
emamian
سيرة الإمام الرضا عليه السلام في الحياة والعائلة
لقد جسّد أهل البيت عليهم السلام القيم الإسلامية العليا في سلوكهم وأفعالهم، كالإخلاص والصدق والأمانة والتواضع والكرم والعفو والعدل والإحسان. والاقتداء بهم يعني تجسيد هذه القيم في حياتنا اليومية مما ينعكس إيجابًا على الفرد والمجتمع. وكذلك الاقتداء بأهل البيت عليهم السلام يوجب الاستقامة على الصراط المستقيم. فإنّ أهل البيت عليهم السلام هم الهداة المهديون الذين أرشدوا الناس إلى الصراط المستقيم. فهم المصداق الأبرز للآية الشريفة: ﴿ أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (1).
والاقتداء بهم يعني السير على نهجهم القويم، وتجنب الانحراف والضلال. ولهذا يمكننا أن نفهم أن الاقتداء بأهل البيت العصمة والطهارة عليهم السلام هو السبب لتحقيق السعادة في الدارين. لأنه من خلال الالتزام بأخلاقهم الرفيعة، يمكننا أن نعيش حياة طيبة هانئة، وننال رضا الله تعالى وجنته. والنكتة الجديرة بالذكر هي إنّ أهل البيت عليهم السلام واجهوا في حياتهم العديد من التحديات والمصاعب، وثبتوا على الحق ولم يتزعزعوا. والاقتداء بهم يعني التحلي بالصبر والشجاعة والعزيمة لمواجهة تحديات العصر ومستجداته. وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى مخاطبا نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ (2).
ضرورة إعادة قراءة سيرة الإمام الرضا عليه السلام في العصر الحاضر
إنّ الإمام الرضا عليه السلام هو ثامن أئمة أهل البيت عليهم السلام وقد عاش في فترة عصيبة من تاريخ الأمة الإسلامية، حيث شهدت صراعات سياسية وفكرية واجتماعية. ورغم هذه الظروف الصعبة، استطاع الإمام الرضا عليه السلام أن يقدم نموذجًا فريدًا في القيادة والإمامة، وأن يرسخ القيم الإسلامية في المجتمع. كان الإمام الرضا عليه السلام بحرًا من العلم والمعرفة حيث أعطى الله لأئمة المعصومين عليهم السلام علما فنقرأ في زيارة الجامعة الكبيرة: « مَحالِّ مَعْرِفَةِ الله وَمَساكِنِ بَرَكَةِ الله وَمَعادِنِ حِكْمَةِ الله وَحَفَظَةِ سِرِّ الله وَحَمَلَةِ كِتابِ الله وَأَوْصِياء نَبِيِّ الله » (3)، وقد استطاع من خلال علمه وحكمته أن يرد على الشبهات والأباطيل، وأن ينشر الوعي والثقافة الإسلامية. وفي عصرنا الحاضر، الذي يشهد تطورات علمية وتقنية هائلة، نحتاج إلى الاقتداء بالإمام الرضا عليه السلام في طلب العلم والمعرفة، واستخدامها في خدمة الإسلام والمسلمين.
كان الإمام الرضا عليه السلام يتميز بالحوار والتسامح مع المخالفين، وقد استطاع من خلال الحوار الهادئ والموضوعي أن يقنع الكثيرين بصحة الإسلام. يمكننا أن نفهم هذا من خلال مناظراته مع كبراء المذاهب والأديان الأخرى عندما أصبح عليه السلام وليّ عهد المأمون العباسي. وفي عصرنا الحاضر، الذي يشهد صراعات ونزاعات طائفية ومذهبية، نحتاج إلى الاقتداء بالإمام الرضا عليه السلام في الحوار والتسامح، ونبذ التعصب والتطرف.
كان الإمام الرضا عليه السلام مثالا بارزا لمساعدة الآخرين خصوصا الفقراء والمساكين وكان مصداقا ظاهرا للزهد والورع عن الدنيا وزخارفها. فعندم نراجع رواياته الشريفة يمكننا أن نشاهد هذا بوضوح. فعلينا أن نتعلم من كيفية حياته عليه السلام.
