ولادة الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) ( 5 / شعبان / السنة 38 هـ)

قيم هذا المقال
(2 صوت)
ولادة الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) ( 5 / شعبان / السنة 38 هـ)

الإمام زين العابدين(ع)  أبوه الإمام الحسين(ع)  وأمه - على الأشهر من أسمائها - شاه زنان بنت يزدجرد بن شهريار بن كسرى ملك الفرس.

ولد الإمام الرابع(ع)  في 5 / شعبان / لعام 38 للهجرة النبوية)، واستشهد في سنة (95 للهجرة)، فيكون عمر الإمام 57 سنة، أدرك سنتين منها في زمن إمامة جده علي بن أبي طالب، وبعده عاصر عمه الإمام الحسن(ع)  (10 سنوات)، وبعده عاصر أباه الحسين(ع)  مدة عشرة سنوات أيضاً، وأصبح إماماً بعد شهادة أبيه الحسين(ع)  سنة 61 للهجرة، وكان عمره آنذاك (22 سنة).

الإمام زين العابدين كان يسمى علياً الأصغر مقابل علي الأكبر الذي كان يكبره بخمس سنوات، ومن أخوته عبد الله الرضيع، وجعفر، وكان أصغر من الإمام إلا أنه وافاه الأجل في حياة الإمام الحسين(ع)  وأما أخواته فهنّ سكينة وفاطمة.

قد تزوج الإمام في زمن أبيه بابنة عمه فاطمة بنت الإمام الحسن(ع) ، وأنجب منها الإمام الباقر(ع)  وكان الإمام الباقر أول مولود يولد بين الحسن والحسين(ع) ، وأنجب منها، ومن غيرها (عشرة ذكور) منهم زيد، وبناته أربعة خديجة وأم كلثوم وفاطمة وعلية.

عاش الإمام تمام حياته بعد واقعة الطف إلى جانب قبر جده في المدينة المنورة مدة (35 سنة) يلجأ إليه الناس، ويفزعون إليه من كل حدب وصوب.

فضل الإمام (ع) :

قال رسول الله(ص) : «إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ: أين زين العابدين؟ فكأني أنظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يخطر بين الصفوف».

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: والله ما رؤي في أولاد الأنبياء بمثل علي ابن الحسين إلا يوسف بن يعقوب(ع) ، والله لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب.

وفي (الفصول المهمة 187) قال علي بن عيسى الاربلي: فإنه (ع)  الإمام الرباني والهيكل النوراني، بدل الأبدال وزاهد الزهاد، وقطب الأقطاب، وعابد العباد، ونور مشكاة الرسالة، ونقطة دائرة الإمامة، وابن الخيرتين، والكريم الطرفين، قرار القلب، وقرة العين علي بن الحسين، وما أدراك ما علي بن الحسين، الأواه الأواب، العامل بالسنة والكتاب، الناطق بالصواب، ملازم المحراب، المؤثر على نفسه، المرتفع في درجات المعارف، فيومه يفوق على أمسه، المنفرد بمعارفه الذي فضل الخلائق بتليده وطارفه، وحكم في الشرف فتسنم ذروته، وخطر في مطارفه وأعجز بما حواه من طيب المولد، وكرم المحتد، وذكاء الأرومة وطهارة الجرثومة، عجز عنه لسان واصفه، وتفرد في خلواته بمناجاته فتعجبت الملائكة من مواقفه، وأجرى مدامعه خوف ربه...

أخلاق الإمام (ع):

يقول الإمام الصادق(ع) : كان علي بن الحسين(ع)  يخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب فيه الصرر من الدنانير والدراهم حتى يأتي باباً باباً فيقرعه، ثم ينيل من يخرج إليه.

فلما مات علي بن الحسين(ع)  فقدوا ذلك فعملوا أن علياً(ع)  كان يفعل ذلك([1]).

وقال سفيان الثوري: جاء رجل إلى علي بن الحسين(ع)  فقال: إن فلاناً وقع فيك وأذاك، فقال له: فانطلق بنا إليه.

فانطلق معه، - وهو يرى أنه سينتصر لنفسه - فلما أتاه، قال له: يا هذا إنّ كان ما قلته فيّ حقاً فالله تعالى يغفر لي، وإن كان ما قلته فيّ باطلاً، فالله تعالى يغفر لك([2]).

