إيران بعيون جزائرية أبعد من الصورة السطحية

قيم هذا المقال
(0 صوت)
إيران بعيون جزائرية أبعد من الصورة السطحية

مع كل هذا الشغف الكبير ببناء المساجد في إيران بجمالها الفاخر، ودلالتها ورموزها المرتبطة بالدين الإسلامي في أبهى صوره، والتي تظهر مدى حب الإيرانيين لمكان عبادة الله، فليس من الغرابة أن يضاف إلى لوائح التهم التي تلاحق إيران تهمة عدم السماح ببناء مساجد للسنّة ويتم الترويج لهذا الأمر بمختلف الطرق، وتـُزيف الحقائق وتطمس، والغرض واضح: لتأجيج النفوس، وتعميق الشرخ بين أبناء الدين الواحد.

لكثرة الحملات المعادية لإيران ومديد زمانها واتساعها مكاناً وحجماً، بات الأزقة التي تناصب إيران العداء العصبوي مرادفة لنعوت يُقصد منها كيل الشتائم منها: الروافض، النواصب، الصفويون، المجوس، القرامطة، لعن وسب الصحابة، الإساءة لعائشة رضي الله عنها،الحج إلى قبر أبو لؤلؤة المجوسي قاتل عمر إبن الخطاب رضي الله عنه، مصحف فاطمة، فدك، عصمة الأولياء، الملالي، ولاية الفقيه، التقية، التحجّر، التزمّت، القمع،  الاستبداد، معاداة أهل السنّة.

اتهامات ونعوت وصفات تتداعى وتكبر وتتضخّم كلما أشير إلى إيران بالأصابع في العلن أو السر. يقول الإيرانيون إنها مصنوعة ومفبركة في مخابر ومؤسّسات ودوائر الظل.ويقول أعداؤهم هي صورتها الحقيقية التي لا شوائب فيها. صوَر تتسرّب من أفواه الأفراد والمؤسّسات والأنظمة والعلماء والعملاء والمفكّرين والخبراء والعسكريين والفقهاء حتى آخر فرد من العوام.

في زيارتي الثانية لإيران دوّنت في الكراريس ما رأيت هناك، وحاولت فهم كل هذا واستقراءه من دون نيّة مُبيّتة أو هواجس مُسبَقة أو تخطيط مُدرَج في خانة المهادنة أو المصلحية أو تبيض السواد وتبرير الأخطاء والعماء عما هو مكشوف. عايشت بعض الأمور عن قرب،فيما وراء الضباب الكثيف حيث الجلبة الناعمة لواقع هادر، يقاوم، ويصمد، ويرسم بشتّى الطُرق مصير بقائه على أرض لا تهدأ رغم التناقضات والكثير من المظاهر التي لم أشاهدها بل لمست معاناتها في وجوه وعيون وكلام من قابلت، منصتاً إلى مخارج أحاديثهم المغلّفة بالرفض القاطع لما وصلت إليه بلادهم تارة، وتارة بالفخر والاعتزاز النادر بقوة عزيمتهم وتحدياتهم  لكل ما يهيج من حولهم حيث يقولون نحن لن نركع للصهاينة ولأميركا وأذنابها مهما كان الثمن.

أشير إلى أن هذه الكراريس لا تخوض في بحر ما يحدث حالياً من تجاذبات كبيرة وخطيرة بين إيران وأميركا وإسرائيل وبعض الدول العربية بسبب البرنامج النووي الإيراني، ومسألة ما يُعرف بالتدخّلات الإيرانية في مناطق عربية. هذه الكراريس تنأى بنفسها عن هذا ليس لأنها ليست مهمة بل لأن تفكيرات صاحبها تتّجه أكثر نحو الشيء الأكثر عمقاً، نحو الأرض والإنسان.