التعادل بين الدنيا والآخرة
إنّ من أبرز ما يميّز سيرة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام هو التوازن العجيب الذي تجسّد في حياته بين الاهتمام بأمور الدنيا والسعي لنيل رضا الله والدار الآخرة. لم يكن عليه السلام من الزاهدين الذين يعتزلون الدنيا وينقطعون عن الناس. لم يكن عليه السلام يرى في الدنيا شراً محضاً، بل كان يعتبرها مزرعة للآخرة وأن الإنسان يجب أن يستغلها في طاعة الله ومرضاته. في المقابل، لم يكن الإمام الرضا عليه السلام من الذين يغرقون في ملذات الدنيا وشهواتها وينسون الآخرة. بل كان عليه السلام يعتبر الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار القرار.
فقد نقل محمد بن عباد: « كان جلوس الرضا على حصير في الصيف وعلى مسح في الشتاء ، ولبسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزيأ. ولقيه سفيان الثوري في ثوب خز فقال : يا ابن رسول الله لو لبست ثوبا أدنى من هذا ، فقال : هات يدك ، فأخذ بيده وأدخل كمه فإذا تحت ذلك مسح ، فقال: يا سفيان الخز للخلق والمسح للحق» (4).
وقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام: « اجتهدوا أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة منه لمناجاته، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان الثقات، والذين يعرفونكم عيوبكم، ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث الساعات. لا تحدثوا أنفسكم بالفقر ولا بطول العمر، فإنه من حدث نفسه بالفقر بخل، ومن حدثها بطول العمر حرص. إجعلوا لأنفسكم حظا من الدنيا، بإعطائها ما تشتهي من الحلال وما لم ينل المروة ولا سرف فيه، واستعينوا بذلك على أمور الدين» (5).
المداراة مع الناس
لم تكن المداراة عند الإمام الرضا عليه السلام مجرد تكتيك أو أسلوب للمسايرة، بل كانت نابعة من إيمانه العميق بقيمة الإنسان واحترامه لحريته في التفكير والتعبير. كان عليه السلام يرى أن المداراة هي الوسيلة الأنجح لكسب القلوب وتغيير النفوس وأن العنف والخشونة لا يزيدان الأمور إلا تعقيداً وتأزماً. فقد روى سهل بن زياد الآدمي عن الإمام الرضا عليه السلام:« لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون فيه ثلاث خصال: سنة من ربه وسنة من نبيه وسنة من وليه. فأما السنة من ربه فكتمان سره، قال الله جلّ جلاله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول)، وأما السنة من نبيه فمداراة الناس، فإن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وآله بمداراة الناس، فقال:(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، وأما السنة من وليه فالصبر في البأساء والضراء، يقول الله عز وجل: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) » (6).
وأيضا روى الإمام الرضا عليه السلام حول التفريج عن المؤمنين: « مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُؤْمِنٍ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْ قَلْبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » (7).
حسن الخلق
إن حسن الخلق من أهم الصفات الإنسانية التي أكد عليها الله سبحانه وتعالى حيث قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ (8). والإمام الرضا عليه السلام كان منبعا راسخا لحسن الخلق. فقد روي عنه عليه السلام: « من خرج في حاجة ـ ومسح وجهه بماء الورد لم يرهق وجهه قتر ـ ولا ذلة ـ ومن شرب من سؤر اخيه المؤمن يريد بذلك التواضع ادخله الله الجنة البتة ، ومن تبسم في وجه اخيه المؤمن كتب الله له حسنة ، ومن كتب الله له حسنة لم يعذبه» (9). وأيضا روي عنه عليه السلام:« أَقْرَبُکُمْ مِنِّي مَجْلِساً يوْمَ الْقِيامَهِ أَحْسَنُکُمْ خُلُقاً وَ خَيرُکُمْ لِأَهْلِهِ » (10).
إن الاطلاع على سيرة الإمام الرضا عليه السلام لا يقتصر على قراءة مقال أو كتاب، بل هو رحلة مستمرة في بحر علومه وأخلاقه. أدعوكم إلى تخصيص وقت منتظم لقراءة الكتب والمقالات والمواقع الإلكترونية التي تتناول حياة الإمام عليه السلام والاستماع إلى المحاضرات والندوات التي تتحدث عن سيرته العطرة.
