أمر جانباً. وهكذا يكون حرف "من" للتبعيض وهو معناة الأصلي، وهو أيضاً ما يستفاد من النصوص المأثورة في هذا الحقل.

سأل سليمان المروزي الإمام الرضا علية السلام وقال: ألا تخبرنـي عـن [ إنَّا أنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ القَدْر] في أي شيء نزلت؟ قال: "يا سليمان؛ ليلة القدر يقدر اللة عز وجل فيها ما يكون من السنة الى السنة، من حياة أو موت, أو خير أو شر أو رزق. فما قدرة اللة في تلك الليلة، فهو من المحتوم ". ([9])

وهكذا تختلف بصائر الوحي عن تصورات البشر، فبينما يزعم الإنسان أنة مجبور لا أثر لمشيئتة في حياتة يعطية الوحي قيمة سامية، حيث يجعلة قادراً على تغيير مجمل حياته؛ من سعادة وشقاء، وخير وشر، ونفع وضر.. كل ذلك بإذن الله، وعبر الدعاء الى اللة في ليلة القدر .

إن البشرية في ضلال بعيد عن حقيقة المشيئة، فهم بين من ظن أنة صاحب القرار، وقد فوض اللة الأمور إلية تفويضاً مطلقاً، فلا ثواب ولا عقاب ولا مسؤولية ولا أخلاق، وبين من زعم أنة مضطر تسوقة الأقدار بلا حرية منة ولا اختيار .

ولكن الحق هو أمر بين أمرين؛ فلا جبر لأننا نعلم يقيناً أن قرارنا يؤثر في حياتنا، أولست تأكل وتشرب وتروح وتأتي حسب مشيئتك وقرارك؟ وكذلك لا تفويض لأن هناك أشياء كثيرة لا صنع لنا فيها؛ كيف ولدت، وأين تموت، وماذا تفعل غداً، وكم حال القضاء بينك وبين ما كنت تتمناه، وكم حجزك القدر عن خططك التي عقدت العزمات على تطبيقها ؟

بلى؛ إن اللة منح الإنسان قدراً من المشيئة لكي يكون مصيرة بيده، إما الى الجنة وإما الى النار، ولكن ذلك لا يعني أنة سيدخل الجنة بقوتة الذاتية أو النار بأقدامه, وإنما اللة سبحانة هو الذي يدخلة الجنة بأفعالة الصالحة، أو يدخلة النار بأفعالة الطالحة.

إذاً فالإنسان يختار، ولكن اللة سبحانة هو الذي يحقق ما اختارة من سعادة وشقاء، وأن اللة لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وها هنا تتركز أهمية الدعاء وبالذات في ليلة القدر التي هي ربيع الدعاء، وقد تتغير حياة الإنسان في تلك الليلة تماماً، فكم يكون الإنسان محروماً وشقياً إن مرت علية هذة الليلة دون أن يستفيد منها شيئاً.

ويتساءل البعض: أليس هذا يعني الجبر بذاته؟ فإذا كانت ليلة تحدد مصير الإنسان فلماذا العزم والسعي والاجتهاد في سائر أيام السنة؟!

كلا؛ ليس هذا من الجبر في شيء، ونعرف ذلك جيداً إذا وعينا البصائر التالية:

البصيرة الأولى: يبدو أن التقدير في هذة الليلة لا يطال كل جوانب الحياة، فهناك ثلاثة أنواع من القضايا:

نوع قدر في ليلة واحدة في تاريخ الكون، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علية السلام قال: "قال رسول اللة صلى اللة علية وآلة وسلم: أتدري ما معنى ليلة القدر ؟ فقلت: لا يا رسول اللة ! فقال: إن اللة تبارك وتعالى قدّر فيها ما هو كائن الى يوم القيامة، فكان فيما قدر عز وجل ولايتك وولاية الأئمة من ولدك الى يوم القيامة". ([10])

والنوع الثاني: تقديرات تتم في السنة التي يعيشها الإنسان.