ولما أخرج بنو أمية من المدينة إلى الشام في واقعة الحرة آوى إليه ثقل مروان بن الحكم وامرأته عائشة بنت عثمان بن عفان، فقد كان مروان لما أخرج أهل المدينة عامل يزيد
وبني أمية من المدينة، كلّم عبد الله بن عمر أن يغيّب أهله عنده، فأبى أن يفعل، فكلّم مروان عليّ بن الحسين، فقال له: يا أبا الحسن إن لي رحماً وحرمي تكون مع حرمك،
فقال (ع) : أفعل.

فبعث بحرمه إلى علي بن الحسين(ع)  فخرج بحرمه وحرم مروان حتى وضعهم بينبع بالبغيبغة....

وهذا منتهى مكارم الأخلاق، والمجازاة على الإساءة بالإحسان، فبنوا أمية الذين سبوا نساء الإمام وأدخلوهم الشام بتلك الحالة المزرية، وقتلوا آله في كربلاء، يقابلهم الإمام بصون حرم أعدائه، في لحظة المكنة من الانتقام، وهذا خلق الأنبياء والصديقين والأبرار.

هذا غيض من فيض من أخلاق وسجايا هذا الإمام الهمام، وإلا فهناك العجب العجاب الذي ينبئ عن استمرار سيرة المصطفى في أمته ببنيه.

الأحداث التي مر بها الإمام (ع):

1- حادثة الطف وما تبعها:

كان الإمام (ع)  قد عاش مأساة الطف بكل تفاصيلها، وكان قد كابد فيها مرارة المأساة، وصعوبة المحن، ولقد شاطر تلك الزمرة الخالصة العطش والجوع، الذي فرضته قيادة جيش يزيد، وكان تأثيره عليه بليغاً وعنيفاً لشدة مرضه الذي نزل به، فلقد ابتلى(ع)  بمرض شديد جعله طريح الفراش منعه حتى من الجهاد بين يدي والده الإمام (ع)  وقد أوعز الكثير من المحققين ذلك إلى حكمة من الله تعالى لبقاء الإمام بعد أبيه مواصلاً مسيرة الإمامة والقيادة للأمة الإسلامية، ولكن على الرغم من ذلك، فلما سمع واعية الحسين(ع) ، قام (ع)  يتكيء على سيفه لنصرة الحسين(ع)  فأمر الحسين(ع)  أخته زينب أن أرجعيه لئلا ينقطع نسل آل محمد عليهم السلام.

وبعد انقضاء مأساة الطف، وتخييم الأحزان على آل البيت عليهم السلام بقتل الحسين(ع)  وآله وأصحابه بدأت مأساة الإمام زين العابدين(ع)  وبدأت معها رسالته المكملة لرسالة الحسين والمبيّنة لأهداف هذه الثورة المباركة، فكان على الإمام أن يوضح للمسلمين سرّ قيام الإمام بالثورة على حكومة يزيد، ولولا ذلك لضاعت كل الجهود التي بذلت لهذه الثورة، ولضاع دم الحسين في كثير من بقاع الأرض.

فكانت خطته (ع)  عندما أدخلوهم إلى الكوفة توبيخ أهلها الذين كاتبوا الحسين وخذلوه ليوقفهم على عظيم الجرم الذي اقترفوه، وليشعل نار الندم والثورة على ذات كل واحد منهم، قبل أن تشتعل على الحكومة الفاسدة، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)([3]).

وفعلاً أثّر خطاب الإمام بأهلها فقد دبّ الاضطراب والهلع في صفوف أهلها، بل كاد ينقلب الأمر على ابن زياد لولا أن عجل بتسريح السبايا والرؤوس إلى الشام.

فقد جاء في خطبته (ع)  عليهم:

«أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي، أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن المذبوح بشط الفرات بغير ذحل ولا تراث، أنا ابن من انتهك حريمه وسلب نعيمه، وانتهب ماله وسبي عياله، أنا ابن من قتل صبـراً وكفى بذلك فخراً، أيها الناس ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه؟ فتباً لما قدمتم لأنفسكم وسوءاً لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وهتكتم حرمتي فلستم من أمتي».

كان هذا الخطاب قد شكّل هزةً عنيفةً أحيت ضمائر أهل الكوفة، وأخذوا يبكون ويندمون ويتلاومون حتى كادت تقوم الثورة ضد حكومة ابن زياد، فخاف الأخير من ذلك فأسرع في حمل الإمام وثقله إلى الشام.