إن الهدف الأسمى من دراسة سيرة الإمام الرضا عليه السلام هو تطبيقها في حياتنا اليومية وتحويلها إلى سلوك وممارسة. أدعوكم إلى أن تتأملوا في الصفات الحميدة التي كان يتحلى بها الإمام عليه السلام وأن تسعوا جاهدين إلى اكتسابها والتحلي بها.
1) سورة البقرة / الآية: 5.
2) سورة البقرة / الآية: 119.
3) مفاتيح الجنان (للشيخ عباس القمي) / المجلد: 1 / الصفحة: 651 / الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلامية – طهران / الطبعة: 1.
4) مناقب آل أبي طالب (لإبن شهرآشوب) / المجلد: 3 / الصفحة: 470 / الناشر: المطبعة الحيدرية – النجف الأشرف / الطبعة: 1.
5) فقه الرضا عليه السلام (مجموعة من العلماء) / المجلد: 1 / الصفحة: 337 / الناشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث – قم / الطبعة: 1.
6) الأمالي (للشيخ الصدوق) / المجلد: 1 / الصفحة: 408 / الناشر: مؤسسة البعثة – بيروت / الطبعة: 1.
7) الكافي (لمحمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 2 / الصفحة: 200 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
8) سورة آل عمران / الآية: 159.
9) مصادقة الإخوان (للشيخ الصدوق) / المجلد: 1 / الصفحة: 52 / الناشر: مكتبة الإمام صاحب الزمان – النجف الأشرف / الطبعة: 1.
10) صحيفة الإمام الرضا عليه السلام (محمد مهدي نجف) / المجلد: 1 / الصفحة: 67 / الناشر: دار الأضواء – بيروت / الطبعة: 1.
لماذا لا تخرج تركيا قواعدها من العراق؟
قرار حزب العمال الكردستاني بالتخلي عن الكفاح المسلح وحلّ نفسه يعني إنهاء حقبة من تاريخ الصراع العسكري في جبال قنديل، والعنف السياسي الواسع النطاق في تركيا، وهو امتثال لدعوة زعيمه المسجون عبد الله أوجلان بالتخلي عن السلاح وإعلان وقف فوري لإطلاق النار، يؤدي إلى إنهاء النزاع المسلح مع تركيا، المستمر منذ أكثر من 40 عاماً، والذي أودى بحياة عشرات الآلاف. وتفيد بعض التصريحات التركية بأنه سيتم إنشاء ستة مراكز لتسليم الأسلحة في محافظات دهوك وأربيل والسليمانية في حكومة إقليم كردستان العراق، وستكون تحت إشراف الأمم المتحدة.
لكن، يخشى العراق من سعي أنقرة للتوغل أكثر وإقامة قواعد عسكرية ثابتة لها في شمال العراق، بذريعة عدم امتثال مقاتلي حزب العمال الكردستاني لدعوة زعيمه عبد الله أوجلان، والخاصة بتفكيك الحزب وتسليم سلاحه.
الرئيس العراقي وملف الوجود التركي في العراق
في زيارته إلى أنقرة، سعى رئيس الوزراء العراقي السوداني إلى وضع جدول زمني يتضمن انسحاباً قريباً من جانب القوات التركية إلى المسافات المتفق عليها بين الجانبين، خاصة في ظل انتهاء مهمتها بتمشيط منطقة الحزام الآمن في شمالي العراق، وهو ما يعني أن بغداد باتت ترغب في إنهاء مهمة التوغل العسكري التركي في إقليم كردستان واستبداله بنمط جديد من العلاقات الأمنية المشتركة التي تقوم على "ضبط الحدود" بين الجانبين، عبر تفاهمات مشتركة يحافظ من خلالها العراق على سيادته ووحدة أراضيه.
