emamian
بيان دمشق وواشنطن وباريس.. هل ترجم آمال ومطالب الشعب السوري؟
توافقت دمشق وباريس وواشنطن -خلال اجتماع عقد في العاصمة الفرنسية اليوم الجمعة- على الحاجة لإنجاح مسار الانتقال في سوريا، وهي خطوة قوبلت باحتفاء من السلطات السورية التي تسعى للمضي قدما في المسار الانتقالي ومعالجة الملفات الشائكة.
ويرى محللون أن البيان على أهميته يترك تساؤلات تتعلق خصوصا بمدى استعداد الأطراف الداخلية في سوريا للتعاطي مع ما يدعو إليه الإعلان.
والتقى وزير الخارجية والمغتربين أسعد الشيباني مع نظيره الفرنسي جان نويل بارو والمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم برّاك في باريس، وأصدروا في أعقاب اجتماعهم بيانا ثلاثيا، دعا للتعاون في مكافحة الإرهاب ودعم قدرات الدولة السورية ومؤسساتها.
كما حثّ مكونات الساحة السورية وحكومة دمشق على عقد مشاورات لمعالجة الأوضاع في الشمال السوري وفي محافظة السويداء جنوبي سوريا.
وجاء الاجتماع الثلاثي في ظل مشهد سوري معقد، وتحديات أمنية تواجهها السلطات، أبرزها الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة للأراضي السورية وتمرد حكمت الهجري، أحد مشايخ الدروز في السويداء جنوبي سوريا، والمدعوم إسرائيليا، بالإضافة إلى التحدي الذي تطرحه قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي لا تزال تناور في مسألة تسليم سلاحها والاندماج في مؤسسات الدولة السورية.
ويرى محللون أن البيان الثلاثي لم يتطرق لتفاصيل وتعقيدات المشهد السوري، وجاء في شكل بنود وخطوط عريضة، وهو ما أشار إليه الكاتب والباحث السياسي، مؤيد غزلان قبلاوي في حديثه لبرنامج "ما وراء الخبر"، إذ يقول إن البيان يتحدث عن العملية الانتقالية، لكنه لا يذكر تفاصيلها، كما أنه يركز على الطابع الأمني ويتحدث عن خفض التصعيد، في الوقت الذي يريد فيه الشارع السوري إنهاء التصعيد.
وفي السياق نفسه، يلفت قبلاوي إلى أن الاشتباكات لم تنته بشكل كلي في السويداء، وهناك عراقيل تطرحها "قوات سوريا الديمقراطية"، مشيرا إلى أن اللقاءات القادمة يفترض أن تتطرق لاتفاقية عدم الاعتداء من طرف إسرائيل على سوريا، ويقول إن المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا يتحدث بدبلوماسية منمقة عن سوريا وينتقد إسرائيل، لكنه لا يتخذ إجراءات عملية لكبح جماحها.
تساهل أميركي
ويقر محللون أميركيون بأن بلادهم لا تمارس الضغط الحقيقي على إسرائيل كي تغير سياستها في سوريا.
ويوضح ستيفن هايدمان الباحث في مركز سياسة الشرق الأوسط بمعهد "بروكينغز" -في حديثه لبرنامج "ما وراء الخبر"- أن الإدارة الأميركية كانت متساهلة مع التوغلات الإسرائيلية في الأراضي السورية، ولم تجبر تل أبيب للتخلي عن الأرضي التي سيطرت عليها.
ورغم التساهل الأميركي مع إسرائيل، فإن واشنطن تجدد التزامها بسيادة سوريا على كامل أراضيها -وفق هايدمان- ولا تدعم العناصر داخل قسد التي قال إنها تتحدث عن حكم ذاتي.
ويذكر أنه تم تأجيل اجتماع كان مقررا أمس الخميس في باريس بين وفد حكومي سوري وممثلين عن الأكراد، وذلك وفقا لوكالة أنباء هاوار الكردية.
ووفق أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جنيف، الدكتور حسني عبيدي، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يفتقد لرؤية واضحة ومستقرة خاصة بسوريا، وبالتالي فإن سفيره لن تكون لديه رؤية، لكنه يرى أن البيان الثلاثي بين دمشق وواشنطن وباريس هو خطوة إيجابية وبداية مشجعة إذا تركت واشنطن الفرصة لباريس كي يكون لها دور في عملية المسار الديمقراطي في سوريا.
وتريد فرنسا أن تكون عضوا مساهما في عملية الانتقال السياسي في سوريا -يضيف عبيدي- وتقضي رؤيتها بأن تعطى الأولوية لحل مشكلة الأقليات عبر حوار وطني ودستور جامع بإشراك كل المكونات السورية وصلا إلى نزع سلاحها.
ونقلت وسائل إعلام تصريحات لمسؤول في الخارجية السورية أشار إلى أن مشكلة المفاوضات مع "قوات سوريا الديمقراطية" حاليا هي غياب رؤية موحدة لدى قيادتها.
وأوضح أن موقف باريس يؤكد الاستعداد للضغط على هذا التنظيم للوصول للحل.
تصاعد التوتر بين تركيا وإسرائيل في سوريا
بدأت عملية دمج القوات الكردية في الدولة السورية باتفاق وُقّع 10 مارس/ آذار 2025، عقب لقاء بين الرئيس السوري أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" مظلوم عبدي.
وجرى اللقاء الثاني بين الشرع وعبدي في العاصمة دمشق بتاريخ 9 يوليو/ تموز، بمشاركة السفير الأميركي في أنقرة والمبعوث الخاص إلى سوريا، توم باراك. وقد جاء هذا اللقاء الثاني بعد أن كان الوفد الكردي قد أعلن في شهر يونيو/ حزيران عن مطلبه بدولة "ديمقراطية ولا مركزية".
وكشفت التصريحات التي أعقبت اللقاء الثاني أن المحادثات بين حكومة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية لم تسفر عن نتائج، وأن العملية لا تتقدم بشكل سليم.
وفي الوقت الذي كانت تمر فيه المفاوضات بين "قسد" وحكومة دمشق بمرحلة صعبة، أثرت الاشتباكات التي اندلعت في مدينة السويداء جنوب سوريا بين المليشيات المسلحة الموالية للزعيم الدرزي حكمت الهجري المدعوم من إسرائيل، والعشائر العربية البدوية، سلبًا على المفاوضات مع الوفد الكردي.
كما أن تدخل إسرائيل لصالح حكمت الهجري في اشتباكات السويداء، وقصفها قوات الجيش السوري ومقر هيئة الأركان العامة في دمشق، قد دفع الجماعات الكردية في شرق الفرات إلى إعادة التفكير في مواقفها.
اللقاء الثاني في دمشق
كانت تركيا تخطط لتنفيذ عملية عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية فور سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وقد أتمت أنقرة كافة استعداداتها للعملية العسكرية.
وصرح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بأنهم "قبلوا عرض دمشق بضرورة إعطاء فرصة للمفاوضات والدبلوماسية، وبالتالي فإنهم يتابعون من كثب المفاوضات بين دمشق وقسد، لكن في حال عدم التوصل إلى نتائج، فلن يبقى خيار آخر سوى العملية العسكرية".
وقد أظهرت تركيا بوضوح عزمها على عدم القبول بوجود أي كيان مسلح على حدودها غير مندمج في حكومة دمشق.
وقد أرضى الاتفاق الذي تم توقيعه في 10 مارس/ آذار 2025 بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي تركيا. وأعرب هاكان فيدان عن ارتياحهم للاتفاق، مشيرًا إلى أنهم يتابعون من كثب عملية تنفيذه.
بيدَ أن اللقاء الثاني الذي عقد في يوليو/ تموز لم يكن إيجابيًا. فقد أصر مظلوم عبدي خلال اللقاء على إقامة دولة "لامركزية". واعتبرت حكومة دمشق هذا المقترح "محاولة لفرض واقع انفصالي" ورفضته.
