دَور الحجّ في التقريب بين المسلمين

قيم هذا المقال
(4 صوت)

خلاصة المقالة :

إنّ فلسفة خلقة الإنسان تكمن في نيله المعرفة. فالمعرفة تمهّد الأرضيّة اللازمة لرقيّ القدرة الإدراكيّة لدى الإنسان وتساهم في تنميتها، وكذلك لها دورٌ هامٌّ في التقارب بين البشر وإقرار الوحدة بينهم.

ولا ريب في أنّ المناسك الدينيّة نابعةٌ من صميم هكذا حقيقةٍ، سيّما حجّ بيت الله الحرام الذي يُعتبر أعظم هذه المناسك، والذي بمعناه الإسلاميّ العام يعكس فلسفة المعرفة والتقارب والوحدة الشاملة بين أبناء الأُمّة الإسلاميّة، وقد تجلّى هذا المعنى السّامي في أحاديث رسول الله ( ص ) وأهل بيته الكرام (ع). لذا، فإنّ الحجّ يعتبر مؤتمراً لتلاحم المسلمين ووحدتهم، حيث يجتمعون في آنٍ واحدٍ ومكانٍ واحدٍ تحت مظلّة العقيدة السمحاء، والتي تتجسّد في الإيمان بالله تعالى والاعتقاد بالمعاد والقرآن الكريم، وكذلك تجمعهم الكثير من المشتركات في الأحكام الفقهيّة. أمّا محلّ اجتماعهم، فهو مكّة المكرّمة، مدينة السّلم والأمان التي يحرُم فيها حمل السّلاح ولا يجوز لغير المسلمين وطؤها؛ لذلك يجب على المسلمين أن يُحافظوا على هذه العبادة العظيمة. ولا بدّ لحجّاج بيت الله الحرام من أن يُراعوا كافّة المعايير الخـُلقيّة في هذه المدينة المقدّسة وأن لا يُعرّضوا أرواح النّاس للخطر ولا يسلبوهم أموالهم وعليهم أن يصونوا أعراضهم لتحقّق الطمأنينة النفسيّة لكلّ حاضرٍ في هذا المؤتمر الرّوحانيّ.

ومن أجل تحقّق الوحدة المنشودة بين المسلمين، فمن الأحرى بهم أن يُراعوا ما يلي :

1 – التمسّك بالقرآن الكريم.

2 – اتّباع سنّة رسول الله ( ص ).

3 – التمسّك بأهل البيت ( ع ).

4 – مراعاة حقوق بعضهم البعض.

5 – مراعاة الخـُلق الحسن واجتناب الشتم والألفاظ البذيئة.

6 – مراعاة الاتّزان عند النقاش مع بعضهم البعض.

7 – اجتناب التعصّب.

8 – احترام مقدّسات بعضهم البعض.

9 – تقبّل القول الحقّ دونما عنادٍ أو كبرياء.

10 – التأكيد على المصلحة العامّة.

فالعمل بهذه الوصايا من شأنه أن يُعزّز الوحدة المنشودة بين المسلمين في مدينة الرّحمن وفي الزّمان الذي حدّده جلّ شأنه لاجتماعهم، ألا وهو موسم الحجّ العظيم.

المفردات الرئيسة : الحجّ، التقارب، الوحدة، المعرفة، القرآن الكريم، السنّة، العترة، السِّلم، الحقيقة.

 

لقد خلق الله تعالى البشر من ذكرٍ وأُنثى، ثمّ جعلهم شعوباً وقبائل ليعرفوا بعضهم بعضاً، إذ قال تعالى في سورة الحجرات : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [ سورة الحجرات : الآية 13 ]. فلا ريب في أنّ النّاس من خلال تعارفهم سوف يتقرّبون إلى بعضهم بشكلٍ أفضل، وكذلك سيجتنبون كلّ ما من شأنه أن يُكدّر صفو هذا التقارب من خصالٍ رذيلةٍ كالعنصريّة والتفاخر بالأنساب، وبالتّالي سيتمتّعون بحياةٍ طيّبةٍ مفعمةٍ بالسِّلم والأمان ولا يُميّز بينهم إلا معيار التقوى الذي يزكّي الرّوح من كافّة الأدران والميول الماديّة.