أتت زيارة السوداني قبيل انعقاد اجتماع القمة العربية في بغداد يوم 17 أيار/مايو 2025، فضلاً عن الوضع في منطقة الشرق الأوسط حيث يحتل ملف الوجود العسكري التركي في شمال العراق مقدمة الملفات التي ناقشها رئيس الوزراء العراقى محمد شياع السودانى مع الرئيس التركي إردوغان. كانت أنقرة قد أبرمت "اتفاقاً أمنياً" تعاونياً مع الحكومة العراقية تضمن قيام أنقرة بحملة عسكرية في شمال العراق لملاحقة عناصر حزب العمال في مناطق تمركزهم في منطقة جبال قنديل وقضاء سنجار.
يبدو أن مرونة بغداد منحت التدخل العسكري بعض الشرعية على الأراضي العراقية، إلا أن استمرار الوجود العسكري التركي في شمال العراق والممتد من شمال العراق إلى شمال سوريا، وزيادة عدد القوات التركية بصورة متتالية خلال السنوات الماضية تسبب بانتقادات للسوداني من قبل القوى والأحزاب السياسية في الإطار التنسيقي، وكان الاتفاق بين بغداد وأنقرة قد منحها مسافة لا تزيد على 40 كيلومتراً، تنتهي بنهاية العملية، إلا أن تركيا توغلت لمسافة تزيد على 140 كيلومتراً داخل الأراضي العراقية.
في مطلع أيار/ مايو الجاري، دعا مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي إلى انسحاب حزب «العمال» والقوات التركية من شمال العراق في حال إتمام اتفاق السلام بين الطرفين المتحاربين. وقال في حينها «لا نريد حزب العمال الكردستاني على أراضينا ولا الجيش التركي".
أنقرة والعلاقة مع إقليم كردستان
شارك القادة الكرد العراقيون في مبادرة إلقاء السلاح، وهم يرون أن هذه العملية ستخلق أساساً للحوار بين الكرد في سوريا والعراق. إلقاء حزب العمال الكردستاني أسلحته سيسهل علاقات كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وأنقرة والسليمانية.
إلا أن الانقسامات التاريخية ومناطق النفوذ ستظل حاسمة في السياسة الإقليمية، وقد يشهد الإقليم تحوّلاً أمنياً كبيراً في حال تنفيذ عملية السلام مع الحزب، شريطة أن تقترن بخطوات قانونية وسياسية جدية من أنقرة، ويزيل مبررات بقاء القوات التركية داخل الإقليم، ما يفتح الباب أمام إعادة انتشار قوات حرس الحدود العراقية، واستقرار المناطق الحدودية مع تركيا وإيران.
تطمح تركيا أن يساهم الاستقرار الأمني في تعزيز حركة التجارة، بما في ذلك خط أنابيب النفط الذي يربط الإقليم بتركيا.
نجاح الخطوة الحالية يمهد الطريق أمام الإقليم لتنفيذ خطط وبرامج لإعمار وتنمية القرى التي لم تشهد مشاريع خدمية وتنموية حقيقية منذ أكثر من 30 عاماً.
وكان التوتر والحذر والشك قد طغى بين أنقرة والسليمانية في إقليم كردستان لأسباب سياسية وأمنية واقتصادية معقدة، منها الاتهام التركي للحزب الوطني الكردستاني ولجهات في السليمانية، بقيادة بافل طالباني، بالتعاون أو التساهل مع نشاطات العمال الكردستاني.
وكانت أنقرة قد أغلقت مجالها الجوي أمام رحلات من مطار السليمانية؛ بسبب ما ادّعت أنه تهديد أمني واستخباري بعد تضييق العمل على استخباراتها في الإقليم على عكس علاقتها مع أربيل وحزب الاتحاد الديمقراطي، وتأمل تركيا في تحسن العلاقات مع كل الأحزاب في الإقليم.
لماذا لا تخرج تركيا من العراق؟
يرتبط استمرار الوجود العسكري التركي في شمال العراق، حتى في حال نزع سلاح حزب العمال الكردستاني أو إضعافه بشكل كبير، بمجموعة من العوامل الاستراتيجية والأمنية والسياسية، أولها العمق الاستراتيجي وأمن الحدود، إذ تعدّ تركيا شمال العراق - وخاصةً مناطق مثل جبال قنديل وسنجار - منطقةً حيويةً لأمنها القومي. وحتى مع نزع سلاح حزب العمال الكردستاني، من المرجح أن ترى تركيا استمرار الوجود ضرورياً ومنع عودة ظهور حزب العمال الكردستاني أو غيره من الجماعات الكردية المسلحة.