بينما النوع الثالث: تبقى مفتوحة تخضع لمشيئة الإنسان وهي الفتنة. مثلاً؛ أن اللة يقدر للإنسان في ليلة القدر الثروة، أما كيف يتعامل الإنسان مع الثروة، هل ينفق منها أم يبخل بها ويطغى؟ فان ذلك يخضع لمشيئة الإنسان وبة يتم الابتلاء. كذلك يقدر اللة للإنسان المرض، أما صبر المريض أو جزعة فانة يتصل بإرادتة .

ومع ذلك؛ فإن للة البداء، إذ لا شيء يحتم على ربنا سبحانه، وقد قال سبحانه: [يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ اُمُّ الْكِتَابِ](الرعد/39) وقد جاء في حديث مأثور عن الإمام الصادق علية السلام قال: "إذا كانت ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة الى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء اللة في تلك السنة، فإذا أراد اللة أن يقدم شيئاً أو يؤخره، أو ينقص أمر الملك أن يمحو ما شاء، ثم أثبت الذي أراد". قلت: وكل شيء هو عندة ومثبت في كتاب ؟ قال: "نعم". قلت فأي شيء يكون بعدة ؟ قال: "سبحان اللة ! ثم يحدث اللة أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى". ([11])

هكذا تبقى كلمة اللة هي العليا، ومشيئتة هي النافذة، ولكن الاتكال على البداء، وتفويت فرصة ليلة القدر نوع من السذاجة، بل من السفة والخسران.

البصيرة الثانية: إن اللة يقدر لعبادة تبعاً لحكمتة البالغة ولقضائة العدل، فلا يقضي لمؤمن صالح متبتل ما يقدر لكافر طالح، وما ربك بظلام للعبيد. وهكذا يؤثر الإنسان في مصير نفسة بما فعلة خلال العام الماضي، وما يفعلة عند التقدير في ليلة القدر، وما يعلمة اللة من سوء اختيارة خلال السنة. مثلاً؛ يقدر اللة لطاغوت يعلم أن لا يتوب بالعذاب في هذة السنة لأنة سوف يظلم الناس خلالها، ولو افترضنا أنة وفق للتوبة ولم يظلم الناس خلالها، فإن للة البداء في أمره، ويمحو عنة السقوط ويمد في ملكه، وقد قال ربنا سبحانه: [إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ] (الرعد/11)

البصيرة الثالثة: إن الناس يزعمون أن هناك أحداثاً تجري عليهم، لا صنع لهم فيها كموت عزيز، والاصابة بمرض عضال، والابتلاء بسلطان جائر، أو بالتخلف، أو بالجفاف، ولكن الأمر ليس كذلك إذ أن حتى هذة الظواهر التي تبدو أنها خارج إطار مشيئة الإنسان إنما تقع بإذن اللة وتقديرة وقضائه، وأن اللة لا يقضي بشيء إلاّ حسبما تقتضية حكمتة وعدالته، ومن عدلة أن يكون قضاؤة وتقديرة حسب ما يكسبة العباد، أولم يقل ربنا سبحانه: [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ] (الروم/41)

وإن في ذلك لكرامة بالغة لمشيئة الإنسان أن يجعل اللة تقديرة وفق قرار ما، أليس كذلك؟

[5] السلام كلمة مضيئة تغمر الفؤاد نوراً وبهجة، لأنها تتسع لما تصبو إلية النفس، وتتطلع نحوة الروح، ويبتغية العقل، فلا يكون الإنسان في سلام عندما يشكو من نقص في أعضاء بدنة، أو شروط معيشته، أو تطلعات روحه. فهل للمريض سلام، أم للمسكين عافية، أم للحسود أمن؟ كلا؛ إنما السلام يتحقق بتوافر الكثير الكثير من نعم اللة التي لو افتقرنا الى واحدة منها فقدنا السلام. أولم تعلم كم مليون نعمة تتزاحم على بدنك حتى يكون في عافية، وكم مليون نعمة تحيط بمجمل حياتك وتشكلان معا سلامتها. وليلة القدر ليلة السلام، حيث يقول ربنا سبحانه: [سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ].

