الحج جو نموذجي للتقريب و الوحدة

قيم هذا المقال
(0 صوت)

إن (الوحدة الاسلامية) هي احدى خصائص الامة الاسلامية المهمة ولا يمكن ان نتصور أمة اسلامية متكاملة الشخصية دونما تصور لهذه الخصيصة وبدونها تكون الامة قد فقدت الكثير من خصائصها الاخرى وربما تكون قد فقدت خاصية الايمان الصادق بالله العظيم وبطريقها الاسلامي الواحد.

ولا تعني الوحدة الاسلامية قولبة كل الافكار ووحدة كل الانماط الفكرية والذوقية وامثال ذلك فان ذلك من المستحيل وانما تعني الاستجابة للبرنامج الاسلامي المخطط، وتكوين امة تقيم التوازن بين خطين اساسيين:

احدهما ـ هذا الاختلاف الطبيعي بين الاذواق والامكانات والمستويات العلمية، وزوايا النظر، والثقافات والادلة وكيفية الاستنباط والقناعات التحقيقية وامثال ذلك من الاسباب الطبيعية التي تنتج الاختلاف، وقد بحثها علماؤنا الاجلاء منذ القرون العديدة.

وثانيهما: لزوم الموقف الموحد في مجالات عديدة اهمها:

أ ـ الاصول الاسلامية الاولى التي تقع موقع البديهيات الاسلامية فيجب ان تشكل المساحات الفكرية المشتركة.

ب ـ الاخلاقية العامة التي تشكل الخصيصة المشتركة الاخرى، بل يتعدى الامر هذه المساحة الى حيث يشغل كل الخصائص العامة للامة الاسلامية فيجب ان يعمل كل المسلمين على التحلي بهذه الخصائص او على ان تتحلى أمتهم بها.

ج ـ تطبيق الشريعة الاسلامية على كل جوانب الحياة، ويمكن ان يعد هذا من البديهيات الفقهية للاسلام باعتباره اطروحة حياتية جاء الانبياء جميعا ليعدوا البشرية لتقبلها وتطبيقها.

د ـ الموقف السياسي الموحد من القضايا العالمية وخصوصا في قبال اعداء القضية كلها وهم المشركون والمنافقون والمستكبرون، والعمل على الدفاع عن بيضة الاسلام.

هذه ـ اجمالاً ـ هي المجالات التي يجب ان تتوحد فيها الامة.

فاذا تم هذا عدنا الى ما قلناه من ان الامة الاسلامية يجب ان تحقق هذا التوازن بين الخطين فتضمن من جهة تدفق الافكار الجادة ونشاط الاجتهادات المفيدة، في نفس الوقت الذي تضمن فيه الموقف الموحد في المجالات الآنفة. وهناك برنامج اسلامي واسع لتحقيق هذا التعادل، ولا نستطيع ان نتناول كل اطرافه هنا فهو واسع الابعاد.

والحقيقة ان من يلحظ الامور التالية يدرك عمق التخطيط الاسلامي لتحقيق الوحدة الاسلامية وهي:

اولاً: ان الوحدة التي يسعى لها الاسلام تقوم على اساس العقيدة والعاطفة معا والتي يتم التعبير عنها بوحدة القلوب.

ومجمل العقيدة الاسلامية في اصولها، وبرنامج الشد العاطفي الاسلامي يتكفلان بما لا مزيد عليه بتحقيق ذلك باروع صورة.

ثانياً: ان النظام الاسلامي يوقف المسلمين جميعاً دونما أي تمييز امامه على حد سواء، ويشعرهم بلزوم تحمل مسؤولياتهم المشتركة تجاهه دونما أي تقصير، والا وجه اللوم للجميع على حد سواء.

ثالثاً: حذف الاسلام كل مقاييس التفاضل وابقى على المقاييس المعنوية فقط وهي (التقوى والعلم والجهاد والعمل) لا غير ووفر بذلك اروع ارضية للوحدة.

رابعاً: هناك مساحات فعلية تشعر المسلمين بوحدتهم من قبيل ما تقرره الشريعة من ملكية عامة لافراد الامة في (الاراضي المفتوحة بالقوة).

خامساً: ويقف نظام العبادات في طليعة النظم التي تؤدي الى تعميق العقلانية والتوازن والتقريب والوحدة الاسلامية، حيث يقف المسلمون في كل بقاع الارض في وقت واحد ـ عرفاً ـ متجهين الى مكان واحد، ومرددين ذكرا واحداً، ومؤدين لعمل واحد، وملتزمين بشروط واحدة. وحين تدخل الامة الاسلامية كلها في عملية تربوية كبرى في كل سنة شهرا واحدا وذلك بملء ارادتها فهي تتدرب على استرجاع انسانيتها وتعميق جذورها في النفوس.