لذلك، تريد مراقبة طرق التسلل والتهريب عبر الحدود. ويهمها الحفاظ على منطقة عازلة ضد أي زعزعة استقرار محتملة أو نشاط مسلح.
يتمتع شمال العراق، وخاصةً إقليم كردستان، بأهمية جيوسياسية تسعى تركيا إلى تعزيز نفوذها على حكومة إقليم كردستان، وموازنة الوجود الإيراني والأميركي في العراق، والحفاظ على نفوذها في المناطق الكردية في سوريا والعراق، حيث تُعدّ حركات الحكم الذاتي الكردية ذات آثار أوسع نطاقاً.
بنت تركيا شبكة من القواعد والمواقع العسكرية في كردستان العراق على مدى العقد الماضي. ويمكن اعتبار تفكيك أو سحب هذه المنشآت بمنزلة خسارة للتفوق العسكري، وإشارة ضعف أمام المنافسين أو الفصائل الكردية.
تلعب الاعتبارات السياسية الداخلية دوراً، إذ تستخدم الحكومة التركية العمليات والوجود العسكري في العراق كجزء من خطابها السياسي القومي. وقد يكون الانسحاب مكلفاً سياسياً إذا تم تصويره على أنه تنازل للمسلحين الكرد. إضافة إلى عدم يقينها بشأن نزع سلاح حزب العمال الكردستاني، لا تثق تركيا تماماً بالعملية أو استمرارها.
لا يرتبط الوجود التركي بحزب العمال الكردستاني فحسب، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تشمل الأمن والنفوذ والموقع الإقليمي الطويل الأمد.
وكان حزب العمال الكردستاني قد أعلن حلّ نفسه، ونشرت قيادات الحزب قرارات اجتماعات قيادتها، والتي تمت في الفترة من 5 وحتى 7 أيار/مايو الجاري، وبما أن مجمل القراءات تذهب إلى أن حسم وإغلاق ملف حزب "العمال"، إذا كان ممكناً، فهو يتطلب وقتاً طويلاً وخطوات متعددة، وهذا يعني أنه في المدى المنظور، ستبقي تركيا على وجودها العسكري في العراق كما هو.
بيد أن المطلوب من الحكومة العراقية العمل والتهيئة للمرحلة أو المراحل المقبلة، وترتيب الأوراق بنسق آخر، لوضع مطلب أو خيار إنهاء الوجود التركي في مقدمة المطالب والخيارات، وربطه بالملفات الاقتصادية والتجارية والأمنية بين بغداد وأنقرة، كمشروع طريق التنمية، والاستثمارات الواسعة لعشرات الشركات التركية في السوق العراقية في مختلف القطاعات، وتنسيق المواقف في بيئة إقليمية مضطربة دوماً، تتداخل وتتشابك فيها المصالح والحسابات والتوجهات.
القمة العربية في بغداد تصدر بيانها الختامي.. والعراق يطلق صندوق التضامن العربي لإعمار غزة ولبنان
شهدت العاصمة العراقية، بغداد، الدورة الرابعة والثلاثين للقمة العربية والتي ضمّت قادة ورؤساء ووزراء خارجية بلدان عربية في ظل الأزمات والمتغيرات الكبيرة العربية والإقليمية.
وأعلن رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، إطلاق مبادرة صندوق التضامن العربي لإعمار غزة ولبنان بإشراف الجامعة العربية، مشيراً إلى أنّه "سنكون أول المشاركين فيه".
وقال السوداني إنّ حكومة بلده "أطلقت حزمة إصلاحات مالية ومشاريع تنموية ودعمت قطاعات الصحة والتعليم"، معلناً "إطلاق مبادرة عهد الإصلاح الاقتصادي العربي للعقد القادم".
وأكّد البيان الختامي الصادر عن القمة العربية ضرورة توحيد الجهود العربية في مواجهة التحديات التي تمرّ بها المنطقة، والتزام الدول الأعضاء بتحقيق مصالح الشعوب العربية والدفاع عن قضاياها المحقة.