وأعلن المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، الذي حضر الاجتماع الثاني، أن الخلاف بين دمشق وقسد بشأن دمج شمال شرق سوريا لا يزال قائمًا.
إن السبب الرئيسي لعدم الخروج بنتيجة إيجابية من اللقاء الثاني في دمشق، هو أن تركيا وسوريا والولايات المتحدة تدافع عن خطة "سوريا موحدة"، بينما تقف "قسد" أقرب إلى الطرح الإسرائيلي الداعي إلى "سوريا مقسمة".
تأثير أحداث السويداء
مما لا شك فيه أن الأزمة في السويداء وتدخل إسرائيل لتعميقها لا يؤثران فقط على جنوب سوريا، بل على سوريا بأكملها.
وتستغل إسرائيل الاشتباكات في السويداء بين الزعيم الدرزي حكمت الهجري المدعوم منها والجماعات المسلحة التابعة له من جهة، والعرب البدو من جهة أخرى، لتنفيذ مشروع "ممر داود"، وتتخذ خطوات لنشر الفوضى في جميع أنحاء سوريا.
إن انسحاب قوات الأمن السورية من السويداء في إطار اتفاق تم بوساطة أميركية بين الحكومة السورية وإسرائيل، قد دفع "قسد" إلى التحرك بما يتعارض مع اتفاق 10 مارس/ آذار.
وبينما كانت الاشتباكات مستمرة في السويداء وإسرائيل تقصف دمشق، تناقلت وسائل الإعلام العالمية أنباء عن استعدادات عسكرية لقوات سوريا الديمقراطية في الرقة.
ورغم أن العلاقة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وقسد مستمرة منذ أكثر من 15 عامًا، فإن "قسد" تفضل الوقوف إلى جانب إسرائيل في الملف السوري. وذلك لأنّ مشروع "ممر داود" الذي تسعى إسرائيل لتنفيذه في سوريا يشمل إقامة حكم ذاتي أو فدرالية في كل من السويداء وشرق الفرات.
وتؤدي أحداث السويداء وتدخلات إسرائيل إلى تأخير دمج قوات سوريا الديمقراطية في الدولة السورية، وتهيئ الأرضية لعودة نشاط العصابات التي تشكلت من بقايا نظام بشار الأسد في المنطقة الساحلية، مما يزعزع الأمن والاستقرار. كما أظهرت أزمة السويداء وجود علاقة وتنسيق قويين بين إسرائيل وحكمت الهجري وقسد.
فقد أجرى وزير الخارجية الإسرائيلي ساعر اتصالًا هاتفيًا مع القيادية البارزة في "قسد" إلهام أحمد في 3 يناير/ كانون الثاني، وأبلغها، بحسب صحيفة "يسرائيل هيوم"، بأن إسرائيل ستقدم الدعم للأكراد.
تركيا في حالة تأهب
تتابع تركيا بصبر عملية دمج "قسد" في الدولة السورية من جهة، وتراقب بحذر الأزمة في السويداء من جهة أخرى. وتعتقد تركيا أن أي وضع سلبي محتمل في السويداء لن يقتصر على المنطقة، بل سيمتد إلى سوريا بأكملها.
وتُقيّم المؤسسات التركية المختصة أن خروج السويداء عن سيطرة حكومة دمشق، وإقامة حكم فدرالي أو شبه فدرالي في جنوب سوريا، سيشكل سابقة للمناطق السورية الأخرى.
وهذا التقييم للمؤسسات التركية المختصة لا يعني فقط أن أي وضع قد ينشأ في منطقة "قسد" على حدود تركيا يُعتبر تهديدًا لأمن تركيا، بل يمكننا أن نستنتج أن أي وضع محتمل في السويداء سيؤثر على مناطق أخرى، وبالتالي سيشكل تهديدًا للأمن القومي التركي.
وكان تصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بشأن أحداث السويداء والهجمات الإسرائيلية واضحًا جدًا. حيث شارك فيدان 22 يوليو/ تموز تصور تركيا الجديد لـ"تهديد الأمن القومي" فيما يتعلق بسوريا.
وقال فيدان في تصريحه:
"على أي جماعة ألا تتجه نحو التقسيم. لدينا الكثير لنتحدث عنه عبر الدبلوماسية. كل شيء قابل للنقاش، والمناقشات جارية مع جميع الجماعات والعناصر. لكن إذا تجاوزتم ذلك واتجهتم نحو التقسيم وزعزعة الاستقرار باستخدام العنف، فإننا سنعتبر ذلك تهديدًا مباشرًا لأمننا القومي وسنتدخل. ناقشوا ما شئتم باستثناء التقسيم. قدموا ما لديكم من مطالب. وسنساعدكم قدر استطاعتنا في هذا الشأن، لكن عندما تتجاوزون هذا الحد، فلن نعرض أنفسنا للتهديد".
"أما إسرائيل، فهي تسعى لتخريب كل هذه المبادرات الرامية لتحقيق السلام والاستقرار والأمن في سوريا. هناك حقيقة يجب قولها بوضوح: إسرائيل، التي لا تريد أن ترى دولة مستقرة في محيطها، تهدف إلى تقسيم سوريا".
وصرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أثناء عودته من جمهورية شمال قبرص التركية، في حديث للصحفيين على متن الطائرة الرئاسية، بوضوح تام حول سوريا قائلًا: "إسرائيل تسعى باستمرار لإشعال المنطقة بأكملها. الرئيس السوري أحمد الشرع أظهر موقفًا حازمًا في السويداء وحافظ على السيطرة. نحن مصممون، ولن نترك الشرع وحيدًا في سوريا. لا نريد تقسيم سوريا".
إن تصريحات كل من أردوغان وفيدان تظهر أن تركيا قد غيرت وقوّت وشددت من نهجها تجاه التهديدات التي قد تطال أمنها القومي عبر سوريا.
فبينما كانت تركيا في السابق تعتبر التطورات في شرق الفرات تهديدًا لأمنها القومي، أصبحت الآن تعتبر جميع الأعمال والتحركات الرامية إلى تقسيم سوريا بأكملها تهديدًا لأمنها القومي، وتصرح بوضوح أنها ستتدخل في مثل هذه الحالة.
إن "سياسة الأمن القومي" الجديدة التي طورتها تركيا على خلفية أزمة السويداء ستشكل عائقًا جديًا أمام انخراط "قسد" بسهولة في خطة "ممر داود" الإسرائيلية. كما أن الموقف التركي الجديد في سوريا سيجعل من الصعب على "قسد" تطبيق سياستها المماطلة والمؤجلة لعملية الاندماج في الدولة السورية.
سياسة الولايات المتحدة تجاه الأكراد في سوريا
تتبع الولايات المتحدة سياسة تدعم عملية دمج "قسد" في الدولة السورية، وتُظهر في هذه العملية تعاونًا متناغمًا مع تركيا وحكومة دمشق.
ويدافع السفير الأميركي في تركيا والمبعوث الخاص إلى سوريا، توم باراك، عن ضرورة أن تتحرك "قسد" بشكل أسرع للاندماج في الدولة السورية.
وفي مقابلة مع قناة "سي إن إن ترك" ، قال باراك: "قسد هي وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني. ليس لدينا أي التزام تجاههم بإقامة دولة مستقلة"، مُظهرًا بذلك تبنيه سياسة تركيا التاريخية.
والجدير بالذكر أنه في حين أن تركيا تؤكد أن "قسد" وحزب العمال الكردستاني كيان واحد، وأن "قسد" هي امتداد لحزب العمال الكردستاني في سوريا، فإن الولايات المتحدة، منذ عهد أوباما وحتى اليوم، كانت تعترض دائمًا على هذا الطرح التركي، مؤكدة أنها ترى "قسد" مختلفة عن حزب العمال الكردستاني وأنها أقوى حلفائها.
كما أن توم باراك صرح بوضوح في مؤتمر صحفي عقده الأسبوع الماضي في واشنطن، بأنه لا خيار أمام "قسد" سوى الاتفاق مع دمشق، وأنهم لا يدعمون سوريا مقسمة.