فالتعارف فيما بين بني البشر هو مقدّمةٌ لتقارب الأفكار وتجاذب القلوب، لذا فهو مفتاح باب كنـز الوحدة الثّمين، والذي يعتبر الهدف الأساسي للكثير من تعاليم الشريعة الإسلاميّة السمحاء، لا سيّما فريضة الحجّ المباركة.

ورُويَ أنّ هشام بن الحكم أحد أصحاب الإمام جعفر الصّادق ( ع ) ومن أبرز علماء عصره، قال : سألت أبا عبد الله – الإمام الصّادق - ( ع ) فقلت له : « ما العلّةُ التي من أجلِها كلَّف اللهُ العبادَ الحجَّ والطَّوافَ بالبيتِ ؟ »، فقال ( ع ) : « إنَّ اللهَ خلقَ الخلقَ ـ إلى أن قال : ـ وأمرَهُم بما يكونُ من أمرِ الطَّاعةِ في الدِّينِ ومصلحتِهِم من أمرِ دُنياهُم، فجعلَ فيهِ الاجتماعَ من الشَّرقِ والغربِ ليتعارفوا ولينـزع كلُّ قومٍ من التِّجاراتِ من بلدٍ إلى بلدٍ، ولينتفع بذلك المـُكاري والجمَّالُ، ولتُعرف آثارُ رسولِ اللهِ ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وتُعرف أخبارُه ويُذكر ولا يُنسى.

ولو كانَ كلُّ قومٍ إِنَّما يتَّكِلونَ على بلادِهِم وما فيها، هلَكُوا وخربتْ البلادُ وسقطتْ الجُلُبُ والأرباحُ وعَمِيَتْ الأخبارُ، ولم تقفوا على ذلك، فذلك علَّةُ الحجِّ ». [ وسائل الشِّيعة، الحرّ العاملي، ج11، ص14، ح14124 ].

أمّا سيّد الموحّدين الإمام عليّ بن أبي طالب ( ع )، فيعتبر الحجّ رايةَ الإسلام المرفوعة يجتمع تحتها المسلمون من كافّة بقاع العالم تلبيةً لنداء بارئهم ، حيث قال : « وفرَضَ عليكم حجَّ بيتهِ الحرامِ الذي جعله قبلةً للأنامِ يردونه ورودَ الأنعامِ ويألهون إليه وُلوه الحمامِ، جعله سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته وإذعانهم لعزَّته، واختار من خلقه سُمَّاعاً أجابوا إليه دعوتَه وصدَّقوا كلمتَه، ووقفوا مواقف أنبيائه وتشبَّهوا بملائكته المطيفين بعرشه يحرزون الأرباح في متجر عبادته ويتبادرون عند موعد مغفرته.

جعله سبحانه وتعالى للإسلام علَماً وللعائذين حرماً، فرض حجَّه وأوجب حقَّه وكتب عليكم وفادته » [ نهج البلاغة، الخطبة رقم 1 ].

وفي الحقيقة فإنَّ شعائر الحجِّ فرصةٌ مناسبةٌ لِـفَظِّ الخلافات بين أبناء الأُمّة الإسلاميّة، وفائدة هذه الفريضة المباركة لا تعمّ مَن شدَّ رحاله نحو الدِّيار المقدّسة فحسب، بل تشمل المسلمين قاطبةً أينما كانوا.