 

رحلة وأسئلة

بدا شرطي الحدود في مطار الجزائر مرتبكاً عندما أخبرته عن وجهة سفري. قلت له أنا مسافر إلى طهران لحضور فعاليات المعرض الدولي للكتاب باعتباري شاعر. نظر إليّ ملياً وانهمك في البحث أمام الجهاز لعلّه يجد ثغرة ما في ملفي. بحث ودقّق، ثم بحث، وبحث، ولما لم يجد شيئاً .أسوق هذا الأمر وفي رأسي أكثر من فكرة تتطاير بقلق: لماذا وكيف ومتى ستتجلّى وتنجلي رؤية أخرى عن إيران؟.. متى ستتحرّك تلك الصخرة الصمّاء لتترك نهر الحقائق يجري ويفيض، ويمسح الشوائب، ويزيل الرواسب المتكلّسة التي أضنت العقول والضمائر حول بلد له من الحضارة والثقافة والجمال والعِلم والإبداع وروح التحدّي التي لا يمكن محوها بمجرّد حصار بائس. متى سننظر بأريحيّة لهذه الأمّة العريقة في التاريخ والمستقبل، ونبارك قوّتها ونقف معها كنُخب وأصدقاء ومفكّرين وكتاب وإعلاميين وناس بسطاء وهي تواجه بحزمٍ وقوة "بعض" العالم وهو يصبّ هدير غضبه وتذمّره وضيقه من روح هذا الإيمان، وهو يخرج من بين صلب وترائب هذا الشعب الذي يقاوم وفي رأسه عناد الصخر والحجر لا تكسره المعاول ولا السواعد؟.. متى سنرفع قيود الأفكار المُسبقة والغشاوات عن الأعين لنرى بوضوح حتى لا نصاب بالحيرة والتحفّظ والريبة عندما سنتقرب من هؤلاء وهم إخوة تجمعنا العقيدة والدين والكثير من ملامح الثقافة والعادات والتقاليد والإرث الإسلامي ، حتى لو كانت الفوارق طاغية ووجهات النظر مُتباعدة، بل مُتنافرة. متى سندرك عظمَة شعرائها وعلمائها وفلاسفتها ومفكّريها وسينمائيها ومبدعيها وقد تخطوا الآفاق وطاولوا عنان السماء ليس فقط بما أبدعوه وقدّموه للإنسانية ، وإنما بروحهم التي ما زلت ترصع سماء الحياة الدنيا؟.. متى سنتقبّل ما يختلف عنا ونرحّب بما يؤالفنا معهم؟

 

في قلب طهران

في رحلتي الثانية إلى إيران وفي نفس المناسبة، لم تشغل بالي هذه الأسئلة وأنا في طهران أسيح في حاراتها وشوارعها وطرقاتها وأزّقتها التي أعرف ولا أعرف. بل ما كان لي أن أطرحها وأنا أتمثل بـ "غزليات" شيرازي، وبـ "بستان" سعدي، و"فيه ما فيه" للرومي، و"حكمة الإشراق" للسهروردي القتيل، بـ "منطق طير" العطار، بـ "قواعد العشق الأربعون" لشمس تبريزي، بـ "رباعيات" الخيام.، بـ "لسان غيب" حافظ شيرازي، بـ "ميزان" الطباطبائي، بـ "صراطات" شروس، وبـ "صحراء" شريعتي، بـ "النفس المبتورة" لداريوش شايكان، بـ "لوليتا" آذر نفيسي، بـ "ميلاد" فروخ فرخزاد، و"لون" سهراب سبهري، و"هواء نقي" لأحمد شاملو، و"قشة" جلال آل أحمد، بـ "كاميرا" عباس كيارستمي، بـ "زجاجيات" منیر شاهرودی فرمانفرمائیان (فائقة آتشين)، بجواهر أخرى تتعلّق وتعلق بذاكرتي وكأنها ترتسم في كل خطوة شفافة على أرضهم.. أخطوها حيث أحفر في الثنايا والمنعطفات لأرى التاريخ والواقع يرتفع عن الصغائر والأحقاد والفتن.

هي  إيران أرض تحتفي بشهدائها في كل مكان. ففي الكثير من شوارعها نلحظ صوَراً لشباب في ريعان العمر موشّحة ومزدانة  بآيات قرآنية وأدعية وأذكار كأنها سيل منهمر من فم السماء. واقع متشابه مع صوَر بالنسبة لي أنا الأتي من أرض هي أرض شهداء أيضاً. أفتح عيني كي أستيقظ أكثر على سخاء نادر في السرور والفرح بهؤلاء وهم يواصلونا الطواف بحياتهم على الأرض كأنهم لم يغادروها أبداً إلى مكان آخر."هذا وفاء ضارب في التاريخ" يقول لي أكبري وهو يشرح لي معنى إقبال هؤلاء بأريحيّة وطمأنينة على طلب الشهادة في معاركهم المقدّسة.