وهكذا نصل الى الحج كعملية تربوية رائعة يجتمع فيها ممثلو الانسانية المسلمة من كل حدب وصوب ليتدربوا فيها على امور كثيرة جدا وليحققوا منافع كبرى لهم في حياتهم المعنوية والمادية، فتنغرس في نفوسهم معاني الامة الواحدة العابدة الطائفة حول التوحيد والرافضة للنظم الوضعية والاخلاق الصنمية، والملتزمة بحدود الله وحرماته والنازعة لكل العناصر المفرقة ماديا بين البشر والمتبرئة من المشركين، والمحاسبة نفسها وحكامها على ما اكتسبوا، وغير ذلك من الفوائد الجمة.

ولكي يضمن الاسلام للحج ان يؤدي دوره الوحدوي العظيم في حياة الامة فقد قرن به امورا وخصه بخصائص كلها تعمل بتناسق على تحقيق اهدافه؛

فهناك الظروف المكانية حيث بيت التوحيد الذي خصه الله بخصائصه يوم خلق الارض والذي بناه ابو التوحيد ابراهيم (عليه السلام) والذي يحمل في كل جنباته بصمات الانبياء وفي طليعتها بصمات الرسالة الاسلامية وقادتها العظام.

وهناك الظروف الزمانية حيث الشهر الحرام وحيث الأيام العشر التي يهبها الله للبشرية لكي تستكمل استعدادها لقبول الرسالة الالهية ويتبع هذه الظروف.

وهناك العيد يوم العودة الانسانية الى ربها والعودة الالهية بالرحمة للعبيد.

وهناك المناسك الرائعة المعنى وكل منها يرمز الى عطاء كبير ومضمون سخي كالإحرام والطواف والوقوف والنحر والحلق والرمي وغيرها من المناسك الجمة التعبير.

وهناك الاذكار والادعية التي تتناغم مع تلك المناسك غاية التناغم وتحقق الهدف المنشود.

ولكي تتم الشريعة الاسلامية الجو المنشود للتأثير طرحت فكرة القدسية والامان لهذا المكان وهذه الفترة، فاكملت بذلك العطاء. وهاتان الصفتان تملكان مضامين اجتماعية كبرى نلخصها في بما يلي:

اولاً: الاشعار بان البيت الحرام وهذه البقعة المقدسة التي تحيط به هي مدار حركة الارض، وان على البشرية اذا ارادت لنفسها الامان من الاهواء والالهة الوهمية والضياع في متاهات الضلال، ان تطوف حول هذا البيت وتعمل بالشريعة التي تبشر بها وتتأصل في وجودها معاني التوحيد التي يرمز اليها، فالامان الحقيقي هو امان هذا البيت، والامان الحقيقي هو الامان الذي ينبع من الاعتقاد بالله العظيم والالتجاء اليه تعالى وهو القادر المطلق، والامان المطلق للخائفين والرحيم الودود بعباده، وحينئذ فلا خوف من المستقبل ولا حزن على الماضي.

انه امان اللجوء الى نظام الله والتخلص من ضلال النظم الوضعية، وانه امان اللجوء الى رضا الله كمقياس موحد للبشرية والتخلص من المقاييس المادية الممزقة.

وانه أمان التلاحم بين القلوب المخلصة التي تعمل لتحقيق خصائص الامة الاسلامية.

وانه امان الاجيال الانسانية المتتابعة على خط واحد تترسم سبيل الانبياء وتنفذ اوامر الله تعالى كالملائكة المطيفين بعرش الله.

وانه امان الحاملين لعلم الله ولواء الاسلام الحنيف.

كل هذه المعاني يبعثها في النفوس هذا الحكم الالهي المهم.

يقول امير المؤمنين علي (ع) (وفرض عليكم حج بيته الحرام: الذي جعله قبلة للانام، يردونه ورود الانعام، ويألهون اليه ولوه الحمام، وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته واذعانهم لعزته، واختار من خلقه سماعاً اجابوا اليه دعوته وصدقوا كلمته، ووقفوا مواقف انبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه يحرزون الارباح في متجر عبادته، ويتبادرون عند موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للاسلام علما وللعائذين حرما. فرض حقه واوجب حجه وكتب عليكم وفادته)( ).

ونحن نلاحظ في هذا النص الشريف التأكيد على:

أ ـ الارتباط العاطفي للانام بهذا البيت الحرام، تواضعا لعظمة الله.

ب ـ الاختيار والتوفيق الالهي لمجموعة من كل منطقة ليمثلوا كل الارض في هذه الدورة التدريبية السماوية الرائعة.

ج ـ ان هؤلاء يشعرون بانهم بهذا: يجيبون دعوة الله، ويصدقون بكلمة الله ويمشون على خط انبيائه (خصوصا بعد تصور حج الانبياء جميعا لهذا البيت).

ويتشبهون بملائكة الله الطائفين حول العرش (من حيث تنفيذ اوامر الله وجذب الكون كله لطاعة الله)، ويستغلون هذا الموسم لانماء التكامل العبودي في وجودهم والحصول على المغفرة الالهية المنشودة.