وفي نفس هذا المضمار، قال الإمام عليّ بن موسى الرِّضا ( ع ) : « إنَّ علةَ الحجِّ الوفادةُ إلى اللهِ تعالى وطلبُ الزيادةِ والخروجُ من كلِّ ما اقترفَ، وليكونَ تائباً ممـّا مضى مُستأنفاً لما يستقبل، وما فيه من استخراجِ الأموالِ وتعبِ الأبدانِ وحظرها عن الشهواتِ واللَّذاتِ والتقرُّبِ في العبادةِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ والخضوعِ والاستكانةِ والذُّلِّ شاخصاً في الحرِّ والبردِ والأمنِ والخوفِ دائباً في ذلك دائماً، وما في ذلك لجميعِ الخلقِ من المنافعِ والرغبةِ والرهبةِ إلى اللهِ سبحانه وتعالى، ومنه تركُ قساوةِ القلبِ وخساسةِ الأنفسِ ونسيانِ الذِّكرِ وانقطاعِ الرجاءِ والأملِ وتجديدِ الحقوقِ وخطرِ الأنفسِ عن الفسادِ، ومنفعةُ مَن في المشرقِ والمغربِ ومَن في البرِّ والبحرِ ممـَّن يحجُّ وممـَّن لا يحجُّ مِن تاجرٍ وجالبٍ وبائعٍ ومشتري وكاسبٍ ومسكينٍ ». [ علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ص404، ح5 ].

 

المشتركات بين حجّاج بيت الله الحرام

لا ريب في أنَّ أتباع دين نبي الرحمة محمّد بن عبد الله ( ص ) الذين يتوافدون من كافّة أقطار العالم إلى بيت الله الحرام، تربطهم أواصر مشتركة كثيرة لا يتمتّع بها غيرهم، كما يلي :

1 – الاعتقاد بربوبيّة الله الواحد الأحد. فجميع المسلمين يعبدون الله تعالى وحده ويجتمعون حول بيته الحرام بهذه النيّة. قال تعالى : ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [ سورة الأنبياء : الآية 92 ].

2 – الاعتقاد بنبوّة خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبد الله (ص) واتّباع سنّته.

3 – الاعتقاد بالمعاد.

4 – الاعتقاد بالقرآن الكريم.

5 – المشتركات في الأحكام الفقهيّة.

ناهيك عن مشتركاتٍ أُخرى كثيرةٍ في شتّى المجالات.

 

ميزات محلِّ اجتماع المسلمين

فضلاً عن المشتركات التي ذكرناها، فإنَّ الكعبة المشرّفة ومكّة المكرّمة لهما ميزاتٌ خاصّةٌ تجعل من تحقيق الوحدة بين المسلمين أمراً ميسوراً. ومن أبرز هذه الميزات :

1 – الأمان

لقد تقبّل اللهُ تعالى دعاءَ سيّدنا إبراهيم الخليل ( ع ) وجعل مكّة بلداً آمناً لكافّة مسلمي العالم، حيث دعا الله قائلاً : ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً ﴾ [ سورة إبراهيم : الآية 35 ].

وبالتّالي فإنَّ جميع المسلمين الذين يقصدون بيت الله الحرام لأداء فريضة الحجّ، سيعمّهم الأمان كما صرّح بذلك القرآن الكريم في قوله تعالى : ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ [ سورة آل عمران : الآية 97 ]، وقوله تعالى : ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ﴾ [ سورة البقرة : الآية 125 ].

وهذا الأمان شاملٌ لكافّة النّاس وراسخٌ لا يمكن المساس به لدرجة أنَّ رسول الله ( ص ) قال : « مَن قتلَ قتيلاً أو أذنبَ ذنباً ثمَّ لجأَ إلى الحرمِ، فقد أمِن، لا يُقادُ فيه ما دامَ في الحرمِ ولا يُؤخذُ ولا يُؤذى » إلى آخر الحديث [ الجعفريّات، ص71 ].