نرى أن تركيا والولايات المتحدة وحكومة دمشق لديها سياسات متقاربة جدًا تجاه سوريا. أما إسرائيل، فلديها ملف سوري مختلف عن الولايات المتحدة، وتتخذ خطوات على الأراضي السورية بنفسها وعبر حلفائها لتحقيق أهدافها.
في هذا الإطار، نرى أن الزعيم الدرزي حكمت الهجري يتبنى سياسة إسرائيل في سوريا، بينما تقف "قسد" أقرب إلى إسرائيل منها إلى أميركا.
في الختام
يُقدَّر أنه لا يوجد طريق بديل أمام قوات سوريا الديمقراطية سوى الاندماج في الدولة السورية، وأن إتمام عملية المفاوضات مع دمشق بسرعة سيؤدي إلى نتائج أفضل بالنسبة لقسد.
ومن الواضح أن تركيا لن تقف صامتة أمام أي تحرك عسكري محتمل من جانب "قسد" في شرق الفرات، سواء كان مرتبطًا بالتطورات في السويداء أو مستقلًا عنها، وستتدخل عسكريًا.
كذلك، يمكن القول إنه في حال تصاعد أزمة السويداء ووصولها إلى نقطة قد تؤدي إلى تقسيم سوريا، فإن تركيا لن تتردد في الاهتمام بالسويداء واستخدام إمكاناتها والتدخل.
مصدر:الجزیرة
علاج القلب المختلط بحب الدنيا
عندما يكون قلب الإنسان مختلطاً بحبّ الدنيا، وليس له مقصدٌ ولا مقصودٌ غير تعميرها، فلا محالة أن يكون هذا الحب مانعاً من فراغ القلب وحضوره في ذلك المحضر القدسيّ، وعلاج هذا المرض المهلك والفساد المبيد هو العلم والعمل النافعان:
1- العلم النافع: التفكّر في ثمرات هذا المرض الذي هو مصدر الأمراض والمفاسد الأخلاقية، وفي نتائجه والمقارنة بينها وبين مضارّه ومهالكه الحاصلة منه. فكم هي محدودةٌ ومحكومةٌ بالفناء والزوال الفوائد الدنيوية التي قد يجنيها الإنسان المحب للدنيا؟ في مقابل ما يُسبّبه حبّها من ضررٍ له!! ويكفي لتبيان فداحة هذا الضرر ما ورد في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام: "رَأْسُ كُلِ خَطِيئَةٍ حُبُ الدُّنْيَا"[1].
بقليلٍ من التأمّل يُدرك الإنسان أنّ جميع المفاسد الخُلقية كالطمع والحرص والاستعباد والتملّق.. والمفاسد العملية كالقتل والنهب والظلم.. وسائر الأخلاق الفاسدة وليدة أمّ الأمراض هذه.
وحبّ الدنيا مانعٌ من الفضائل المعنوية، فالشجاعة والعفّة والسخاء والعدالة وطمأنينة النفس وسكون الخاطر وسلامة القلب والكرامة والحرية وعزّة النفس، وكذلك المعارف الإلهية والتوحيد في الأسماء والصفات والأفعال والذات وطلب الحق ورؤية الحق، جميعها متضادّةٌ مع حبّ الدنيا.
فعن الإمام الصادق عليه السلام: "الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ صُورَةٍ رَأْسُهَا الْكِبْرُ وَعَيْنُهَا الْحِرْصُ وَأُذُنُهَا الطَّمَعُ وَلِسَانُهَا الرِّئَاءُ وَيَدُهَا الشَّهْوَةُ وَرِجْلُهَا الْعُجْبُ وَقَلْبُهَا الْغَفْلَةُ وَكَوْنُهَا الْفَنَاءُ وَحَاصِلُهَا الزَّوَالُ فَمَنْ أَحَبَّهَا أَوْرَثَتْهُ الْكِبْرُ وَمَنِ اسْتَحْسَنَهَا أَوْرَثَتْهُ الْحِرْصُ وَمَنْ طَلَبَهَا أَوْرَدَتْهُ إِلَى الطَّمَعِ وَمَنْ مَدَحَهَا أَكَبَّتْهُ الرِّئَاءُ وَمَنْ أَرَادَهَا مَكَّنَتْهُ مِنَ الْعُجْبِ وَمَنِ اطْمَأَنَّ إِلَيْهَا رَكِبَتْهُ الْغَفْلَةُ وَمَنْ أَعْجَبَهُ مَتَاعُهَا فَتَنَتْهُ فِيمَا يَبْقَى وَمَنْ جَمَعَهَا وَبَخِلَ بِهَا رَدَّتْهُ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا وَهِيَ النَّار"[2].
2- العمل النافع: إنّ طريق علاج حبّ الدنيا هو مبدأ العمل بالضدّ. فكلّ محبٍّ للدنيا لديه نمطٌ من التعلّق بها، فالبعض يُحبّ المال والثروة وتكديس الخيرات وادّخار النفائس، وعلاج هذا الشخص يكون بأداء الحقوق المالية الشرعية الواجبة وبالصدقة المستحبّة، فيُعطي ممّا يُحبّ ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[3]. فإنّ من أسرار الصدقات تقليل التعلّق بالدنيا. وإنْ كان هذا الأمر ثقيلاً على نفسه بادئ الأمر فليعلم أنّ السبب هو استحكام حبّ المال في قلبه، وليستمرّ في إنفاقه حتى يقضي على هذا الحبّ شيئاً فشيئاً.. وقد يُصبح العطاء لديه لذّة كما كانت لذّة التملّك وجمع الأموال[4].
[1] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص315.
[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص105.
[3] سورة آل عمران، الآية 92.
[4] راجع: الإمام الخميني قدس سره الآداب المعنوية للصلاة، المقالة الأولى، الفصل الثامن في بيان حضور القلب.
ما هي العواقب الاجتماعية لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
نشرع في ذكر العواقب الاجتماعية لترك هذه الفريضة. وقد سبق القول إن نفس الحرمان من بركات هذه الفريضة عقاب يضاف إليه جملة من الآفات:
1- إشاعة الفساد وإنقلاب القيم:
إن ترك أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سيفسح المجال تلقائياً لشيوع الفساد وانتشاره، حيث لن يجد الفاسدون وازعاً ولا رادعاً يقف أمام جنوحهم، إضافة إلى أنه سيجرئ آخرين للانضمام إلى هؤلاء المفسدين ليعم الفساد في المجتمع بما لا يستثني حتى الساكتين والتاركين لهذه الفريضة. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إن المعصية إذا عمل بها العبد سراً لم تضر إلا عاملها، وإذا عمل بها علانية ولم يغير عليه أضرت بالعامة"([1]).
ولو استمر الهجران لهذه الفريضة، فإن الذوق العام سيصاب بداية بالشك ثم سيتحول إلى التلذذ بالمعصية إلى أن يصل أبناء المجتمع هذا إلى أن يعيبوا على القائم بهذه الفريضة، ثم يتطور الأمر إلى تحول المعصية والفساد إلى قيم بذاتها تحل محل الشرف والفضيلة والتدين.
وقد أشارا إلى هذا التدرج في الحديث المعروف عنها: "كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟
قالوا: أو يكون ذلك يا رسول اللَّه؟!
قالا: بلى وشر من ذلك! كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟!
قالوا: أو يكون ذلك يا رسول اللَّه؟!
قالا: بلى وشر من ذلك! كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفاً"؟!([2]).
2- تسلط الظالمين والأشرار:
إن اللَّه تعالى هو رب الناس جميعاً ومن مقام ربوبيته يوفّق الأفراد والمجتمعات إلى ما يليق بها من كمال بشرط أهليتها المنوطة بقيامها بواجباتها وأداء تكاليفها المعبرة عن اندفاعها للتربية الإلهية، فليس الأمر في الدنيا قائماً على الجبر وقد سبق القول إن نصر اللَّه للأفراد كما للمجتمع الإسلامي في دائرة الحياة الفردية والاجتماعية، متوقف في أحد نواحيه على نصر دين اللَّه عبر القيام بأداء وإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولذا فإن خذلان دين اللَّه من خلال ترك هذه الفريضة ستكون نتيجته خذلان اللَّه لهذه الأمة ولهذا المجتمع.
