عندما بكت "أم الدنيا" على إبنها الشهيد حسن شحاته

قيم هذا المقال
(0 صوت)

عندما بكت

في الليلة التي أسقط فيها الشعب المصري نظام حسني مبارك، وتحديدا في اللحظة التي تلا فيها عمر سليمان بيان تنحي الرئيس عن السلطة ، كتبت مقالا تحت عنوان "المصريون هم من بنى الاهرامات!!".

قلت في جانب من ذلك المقال "منذ وقت طويل والجدل قائم حول هوية الجهة التي بنت الاهرامات في مصر، الا ان الايام المحصورة بين الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير والحادي عشر من شباط/فبراير 2011، اغلقت ملف هذا الجدل والى الابد.

هناك من كان يشكك قبل هذا التاريخ، بأن المصريين هم الذين بنوا الاهرامات، لماذا؟ لان الاهرامات معجزة بمعنى الكلمة، ومن المستحيل ان يكون هذا البناء المعجز هو من صنع البشر، البعض قال انه من فعل النبي ادريس مدعوما بقوة غيبية، البعض الاخر تواضع وقال انه من عمل عمالقة قوم عاد، فيما شطح الخيال بالبعض الاخر ووجد ضالته في كائنات فضائية غير بشرية نزلت على الارض وبنت الاهرامات.

الا ان المصريين ومنذ اليوم اغلقوا هذا الجدل نهائيا والى الابد، واكدوا بما لايقبل الشك انهم لاغيرهم من بنى هذه الاهرامات، وكل ما قيل في هذا الشأن باطل لا أساس له، وأما الدليل العيني والملموس على ذلك فقدموه خلال 17 يوما، دليل اكد عبقرية هذا الشعب صانع التاريخ والحضارات والاهرامات، ففي هذه الايام قام هذا الشعب بعمل معجز لا تقل هندسة اعجازه شيئا عن اعجاز هندسة الاهرامات، فاسقط خلالها وبهندسة ذكية لا يحسنها الا هو، اخر فراعنته، ويكون بذلك قد تجاوز مرحلة بناء المقابر لفراعنته وبدأ مرحلة تسخير عبقريته لهندسة مستقبله الذي لن يكون في اي حال من الاحوال أقل روعة من روعة اهراماته".

ما ذكرته في ذلك المقال لم يكن الا جانبا من اعجاب قديم اكنه، كما يكنه جميع مثقفي العالم مهما اختلفت مشاربهم وتوجهاتهم، لمصر واهلها وازهرها وعلمائها وفلاسفتها ومفكريها وكتابها ومثقفيها وصحفيها وفنانيها وحضارتها وثقافتها وروحها الوثابة المعتدلة.

للاسف، واكرر اسفي، انه لم يمر وقت طويل على تاريخ كتابة هذا المقال حتى صُدمت، وانا اشاهد مذهولا شريطا مصورا، قصيرا في مدته، كارثيا في مضمونه، نزل علي كوقع الصاعقة، وهو يصور جريمة شنعاء ارتكبت قبل كل شىء ضد التاريخ والحضارة و ضد "أم الدنيا" بالذات.

هذه الجريمة للاسف وقعت في مدينة الاهرام ذاتها التي بدأ منها التاريخ وانطلقت منها الحضارة، فاذا بي اشاهد مجاميع من الغوغاء وهي تقوم باخراج اربعة رجال من الشيعة المسلمين المصريين، بينهم الشيخ حسن شحاته، من احد البيوت، الذين اجتمعوا فيه بمناسبة دينية، بعد ان حطموا جدرانه وانهالوا عليهم بالضرب الوحشي حتى فقدوا الوعي، ثم قاموا بسحلهم وهم احياء، وغطت اجسادهم العارية الدماء، البعض انهال عليهم ضربا بالعصي والسكاكين والحجارة، وهم يهتفون "الله اكبر" و"كفار"، حتى لفظ الرجال انفاسهم الاخيرة.

واراد بعض الغوغاء صلبهم على اعمدة الكهرباء ليكونوا عبرة للاخرين، الا ان الفكرة لم ترق للبعض واكتفوا برمي جثثهم في شاحنات تابعة للشرطة التي كانت تتفرج على مايحدث، كما اكد اكثر من شاهد عيان.