ومن الظَّريف أنّ هذا الأمان لا يشمل البشر فحسب، بل يشمل حتّى ما التجأ إلى الحرَم من الطير والحيوان. يقول عبد الله بن سنان أحد أصحاب الإمام جعفر الصّادق ( ع )، إنّه سأل الإمام ( ع ) عن قوله تعالى : ﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾، البيتَ عَنى أو الحرمَ ؟ قال ( ع ) : « مَن دخلَ الحرمَ من النَّاسِ مُستجيراً به فهو آمنٌ، ومَن دخلَ البيتَ من المؤمنين مُستجيراً به فهو آمنٌ من سخطِ اللهِ، ومَن دخلَ الحرمَ من الوحشِ والسّباعِ والطّيرِ فهو آمنٌ من أن يُهاجَ أو يُؤذى حتّى يَخرُجَ من الحرمِ » [ التقريب إلى حواشي التهذيب، محمّد الكرمي، ج5، ص449 ].

وبالتأكيد فإنّ هذا الأمان دائمٌ ومستقرٌّ ولا يجوز التعدّي عليه في أيّ وقتٍ كان. فقد قال رسول الله ( ص ) يوم فتح مكّة : « إنَّ اللهَ حرّمَ مكّةَ يومَ خلقَ السماواتِ والأرضَ، وهي حرامٌ إلى أن تقومَ الساعةُ، لم تحلُّ لأحدٍ قبلي ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي، ولم تحلّ لي إلا ساعة من النّهارِ » [ الكافي، الكليني، ج4، ص226 ].

2 – حظر حمل السِّلاح

لقد جُعلت مكّة وحرمها منطقةً منـزوعةً من السِّلاح لكي يسودها الأمان بشكلٍ تامٍّ. وقد أمر الإمام عليّ بن أبي طالب ( ع ) النّاس بقوله : « لا تَخرجوا بالسُّيوفِ إلى الحرمِ، ولا يُصلِّينَ أحدُكم وبين يديهِ سيفٌ، فإنَّ القبلةَ أمنٌ » [ الخصال، الشيخ الصدوق، ص616 ].

3 – عدم جواز دخول غير المسلمين

يقول تعالى في كتابه العزيز بهذا الصدد : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا ﴾ [ سورة التوبة : الآية 28 ].

وقال الإمام جعفر الصّادق ( ع ) : « لا يدخل أهلُ الذّمةِ الحرمَ ولا دار الهجرةِ، ويُخرجون منهما » [ تفسير القمّي، علي بن إبراهيم، ج1، ص59 ].

وبالطبع فإنّ الحيلولة دون دخول مَن هبَّ ودبَّ في الحرم المقدّس من شأنه أن يخلق نوعاً من الطمأنينة في نفوس المقيمين فيه.

4 – الحفاظ على البيئة

إنَّ قلع النباتاب والأشجار واصطياد الحيوانات في الحرم المقدّس الذي جعله الله تعالى آمناً، أمران محرّمان أكّد الشّارع المقدّس على وجوب مراعاتهما. فقد قال رسول الله ( ص ) يوم فتح مكّة : « هذا بلدٌ حرّمه اللهُ يومَ خلقَ السماواتِ والأرضَ، وهو حرامٌ بحرمةِ اللهِ إلى يوم القيامةِ » [ النهاية، ج2، ص75 ] .

5 – الحفاظ على أموال النّاس

لا يجوز لأحدٍ أن يقتني ما يجده من مالٍ في الحرم المبارك الذي جعله الله تعالى آمناً، إلا أنّ يُعرّفه، إذ قال رسول الله ( ص ) : « ولا يَلتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلا مَن عَرّفَها » [ النهاية، ج2، ص75 ].

6 – مراعاة الأخلاق الحميدة

لا ريب في أنّ وجوب اجتناب الجدل والقسم وإهانة النّاس، من أهمّ الأُمور الدالّة على قدسيّة الحرم المبارك، فقد قال تعالى في كتابه الكريم : ﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [ سورة البقرة : الآية 197 ].

