دويّ الأقصى

قيم هذا المقال
(0 صوت)
دويّ الأقصى

الجهود التي توافرت يوم الجمعة مباركة وتبشّر بالخير بخاصة أن ثمارها التوعوية ستظهر على الساحة العربية بعد فترة ليست طويلة، لكن مطلوب من الفلسطينيين أن يكونوا القدوة للشعوب العربية وأن يمتنعوا عن التعاون مع الصهاينة بأيّ شكل من الأشكال، ومطلوب منهم أيضاً أن يوثّقوا علاقاتهم الثقافية والفكرية والسياسية مع الشعوب العربية التي يمكن أن تكون صمام أمان لمستقبل الأمّة العربية.

استجابت جماهير غفيرة فلسطينية وعربية وإسلامية ليوم الغضب المُعلَن وهو يوم الجمعة الموافق 20 تموز/ يوليو/2017، وتدفّقت إلى الشوارع مُعلِنة انتماءها والتزامها بالدفاع عن المُقدّسات والتزامها بتحريرها. لقد هبّ أهل القدس دفاعاً عن مدينتهم ومُقدّساتها كما هي العادة لديهم، وهم دائماً رأس الحربة التي تتقدّم الصفوف تضحية وفداء، وهم الذين يُطلقون أصواتهم مُدوِّية لجمْع القوى المُختلِفة لمُواجهة الاعتداءات الصهيونية المُتكرِّرة على الناس وبيوتهم وأراضيهم، وعلى المُقدَّسات الإسلامية. واستجابت جماهير غفيرة في الأردن، واسطنبول وماليزيا وإندونيسيا ولبنان واليمن والسودان وغيرها. ربما لم تكن الحشود على المستوى المطلوب، لكن مجرّد التجمّع وظهوره على وسائل الإعلام كان كافياً لتسجيل حركة جماهيرية من أجل فلسطين ومُقدّساتها غابت عن المشهد الإعلامي فترة طويلة. كانت الحشود مُرضِية إلى حدٍ ما، لكنها لم تكن كافية أو رادِعة.

لم يتعلّم الصهاينة من تجربة عام 1929، وأغراهم التقاعُس العربي الحالي ولم يحسبوا حساباً لقادم الأيام. تسلّل الصهاينة عام 1929 إلى حائط البراق- الذي أهداهم إياه أحد قادة السلطة الفلسطينية مؤخّراً- للصلاة وذلك إبان الانتداب البريطاني الذي كان حريصاً على عدم المساس بالمُقدّسات. الانتداب البريطاني كان حَذِراً جداً في هذه المسألة لأنه كان يعي حساسية العرب لمُقدّساتهم، وكان يمنع اليهود من ممارسة الشعائر في الأماكن التي يرونها مُقدّسة. حتى أن الانتداب البريطاني لم يقتحم المسجد الأقصى عام 1920 عندما التجأ إليه الحاج أمين الحسيني هرباً من قوات الاستعمار التي لاحقته بسبب تظاهرات جرت في القدس. وبقي الحاج أمين الحسيني في المسجد إلى أن تيّسرت له طريق إلى بيروت. على أية حال، لم تمر صلاة اليهود عند حائط البراق بسلام، وهبّ العرب من بيت المقدس وكل أنحاء فلسطين لنجدة المُقدّسات، ودارت اشتباكات عنيفة لعدّة أيام قُتِل فيها حوالى 160 يهودياً واستشهد حوالى 116 عربياً فضلاً عن الجرحى من الطرفين. لقد اهتزّت أركان الانتداب البريطاني بهذه الأحداث، وأيقن اليهود أن التعدّي على المُقدّسات باهظ التكاليف. وبالرغم من العدوان الصهيوني، عمدت بريطاني إلى إعدام ثلاثة فلسطينيين في سجن المزرعة في عكا اتهموا بإثارة ما يُسمّى بالشغب.

أحداث عام 1929 كانت بمثابة ناقوس خطر كبير ساهم مساهمة فعّالة في بثّ الوعي لدى الفلسطينيين حول المُخطّطات الصهيونية. وهي الأحداث التي مهّدت لثورة عام 1936 والتي دامت ثلاث سنوات. تُشكّل الأزمات والأحداث القاسية والمصائب مصادر للتوعية والتشجيع والتجمّع والعمل الجماعي في مواجهة الأخطار. فمَن لم يكن يعلم أصبح يعرف عن نوايا الاستعمار، ومَن لم يكن يقتني بندقية أخذ يبحث عن واحدة. لقد نشطت الجهود لمواجهة الصهاينة، وظهرت حركة الشيخ عزالدين القسّام التي كانت رائِدة في الجهاد ضدّ المُستعمرين.