وجاء في البيان الختامي مطالبة بوقف فوري للعدوان الإسرائيلي على غزة وتأكيد القمة على مركزية القضية الفلسطينية كونها "قضية الأمة وعصب الاستقرار في المنطقة"، مشددة على الرفض القاطع لأي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني، داعية إلى توفير ممرات إنسانية آمنة لإدخال المساعدات إلى قطاع غزة.
وطالب البيان، المجتمع الدولي بتحمّل مسؤولياته والضغط لوقف إراقة الدماء ووقف آلة الحرب الإسرائيلية.
هل أدي نبي الله إبراهيم ومن بعده من أنبياء الله الحج بالصورة التي عليها مناسك الحج عندما جاء الإسلام ، أم أن هناك إضافات في الجوهر أو التفصيل؟
ان الروايات و الآيات التي تبحث في موضوع الحج تشير الي ان عملية الحج وان الكعبة المشرفة كانت قبل ابراهيم(ع).
قال تعالي (وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّميعُ الْعَليم* رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحيمُ ).[1]
كما انه قد وردت رواية[2] تشير الي قدم عملية الحج .
من هذه الروايات و الآيات يمكن الاستفادة ان الحج كان قبل ابراهيم(ع).
و لكن هل ان الحج السابق يطابق حجّنا الفعلي بكل تفاصيله و جزئياته و انه لا يختلف معه قيد شعرة، فهذا أمر من الصعب اثباته. فعلي سبيل المثال لا يمكن اثبات ان جميع تروك الاحرام التي تجب علينا الآن هي نفسها كانت في السابق.
نعم يمكن ان نقول: ان اصل الاحرام والطواف وصلاة الطواف وقد يكون السعي بين الصفا و المروة كذلك و الوقوف بعرفات و المشعر و مني و الذبح من الامور المشتركة بين جميع الاديان.
فعلي سبيل المثال ننقل بعض الروايات في هذا المجال:
عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال:« أحرم موسي من رملة مصر، قال: و مرّ بصفائح الروحاء محرما يقود ناقة بخطام من ليف عليه عباءتان قطوانيتان..».[3]
وحول الطواف جاءت في نفس الكتاب الباب الاول من ابواب الطواف احاديث كثيرة منها الحديث 3 و 6 و 11 و 12 و...
و بخصوص السعي جاء الحديث التالي: عن علي بن جعفر عن أخيه الامام موسي بن جعفر عليه السلام، قال: سألته عن السعي بين الصفا و المروة؟ فقال: " جعل لسعي ابراهيم عليه السلام"[4].[1] سورة البقرة الآية 127 و 128. [2] في الوسائل، ج 8، ص 7، الحديث 12. [3]الوسائل: 9/3 الحديث 3 الباب 1 من ابواب الاحرام. [4] وسائلالشيعة:13 /471.
الحج و أبعاده السياسیة والإجتماعیة (ديبلماسية الحج و وحدة الأمّة الإسلامية)
قال الله تعالى: (وَأَذّن فِي النّاسِ بِالحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىَ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ ٭ لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ فِى أَيّامٍ مّعْلُومَاتٍ).[1]
لاشكّ أنَّ الحجّ هو ركن من أركان الدين، ومن أعظم شعائره، وأحد أكبر الفرائض الخمس التي بني الإسلام عليها،[2] ومن أفضل الأعمال التي يراد بها التقرّب إلى الله تعالى،[3] وتركه ارتكاب لكبيرة من الكبائر، مما يتسبب في خروج المرء عن جادّة الإسلام والمسلمين.[4]