7 – الحفاظ على أرواح النّاس

سماعة بن مهران أحد أصحاب الإمام جعفر الصّادق ( ع )، قال : سألت الإمام الصّادق ( ع ) عن رجلٍ لي عليه مالٌ فغاب عنّي زماناً، فرأيتُه يطوفُ حولَ الكعبةِ أفأتقاضاه مالي ؟ قال ( ع ) : « لا، لا تُسلِّم عليهِ ولا تُرَوِّعْهُ حتّى يخرُجَ من الحرمِ » [ أُصول الكافي، الكليني، ج4، ص241 ].

فهذه الميزات الخاصّة بالحرم المقدّس، تجعله أنسب منطقةٍ للحوار وتبادل الآراء واتّخاذ القرارات المصيريّة للأُمّة الإسلاميّة، لا سيّما فظّ النـزاعات بين البلدان الإسلاميّة؛ ومن الجدير بالذّكر فإنّ الله تعالى قد أوكل إدارة هذا المركز الحسّاس إلى عباده المؤمنين لكي يسخّروا كافّة جهودهم في سبيل بلوغ أهدافهم المنشودة، إذ قال جلّ وعلا : ﴿ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ﴾ [ سورة الأنفال : الآية 34 ].

 

سُبُل بلوغ الأهداف المنشودة

بالطبع فإنّ كلَّ وحدةٍ تحتاج إلى محورٍ أو عدّة محاورٍ لكي يتسنّى للجميع الحركة حول قطبها أو أقطابها، وبالتّالي بلوغها.

وأمّا محور الوحدة الإسلاميّة فقد عبّر الله سبحانه وتعالى عنه بـ ( حبل الله )، حيث قال في كتابه العزيز : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ﴾ [ سورة آل عمران : الآية 103 ].

وإضافةً للقرآن الكريم، فإنَّ سنّة رسول الله ( ص ) وأهل بيته الكرام ( ع ) من الممكن أن يكونا محوراً لوحدة الأُمّة الإسلاميّة قاطبةً. لذا علينا أن نستثمر كافّة ما لدينا من مؤهّلاتٍ في مناسك الحجّ بغية تحقيق الوحدة الإسلاميّة الشّاملة.

وأمّا بالنسبة لمدرسة أهل البيت (ع)، فقد وضع روّادها برامجاً مكتملةً ووصايا لهداية النّاس بحيث لو أنّهم عملوا بها وطبّقوها، لأصبحت الوحدة أمراً ميسوراً وليس ببعيد المنال. ومن هذه الوصايا :

1 – التمسّك بالقرآن الكريم

قال تعالى : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ﴾ [ سورة آل عمران : الآية 103 ].

قال رسول الله ( ص ) : « إذا التبست عليكم الفِتن كقطعِ اللّيلِ المظلمِ، فعليكم بالقرآنِ » [ وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ ].

2 – اتّباع سنّة رسول الله ( ص )

قال تعالى : ﴿ مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾ [ سورة الحشر : الآية 7 ].

3 – التمسّك بعترة رسول الله ( ص )

قال رسول الله ( ص ) : « إنّي تاركٌ فيكم الثِّقلَين كتابُ اللهِ وعترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا من بعدي » [ هذا الحديث متّفق عليه بين الفريقين سنّةً وشيعةً، وقد ورد في معظم كتب حديث أهل السنّة ].

4 – احترام حقوق الآخرين ومراعاة الأُخوَّة في الله

كما نعلم جميعاً، فإنّ رسول الله ( ص ) قد آخى بين المهاجرين والأنصار بعد هجرته من مكّة إلى المدينة، وكان دائماً يقول : « المسلمُ أخُو المسلمِ، لا يَظلمهُ ولا يُسلِمُهُ » [ صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلمُ المسلمَ ].