وبالتالي فإن النتيجة ستكون حرمان هذا المجتمع من العناية والرعاية الربانية وأيضاً فإن النتيجة الموضوعية الطبيعية هي قيام ونشوء بيئة فاسدة سوف لن تنتج إلا أفراداً فاسدين، وولاة أمر هذا المجتمع سوف يكونون على شاكلتها وإلى هذا أشار الإمام علي عليه السلام: "لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي الله أمركم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم"([3]).
3- العذاب من اللَّه:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنما يجمع الناس الرضا والسخط وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم اللَّه بالعذاب لما عموه بالرضا"([4]).
فالمجتمع الذي لا يقوم بهذه الفريضة يصبح محلاً لسخط اللَّه، وبالتالي فإن التقصير في أداء هذا التكليف لن تكون نتيجته فقط ما يترتب عليه موضوعياً من فساد وتسلط الظالمين، بل إن نزول العذاب حينها لن يكون مختصاً بمرتكبي المحرمات بل سيكون عاماً.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليعمنّكم عذاب اللَّه"([5]).
4- نزع بركة الرزق:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "أيما ناشئ نشأ في قوم ثم لم يؤدب على معصيته فإن اللَّه أول ما يعاقبهم فيه، أن ينقص في أرزاقهم"([6]).
إن اللَّه عزَّ وجلّ لا يمنع رزقه عن مخلوق حتى الملحدين فهو القائل ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾([7]).
ولكنّ لبعض الذنوب، وعلى رأسها ترك القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آثاراً كشفت عنها الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام تتعلق بإدرار الرزق أو نقصه أو ذهاب بركته.
بل أكثر من ذلك، إن القيام بأداء التكاليف وإقامة الدين سبب في ازدياد الرزق ونمو بركته، كما أن ترك أداء هذا التكليف موجب لقلة الرزق وذهاب بركته.
خاتمة:
إن أهم الآثار التي تترتب على التقصير في أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو انقلاب الموازين في المجتمع، وانقلاب المفاهيم والقيم حتى تصل الأمور إلى ما يشبه المسخ. فكما أن أداء هذه الفريضة له دور في صناعة جمال الأمة وجلالها، فكذلك ترك أداء هذه الفريضة سيؤدي إلى ضعف جهاز مناعة هذه الأمة الثقافي والتربوي والأمني والاقتصادي بما يؤدي إلى صيرورة هذه الأمة وهذا المجتمع مخلوقاً غير متوازن الخلقة مشوهاً.
وبمعنى آخر فإن ترك هذه الفريضة يسلب الأمة شخصيتها ويفقدها استقلالها لتصبح محلاً للغزوات المختلفة الأنواع بما يؤهلها للسقوط فالموت الذي نرجو أن يجنب اللَّه أمتنا منه.
عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت عنهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء"([8]).
([1]) وسائل الشيعة ج16ص136.
([2]) الكافي ج5 ص59.
([3]) الكافي، ج7، ص52.
([4]) بحار الأنوار، ج60، ص214.
([5]) جواهر الكلام، الشيخ الجواهري، ج21، ص359.
([6]) وسائل الشيعة، ج16، ص133.
([7]) سورة الإسراء، الآية: 20.
([8]) وسائل الشيعة، ج11، ص398.
دائرة المسؤولية العائلية في الإسلام
نتيجة ابتعاد مجتمعاتنا عن القيم الدينيّة والإلهيّة، ونتيجة تطوّر عالم الاتصالات وغزو التقاليد الغربيّة لمجتمعاتنا وتقاليدنا، فالوارد إلينا خطِر ومدمّر، وإن لم نكن على جهوزيّة للتصدّي له أو لم تكن لدينا المناعة المستمدّة من روح الدين والعلاقة مع الله تعالى، فإنّ السقوط في وادي الجهالة والضلالة حتميّ ومؤكّد إلا من رحم ربّي.
تتضمّن العائلة أو الأسرة، الّتي يسمّيها الإسلام بالحلقة الأضيق، الأب والأمّ والزوجة والأولاد. وهناك شبهة عند الناس في هذا الموضوع، فهم يفترضون أنّ الحلقة الأضيق هي الزوجة والأولاد. وبعضهم يفترض أنّهم عندما يستقلّون في حياتهم، فالوالد والوالدة أصبحا خارج الدائرة الأضيق، وهذا فهم خاطئ.
نأتي إلى النظرة الإسلاميّة في الموضوع الاجتماعيّ، إن على صعيد الفرد أو على صعيد العائلة، فرؤية الإسلام ترتكز إليهما بلحاظ:
1ـ أنّ الفرد هو أصل المجتمع، لذلك نجد كلّ تعاليم الإسلام وتشريعاته، وتعاليم الأنبياء عليهم السلام، كلّها تركّز على تربيته وتنشئته.
2ـ أنّ العائلة هي في نظر رسالات السماء أساس تكوين أيّ مجتمع إنسانيّ، وفي أيّ مدينة أو أيّ وطن، أمّا في حالة أفراد مفكّكين، فيفقد المجتمع البشريّ طبيعته وينتج بدلاً عنه مجتمع منحرف لا يستطيع الاستمرار والبقاء.
فالعائلة، ولو في إطارها الضيّق، عندما تكون متعاونة متراحمة، فهي تشكّل خلايا البيئة الاجتماعيّة السويّة، وهذا ينعكس على المجتمع كلّه.
من هنا تأتي التعاليم والرسالات لتؤكِّد على الزواج، الّذي هو مستحبّ، بل واجب في بعض الأحيان. الإسلام يتحدّث عن انتقاء الزوج والزوجة، وتسهيلات الزواج، وتقديمات الزواج، والحفاظ على الأسرة وبقائها، وتوزيع المسؤوليّات داخل الأسرة، كما يذكر تعقيدات موضوع الطلاق.
إن ابتلاءاتنا في المجتمع، هي فيما يأتينا من الغرب؛ ففي الغرب هناك مأساة على المستوى النفسيّ، برغم التطوّر العلميّ الهائل، وسنشهد خلال السنوات المقبلة، أزمات حادّة جدّاً في هذه الدول. إنّ ما نقرؤه من تقارير ودراسات حول مجتمعاتهم، والّذي يعكسونه في الأفلام السينمائية الّتي يصدّرونها إلى العالم العربيّ والإسلاميّ، كلّه يتحدّث عن تفكّك الأسرة، وارتفاع هائل في نسبة العزوبيّة. فلا توجد أسرة وعائلة طالما يظنّ الرجل والمرأة أنّهما يستطيعان تلبية حاجاتهما الجسديّة خارج إطار الأسرة، نتيجة الإباحيّة الّتي تنتشر في تلك المجتمعات. وهناك ارتفاع في نسبة الطلاق، ونسبة المولودين خارج الزواج الشرعيّ، حتّى خارج الزواج المدنيّ المتداول عندهم. وهذا ما يؤدّي إلى آثار روحيّة واجتماعيّة وأمنيّة سيّئة جدّاً.
هناك، عندما يكبر الوالدان، لا يسأل الأولاد عنهما، وإن سألوا يرمونهما في دور العجزة، وعندما يموتان تتكفّل البلديّة بدفنهما، وهذا ما يُريدون نقله إلى مجتمعنا!