وفي الطريق إلى الشام لم يألُ الإمام (ع)  جهداً في بثّ أهداف ثورة الحسين(ع)  في كل بلد أو قرية يمر بها الركب، فقضى الإمام نهائياً على تلك الحملة الإعلامية التي قام بها يزيد وأتباعه من أن الحرب التي دارت في طف كربلاء كانت مع خوارج خرجوا عن دين الإسلام.

حيث ركّز الإمام في بياناته وخطاباته على التعريف بأن المقتول بكربلاء هو إمام ابن إمام جده النبي(ص)، وقد توّج الإمام بيان حقيقة واقعة كربلاء وأهدافها عند دخوله الشام، هذا البلد الذي لم يتعرف أهله على الإسلام إلا عن طريق آل أمية، فكان أول ولاته بعد فتحه يزيد بن أبي سفيان، ثم بعد موته ولّى الخليفة الثاني عليه الولد الآخر لأبي سفيان، معاوية، ثم ولّى الأخير عليه يزيد بن معاوية.

 فلم يكن أهل الشام يعرفون أهل البيت على حقيقتهم إلا النزر القليل، وكان الكثير منهم يحقد على الإمام علي(ع)  وأولاده، لما تشبعت أذهانهم من افتراءات وسموم وتضليلات حاكتها أيدي الأمويين حتى أن الكثير من أهل الشام تعجبوا من قتل علي(ع)  في المسجد، وأبدى بعضهم استغرابه بقوله: «أكان علي يصلي حتى يقتل في المسجد؟!»، فلم يكن يعتقد الكثير من أهله أن علياً(ع)  على فطرة الإسلام، بل سيد من فطر على الإسلام، ولذا استساغوا سبه على المنابر، وافتتاح خطبهم به وختمها به، فكانوا يظنونها سنة نبوية، فقد نادوا على الخطيب الذي امتثل لأمر عمر بن عبد العزيز بإيقاف السب، وقالوا له: نسيت السنة.

ولم يكن بالإمكان اختراق أحد من أولياء البيت العلوي ذلك البلد لإشاعة فضائل علي، وبيان واقع الأمر، لأنه كان حصيناً ومنيعاً، قد ضرب عليها الجهاز الحاكم العيون والأرصاد لكل من يدخل إليه من شيعة علي(ع) ، فإذا علموا به حملوه إلى القصر الحاكم، فيعرض عليه أن يحدث الناس بفضائل آل أمية، والوقيعة في علي وآل علي، فإن امتنع ضيقوا عليه، بل حجروا عليه، ومنعوه من لقاء الناس حتى يخرج من الشام.

هذه البلاد المنيعة على الأئمة وشيعتهم المرموقين، دخلها الإمام (ع)  بمحض إرادة بني أمية فهم الذين جاؤوا به إليها، وكان هدفهم المبالغة في توهين وذل الإمام، ولكن (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)([4]).

فإن دخول الإمام وخطابه الذي عرّف فيه الناس حقيقة الخط والبيت العلوي، وعرّف الناس من هو علي بن أبي طالب، الذي لطالما تمادوا في سبّه والوقيعة فيه.

ففي بداية الخطاب بدأ (ع)  بالتعريف بمن هم أهل البيت، فقال:

«أيها الناس أعطينا ستاً وفُضّلنا بسبع، أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين.

وفضلنا بأنّ منّا النبي المختار محمد(ع)  ومنا الصديق، ومنا الطيار، ومنا أسد الله وأسد رسول الله، ومنا سيدة نساء العالمين، ومنا سبطا هذه الأمة الحسن والحسين، ومنا المهدي».

وبدأ بعد ذلك بتعريف نفسه على ضوء التعريف بجده رسول الله، وجده علي بن أبي طالب، وجدته الزهراء، وأبيه الحسين، ليعرّف الناس بحقيقة علي(ع)  أولاً، وعترته الطاهرة تالياً. فقال (ع) : «أيها الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن من حجّ ولبّى، أنا ابن من حُمل على البـراق في الهواء، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبـرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى الله الجليل إليه ما أوحى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّائين، وأمير الصابرين، وأفضل العالمين، وأفضل القائمين من آل طه وياسين، أنا ابن المؤيد بجبـرائيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفضل من مشى من قريش أجمعين، وأول من استجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأول السابقين، وقاصم المعتدين، ومبيد المشركين، وسهم من مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين الله، وولي أمر الله، وبستان حكمة الله، وعيبة علمه... ذلك سجدي علي بن أبي طالب»([5])..