حينما تنسب هذة الموهبة الإلهية الى الزمن نعرف أنها تستوعبة حتى لتكاد تفيض منه. فالليل السلام كل لحظاتة سلام لكل الأنام، كما اليـوم السعيد كلة هناء وفلاح، بينما اليوم النحس تتفجر النحوسة مـن أطرافـه.

فماذا يجري في ليلة القدر حتى تصبح سلاماً الى مطلع الفجر ؟

لا ريب أن اللة سبحانة يغفر في تلك الليلة لفئام من المستغفرين، وينقذهم - بذلك - من نار جهنم، وأي سلام أعظم من سلامة الإنسان من عواقب ذنوبة في الدنيا والآخرة .

من هنا يجتهد المؤمنون في هذة الليلة لبلوغ هذة الأمنية وهي العتق من نار جهنم، ويقولون بعد أن ينشروا المصحف أمامهم: " اللهم إني أسألك بكتابك المنـزل وما فيه، وفية اسمك الأكبر، وأسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار". ([12])

كذلك يقدر للإنسان العافية فيها، وإتمام نعم اللة عليه، وقد سأل أحدهم النبي صلى اللة علية وآله: أي شيء يطلبة من اللة في هذة الليلة فأجابة - حسب الرواية - " العافية". ([13])

وقد تدخل على فرد هذة الليلة وهو من الأشقياء فيخرج منها سعيداً، أوليست الليلة سلاماً؟ من هنا ينبغي للإنسان أن يدعو فيها بهذة الكلمات الشريفة:

اللهم امدد لي في عمري، وأوسع لي في رزقي، وأصح لي جسمي، وبلغني أملي، وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء، واكتبني من السعداء، فإنك قلت في كتابك المنـزل على نبيك المرسل صلواتك علية وآله: [يَمْحُو اللة ما يَشَاء وَيُثَبِّت وَعِنْدَة أمّ الكِتَاب]. ([14])

وفي هذة الليلة يقدر اللة الرزق لعباده، وهو جزء من السلام والأمن، وعلى الإنسان أن يطلب منة سبحانة التوسعة في رزقه.

كما يقدر الأمن والعافية والصحة والذرية، وكلها من شروط السلام.

حقاً؛ إن المحروم هو الذي يحرم خيرها كما جاء في حديث مأثور عن فاطمة الزهراء عليها السلام أنها كانت تأمر أهلها بالاستعداد، لاستقبال ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان المبارك بأن يناموا في النهار لئلا يغلب عليهم النعاس ليلاً وتقول: " محروم من حرم خيرها ". ([15])

وقال البعض: إن معنى السلام في هذة الآية؛ أن الملائكة يسلمون فيها على المؤمنين والمتهجدين في المساجد، وأن بعضهم يسلم على البعض. وقيل: لأنهم يسلمون على إمام العصر علية السلام وهم يهبطون عليه.

ليلة القدر متى هي ؟

إذا كان القرآن قد نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر حسب آيتين في القرآن، فإن ليلة القدر تقع في هذا الشهر الكريم، ولكن متى ؟ جاء في بعض الاحاديث: "التمسوها في العشر الأواخر". ([16])

وروى عن الإمام الباقر علية السلام أنة قال في تفسير [إنَّا أنْزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة] قال: "نعم؛ ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينـزل القرآن إلا في ليلة القدر". ([17])