**حقا ان ماجرى وقع في مصر؟

الحقيقة لم يخطر ببالي ان تشهد مصر مثل هذه الاحداث الوحشية يوما، حتى انني كنت اكذّب نفسي مرارا، ان يكون هذا الذي يجري يجري في مصر، وانا اشاهد هذا الشريط الكارثي. فهذا الفعل الشنيع هو انسلاخ كامل عن مصر وثقافتها، وان من فعلها لا يمت باي صلة لروح مصر وتاريخها، وكنت اقنع نفسي ان الذي قام بهذه الفعلة الشنيعة هم اناس اندسوا بين المصريين وليسوا من اهل مصر.

لكن للاسف الحقيقة لم تكن كذلك، فالجريمة ارتكبها بعص المصريين من الذين مسخت شخصيتهم بفعل عوامل تراكمت منذ سياسة الانفتاح التي انتهجها الرئيس المصري الاسبق محمد انور السادات في بداية سبعينيات القرن الماضي، عندما هاجر مئات الالاف من المصريين للعمل في بلدان الخليج الفارسي لاسيما السعودية، وعادوا للاسف الى البلاد بعد سنوات من الغربة وهم يحملون في حقائبهم الاموال وفي عقولهم قراءة غريبة عن القراءة الازهرية المصرية عن الاسلام.

وهذه الحقيقة المرة اعترف بها غالبية المثقفين المصريين وحذروا من خطورتها على المجتمع المصري، الا ان تحذيراتهم كانت صرخة في واد، في ظل ضجيج الانفتاح والازمة الاقتصادية وسحر الدولار النفطي، بالاضافة الى عدم وجود تيار فكري قوي يمكن ان يتصدى للقراءة المشوهة للاسلام ويكشف خطورتها، الى ان وصل الامر ان تنتشر ظاهرة السلفية، بشتى اشكالها، في المجتمع المصري كظاهرة معترف بها الى جانب الازهر.

الظاهرة السلفية التكفيرية المتشبعة بالفكر الوهابي، والبعيدة كل البعد عن الفكر الازهري المصري، وانطلاقا من دينها المطبوع على التكفير والخلاف ونفي الاخرين جملة وتفصيلا، لم تجد لديمومة وجودها سوى التحريض ضد المسلمين الشيعة، الذين اعتبرتهم الحلقة الاضعف من مجموع اعدائها وهم كثر من الازهريين والقوميين واللبراليين والمثقفين وحتى جماعة الاخوان المسلمين، فاخذت موقف الهجوم ضد المسلمين الشيعة، لاسيما بعد انتصار الثورة المصرية عام 2011، حيث انطلقت العشرات من الفضائيات السلفية وهي تنفخ ليل نهار بنار الفتنة المذهبية وتصف الشيعة المسلمين بابشع النعوت، اقلها وقعا هو وصف السلفي محمد حسان للشيعة المسلمين بـ"الروافض الاجناس" ودعا اخرون على وقع التصريحات المتطرفة والبغيظة للشيخ يوسف القرضاوي ضد المسلمين الشيعة، حيث دعا سلفيون الى رصد المسلمين الشيعة في مصر والقضاء عليهم وتطهير البلاد منهم.

**لماذا سكت مرسي على فتاوى تكفير الشيعة؟

اما القشة التي قصمت ظهر وحدة النسيج الاجتماعي في مصر هي ذلك المؤتمر الذي عرف بمؤتمر الصالة المغطاة حول نصرة سوريا والتي حضرها جهابذة السلفيين والتكفيريين بالاضافة الى الرئيس المصري محمد مرسي، حيث تم قرع طبول الحرب في المؤتمر ضد المسلمين الشعية، بعد ان اخرجوهم من الملة والدين، وقال الشيخ السلفي محمد عبد المقصود مخاطبا الرئيس المصري مرسي: "مهما استطعنا أن نستغى عن هؤلاء الأنجاس الذين لا يعترفون بالنبي وآل بيته فلنفعل، وأعلم أن التركة ثقيلة، ولكنها عواطف أحببت أن اسمعها للسيد الرئيس".

