هجرة المسلمين إلى الحبشة (17)

قيم هذا المقال
(8 صوت)
هجرة المسلمين إلى الحبشة (17)

استمر المشركون في تعذيب أتباع رسول الله (ص) وإيذائهم بأشد أنواع الأذى. ولمّا رأى النبي (ص) ما يحدث للمسلمين وأنه غير قادر على دفع الأذى عنهم، وخاصة عن أولئك الذين لم يكن لهم عشيرة تحميهم وتدافع عنهم. فأمرهم بالخروج من مكة والهجرة إلى الحبشة. وقال لهم إن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، "فاخرجوا حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه". امتثل المسلمون لأمر نبيهم (ص) وخرجوا من مكة في السنة الخامسة بعد البعثة النبوية. وخرجوا إلى جدة وصادف أن بعض السفن التي كانت في طريقها إلى الحبشة قد رست في ميناء جدة، فركبوا بها بأجر لا يزيد على نصف دينار لكل راكب. ويبدو أن خروجهم من مكة بهذه الهجرة كان بصورة سرية وفي جوف الليل، بعيداً عن أنظار المشركين.

والهجرة إلى الحبشة لم تحصل دفعة واحدة، وإنما حصلت تباعاً وعلى مراحل، حيث يقال إنه سافر في البداية عشرة رجال وأربع نساء، ثم خرج بعدهم فريق أخر من المسلمين المهاجرين حتى صار عددهم في أرض الحبشة، ثلاثة وثمانين رجلاً وتسع عشرة امرأة، عدا الأطفال.

وكان في مقدمتهم جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله (ص).

سبب هجرة جعفر بن أبي طالب :

وهجرة جعفر بن أبي طالب بالتحديد مع المهاجرين المسلمين إلى الحبشة لم تكن بسبب تعرضه للتعذيب أو التنكيل من قبل قريش. فإن جعفراً هو ابن أبي طالب زعيم بني هاشم.

ولقد كانت قريش تخشى مكانة أبي طالب في مكة، كما كانت تراعي جانب بني هاشم بصورة عامة ولا تجرؤ على مواجهتهم فكيف بتعذيب أحد منهم؟!.. إذاً لم كانت هجرته؟!.. نعتقد أن النبي (ص) أرسله مع المهاجرين ليكون أميرا عليهم ينظّم أمورهم وبتابع أوضاعهم، ويحفظهم من الذوبان في المجتمع الذي هم مهاجرون إليه. كما أننا نحتمل جداً أن يكون لجعفر مهمة أخرى إضافة إلى ذلك.

وهي مهمة التعريف بحقيقة الإسلام وأهدافه ومبادئه وقيمه في ذلك المجتمع. وخاصة أن جعفراً بن أبي طالب كان يملك فهماً ووعياً مميزاً بفكر الإسلام وبمفاهيمه يجعله مؤهلاً للقيام بهذه المهمة الخطيرة خارج الجزيرة العربية.

ومهما يكن فإن السؤال المطروح هنا هو حول دوافع هذه الهجرة وأهدافها.

أسباب الهجرة المباشرة :

فهل الهدف من هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة في تلك الفترة العصيبة هو الفرار من المشركين بسبب ما كان يعاني منه المسلمون من ظلم واضطهاد كبيرين؟!.. أم أنها كانت لأهداف وأغراض سياسية أو غير ذلك مما يعود على الإسلام بالمصلحة والمنفعة العامة.

في الحقيقة يمكن تلخيص أهداف هذه الهجرة ودوافعها في النقاط الأتية :

أولا: إن قريشا استمرت في تعذيب من يعتنق الإسلام، خصوصا أولئك الذين لم يكن لهم عشيرة تدافع عنهم، وكان الاستمرار بهذا الوضع بالنسبة للمسلمين غير ممكن على المدى الطويل. فكان لا بد من إيجاد مخرج لهؤلاء المعذبين، ولا بد من موضع أمل لكل من يدخل في الإسلام، يلجأون إليه، فكانت الهجرة إلى الحبشة هي الحل الأنسب في تلك الفترة بعيدا عن أذى قريش وتمكنا لهم لممارسة شعائرهم الدينية بحرية.

ثانيا: إننا إذا نظرنا إلى أحاديث هذه الهجرة وما أحيط بها وبالمهاجرين أنفسهم، نجد أن في المهاجرين إلى الحبشة، عددا لابأس به ممن لم يتعرض للتعذيب والتنكيل من  قريش، مثل جعفر بن أبي طالب. كما أننا نجد المهاجرين قد بقوا في الحبشة إلى ما بعد السنة الثالثة أو الرابعة وحتى إلى السنة السابعة للهجرة إلى المدينة.

ومع هذا وذاك يجعلنا نعتقد أن هدفا أخر كان أيضا أحد دوافع الهجرة. فلو اقتصر الهدف منها فقط على الفرار من التعذيب والقهر لما كان هناك مبرر لبقاء بعض المهاجرين في الحبشة. فإن المسلمين قد أصبحوا في تلك السنة السابعة من الهجرة، وحتى قبلها، في أمن وآمان على أنفسهم وإسلامهم، سواء من قريش أو سائر العرب المشركين.

فيتضح لنا أن هذا الهدف الثاني هو الدعوة إلى الإسلام والتبشير بمبادئه وأحكامه وقيمة الانسانية الراقية خارج الجزيرة العربية. وهذا كان يفهم الناس أن الإسلام لا يختص بفئة معينة من البشر في مكان محدد بل هي للعالم بأسره.

ولعله ما يؤكد ويدل على أن أهداف الهجرة إلى الحبشة والدعوة للاسلام وتعريف الناس به حسب ما جاء في بعض النصوص أن جعفرا جاء من الحبشة بعد مدة من الهجرة إليها على رأس كبير من نصارى الحبشة، الذين أعلنوا إسلامهم أمام رسول الله (ص)، ثم عاد جعفر إليها. وجاء في بعض النصوص أيضا، أن النجاشي نفسه، ملك الحبشة، قد أسلم وأرسل إلى رسول الله كتابا يبين فيه إسلامه، واستعداده للحاق بالرسول.

وبمعزل عن كل هذه الشواهد، التي تؤكد أن أحد أهداف هذه الهجرة هي الدعوة إلى الإسلام خارج مكة، فإن وجود عدد كبير من المسلمين المهاجرين خارج الجزيرة العربية، وفي الحبشة بالذات، وهم يمارسون عباداتهم وشعائرهم الدينية بحرية كاملة، هو دعاية للاسلام وله تأثيره الكبير على عرب الجزيرة وغيرهم ممن كان يأتي إلى الحبشة، للتجارة والسياحة وغير ذلك. وكان من أهداف هذه الهجرة أيضا توجيه ضربة لكبرياء لقبيلة قريش لتدرك أن قضية الدين تتجاوز حدود تصوراتها وقدراتها. وإن المسلمين قادرون على تجاوز حدود الوطن والتخلي عن كل ممتلكاتهم وكل شيء في سبيل إنقاذ إسلامهم وعقيدتهم.

 

 

قراءة 4088 مرة