ربما يظنّ الصهاينة الآن أن العرب الحاليين لم تعدْ عندهم تلك الحميّة التي كانت، وأنهم فقدوا الكثير من الشجاعة التي كانوا يتحلّون بها، وبالتالي من الممكن بالنسبة لهم الاعتداء على المُقدّسات من دون أن يكون هناك ردّ فعلٍ مُتناسِب مع حجم العدوان، ولهم في حادثة إحراق الأقصى عام 1969 عِبْرة. خشيت رئيسة وزراء إسرائيل حينذاك من ردود الفعل العربية، لكنها اطمأـنت بعد أسبوع لأن العرب شحذوا أقلامهم للاستنكار والشجب والإدانة فقط.

المُتتبّع لأحداث يوم الجمعة، يوم الغضب، يرى أن بعض الرؤية الصهيونية صحيحة. الجماهير الفلسطينية التي انطلقت إلى الشوارع والساحات والميادين في مختلف المدن والقرى الفلسطينية لم تكن على المستوى المُتناسِب مع حجم العدوان. توافدت جماهير إلى القدس، لكن الإجراءات الصهيونية القاسية حالت دون وصول أعداد كبيرة من الراغبين بالمشارك في التصدّي والتحدذي. لكن إجمالاً لم يكن الحشد بالمستوى المُخيف للصهاينة. هناك أسباب كثيرة لتأخّر العديد من الناس عن الاندفاع إلى الميادين منها الجو الفلسطيني العام والجو الإقليمي اللذين يسببان الإحباط والتراجع المعنوي. هذا ناهيك عن غياب القيادات السياسية عن المشهد. حظيت انتفاضة عام 2000 التي حصلت بعد أن انتهك شارون حرمة المسجد الأقصى بتغطية سياسية، وبالتالي شعرت الجماهير بأن هناك ظهراً يحميها ويساعدها. أما الآن فالظهر السياسي غائب إلى حد كبير على الرغم من دعوات حركة فتح للناس للمشاركة.

وفي البلدان العربيبة والإسلامية عانى التحرّك الجماهيري من الضعف. كانت التظاهرات في الأردن وتركيا قوية إلى حدٍ ما، لكنها أيضاً افتقرت إلى التغطية السياسية. اكتفت القيادات السياسية بالإدانات والدعوة إلى إعادة الأوضاع في الأقصى إلى ما كانت عليه. بينما كان بإمكان الأردن اتّخاذ خطوات مؤثّرة على رأسها إنزال العَلَم الصهيوني من على السفارة في عمّان وطرد سفيرهم بخاصة أن الأردن هي التي فقدت الأقصى عام 1967 وهي تتحمّل مسؤولية أخلاقية لتحريره. كان عبد الملك الحوثي القائد العربي الوحيد الذي وقف يتحدّث بشجاعة لشعبه ويحرّضهم من أجل تحرير المُقدّسات أما باقي القيادات العربية فقد اختفت عن المسرح.

الجهود التي توافرت يوم الجمعة مباركة وتبشّر بالخير بخاصة أن ثمارها التوعوية ستظهر على الساحة العربية بعد فترة ليست طويلة، لكن مطلوب من الفلسطينيين أن يكونوا القدوة للشعوب العربية وأن يمتنعوا عن التعاون مع الصهاينة بأيّ شكل من الأشكال، ومطلوب منهم أيضاً أن يوثّقوا علاقاتهم الثقافية والفكرية والسياسية مع الشعوب العربية التي يمكن أن تكون صمام أمان لمستقبل الأمّة العربية. لقد ركّز الفلسطينيون علاقاتهم مع الأنظمة العربية، وليس مطلوب منهم التخاصم معها، لكن المطلوب إقامة صداقات وعلاقات وثيقة مع الشعوب. وليس بإمكاننا كفلسطينيين أن نطلب الطهارة الثورية من الآخرين إلا بعد تطهير أنفسنا.

عبد الستار قاسم

قراءة 1358 مرة