الموت والفناء في كلام الإمام علي (عليه السلام)

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الموت والفناء في كلام الإمام علي (عليه السلام)
ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ عــاشَ مــاتَ، ومَــنْ مَــاتَ فــاتَ".
 
لو استنطقنا جميع البشر على اختلاف أوطانهم وأعراقهم وقومياتهم وأديانهم عن عقيدتهم في مصير الإنسان، لأجمعوا عن بكرة أبيهم على أنّ مصيره إلى الموت، لا يشذّ منهم عن هذا الرأي أحد. فجميعهم يعتقدون أنّ من يعشْ يمُتْ، وأنّ من يولد في هذه الحياة الدنيا لن يخلُد فيها، بل ينقلب منها إلى عالمٍ آخر.
 
لكنّ معظم البشر يتعاملون مع وجودهم الدنيوي على أنّه دائم، وعلى أنّهم خالدون هاهنا، وأنّ الموت يستهدف غيرهم ولا يستهدفهم. فمن يلاحظ سلوكياتهم اليومية، ومواقفهم وخياراتهم، يجد أنهم يرون لأنفسهم شيئاً من الخلود في الدنيا.
وفي هذا السياق تأتي جوهرة الإمام أمير المؤمنين (ع)، لتكشف الحجاب عن بصائر الناس، ولتذكّر الغافل واللاهي، والمنصرف بكُلّه إلى الدنيا وجاهها ومناصبها وزخارفها ومتاعها، بأنّه سيموت، وأنّ مصيره الارتحال إلى عالم الآخرة حيث البقاء والخلود. وتوقظ فيه وعيَ وجوده العابر هنا، وأنّ الحياة لا تُقاس بطولها، بل بقيمتها، وأنّ الزمان لا ينتظر المتردّدين بين الغفلة والعمل.
 
إنّ الحياة الدنيا ليست موطناً للإقامة، بل معبراً، وكلّ لحظة نعيشها هنا هي خطوة في اتجاه النهاية، خطوة نحو الآخرة. والطريق إلى ذلك هو الموت الذي ينقلنا من هنا إلى هناك. فنحن والحياة كما قال الإمام أمير المؤمنين (ع): "إنَّما أَنْتَ عَدَدُ أيّامٍ، فَإِذا مَضَى يَوْمٌ مَضَى بَعْضُك". وهذا الوعي يجعل العمر رأسَ مالٍ يتناقص كلّما تأخّرنا عن استثماره في الخير.
 
وإنّ الإنسان الذي يعيش وكأنّه خالِدٌ يتورّط في كثير من الأخطاء والانحرافات، وقد يقوده ذلك إلى ظلم الناس، فضلاً عن ظلمه لنفسه التي يغفل عنها بسبب انشغاله بالدنيا وما فيها. وقد يصل إلى حدّ أن يُغلِق على نفسه باب الرجوع والإنابة والتغيير والإصلاح، وقد يرجع متأخّراً جدّاً إن رجع.
 
وهذا هو مراد الإمام (ع) من قوله: "مَن عَاشَ ماتَ". أمّا مراده من قوله: "مَن ماتَ فاتَ" فلا يعني بالفوت العدم، لأنّ الموت ليس انعداماً ولا اضمحلالاً ولا فناءً، بل هو انتقالٌ من عالمٍ أدنى إلى عالمٍ أعلى، وهو ارتقاء في الوجود. فكما أنّ وجوده في الحياة الدنيا أكملُ من وجوده في عالم الأرحام، ووجوده في عالم الأرحام أكملُ من وجوده في عالم الأصلاب، فكذلك انتقاله بالموت من عالم الدنيا إلى عالم البرزخ ثم إلى عالم الآخرة.
 
وعليه، فمراده (ع) من الفوت في قوله: "مَن ماتَ فاتَ" هو انقطاعُ الفرصة وانغلاقُ باب العمل؛ فلا يمكن للإنسان بعد الموت أن يعود إلى الدنيا ليعمل، أو ليُصلح ما أفسد، أو ليقضي ما ضيّع، كما قال تعالى: حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴿99﴾ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿المؤمنون:100﴾ فمن فاتته فرصة العمل لم يبقَ له إلا ما قدّم.
 
وبناءً على ما سبق، فإنّ قوله (ع): "مَن عاشَ ماتَ، ومَن ماتَ فاتَ" دعوةٌ إلى حياةٍ طيبةٍ طاهرةٍ نقيّةٍ منتِجة؛ حياةٍ يملؤها الإنسان بالعمل والجدّ والسعي والعبادة والخير والصلاح، ويستثمر فيها عمره استثماراً مُثلى، رابطاً كلّ لحظة من لحظاته بالله تعالى.
قراءة 4 مرة