واستمر الإمام في خطابه يعرّف بجدته الزهراء، ثم يعرف بأبيه الحسين، ويعرّف بمظلوميته وثورته الهادفة المصلحة، فما كان إلا أن ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وبدأت هتافات اللعن على يزيد والبراءة من عمله... فبعد أن زين الناس الشام حتى يحسب الغريب أن فيها عيداً، انقلب الفرح حزناً، والزينة سواداً، وكان أول انتصار لدم الحسين. إنّ أول مجلس أقيم في الشام لأحياء ذكرى الحسين في بيت يزيد، واشتركت بنات أمية في النياحة والبكاء مع نساء العترة الطاهرة، حتى أنّ هنداً زوجة يزيد كانت قد ضربت السواد في جميع حجر القصر. وعلى إثر خطاب الإمام بدأ أهل الشام بالتحرك، فخاف يزيد من انقلاب الأمر عليه فعجّل بترحيل الإمام مع ثقله إلى المدينة، وأخذ يعتذر إلى الناس بأن ابن زياد هو الذي قتله، ولكن...

لقد أكمل الإمام زين العابدين(ع)  ما بدأ به أبوه الحسين، ولولا هذه الجهود، والجهود التي بذلتها عمته زينب في هذا المجال لضاع عند الكثير نور ثورة كربلاء.

2- واقعة الحرة:

بعد مقتل الحسين(ع)  اضطربت الأوضاع على يزيد في المدينة، وفي كل أرجاء الدولة الإسلامية فأراد والي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ومحمد بن أبي سفيان، أن يكسبا رضا أهلها فأرسلا وفداً من أبناء المهاجرين والأنصار إلى دمشق ليشاهدوا الخليفة عن كثب، وينالوا نصيبهم من هداياه، فلما وصلوا رؤوا الخليفة يشرب الخمر ويُضرب أمامه بالدفوف، وفي سلوكه ما يشين ويقبح، فلما رجعوا من الشام إلى المدينة، أظهروا شتم يزيد وعيبه، وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، وتعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، و يسمر عنده الحراب - اللصوص - وإنا نشهدكم أنّا قد خلعناه.

وقال عبد الله بن حنطلة (غسيل الملائكة): لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم، وقد أعطاني وأكرمني، وما قبلت عطاءه إلاّ لأتقوّى به.

فخلع الناس يزيد وبايعوا عبد الله بن حنظلة وولّوه عليهم، وطردوا عامل يزيد من المدينة مع من هو موجود من بني أمية، فلما وصلت الأنباء إلى الشام عقد يزيد لمسلم بن عقبة جيشاً لمحاربة أهل المدينة، وقال له: أدع القوم ثلاثاً، فإن أجابوك و إلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثاً فما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند. وأمره أن يجهز على جريحهم ويقتل مدبرهم.

وصل مسلم إلى المدينة، وبعد قتال عنيف مع أهلها، أباح المدينة لجنده مدة ثلاثة
أيام ينتهبون منها ما شاؤوا حتى دخلوا البيوت، وقتلوا النساء والأطفال والشيوخ، وافتضت ألف عذراء، وبلغ عدد القتلى عشرة آلاف، ثم نصب مسلم - الذي سمي بعد ذلك مسرفاً - وجيء بالأسرى من أهل المدينة بين يديه فكان يطلب منهم أن يبايع كل واحد ويقول: إنني عبد مملوك ليزيد بن معاوية يتحكم فيّ وفي دمي ومالي وأهلي ما يشاء، فبايع أهل المدينة على أنهم خول ليزيد، وكان كل من امتنع ولم يبايع بالعبودية، وأصرّ على أنه عبد الله يقتل.

وجيء بزين العابدين إلى مسلم وهو مغتاظ منه فتبرأ منه ومن آبائه، لكن لما اقترب منه ارتعدت فرائصه فقام له وأقعده، وقال له: سلني حوائجك. فكان يتشفع لأهل المدينة حتى استنقذ عدداً كبيراً من القتل، والإمام لم يشارك في هذه الانتفاضة، بل لم يكن في المدينة، إذ بعد مقتل الحسين اتخذ بيتاً في البادية من الشعر، لما لاقاه من أهلها والذي يشير إليه قوله: «ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا».