كما قال الإمام جعفر الصّادق ( ع ) : « المسلمُ أخو المسلمِ، هو عينُهُ ومرآتُهُ ودليلُهُ، لا يخونُهُ ولا يخدعُهُ ولا يظلمُهُ ولا يُكذِّبُهُ ولا يغتابُهُ » [ وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي ].

5 – مراعاة الأدب واجتناب السييء من القول

لقد أكّد الإمام عليّ ( ع ) على أنّ معظم النـزاعات تتأجّج بسبب كلمةٍ واحدةٍ فقط، وحذّر النّاس من القول السييء، ولا سيّما المؤمنين إذ يجب عليهم الحذر في أقوالهم واجتناب دسائس الأعداء. حيث قال مرّةً : « رُبَّ حربٍ جُنيتْ من لفظَةٍ » [ غرر الحـِكَم ودرر الكَلِم، عبد الواحد الآمدي، ح5313 ].

وروي عن الإمام جعفر الصّادق ( ع ) قوله : « معاشرَ الشيعةِ، كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شَيناً، قولوا للنَّاسِ حسناً واحفظوا ألسنتَكم وكفُّوها عن الفضولِ وقبحِ القولِ » [ بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج71، ص310 ].

6 – مراعاة الاعتدال

قال الإمام عليّ بن موسى الرضا ( ع ) : « إنّ مُخالفينا وضعوا أخباراً في فضائِلنا وجعلوها على ثلاثةِ أقسامٍ، أحدها الغلوُّ، وثانيها لا تقصيرَ في أمرِنا، وثالثها التّصريحُ بمثالبِ أعدائِنا.

فإذا سمعَ النّاسُ الغلوَّ فينا، كَفَّروا شيعتَنا ونسبوهم إلى القولِ بربوبيَّتنا؛ وإذا سمعوا التقصيرَ، اعتقدوه فينا؛ وإذا سمعوا مثالبَ أعدائِنا بأسمائِهم، ثلبونا بأسمائِنا؛ وقد قال اللهُ عزّ وجلّ : ﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ » [ مسند الإمام الرّضا، ج1، ص238، ح439 ].

7 – اجتناب التعصُّب

من المؤكّد أنّ التصرّفات الناجمة عن التعصُّب، دائماً تكون حائلاً دون الوحدة، كما قال الإمام جعفر الصّادق ( ع ) : « إيّاكُم والخصومةِ، فإنّها تشغلُ القلبَ وتُورثُ النِّفاقَ وتُكسِبُ الضَّغائِنَ » [ وسائل الشّيعة، الحرّ العاملي ].

8 – احترام مقدّسات الآخرين

لا بدّ لكلّ إنسانٍ من أن يُراعي هذا الأمر الهامّ في كافّة المجالات، فقد قال الإمام عليّ ( ع ) لأصحابه عند مواجهته جيوش معاوية : « أكرهُ أن تكونوا سبّابين » [ بحار الأنوار، العلامة المجلسي ].

كما نهى الله تعالى في القرآن الحكيم حتّى عن سبّ المشركين، حيث قال : ﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [ سورة الأنعام : الآية 108 ].

9 – تقبّل الحقائق

لو أُريد حقّاً تحقيق الوحدة، فعلى كافّة الأطراف أن يتقبّلوا الحقائق المطروحة في نقاشاتهم، وإلا فلا يمكن بلوغ الوحدة المنشودة أبداً. ويؤيّد هذا الكلام قول الإمام عليّ ( ع ) : « مَن كان غرضُهُ الباطلُ، لم يُدرِك الحقَّ ولو كان أشهر من الشَّمسِ » [ غرر الحِكَم ودرر الكَلِم، عبد الواحد الآمدي، ح9023 ].