 

بساتين العشق

تنفتح إيران أمامي وتنغلق وتستعصي وتدهش وتحيّر. أمامي كيلومترات طويلة من الجمال والنظافة. احتفاءات خاصة بالورود وهي ترن بكل لون وصوت.هوس خاص بالبساتين. أرى عشّاقاً يدخلونها لا بخطى حثيثة أو على حين غفلة من أهلها بل بسلام آمنين وببهجة وحبور. أسأل مرافقي: هكذا هي إيران؟. يقول لي: نعم وسرد عليّ ما يقول أنها أعظم قصة حب أسطورية معروفة في إيران وهي قصة: "شيرين وفرهاد".. فقد: "رأى كل منهما الآخر في حلم وهما صغيران، فجمعهما عشق أبدي.هذه قصة ككل قصص الحب العالمية التي يزخر بها العديد من الحضارات.. وتذكرت قصة مجنون ليلى وروميو وجوليت، وأخذني الحنين لقصتنا الشعبية "حيزية وسعيد"..

يختفي العشاق بين أجمة الورود، وفي ظلال الأشجار، وعلى بساط الريح يتجوّلون، ويمرحون بعواطفهم المتموّجة ولا تحوم عليهم غربان العيون، ولا تلاحقهم مخالب الرقيب، ولا تسائلهم الألسن: من أنتم أو ماذا تفعلون؟. عشاق يشبكون أيادي بعضهم، ويحتضنون بعضهم على حواف شجرة كستناء في غفلة ما.

 

ذاكرة مجروحة

"يلزم تناول المكنسة وإزالة الغبار عن سطح البحر".. يقول المولوي جلال الدين الرومي بلغته "السوريالية" حتى نفهم ما يجري تحت ركام الغموض الذي وسمَ لعقود وعهود صورة إيران في أذهان بعض العرب والمسلمين. عندما تتوارد الأفكار وأنا في إيران، وأحاول أن أستقصي وأتقدّم عميقاً في هذه الصورة الماثلة من أقاصي الزمن والتاريخ والكتب. وأنا أحاور، وأتحدّث، وأجالس، وأتفرّس حيث ينتابني حسّ مخالف، ومُغاير، ومختلف عما يُذاع، ويُنشر، ويُصوّر، ويُكتَب.. فيما أبحث في جيوبي ورأسي عن أية إشارة تدين أو تتّهم. هنا السنّي والشيعي والمسيحي واليهودي والزرادشتي وحتى الملحد والمؤمن بلا حدود، ستبدو لي الصورة مدهشة في أبهتها وسطوعها وتناقضها.. هنا الإيراني يذهب إلى أية صلاة بمشاعر جيّاشة حتى لكأنها لوحة تزخر بألوان حياتها الزاهية، أو لنقل كملاحم تواضب على الحضور الدائم في يومياته كمثل قصة كربلاء المثيرة التي يشعر فيها الإيراني المتعدّد بعلو روحه وقربه من الله.

 