وكان الإيعاز في الانتفاضة من عبد الله بن الزبير الذي حاصر مكة وملكها، فكانت هذه الثورة لا على أساس شرعي، فعلى الرغم من عدم مشاركته (ع)  في هذه الانتفاضة، وعلى الرغم من عدم اكتسابها الطابع الشرعي من الإمام، غير أنه (ع)  كان يعول أربعمئة بيت من يتامى وأرامل من قتل في هذه المعركة([6]).

3- حكومة عبد الملك بن مروان وابنه الوليد:

لقد عاصر الإمام (ع)  مجموعة من حكام الأمويين، فقد عاصر حكم يزيد بن معاوية ثلاث سنوات، ومن بعده ولده معاوية الصغير لبضع أشهر, ثم عاصر حكم مروان بن الحكم تسعة أشهر، وكانت أكثر حكومة عاصرها (ع)  حكومة عبد الملك بن مروان الممتدة ما بين (65 - 86 هـ)، وحكومة ولده الوليد الممتدة ما بين (86- 96هـ)، وكما كانت هذه الفترة طويلة كانت عصيبة، فعبد الملك الذي كان يقول للناس: «إني لا أداوي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم قناتكم، وإنكم تكلفوننا أعمال المهاجرين الأولين ولا تعملون أعمالهم، وإنكم تأمرون بتقوى الله وتنسون أنفسكم، والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه».

ويذكر المؤرخون: أن من ضمن صحائفه السوداء: أنه أول من غدر في الإسلام، وأول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وأول من أسقط قداسة إعطاء الأمان، وأول من نهى عن الأمر بالمعروف، وقد أرسل الحجاج لقتال ابن الزبير في مكة فرمى الحجاج الكعبة بالمنجنيق، ولم يكترث.

وكذلك كان ابنه الوليد، فلقد كان جباراً ظالماً، رباه والده على الخلاعة واللامبالاة، فكان أسوأ مما كان عليه أبوه.

وانتشر في عصرهما المجون والغناء، وابتعد الناس عن الإسلام، وأقبلوا على المنكرات، وتفسّخت أخلاقهم، وأهملت السنن والآداب والتعاليم الإسلامية، حتى أن الكثير من التابعين، وبعض الأصحاب يقولون: لم يبق من الإسلام في حياة الناس إلا أنهم يصلون جماعة.

وعلاوة على ذلك كله كانا قد ضيّقا على الإمام في المدينة، وكان كل من يتصل به يحذف اسمه من ديوان العطاء، ويهدم داره، وقد يشمله التعذيب والقتل.

فاتخذ الإمام أسلوبين لبثّ الثقافة والمعرفة، ولإحياء الموات من الأحكام والسنن، كان أسلوبه الأول: أن يصيغ جميع هذه التعاليم الدينية أصولها وفروعها في قوالب دعائية، إذ السلطة الحاكمة مهما منعت فلا تستطيع أن تمنع الداعي من دعاء ربه.

فكانت أدعيته (ع)  مشحونة بالمعارف والثقافة على جميع أبعادها، وجمعت في كتاب (الصحيفة السجادية)، وكذلك أفرغ الإمام (ع)  على الناس رسالة فيها نظام الحقوق لم يعرف التاريخ ولا التقنين أعظم وأعمق منها، ذلك لما رآه من ضياع الحقوق في مجتمع سيطرت عليه الخلاعة والطرب، وتعرف اليوم بـ (رسالة الحقوق).

وأسلوبه الثاني: شراء العبيد، وتعليمهم الدين وتثقيفهم، ثم عتقهم ليكونوا دعاة إلى الدين في المناطق، ولذا ورد أنه (ع)  ما كان يستخدم العبد فوق الحول فكان يعلّمه ويفقهه فإذا تمّ الحول أعتقه محمّلاً بمعارف الإسلام ليبثها بين المسلمين، حتى روي أن العبيد الذين حررهم، وكذا الجواري كانوا يشكلون مجموعة ضخمة في المدينة.

 

([1]) الكافي 1: 468.

([2]) الفصول المهمة: 184.

([3]) سورة الرعد: الآية 11.

([4]) سورة الأنفال: الآية 30.

([5]) بحار الأنوار 45: 139

([6]) لمزيد من الإطلاع راجع المصادر التالية: البداية والنهاية 8: 232، وتاريخ الخلفاء للسيوطي: 167، وتاريخ الإسلام للذهبي: 27 و...

قراءة 6132 مرة