10 – جعلُ المصلحةِ العُليا نُصب العين

بعد الأحداث التي وقعت بعد وفاة رسول الله ( ص )، فقد اتّبع الإمام عليّ ( ع ) سياسة الصّبر مراعاةً للمصلحة العامّة وذلك من أجل الحفاظ على النّظام الإسلاميّ الفتيّ وتجنيبه أيّ ضررٍ مُحتملٍ، حيث قال : « فرأيتُ أنَّ الصبرَ على ذلكَ أفضلُ من تفريقِ كلمةِ المسلمينَ وسفكِ دمائِهم، والنَّاسُ حديثوا عهدٍ بالإسلامِ » [ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج1، ص307 ].

 

النتيجة

في الحقيقة انّ حصيلة ما قلنا يتلخّص في ما يلي : لو أنّنا استثمرنا ما لدينا من مؤهّلاتٍ، لا سيّما مناسك الحجّ والميزات التي تمتّع بها مكّة المكرّمة والحرم القدسيّ، لتمكنّا من توحيد صفوف السيول الهائلة من المسلمين من خلال الاتّكاء على محور القرآن الكريم وسنّة رسول الله ( ص ) وعترته الطّاهره ( ع )؛ وذلك لا يتحقّق إلا باتّباع منهجٍ منظّمٍ وتوعية حجّاج بيت الله الحرام؛ وقبل كلِّ شيءٍ، لا بدّ من تنقية أجواء البلاد الإسلاميّة من أجواء العصبيّة الذميمة. وبالتأكيد فإنّ هذه الوحدة ستعيد للمسلمين أمجادهم التي فقدوها.

إنّ فوائد مناسك حجّ البيت العتيق كثيرةٌ، إحداها نيل الوحدة بين المسلمين. ولو أنّ المعنيين يقومون بوضع برامج شاملة ومدروسة يهذّبون من خلالها الحجّاج بالأخلاق الإسلاميّة الحميدة ويعلّمونهم فلسفة الحجّ وأسراره، لاستطاعوا أن يوجدوا تغييراتٍ جذريّةٍ في العالم بأسره. ولو أنّهم وحّدوا مناهجهم وسخّروا طاقاتهم الاقتصاديّة واستثمروا قدراتهم، لأثبتوا انصياعهم للقرآن الكريم وتحقيق ما أكّد عليه : ﴿ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ ﴾ [ سورة آل عمران : الآية 139 ]، [ سورة محمّد : الآية 35 ]؛ وكذلك لصدّقوا قول رسول الله ( ص ) : « الإسلامُ يَعلو ولا يُعلى عليه » [ وسائل الشيعة، الحرّ العاملي ].

ولكن للأسف الشديد وفي الظُّروف الراهنة، علينا الاعتراف بهذه الحقيقة المرّة، ألا وهي انّ بعض المتحجّرة عقولهم لا يحولون دون استثمار هذه الطاقات الهائلة للمسلمين فحسب، بل يسخّرون كمّاً هائلاً من طاقات المسلمين لخلق الخلافات بينهم وتأجيج النـزاعات التي لا جدوى منها، ويبذلون قصارى جهودهم في سبيل نشر الفِتن والتفريق بين أبناء الدين الواحد وتكفير مَن استطاعوا تكفيره منهم؛ وبالتّالي لا ينصبّ ذلك إلا في دلو أعداء الإسلام، لأنّ هؤلاء المتحجّرين يمهّدون الطريق لهم لطعن المسلمين وإهانة مقدّساتهم. بينما نستوحي من مصادرنا الإسلاميّة النهي عن اتّهام المسلمين ظلماً وتكفيرهم، وبالطبع فإن فعل هؤلاء المتحجّرين يُنافي روح الإسلام المقدّسة وتعاليمه السمحاء التي رسمها لنا خاتم الأنبياء والمرسلين ( ص )، إذ قال : « مَن كفَّر مؤمناً، صار كافراً » [ موطّأ مالك ]. وقال في موطنٍ آخر : « إِنَّما أمرهُ لأخيه يا كافر فقد باءَ به أحدهما » [ موطّأ مالك ].

 

السيّد علي قاضي عسكر

قراءة 3412 مرة