درس مقاومة الإمام الحسين (عليه السلام)
لقد انتصر ذلك المجاهد في سبيل الله (الحسين عليه السلام) على العدوّ، من جميع الجهات، حيث وقف بمظلوميّة في مواجهة ذلك العالم وسُفكت دماؤه وأسِرت عائلته، وهذا درس للشعوب. نُقل عن زعماء كبار في عصرنا الحالي - وهم ليسوا بمسلمين - أنّهم قالوا: "لقد تعلّمنا طريق الجهاد من الحسين بن عليّ عليه السلام". وإنّ ثورتنا - الثورة الإسلاميّة - هي أيضاً واحدة من تلك الأمثلة. لقد تعلّم شعبنا أيضاً من الحسين بن عليّ عليهما السلام، وأدرك أنّ القتل ليس دليلاً على الهزيمة وفهم أنّ التراجع أمام العدوّ، القويّ في الظاهر، موجب للشقاء والذلّ. ومهما كان العدوّ قوياً، فإنّه إذا صمدت الفئة المؤمنة والجبهة المؤمنة أمامه بالتوكّل على الله، ستكون الخاتمة هزيمة العدوّ وانتصار الفئة المؤمنة، وهذا ما أدركه شعبنا[1].
الصمود في مواجهة لوم الخواصّ
إنّ السير على طريق الله له معارضون على الدوام. ولو أنّ شخصاً من هؤلاء الخواصّ الذين تحدّثنا عنهم[2] أراد أن يقوم بعملٍ حسن - العمل الذي يجب القيام به - فقد ينبري له بضعةُ أفراد من أولئك الخواصّ أنفسهم باللوم على موقفه ذاك، قائلين: "أيّها السيّد، ألا عمل لديك؟ أجُننت؟ أليس لديك عائلة وأطفال؟ لماذا تسعى وراء أعمال كهذه؟! مثلما كانوا يفعلون في أيّام ثورتنا. لكنّ الخواصّ يجب عليهم أن يثبتوا، وإنّ إحدى ضرورات جهاد الخواصّ هي أنّه ينبغي الصمود والثبات في قبال هذه الملامة وهذا التقريع[3].
حفظ الدّين في ظلّ الاستقامة والصمود
يختلف زماننا كثيراً عن زمن الإمام الحسين عليه السلام. ففي ذلك اليوم كان الإمام وحيداً، واليوم، إنّ حفيد الحسين إمام الأمّة (رضوان الله عليه) ليس وحيداً. لو كان للإمام الحسين - في ذلك اليوم - آلاف عدّة من الشباب المتحمّس الشجاع أمثالكم لقضى على كلّ أجهزة بني أميّة، ولأقام الحكومة الإسلاميّة. ولو كان للإمام الصادق والإمام الباقر والإمام موسى الكاظم وبقيّة الأئمّة عليهم السلام - الذين كانوا يواجهون أجهزة الجور والظلم- 500 إلى 1000 شخص أمثالكم، أيّها الشباب المضحّون في حرس الثورة، 100 شخص، 500 ألف من أمثالكم لتغلّبوا على كلّ أعدائهم، لقد كانوا وحيدين، غرباء، وقد حفظوا الدّين بوحدتهم وغربتهم ومظلوميّتهم، وفي النهاية باستشهادهم ومقتلهم. واليوم سيحفظ شعبنا هذا الدّين بقوّته[4].
صمود في ظروف استثنائيّة
الحسين بن عليّ عليهما السلام في هذا المجال شخص فريد[5]، بمعنى أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم نفسه لم يظهر هكذا مقاومة. وهذا ليس معناه أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يستطع إظهار ذلك، لا! فالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أكثر مقاومة من الحسين بن علي عليهما السلام وأقوى، ولا شكّ في ذلك، وكذلك أمير المؤمنين عليه السلام، كما إنّ الإمام الحسن عليه السلام أفضل من الإمام الحسين عليه السلام، والأمر هو كذلك، إلّا أنّ ظرف الزمان والمناسبة قد منح هذه الفرصة فقط للحسين بن عليّ عليهما السلام ليظهر مثل هذه المقاومة. بالطبع لو كان الإمام الحسن عليه السلام في نفس تلك الظروف لقام بالعمل نفسه، ولو لم يكن عمله أفضل فهو بالتأكيد لن يكون أقلّ، اعرفوا هذا الأمر، فالنبيّ الأكرم هكذا أيضاً، وأمير المؤمنين عليه السلام كذلك.
إنّ درس مقاومة الإمام الحسين عليه السلام درس لا يُنسى.
لم يكن على الأرض غير تلك المجموعة المعدودة التي اجتمعت حول الإمام الحسين عليه السلام، ولم يكن هناك شخص آخر كان مستعدّاً ليكون معه حتّى آخر المسير. وقد رأيتم بالنهاية! كان هناك أهل الكوفة بشعاراتهم وكلماتهم التي بقيت موجودة إلى ما قبل الخطر بقليل، وقبل وقوع الخطر فرّ الجميع، وتركوا الحسين عليه السلام وحيداً. يعلم الإمام الحسين عليه السلام ذلك ويعرفهم وقد صمد وقاوم في تلك الظروف العجيبة[6].
[1] في لقاء حشد من مختلف طبقات المجتمع، بمناسبة حلول شهر محرّم الحرام، 10/4/1371ش- 1/7/1993 م.
[2] في إشارة إلى بحث العوام والخواص، الذي جاء في بداية هذا الخطاب: "إذا نظرتم إلى المجتمع البشريّ، أي مجتمع كان، وفي أيّة مدينة أو بلد، تجدون الناس فيه يُقسمون- من وجهة نظر معيّنة - إلى فئتين: فئة تسير عن فكر وفهم ووعي وإرادة، وهي تعرف طريقها وتسلكه وليس نظرنا هنا إلى صوابيّة مسلكها أو خطئه - هذه الفئة يمكن تسميتها بالخواص. وفئة أخرى لا تنظر لترى ما هو الطريق الصحيح، وما هو الموقف الصائب،.." وهي التي تسمّى بالعوام.
[3] في جمع من قادة فيلق محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، 2/3/1375ش- 23/5/1997 م.
[4] في جمع من عناصر ومسؤولي فيلق موسى بن جعفر عليهما السلام، 25/5/1367ش- 16/8/1989 م.
[5] يراجع الفقرة التي ستلي ص105 تحت عنوان: المقاومة العالمة والمدركة..حيث جاء في كلمة الإمام الخامنئيّ: إنّ المعلّم الكبير لهذه المقاومة العالمة هو الحسين بن عليّ عليهما السلام. فمهما حقّقنا وأنجزنا نشعر بالحقارة غير العاديّة في مقابل الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام".
[6] في مراسم ذكرى ولادة الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام ويوم الحرس في مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة 26/2/1362ش- 16/5/1984 م.
ما هي أهمية حق الزوج في الإسلام؟
لقد بلغ حقُّ الزوج أهمِّيَّة عالية حتّى وُصف في السُّنَّة المباركة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بأنّه الحقُّ الأعظم على المرأة.
فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أعظم الناس حقّاً على المرأة زوجها، وأعظم الناس حقّاً على الرجل أُمُّه"[1].
وممّا يبرز عظَمة ذلك الحقّ أيضاً ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا شفيعَ للمرأة أنجح عند ربّها من رضا زوجها. ولمَّا ماتت فاطمة عليها السلام قام عليها أمير المؤمنين عليه السلام وقال: اللَّهمَّ إني راضٍ عن ابنة نبيِّك، اللَّهمَّ إنّها قد أُوحشت فآنسها"[2].
وفي الحديث: "لا تؤدِّي المرأة حقَّ الله عزَّ وجلَّ حتّى تؤدّي حقَّ زوجها"[3].
الحقُّ الأوَّل:
أن تجيب المرأة زوجها إلى حاجته الّتي هي عبارة عن طاعته في أمر العلاقة الخاصَّة بينهما، فإذا أبت سخط الله عليها حتّى تُرضي زوجها. وفي هذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده، ما مِنْ رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه، إلا كان الّذي في السماء ساخطاً عليها حتّى يرضى عنها"[4] (أي زوجها).
وفي حديث آخر يجيب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم امرأة سألته: ما حقُّ الزوج على المرأة؟ فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: "أن تجيبه إلى حاجته، وإن كانت على قتب، ولا تعطي شيئاً إلا بإذنه، فإن فعلت فعليها الوِزْرُ وله الأجر، ولا تبيت ليلة وهو عليها ساخط"[5].