مجاورة من خيال

اسأل وأنا أمشي خطوة خطوة في المعرض الدولي للكتاب وأقترب من "شيخ" شاب وقور.أقدّم نفسي بالإنكليزية.فيجيبني بعربية صافية مرحباً. لا بروتوكولات، ولا حرَج، ولا تعقيدات، ولا حدود للسؤال.. إسمي أبي بكر.. كنت مشوشاً.. فاسم "أبوبكر" يحمل معانٍ سلبية غامضة في الذهن، ومرّة في حلق الشيعة، وزاخمة بالدلالات المضنية، مثله مثل إسم عمر وعائشة وبعض أسماء الصحابة الذين كما تقول الروايات وقفوا وخرجوا ضد تولية علي الإمامة والخلافة بل وحاربوه بالسيف. لكن "الشيخ| كما لو أدرك قلقي وحيرتي واضطرابي رّبت على كتفي  قال لي: سأقول لك ما قاله أحد علماونا.. "إذا سمعت شخصاً يلعن عمر، فقل له: أي عمر تقصد؟ أهوَ: عمر بن علي بن أبي طالب؟ أم عمر بن الحسن بن علي؟ أم عمر بن الحسين بن علي؟ أم عمر بن علي زين العابدين بن الحسين؟ أم عمر بن موسى الكاظم؟ فحدد أيَّ عمر تقصد؟.. وإذا سمعت أحدهم يهتف عائشة في النار ** عائشة في النار.. فأسأله: أي عائشة تقصد؟ أهيَ عائشة بنت جعفر الصادق؟ أم عائشة بنت موسى الكاظم؟ أم عائشة بنت علي الرضا؟ أم عائشة بنت علي الهادي؟ فحدّد أيَّة عائشة تقصد.. وإذا سمعت شخصاً يسبّ أبا بكر وينعته بـ (الزنديق) فقل له: من هو الشخص المقصود بهذه الصفة؟ أهوَ: أبو بكر بن علي بن أبي طالب؟ أم أبو بكر بن الحسن بن علي؟ أم أبو بكر بن الحسين بن علي؟ أم أبو بكر بن موسى الكاظم؟ فحدّد أيَّ أبا بكر تقصد؟.. فالإنسان لا يسمي ولده باسم أعدائه، وإنما يسميه باسم من يحبه، ويحب أن يسمع إسمه يتردّد في بيته، ويرجو أن يكون ولده مثل صاحب هذا الإسم. وهذا هو الذي نعتقده في حال هؤلاء الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وهو الحق، إن هؤلاء الصحابة كأبي بكر وعمر وعائشة وسائر أمهات المؤمنين رضيّ الله عنهم أجمعين كانوا يحبون آل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وينزلونهم منزلتهم اللائقة بهم، وأن آل البيت كانوا أيضاً يحبون هؤلاء الصحابة الكرام ويحفظون لهم حقهم وحرمتهم أيضا"..

 