اما الرئيس المصري، الذي بدأ منذ تولية السلطة مغازلة السلفيين وحتى الجماعة الاسلامية التي وضعت للتو السلاح جانبا، بهدف تشكيل جبهة موحدة ضد معارضية، واخذ يبتعد شيئا فشيئا عن القوى الحقيقية التي فجرت الثورة، بدى في هذا الموتمر اكثر ميلا الى حلفائه عندما ايد ضمنيا تكفيرهم للشيعة بعد ان صمت ازاء كل تصريحاتهم الشاذة، لاسيما عندما اعلن قطع علاقات بلاده بسوريا واغلاق السفارة السورية في القاهرة وسط تاييد السلفيين، في الوقت الذي مازال العلم الاسرائيلي يرفرف فوق ارض الكنانة بمكان غير بعيد عن منصة خطاب مرسي.

مشاركة مرسي في مؤتمر نصرة سوريا الى جانب السلفيين والجاهديين تحت الصالة المغطاة لم تكن الاولى فقبل ذلك شارك في مؤتمر عقد في القاهرة ايضا حضره اكثر الشخصيات كراهية للشيعة في مقدمهم القرضاوي والعريفي وحسان ومن لف لفهم، حيث كفروا الجميع واستثنوا انفسهم.

بعد مؤتمر الصالة المغطاة في ملعب، او "الصالة الفضيحة" كما يسميها بعض المصريين، وجدت الفتاوى التكفيرية التي انطلقت من تحتها وبحضور الرئيس المصري، وجدت طريقها الى التطبيق على الارض، وذلك عندما حرض السلفيون بعض الغوغاء للهجوم على منزل في حي الهرم بقرية ابو مسلم بمحافظة الجيزة في مصر يوم الأحد الموافق 23 يونيو 2013، فقتلوا الشيخ حسن شحاته وثلاثة اخرين، ومثلوا بجثثهم.

**الجميع استنكر الجريمة وحملوا الحكومة مسؤوليتها

الازهر، وللاسف الشديد، الذي اجتمع يوما الى السلفيين بهدف الوصول الى حل ناجع لكيفية التصدي للمد الشيعي وبناء الحسينيات في مصر، لم يجد مفرا من وصف جريمة قتل اربعة من اتباع اهل البيت (عليهم السلام) بانها من اكبر الكبائر واشد المنكرات التي يحرمها الشرع الحكيم ويعاقب عليها القانون ويحرمها الدستور.

وأكد الأزهر على حرمة الدماء وأن الإسلام ومصر والمصريين لا يعرفون القتل بسبب العقيدة أو المذهب أو الفكر وتلك الأحداث غريبة عليهم، ويراد بها النيل من استقرار الوطن في هذه اللحظات الحرجة وتجرنا إلى فتن لابد أن ننتبه لها جميعا حكومة وشعبا.

اما الكاتب حسنين هيكل فقال، أن تلك الواقعة أساءت لصورة مصر أمام العالم، والرئيس يتحمل جزءا من مسؤولية التحريض على قتل الشيعة، مؤكداً أنه لم يكن يجوز للرئيس الحديث على الشيعة.

اما حزب التحالف الشعبي الاشتراكي بالمنيا، اصدر بيانا حمل فيه الرئيس محمد مرسي، مسؤولية تأجيج الصراع "السني - الشيعي" في مصر، بسبب مهاجمة الشيعة في مؤتمر "نصرة سوريا".

وذكر بيان الحزب، "أن الخطاب الديني المتطرف، وإسلام الصحراء الوهابي، هو ما تسبب في مقتل 4 من الشيعة، فتوصيف المسلمين الشيعة من مشايخ الصحراء بأنهم أنجاس أمام رئيس الدولة هو الذي حرض الأغبياء على القتل"، بحسب البيان.

ووجه البيان رسالة لمرتكبي الواقعة، جاء فيها "يا تجار الدين هذا الفعل عار عليكم وعلى فهمكم للإسلام، وعار على مصر والإسلام أن نحمي هذه الأفكار من مصريين جهلة، فالإرهابيون وتجار الدين هم المسؤولون عما حدث بسبب بثهم لأفكار دموية".

وقال بيان حزب التحالف الشعبي الاشتراكي بالمنيا، لرئيس الجمهورية، "الشيعة مسلمون، والأزهر بناه شيعة وظل يدرس مذهبهم لمائتي عام، ويعترف بمذهب الإثنا عشرية الجعفرية، ولعلك يا مرسي لا تعرف أن قانون الأحوال الشخصية المصري استعان ببعض الآراء الفقهية الشيعية في باب المواريث، ولم يبق سوى أن نرى التفجيرات في المساجد كما يحدث في العراق وباكستان وسوريا".