فالمستفاد من جوابه صلى الله عليه وآله وسلم حقوق ثلاثة.
الحقُّ الثاني:
وجوب المحافظة على ماله وسائر مختصَّاته في حال غيابه، كما هي مأمورة بذلك في حالة حضوره، فلا يكون تصرُّفها مشروعاً وسائغاً إلّا بإذنه وطيب نفسه، كما أوضح ذلك الحديث المتقدِّم.
ويعني هذا الحقُّ أنّ أموال الزوج أمانة بين يدي زوجته لا يجوز التصرُّف فيها، إلا حسب ما نصّت عليه الإجازة الّتي أعطاها لها في ذلك.
الحقُّ الثالث: عدم إغضابه
قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ويلٌ لامرأة أغضبت زوجها، وطوبى لامرأة رضي عنها زوجها"[6].
وما من شكٍّ أنَّ الإغضاب نوع من أنواع الإيذاء المحرّم الّذي ورد في حديث النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها ولا حسنة من عملها حتّى تعينه وترضيه، وإن صامت الدهر"[7].
الحقُّ الرابع: عدم الخروج من بيته إلّا بإذنه
وعليه، فإن فعلت ذلك من دون مراعاة هذا الشرط وقعت في المحرَّم. وممَّا جاء للتنبيه على هذا الحقّ ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "أيُّما امرأة خرجت من بيتها بغير إذن زوجها، فلا نفقة لها حتّى ترجع"[8].
الحقُّ الخامس: الحداد عليه إنْ مات
فإنّه يجب على الزوجة، إن قضى زوجها، الحداد عليه مدَّة عدّتها.
في الحديث: "لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميْت أكثر من ثلاثة أيّام، إلّا على زوج، أربعة أشهر وعشراً"[9].
وممّا جاء في الرسالة العمليَّة للإمام الخمينيّ قدس سره: "يجب على المرأة، في وفاة زوجها، الحداد ما دامت في العدَّة، والمراد به ترك الزينة في البدن، بمثل التكحيل والتطيُّب والخِضاب وتحمير الوجه والخطّاط ونحوها، وفي اللباس بلبس الأحمر والأصفر، والحليّ ونحوها، وبالجملة ترك كلِّ ما يعدّ زينة تتزيّن به للزوج، وفي الأوقات المناسبة له في العادة، كالأعياد والأعراس ونحوهما، ويختلف ذلك بحسب الأشخاص والأزمان والبلاد، فيلاحَظُ في كلِّ بلد ما هو المعتاد والمتعارف فيه"[10].
فإذا راعت الزوجة جميع الحقوق المتوجِّبة عليها كانت المرأة الصالحة الّتي قال عنها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "خير متاع الدنيا المرأة الصالحة"[11] و"من سعادة المرء الزوجة الصالحة"[12].
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "الامرأة الصالحة خير من ألف رجل غير صالح"[13].
[1] ميزان الحكمة، ح 7863.
[2] م.ن، ح 7864.
[3] مكارم الأخلاق، ص 215.
[4] الإسلام والأسرة، ص 95.
[5] الكافي، ج5، ص 508.
[6] عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج1، ص14.
[7] ميزان الحكمة، ج2، ص 1186.
[8] مكارم الأخلاق، ص 215.
[9] الإسلام والأسرة، ص 98.
[10] تحرير الوسيلة، ج2، ص239.
[11] ميزان الحكمة، ح 7894.
[12] م.ن، ح 7895.
[13] وسائل الشيعة، ج14، ص 123.
هل يجب نصرة المظلوم؟
إنّ من أوجب الواجبات على أبناء الأمة، وخصوصاً أهل العلم منهم سعيهم لرفع الظلم عن المظلومين من البرية، إذ السكوت عن ذلك من المهالك الردية، ولقد كان من دأب خلّص الموالين لأهل بيت النبوة والرسالة عليهم السلام نصرة المظلوم على الظالم حتى في أحلك الظروف ظلمة، ولم يقتصر دفاع علمائهم على المظلومين من المسلمين، بل تعدّاه إلى المناداة برفع الظلم عن أهل الذمّة الذين يعيشون بينهم وفي جوارهم لأنّهم يعتبرون نصرة المظلوم واجباً دينياً وأخلاقياً على كل من شهد الظلم، ويملك القدرة على رفعه أو الحد منه، ويعتبرون ذلك من أفضل الطاعات، وأعظم القربات إلى الله عزّ وجلّ حيث إنّ الله تعالى أقسم بعزّته على نُصرة المظلوم، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في وصيّته: "يا علي أربعة لا يُردّ لهم دعوة إمام عادل، ووالد لولده، والرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب، والمظلوم يقول الله عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين"[1]. انطلاقاً من ذلك وتنفيذاً لأمر الذي ما ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلّم حيث روى حفيده الإمام الصادق جعفر بن محمد عن آبائه الكرام قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بسبع: أمرهم بعيادة المرضى، واتباع الجنائز، وإبرار القسم، وتسميت العاطس[2] ونصر المظلوم، وإفشاء السلام، وإجابة الداعي"[3]، وكان صلى الله عليه وآله وسلّم يشحذ همم المسلمين ويحثّهم على نصرة المظلوم فورد عنه: "ومن أخذ للمظلوم من الظالم كان معي في الجنة مصاحباً"[4].
وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلّم: "ومن مشى مع مظلوم يعينه، ثبّت الله قدميه يوم تزلّ الأقدام"[5]. فمن مقتضيات العدل نصرة المظلوم، وتكون النصرة بتقديم العون له متى احتاج إليه، ودفع الظلم عنه إن كان مظلوماً، وردعه عن الظلم إن كان ظالماً تحقيقًا لقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقيل: يا رسول الله كيف أنصره ظالماً؟ قال: تردّه عن ظلمه، فذلك نصرك إيّاه"[6]. وقال الإمام الصادق عليه السلام: "ما من مؤمن يعين مؤمناً مظلوماً إلا كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام، وما من مؤمن ينصر أخاه، وهو يقدر على نصرته إلا نصره الله في الدنيا والآخرة، وما من مؤمن يخذل أخاه، وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا والآخرة"[7].
وفي قول النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى"[8]، و"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا"[9] بيان لروح الإسلام، وحقيقته، وهي أحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وتحثّهم على التراحم، والتعاضد في غير إثم ولا مكروه، وحيث إن - كلام الإمام إمام الكلام، وقول المرتضى مُرتضى - نستشهد بقول ربيب سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلّم مولانا أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: "أحسن العدل نصرة المظلوم"[10]، وقال عليه السلام: "خض الغمرات إلى الحق حيث كان"[11].
[1] زين المحدثين الشيخ محمد بن الفتال النيسابوري الشهيد، روضة الواعظين، ج 1، ص 325، منشورات الرضي قم.
[2] التسميت: ذكر الله تعالى على الشيء والدعاء للعاطس يقولون للعاطس يرحمك الله فيقال التشمت ويقال التسميت.
[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 72، ص 17.
[4] م.ن، ج 72، ص 359.
[5] العلامة الحلي أبو منصور جمال الدين الحسن بن يوسف، الرسالة السعدية، ج 18، ص 10.
[6] الشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي قدس سره، مسالك الأفهام، ج 14، ص159، تحقيق ونشر مؤسسة المعارف الإسلامية، مطبعة پـاسدار اسلام، ط 1، 1419هـ.
[7] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12، ص 282 ــ 307.
[8] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12، ص 282 ــ 307.
[9] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 58، 150.
[10] الآمدي التميمي عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد، غرر الحكم و درر الكلم، 2977.
ثلاث وصايا من أريج الصلاة
الصلاة عمود الدين
إنّ أسمى هدفٍ يطمح إليه النظام الإسلاميّ هو تربية الناس العظماء ذوي الفضل، وبناء الفرد والمجتمع على صعيدي الجسم والروح، وفي كلا الجانبين الماديّ والمعنويّ، وبسط جناحي تسامي الإنسان وتكامله.