وجاء في حديث آخر تحديد واحدة من ليلتين؛ إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين. فقد روى أبو حمزة الثمالي، قال: كنت عند أبي عبد اللة الإمام الصادق علية السلام، فقال لة أبو بصير: جعلت فداك ! الليلة التـي يرجى فيها ما يرجى ؟ فقال: "في إحدى وعشرين أو ثـلاث وعشرين". قال: فإن لم أقو على كلتيهما؟ فقال: "ما أيسر ليلتين فيما تطلب". قلت فربما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض أخرى؟ قال: "ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها". قلت: جعلت فداك! ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني؟([18]) فقال: "إن ذلك ليقال" ثم قال: "فاطلبها في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين، وصل في كل واحدة منهما مائة ركعة، واحيهما - إن استطعت - الى النور، واغتسل فيهما". قال: قلت فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم؟ قال: "فصل وأنت جالس". قال: قلت فإن لم استطع؟ قال: "فعلى فراشك، ولا عليك أن تكحل أول الليل بشيء من النوم. إن أبواب السماء تفتح في رمضان، وتصفد الشياطين، وتقبل أعمال المؤمنين. نعم الشهر رمضان كان يسمى على عهد رسولة الله: المرزوق". ([19])

وقد استفاضت أحاديث النبي وأهل بيتة في إحياء هاتين الليلتين، إلا أن حديثاً يروي عن رسول اللة يحددة في ليلة ثلاث وعشرين، حيث يرجى أن تكون هي ليلة القدر، حيث قال عبد اللة بن أنيس الانصاري المعروف بالجهني لرسول اللة صلى اللة علية وآله: إن منـزلي ناءٍ عن المدينة فمرني بليلة أدخل فيها، فأمرة بليلة ثلاث وعشرين. ([20])

ويبدو من بعض الأحاديث، أن ليلة القدر الحقيقية هي ليلة ثلاث وعشرين بينما ليلة التاسع عشر وواحد وعشرين هما وسيلتان إليها، من وفق للعبادة فيهما نشط في الثالثة، وكان أقرب الى رحمة اللة فيها.

هكذا روي عن الإمام الصادق علية السلام أنة قال لمن سألة عن ليلة القدر: "أطلبها في تسع عشر، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين". ([21])

وجاء في حديث آخر، أن لكل ليلة من هذة الثلاث فضيلة وقدراً، فقد روي عن الإمام الصادق علية السلام أنة قال: "التقدير في ليلة القدر تسعة عشر، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين". ([22])

وجاء في علامات ليلة القدر: "أن تطيب ريحها، وإن كانت في برد دفئت، وإن كانت في حر بردت فطابت". ([23])

وعن النبي صلى اللة علية وآله: إنها ليلة سمحة، لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس في صبيحتها ليس لها شعاع". ([24])

نسأل اللة أن يوفقنا لهذة الليلة الكريمة ويقدر لنا السعادة فيها.

 

الهوامش

([1]) هذا الفصل مأخوذ من تفسير (من هدى القرآن) للمؤلف.

([2]) تفسير جامع الأحكام للقرطبي، ج20، ص133.

([3]) تفسير نور الثقلين، ج5، ص615.

([4]) كلمات من دعاء أبي حمزة الثمالي المأثور لأسحار شهر رمضان، انظر مفاتيح الجنان، ص196.

([5]) تفسير جامع الأحكام للقرطبي، ج20، ص133.

([6]) تفسير نور الثقلين، ج5، ص618.

([7]) المصدر، ص619.

([8]) تفسير نمونة، ج26، ص184 نقلاً عن تفسير البرهان، ج4، ص418.

([9]) تفسير نور الثقلين، ج5، ص630.

([10]) تفسير نور الثقلين، ج5، ص629.

([11]) تفسير نور الثقلين، ج5، ص631.

([12]) مفاتيح الجنان، ص225.

([13]) المصدر، ص226.

([14]) المصدر، ص235.

([15]) مفاتيح الجنان، ص236.

([16]) حسب رواية عن رسول اللة صلى اللة علية وآله، تفسير نور الثقلين، ج5، ص629.

([17]) تفسير نور الثقلين، ج5، ص625.

([18]) سوف نذكرة إن شاء الله.

([19]) نور الثقلين، ج5، ص625.

([20]) المصدر، ص626.

([21]) تفسير نور الثقلين، ج5، ص628.

([22]) المصدر، ص627.

([23]) المصدر، 623.

([24]) المصدر.

بقلم سماحة آية الله السيد محمد تقي المدرسي

قراءة 4134 مرة