ثانياً: الاشعار بضرورة ان يكون للناس مركز يقول فيه كل مسلم كلمته بكل حرية، ويتبادل المؤمنون فيه الافكار دونما سلطة من جبار او حاكم مهما كان لونه ومنزلته فيتحول الحج من خلال ذلك الى مؤتمر عالمي يتجمع فيه ممثلو الامم ويتدارسون احوالهم وما يحيط بمجتمعاتهم من مخاطر ومشاكل وما ينبغي ان يطرحوه من حلول، ويتعرفون على الوسائل التي ينفذ فيها كل فرد مسلم واجبه تجاه الآخرين، ويلاحظون الدسائس والمخططات الاستكبارية المعادية لمسيرتهم التوحيدية الخالصة وينددون بها ويتعرفون على اساليب الوقوف الموحد بوجهها.

وربما استطعنا ان نستفيد هذه المعنى من التقارن الآتي في الآية الكريمة (واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً) وهذه حقيقة اشار اليها الكثير ممن درسوا هذه الشعيرة الاسلامية المهمة حتى سمي الحج بالمؤتمر الحر السنوي العام للمسلمين. هذا وقد كان الحرم كما رأينا موضعاً مقدساً يقول فيه الناس آراءهم بكل حرية حتى في الجاهلية الامر الذي كان يستفيد منه الرسول (ص) ليعلن دعوته المباركة بكل حرية تماما كما استفاد من انتساب البيت لابراهيم (ع) لاحياء نداء ابراهيم التوحيدي ونفي شبهات اليهود والنصارى.

ثالثاً: الاشعار بالتلاحم بين القدسية والامان في ظل الحكم الالهي الاصيل.. وانه اذا كان الحرم لله ـ ولذا صار محلا للامن والقدس ـ فان كل الوجود لله، وان اشعاعات هذه الحقيقة لتمتد الى كل الوجود ولذا فلا مجال لاي طغيان او تخويف او ارعاب المؤمنين بالله، فاذا لم تتحقق هذه الحقيقة في كل الارض فان على المؤمنين ان يعملوا على توسعة هذه الدائرة المقدسة الآمنة لتصل الى مرحلتها الشاملة.

رابعاً: كما قد تكون هاتان الخصيصتان (القدسية والامان) سراً من اسرار انجذاب القلوب الى هذه البقعة الطاهرة والتنعم بعطائها الكبير وهو ما لاحظناه في النص السابق عن الامام علي (ع) حينما قال (ويألهون اليه ولوه الحمام). ان القلوب ترد هذه الاماكن الطاهرة بكل عشق وولوه وتتطهر في أجوائها المضمخة بالطهر الالهي النقي وترجع الى حياتها الاجتماعية بعيدة عن اوضار المادة سليمة طاهرة تتلقى العطاء الالهي بكل صفاء وتنشر الرحمة الود والعطف في ارجاء المجتمع موفرة الجو العاطفي المطلوب في المجتمع الاسلامي.

هذا بالاضافة الى ان الجو العاطفي الملتهب حبا يدع القلوب اكثر استعداداً واقبالا على العبادة واستماع الوحي والتعلق بالمضامين التي ترمز اليها عملية الحج، وما هي في الواقع الا تربية عبادية سياسية على اقامة المجتمع المسلم لله.

خامساً: ثم ان هذا الامان المعطى للانسان والحيوان والاعشاب والارض في هذه البقعة المقدسة ليعبر عن تلاحم طبيعي رائع بين عناصر الكون لتحقيق هدف الانسان الكبير.

وقد جاءت روايات تؤكد التوافق الطبيعي بين الانسان والطبيعة في عملية الحج بل في كل المسيرة الحياتية.

وقد جاءت الرواية عن الرسول انه (ص) عندما رجع من غزوة تبوك واشرف على المدينة قال: (هذه طابة وهذا جبل احد يحبنا ونحبه)( ).

وقد روى المرحوم الكليني باسناده عن جابر عن ابي جعفر (ع) قال: (أحرم موسى من رملة مصر قال: ومر بصفائح الروحاء محرما يقود ناقة بخطام من ليف عليه عباءتان قطوانيتان، يلبي وتجيبه الجبال)( ).

وروى عن الامام الباقر (ع) قال: (قال امير المؤمنين (ع): ما من مهل يهل بالتلبية الا اهل من عن يمينه من شيء الى مقطع التراب ومن عن يساره الى مقطع التراب وقال له الملكان ابشر يا عبد الله وما يبشر الله عبدا الا بالجنة).

وان هذه المعاني لتترك أثرها في نظرة الانسان الى الكون والحياة وتذكره بان الكون معه ان سار في خط الانبياء وراح يحقق مقتضيات الخلافة الالهية في الارض ويبني المجتمع العابد المسلم.

وهكذا نجد ان الحج يشكل الجو النموذجي الذي يتم فيه تقارب الافكار الممهد لتحقيق الوحدة في المواقف العملية، والتوازن والوسطية والعقلانية المطلوبة كل ذلك في اطار رائع من العبودية الخالصة والتقدس العرفاني الجميل.

محمد علي التسخيري

الامين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية

محمد علي التسخيري

الامين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية
قراءة 2733 مرة