ومن هنا، تكتسب العبادات، وعلى رأسها "الصلاة"، هذا القدر من الأهمّية، وتُسمّى (الصلاة) عمود الدين. فالصلاة حينما تؤدّى بانتباهٍ وبحضورِ قلبٍ لا يقتصر تأثيرها على ما تغرسه في قلب المصلّي وروحه، وإنّما يتّسع مداها ليملأ الأجواء المحيطة به نوراً وشذًى يسري أريجه إلى رحاب البيت والأسرة، وإلى محلّ العمل ومجلس الأصدقاء، وإلى كلّ ربوع مدينته، بل، وكلّ آفاق الحياة.
كلّما ازداد المصلّي ذكراً وخشوعاً، تتبدّد من حوله ظلمات الأنانيّة والأحقاد، والاستبداد، ويضمحلّ الشحّ والبخل، ويرتفع العدوان والحسد، ويسطع نور الفلاح على جبين الحياة.
كلّ الوقائع المريرة في حياة الإنسان تعود جذورها إلى الغفلة عن ذكر الله والانغلاق في حدود المصالح الذاتيّة. والصلاة تطلق الإنسان من أسوار هذه الظلمات، وتحرّره من أغلال الشهوة والغضب، وتسمو به نحو الحقيقة المتعالية والخير الأشمل[1].
الصلاة أعظم الفرائض
إنّ الصلاة في مضمار البحث الدائم (الأبديّ) والذي لا مفرّ منه والمأمور به الإنسان بل المجبول عليه هي أعظم الفرائض وأكثرها تأثيراً، ولعلّ البعض عرّف هذه الخصوصيّة فقط في ميدان السعي الفرديّ نحو الكمال، ولم يسمع بدورها في ميدان الجهاد الجمعيّ والاجتماعيّ في مواجهة القوى الدنيويّة المناهضة. لذا، ينبغي أن نعرف أنّ المروءة والثبات، في المواجهات المختلفة، مرتبطان بكون القلوب والإرادات مليئة بالصفاء والتوكّل والثقة بالنفس والأمل بحسن العاقبة[2].
الصلاة مظهر العبادة الكامل
الحمد لله الذي جعل الأفئدة النيّرة الطاهرة ترنو إلى الصلاة وإلى إشاعتها وإقامتها، وبثّ فيها لهفة المجاهدة والسعي الحثيث في هذا السبيل.
لقد تلخّصت ثمرة مساعيكم الحكيمة خلال هذه السنوات بأن أصبح للصلاة وهي المظهر الكامل للعبادة والمناجاة والدعاء والمحبّة والإيمان بالمحبوب الفطريّ لعالم الوجود إشعاعٌ أكثر إشراقاً، وحضورٌ أكثر جلاءً في ذهن مجتمعنا الإسلاميّ وسلوكه.
والحمد لله، فقد أضحت الصلاة اليوم في الكثير من الأماكن التي يجتمع فيها الناس، ولا سيّما مراكز تجمّع الشباب كالمدارس، والجامعات، والمعسكرات، والمتنزّهات، والمؤسّسات الحكوميّة، والطرق، وغيرها، ظاهرة مشهودة وبارزة تقرّ بها العيون والأفئدة، وتعرض في وسائل الإعلام وفي الكتب والدروس والبرامج الفنيّة والإعلاميّة الكثير من الكتابات والكلمات بشأن الصلاة، ممّا يجعل أذهان الكثير من الناس وقلوبهم تهفو إلى هذا التكليف العذب اللطيف، ويحدوها الشوق إلى إقامتها.
لا ينبغي الشكّ في أنّ هذا هو طريق النجاح والتوفيق في جميع المهامّ الفرديّة والاجتماعيّة، وهو الطريق نحو السعادة والفلاح ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[3].
ما أكثر الأفراد والجماعات الذين بلغوا قمم التسامي والكمال بمعرفتهم لأهميّة ومكانة الذكر والخشوع والإنابة، التي تعدّ الصلاة مظهرها الكامل، وإرفاقها بالعمل والإبداع الدنيويّ؛ وما أكثر السذج وقصيري النظر الذين حرموا أنفسهم من السعادة الكاملة بالغفلة عن هذا السرّ العظيم في الوجود، سواء من خلال الانغماس في العمل الماديّ أو في أوقات الفراغ والكسل، وأينما حلّوا هووا بأنفسهم في مستنقع الحرمان والإخفاق بشكل أو بآخر.
فالناس الذين جعلوا مساعيهم وجهودهم في ميدان الحياة الإنسانيّة مشفوعة بذكر الله، والأنس به، وعشقه، يدركون المعنى الحقيقيّ للسعادة، وتنالها أجسادهم وأرواحهم.
أنتم أيّها الإخوة والأخوات، الذين عقدتم العزم على الاهتمام بأمر الصلاة، إنّما تؤدّون في هذا الطريق أكبر خدمة لشعبكم وبلدكم، ولا شكّ أنّ شعبنا سيجني من خلال معرفته للصلاة والعمل بها فوائدَ كبرى في جميع مجالات حياته.
لقد قدّم لي المسؤولون المحترمون عن إقامة الصلاة تقريراً يبعث على الأمل بشأن تنفيذ الوصايا السابقة بخصوص الصلاة. وإنّني أُقدِّم الشكر لكم ولجميع القطاعات التي أنزلت تلك الوصايا إلى حيّز التنفيذ[4].
[1] رسالة الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) إلى المؤتمر الثامن للصلاة 1419هـ.
[2] رسالة الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) إلى المؤتمر السنوي الثالث للصلاة، المنعقد في مدينة بابلسر 1414هـ.
[3] القرآن الكريم، سورةالمؤمنون: 1و2.
[4] رسالة الإمام الخامنئي إلى المؤتمر السنوي لإقامة الصلاة، المنعقد في مدينة زنجان 1417هـ.
ما هي أُسس المجتمع المهدويّ؟
إنّ إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه) يبني مجتمعه على هذه الأسس:
أوّلًا، على إزالة وقمع وقلع جذور الظلم والطغيان. فلا ينبغي أن يكون في هذا المجتمع، الذي يكون في زمان وليّ العصر (عجل الله تعالى فرجه)، أيّ ظلمٍ وجورٍ، لا أنّ الأمر يكون في إيران على هذه الشاكلة فحسب، ولا حتّى في المجتمعات التي يقطنها المسلمون، بل في العالَم كلّه. فلن يكون أيّ ظلمٍ اقتصاديٍّ أو سياسيٍّ أو ثقافيٍّ أو أيّ نوعٍ آخر في ذلك المجتمع. فيجب اقتلاع الاختلافات الطبقيّة كلّها، وأنواع التمييز وعدم المساواة والتسلّط والهيمنة كلّها. هذه هي الخصوصيّة الأولى.
ثانيًا، إنّ من خصائص المجتمع المثاليّ، الذي يصنعه إمام الزمان (عجل الله تعالى فرجه)، هو الارتقاء بمستوى الفكر البشريّ، سواءٌ أكان على المستوى العلميّ الإنسانيّ أو المعارف الإسلاميّة. ففي زمن وليّ العصر، لن تجدوا، في العالَم كلّه، أيَّ أثرٍ للجهل والأمّيّة والفقر الفكريّ والثقافيّ. هناك، يتمكّن الناس من معرفة الدين معرفةً صحيحةً، وقد كان هذا -كما تعلمون جميعًا- من الأهداف الكبرى للأنبياء، الذي أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام)، في خطبة نهج البلاغة الشريفة، «... ويثيروا لهم دفائن العقول...»([1]). لقد جاء في رواياتنا أنّه عندما يظهر وليّ العصر، فإنّ المرأة تجلس في بيتها وتفتح القرآن وتستخرج منه حقائق الدين وتفهمها. فماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أنّ مستوى الثقافة الإسلاميّة والدينيّة يرتقي إلى درجة أنّ الأفراد جميعًا، وأبناء المجتمع كلّهم، والنساء اللواتي لا يشاركن في ميدان الاجتماع -على سبيل الفرض- ويبقين في بيوتهنّ، فإنّهنّ يتمكّنَّ من أن يصبحن فقيهاتٍ وعارفاتٍ في الدين، فيتمكّنَّ من فتح القرآن وفهم حقائق الدين بأنفسهنّ. انظروا إلى مجتمعٍ يكون فيه الجميع -نساءً ورجالًا- وعلى المستويات كافّةً، قادرين على فهم الدين والاستنباط من الكتاب الإلهيّ، فكم سيكون هذا المجتمع نورانيًّا! ولن يبقى فيه أيُّ نقطة ظلامٍ وظلمانيّةٍ. فهذه الاختلافات كلّها في وجهات النظر والتحليل، لن يبقى لها أيّ أثرٍ في ذلك المجتمع.