الجزائر/ إيران

عندما تُــذكر الجزائر أمام الإيرانيين لا تكاد تدور في أذهان الكثيرين ممن ألتقيتهم أو تناقشت معهم سوى إيقونتان. ثورة الجزائر ومليون ونصف مليون شهيد، ولاعب كرة القدم الفرنسي ذي الأصول الجزائرية زين الدين زيدان.. ربما لا تلخص هذه الرؤية كل ما يعرفه الشعب الإيراني عن الجزائر، ولا يمكن أن تنقص من متانة العلاقات التاريخية الضاربة في القدم بين البلدين حتى ولو كان الأمر فيه الكثير من التشويش والغموض لدى عريضة واسعة من جمهور الجانبين، فكتب التاريخ والمصنّفات وحتى المواقع زاخرة بالكثير من المُعطيات تحكي عن حضور الفرس في الجزائر ويمكن الرجوع إليه للفهم والتقصّي، وليس أقلها بروزاً أن مدينة تيارت كانت حاضنة الدولة الرستمية التي أسسها الفارسي المسلم عبد الرحمن بن رستم بن بهرام بن سام بن كسرى، وما يقال عن الخلافة الفاطمية التي أسّسها عبيد الله المهدي بعد أن هيّأ له الأرضية الداعية الكبير أبو عبد الله الصنعاني المعروف بأبي عبد الله الشيعي ليس بالقليل، فقد انتشر المد الشيعي نحو العالم العربي والإسلامي انطلاقاً من عديد المناطق الجزائرية خاصة من منطقة إيكجان الواقعة بدائرة بني عزيز الموجودة بولاية سطيف الجزائرية، وقد أقام بها عبيد الله المهدي مؤسّس الدولة الفاطمية، بعد أن هيّأ له الأرضية الداعية أبو عبد الله الصنعاني المعروف بأبو عبد الله الشيعي، وكانت هذه المنطقة مهد الدولة العبيدية (الدولة الفاطمية). هذه لوحة قديمة من وقائع لا يعرفها الكثير من الإيرانيين بل يندهشون لها، فهم يسمعونها لأول مرة، قد يكون سبب ذلك غياب التواصل أو اكتفاء الطرفين بعدم الخوض في معمان التاريخ وهمومه وتفاصيله وربما حتى جراحاته. وفي صورة أخرى حيث زمن آخر هارب من العلاقات الجزائرية الإيرانية أين يجهل الكثير من الجزائريين أن الشيخ الداعية أحمد سحنون رحمه الله كتب قصيدة في رثاء الإمام الخميني عنوانها: "هوى النسر"، ونشرت في جريدة الشعب، حيث أعتبره "قاهر الطغاة وحامي الوطن والإسلام"، و"صادق العزم وصانع الصحوة الإسلامية".. وهي قصيدة زلزلت المشهد آنذاك لحد أن الكثير من الشيوخ عاتبوه، بل ذهبوا إليه وتهجّموا عليه وكان على رأسهم آنذاك الشيخ علي بلحاج.. فكيف لشيخ ورع وبمستوى الشيخ سحنون أن ينزل ويكتب قصيدة   في شخص هو في رأيهم من النواصب وشيعي مبتدع بكل ما تحمله هذه الصفات من معاني ودلالات قاهرة. جال وصال العديد من علماء الشيعة في الجزائر بمناسبات عديدة لعل أهمها ملتقيات الفكر الإسلامي التي كانت تقام برعاية وزارة الأوقاف ثم وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية (وزارة الشؤون الدينية والأوقاف حاليا)، وقد كانت لواحد من علماء الشيعة الشيخ محمّد علي التسخيري   جولة حوارات عميقة ومثمرة مع عموم الجمهور ونخب وأئمة في مساجد تلمسان والعاصمة كمسجد طارق بن زياد الواقع في حي الجبل المعروف بتشدّده أين ألقى دروساً في الدعوة والتربية والإسلام. ومن المفارقات أن تقريباً كل أشغال الملتقيات مفقودة لم يحتفظ بها إلا عند بعض الخواص في الجزائر، غير أنها بعضها طبع بمعاونية الرئاسة للعلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي بطهران، وقد وصف تقرير وفود علماء إيران الشعب الجزائري بــ: "الشعب المسلم المتعطّش للعلم والنهضة وجو الصحوة العام الذي يسيطر عليه وعلى العالم الإسلامي".ثلاثة أقطاب من الدعوة الإسلامية ومن مذاهب متباينة الشيخ محمّد الغزالي والشيخ القرضاوي والعلاّمة الشيخ حسين فضل الله يلتقون في الجزائر بمناسبة ملتقى لـ "نصرة القدس"، ويصرّح هذا الأخير بأعلى صوته: "فلنتفق كلنا على كلمة سواء حول القدس ولنختلف حول جنس الملائكة". هذه لقطات أستعيدها من ماض قريب حين كانت الجزائر أرض خصبة للنقاش الحر والتسامح بعيداً عما تعرف الآن من انغلاق وتزمت وتعصب ونبذ الآخر حتى ولو كان يحمل مسلم يخالفك في الرأي أو في الفهم.

عداء بعض الجزائريين لإيران رغم روح الصداقة التي يكنّها الإيرانيون والمحاصرة في الكثير من الأحيان بظلال من الأوهام والأراجيف تنتظم في صراع عقائدي يضخّمه أهل التفرقة والطائفية، والذين لا يريدون إطاراً إنسانياَ متعدداً واقفاً على أرضية خصبة تنتج الأفكار الخلاّقة لبناء مستقبل تذوب فيه الفوارق والتعصّب ورفض الآخر..ورغبة الإيرانيين مثلما أوضحه لي العديد منهم هو أن تكون الجزائر مثلما عهدوها حاضنة للاعتدال والحوار، حيث روّح القبول والتسامح.. وأن تكون صورة حقيقية لإسلام محمّدي واسع يشمل الجميع بعيداً عن إسلام يهدّد أو يقتل أو يُقصي أو يكره.