اعتبر رئيس حزب العمل الإسلامي الجديد مجدي أحمد حسين: بأنه حادث خطير سيدخل مصر في مرحلة جديدة، واصفا عملية قتلهم بأنها أمر حقير ودنيء وجديد على مصر. هذا الحادث كان حادثا صادما ومؤلما وخطيرا وعلامة من علامات التحول الى مرحلة في منتهى الخطورة على أرض مصر، وانا حذرت منذ عدة شهور من سيناريو الإغتيالات وهذا الأمر هو أخطر ما في هذا الموضوع لأنه ليس حادثا منعزلا".

من جهته قال الدكتور محمد البرادعي رئيس حزب الدستور الليبرالي المعارض في تغريدة على صفحته على موقع تويتر ان "قتل وسحل مصريين بسبب عقيدتهم نتيجة بشعة لخطاب ديني مقزز ترك ليستفحل".

كما اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش التي تعني بحقوق الانسان جماعة الاخوان المسلمين الحاكمة في مصر بالتحريض على الكراهية الدينية التي أدت الى قتل أربعة مسلمين شيعة خارج نطاق القانون.

وقال جو ستورك مدير ادارة الشرق الاوسط بمنظمة هيومن رايتس ووتش ومقرها نيويورك "القتل الطائفي الوحشي خارج نطاق القانون لاربعة من الشيعة يأتي بعد عامين من خطاب كراهية معاد لأقلية دينية تغاضت عنه جماعة الاخوان المسلمين ..بل وشاركت فيه أحيانا".

وقالت المنظمة "الرد الرسمي ازاء اعمال القتل يعكس تقصيرا كبيرا بشأن الاجراءات اللازمة لحماية الشيعة في مصر من التعرض لهجوم في المستقبل وحماية حقهم في الحرية الدينية".

**لماذا بكت "ام الدنيا" على إبنها الشهيد حسن شحاته؟

العارفون بكواليس المشهد السياسي المصري وانطلاقا من المامهم بافكار وتوجهات الجماعات التي تلبس لبوس الاسلام ، يؤكدون ان هذه الجريمة التي ارتكبت وبهذا الشكل الفظيع في الجيزة، ليست الا مقدمة لما ينتظر مصر وشعبها، من ويلات وكوارث.

فالذي حدث من قتل همجي للشيخ حشن شحاته، اراد مرتكبوه ان تكون بروفة ودرسا عمليا في كيفية قتل القيم والاخلاق والروح المصرية السمحة في نفوس ابناء مصر، وجعل مشاهد السحل والتمثيل بالجثث مشهدا مألوفا، حتى تستوطن هذه المشاهد النفوس وتصبح بحكم الواقع المعاش، كما اصبحت الظاهرة السلفية من قبل واقعا معاشا في المجتمع المصري بعد ان كانت نتوءا شاذا، لذلك يتخوف العارفون بدهاليز هذه الجماعات ان تتكرر مشاهد القتل ولكن بطرق ابشع واشنع، والهدف الاول والاخير قتل ابناء "ام الدنيا" الاصلاء اذا لم يكن بالامكان سلخهم عن تقاليدهم وعاداتهم وقيمهم التي وروثوها عن امهم "ام الدنيا" ...

لهذه الاسباب وغيرها ذرفت وتذرف "ام الدنيا" الدموع على ابنها البار الشيخ حسن شحاته، فهي تعرف حق المعرفة انه لن يكون الاخير، فهناك من يتربص بأبنائها النجباء، فهي تحس بألم حز السكين قبل ان تصل الى رقاب ابنائها ... فهي تسمع صوت عاصم عبد الماجد العضو القيادي في الجماعة الإسلامية المتحالفة مع جماعة الإخوان مخاطبا مؤيديه، إن تظاهرات 30 يونيو "مكيدة" دبرها "عملاء وخونة"، وان هؤلاء وضعوا رقابهم تحت المقصلة ولا بد أن ندوس الآن على السكين ... بعد كل هذا الا يحق ل"ام الدنيا" ان تبكي على ابنائها.

 

**بقلم ماجد حاتمي

قراءة 2111 مرة