ثالثًا، خصوصيّة ثالثة لمجتمع إمام الزمان -المجتمع المهدويّ- هو أنّه في ذلك العصر ستكون القوى الطبيعيّة جميعها والطاقات البشريّة كلّها في حالة انبعاثٍ، فلا يبقى أيّ شيءٍ في باطن الأرض ولا يستفيد منه البشر. فهذه الإمكانات الطبيعيّة المعطّلة كلّها، وهذه الأراضي كلّها التي يمكن أن تُغذّي الإنسان، وهذه الطاقات والقوى كلّها التي لم تُكشَف بعد، كتلك الطاقات التي بقيت عبر قرون التاريخ؛ مثلًا، القدرة النوويّة والطاقة الكهربائيّة كانت -وعبر قرونِ عمرِ هذا العالَم- في باطن الطبيعة ولم يكن البشر يعرفونها، ثمّ بعد ذلك قاموا باستخراجها بالتدريج. فالطاقات والإمكانات اللامتناهية الموجودة كلّها في باطن الطبيعة، هي من هذا القبيل، وسوف تُستَخرَج في عصر إمام الزمان.
جملةٌ أخرى وخصوصيّةٌ أخرى، هي أنّ المحور في عصر إمام الزمان هو محور الفضيلة والأخلاق. فكلّ من كان صاحب فضيلةٍ أخلاقيّةٍ أكثر، سيكون مقدَّمًا وسبّاقًا.
(27/06/1980)
ورد في الرواية: «القائمُ منّا منصورٌ بالرُّعْبِ، مؤيَّدٌ بالنّصر، تُطوَى له الأرضُ، وتظهر له الكنوزُ، يبلغ سلطانُه المشرقَ والمغربَ»([2])، ممّا يعني أنّ الحكومات الظالمة والأجهزة الجائرة كلّها ستكون مرعوبةً منه. في ذلك الزمن، سيكون هناك حالةٌ، في زمان وليّ العصر -أرواحنا فداه- من الشموليّة والعموميّة، بحيث يمكن أن تُحَقَّق الحكومة العالَميّة. «مؤيَّدٌ بالنصر»، فنصر الله يؤيّده. و«تُطوى له الأرض»؛ أي إنّها ستكون بيده وفي قبضة قدرته. وتظهر تلك الكنوز وتبلغ سلطته مشرق العالَم ومغربه.
وبعد جملٍ عدّةٍ يقول: «فلا يبقى خرابٌ إلّا قد عمر»([3])؛ أي إنّ هذه السلطة سوف تُنفَق في عمارة الأرض، لا في السيطرة على ثروات البشر وفي استضعافهم. وفي نقاط العالَم كلّها، لن يبقى أيّ نقطةٍ من الخراب إلّا وستُعمّر، سواءٌ أكانت خراباتٍ حصلت على أيدي البشر، أو بسبب جهلهم. هناك روايةٌ أخرى عن الإمام الباقر (عليه السلام) يقول فيها: «حتّى إذا قام القائمُ، جاءت المزايلةُ، وأتى الرجلُ إلى كيسِ أخيه، فيأخذُ حاجتَه، فلا يمنعُه»([4])، وهي إشارةٌ إلى أخلاق المساواة بين البشر، وإلى الإيثار. وتُبشّر هذه الرواية بنجاة البشر من تسلّط البخل والحرص، الذي كان أكبر سببٍ لشقاء البشريّة. وهذا، في الحقيقة، علامةٌ على ذلك النظام الإسلاميّ السالم أخلاقيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا في ذلك الزمان. فلا يوجد أيّ قهرٍ وإجبارٍ في البَين، بل إنّ البشر أنفسهم ينجون من البخل الإنسانيّ والحرص البشريّ، وستتحقّق مثل هذه الجنّة الإنسانيّة. يوجد في روايةٍ أخرى أيضًا: «إذا قامَ قائمُنا، اضمحلّت القطائعُ، فلا قطائعَ»([5])، فتلك القطائع التي تمنحها الحكومات المستكبرة في العالَم لأتباعها وحلفائها، وذلك الكرم الحاتميّ الذي يحصل من جيوب الشعوب، سوف يتوقّف تمامًا في العالَم. وقد كانت القطائع في الماضي بشكلٍ، وهي اليوم بشكلٍ آخر. كانت في الماضي بحيث إنّ الخليفة أو السلطان يمنح أرضًا أو صحراء أو قريةً أو مدينةً أو حتّى ولايةً لشخصٍ ما، فيقول له: اذهبْ هناك، وافعل ما يحلو لك فيها، خذ من أهلها الجبايات والخراج، واستعمل مزارعها، واستفد منها، وكلّ فائدةٍ مادّيّة هي لك، وكان عليه طبعًا أن يعطي السلطان حظَّه. واليوم، هي بصورة الاحتكارات النفطيّة والتجاريّة والصناعيّة والفنّيّة المختلفة. وهذه الصناعات الكبرى، وهذه الاحتكارات، التي جعلت الشعوب مسكينةً، كلّها -في الواقع- في حكم القطائع التي أُشير إليها، وفيها كانت تُمارَس أنواع الرشاوة والمحاباة كلّها. إنّ هذا البساط الذي يقتل البشر ويقضي على الفضيلة، سوف يُطوَى، وسوف تُوضَع أسباب الاستفادة والنفع بيد الناس جميعًا.
وفي روايةٍ أخرى ناظرةٍ إلى الوضع الاقتصاديّ، يقول: «ويُسوِّي بين النّاسِ، حتّى لا ترى محتاجًا إلى الزكاة» ما يعني أنّه لن يبقى هناك أيّ فقيرٍ يحتاج إلى زكاة أموالكم. وبالطبع، سيكون لهذه الزكاة مصرفها في الأمور العامّة، لا للفقراء؛ لأنّه لن يبقى هناك أيّ فقيرٍ. ومثل هذه الروايات، ترسم الجنّة الإسلاميّة والعالَم الواقعيّ. وليس هذا الأمر مشابهًا لتلك المدن الفاضلة التي صنعها بعضُهم في خيالاتهم وأوهامهم. كلّا، إنّ تلك الشعارات الإسلاميّة كلّها، هي جميعًا قابلةٌ للتطبيق، ونحن في الجمهوريّة الإسلاميّة، نشعر أنّ هناك قدرةً وقلبًا وفكرًا متّصلًا بالوحي والتأييد الإلهيّ، ومعصومًا يُمكنه -يقينًا- أن يُحقّق مثل هذا الوضع، وسوف تُقبِل البشريّة على ذلك حتمًا. هذه هي حالة ذلك العالَم.
(10/04/1987)
([1]) نهج البلاغة، ص43.
([2]) الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، تحقيق وتصحيح علي أكبر غفّاري، نشر الإسلاميّة، طهران، 1395هـ، ط2، ج 1، ص 331.
([3]) المصدر نفسه.
([4]) الحرّ العامليّ، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، تحقيق ونشر مؤسّسة أهل البيت (عليهم السلام)، قم، 1409هـ، ط1، ج 5، ص 121.
([5]) المصدر نفسه، ج 17، ص 222.




