لبرهة، بقيت مستنداً إلى عمود المسجد أحاول فهم كيف تحوّلت المساجد في إيران إلى تحف معمارية غاية في الجمال والروعة تخلب اللبّ وتبهر العين وتقلب القلب.. فمسجد طهران الكبير مثلاً مآذنه يبلغ إرتفاعها حوالى 230 متراً وتُعد الأطول عالمياً لحد الآن.. وقد استخدمت في تخطيط هندسته الأرقام الذهبية؛ وله 14 مئذنة و12 ساحة وفناء إضافة لخمسة مداخل، واختيار هذه الأرقام ليس من قبيل الصدفة أو من دون تخطيط، فهي ترمز لعدد الأئمة وأهل البيت عند المسلمين من أتباع المذهب الشيعي.. فإيواناته تصل إلى علو يبلغ 72 متراً وهو عدد شهداء كربلاء، وارتفاع القبة الرئيسية يبلغ 63 متراً، وهي فترة الحياة التي عاشها النبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.. هكذا يتعايش بناء المساجد بالماضي المقدس والمشرق، وتتماهي معه عربوناً للوفاء العميق الأبدي المدهش لا تخطئه القراءات ولا التفاسير.

ومع كل هذا الشغف الكبير ببناء المساجد في إيران بجمالها الفاخر، ودلالتها ورموزها المرتبطة بالدين الإسلامي في أبهى صوره، والتي تظهر مدى حب الإيرانيين لمكان عبادة الله، فليس من الغرابة أن يضاف إلى لوائح التهم التي تلاحق إيران تهمة عدم السماح ببناء مساجد للسنّة ويتم الترويج لهذا الأمر بمختلف الطرق، وتـُزيف الحقائق وتطمس، والغرض واضح: لتأجيج النفوس، وتعميق الشرخ بين أبناء الدين الواحد، إلا أن الأمر فيه أيضاً من الغرابة حين تؤكّد الإحصائيات الرسمية أن هناك 12222 مسجداً وجامعاً لأتباع المذاهب السنّية داخل إيران، والعشرات من المدارس الدينية للأحناف والشوافع والحنابلة.. ليس هذا فقط  بل هناك معابد لليهود وكنائس للمسيحيين، وللزرادشتيين (المجوس) هياكلهم التي يتعبدون فيها.. كل هذه الأمكنة المقدّسة تمتد من شرق البلاد إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.. هذه هي الصورة الغائبة المتوارية خلف نسيج غليظ من المغالطات والتي تقرّها المواد الموجودة في الدستور الإيراني ومثلما هي واضحة للعيان حيث التعدّدية واحترام الخصوصيات الدينية، وهو أمر مسلم به في أعماق المجتمع الإيراني.

عثرت على فلسطين واليمن وسوريا والعراق ولبنان وحزب الله والمقاومة.. قلوب دامية ترفل في قلب إيران.. "لن نسلم فيها".. هكذا سمعتها تقال بدمدمة وصخب وقناعة وإيمان، و"مهما كان جحود الإخوة ونكرانهم وخيانتهم وتقاعسهم وتنديدهم في ما نقوم به  فلن يقف نبض هذه القلوب في قلبنا".. هكذا أيضا تتردّد بدمدمة وصخب وقناعة وإيمان أيضاً..

عثرت على إسرائيل في مشهد ميت على كل شرفة بيت إيراني، في كل زقاق، وشارع، وصحيفة، ومذياع، وموقع، ومنصّة، وخطاب، وخطبة، وقصة، وشعر، ورواية، ومهرجان، وتجمّع.. عثرت عليها في مشهد ميت كأنها لا تموت إلا لتموت في كل إيران.

عثرت على سعدي، والعطار، والرومي، وشمس تبريز، والسهروردي، وعرفاء التصوّف الروحي وسادة النصوص المحرضة على الحب والمودة والعشق، المهاجرة والعابرة نحو فضاءات لا تحد.. عثرت على الإنسان البسيط يعزف على حياة مُضنية بشقاوتها وألمها، ولكنه سعيد حين يمنحك ابتسامة تتلألأ بالهدوء وتتسربل بالسكينة..

كانوا كلهم هنا في منظر حيّ، يلعبون، ويرفرفون فوق غيم إيران.. كأنهم يحرسونها ويحمونها أو تحرسهم وتحميهم.

أخرج من إيران. وعلى بعد أميال أدخل إلى الجزائر ناصعاً بأكثر من فكرة، وأكثر من معنى عن أرض مزهرة بمسرات مسكونة بالخلود والحرية.

أبو بكر زمال، كاتب أدبي وإعلامي جزائري

قراءة 1082 مرة