إنَّ أوَّل ما نلتقي به من نصوص الحج هو النِّداء الأوّل الذي وجَّهه الله للنبي إبراهيم7 في دعوة الناس إلى الحج.. وذلك في قوله تعالى: (وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحجّ ... لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ ...)،[5] فإننا نجد في هذا النِّداء دعوة إلی أداء فريضة الحج مقروناً ببيان حکمته، حيث ذکر المنافع من دون تحديد لطبيعتها وحجمها، للإيحاء بالانطلاق في هذا الاتجاه للبحث عن كلّ المجالات النافعة من الجوانب الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية، والتي يمكن لهم أن يحققوها من خلال الحج في حياتهم الفردية والاجتماعية إلى جانب الروح العبادية المتمثلة بذكر الله في أيام معدودات، و يأتي هذا المقال الموجز تبياناً لما يتعلق بهذه العبادة وسنرکِّز في البحث علی الجانب السياسي والإجتماعي، خاصَّة فيما يتعلق بالوحدة الإسلامية لأهمِّيتها في واقعنا المعاصر شعوباً ودولاً:
البُعد السياسي للحج:
لتوضيح البُعد السياسي للحجّ، والأهداف المنشودة منه نعتمد علی كلام الله المجيد، حيث يعرّف الكعبة بصراحة وبوضوح على أنها العامل والدافع لقيام الناس ونهضتهم في قوله تعالی:(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحـرَامَ قِيَاماً لّلنّاسِ)،[6] وهذا القيام يتضمن معاني ومفاهيم سياسية کثيرة منها الاستقلال والاعتماد والاتّكال على النفس، والمشاركة الفعّالة في النشاطات الإجتماعية، وغيرها من المعاني والأعمال التي ينبغي أن نقوم بها لله فرادی وجماعة کما قال تعالی: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا .... ).[7] وأمَّا ماجاء من الروايات فإنَّ هناك الکثير مما يبيّن بوضوح البُعد السياسي للحج، فإنّ حديث «الحجّ جهاد الضعفاء» والمنقول بطرق مختلفة،[8] والتناسب الماهوي بين الاشتراك في غزوة مع الرسول9 وحجّ بيت الله في الحديث التالي: «الغازي في سبيل الله والحاجّ والمعتمر وفد الله دعاهم»،[9] يعلّمنا أنّ هناك علاقة وثيقة بين البُعد السياسي ، والجانب الجهادي والعسكري للحجّ وأنّ المجاهدين في سبيل الله وحجّاج بيت الله صفوة منتخبة من قبل الله تعالی في خندق واحد ضد العدو. ونرى تعبيراً أبسط آخر في بعض الروايات: «الحجّ جهاد»،[10] وفي حديث عن رسول الله9: «نعم الجهاد الحج»،[11] وعلى هذا فإنّ الحج ليس فقط من مصاديق الجهاد فحسب، بل هو أبهى صور الجهاد في سبيل الله، وإنَّ المراسيم العظيمة في الحجّ إنما هي صورة من صور الجهاد في سبيل الله، وقد ورد حديث عن الرسول الأكرم9 يزيل كل شكّ وشبهة في هذا المجال: «النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله».[12] إنَّ التساوي بين الحج والجهاد في الإسلام هو بيانٌ لمجموع الإسلام، ويبيّن الحقيقة القائلة: إنّ هاتين الفريضتين كانتا وما تزالان تمتلكان أهدافاً مشتركة، وفي الوقت نفسه فلكلّ منهما خصوصية ماهوية خاصّة بهما، ويعدّ كلّ منهما عبادةً وعملاً سياسياً لتقوية وتحقيق الأهداف السياسية للإسلام على حدّ سواء.
ومن كتاب (الحجّ مؤتمر عبادي سياسي)؛ ننقل النص التالي من خطاب للإمام الخميني= في22/شوال/1405هـ: «لقد عزمنا منذ البداية على أن نؤدّي الحجّ كما كان في عهد رسول الله9، كيف أنّ الرسول الأكرم9 حطم الأصنام في الكعبة؛ نحن أيضاً نريد أن نحطمَّ الأصنام، وأنّ هذه الأصنام الموجودة في عصرنا، هي أعظم وأسوأ من أصنام ذلك العهد».
ويقول الإمام الخميني= أيضاً:«في هذا الاجتماع المقدس للحجّ؛ يجب أولاً: بحث المسائل الأساسية في الإسلام، وثانياً: تبادل وجهات النظر في المسائل الخاصة للدول الإسلامية، انظروا ماذا يجري على الإخوة المسلمين في داخل دولهم من الاستعمار وعملائه وأتباعه، يجب أن يقدموا تقريراً لمسلمي العالم في هذا الاجتماع المقدس يشرحون فيه ما تعانيه شعوبهم من مصاعب ومتاعب».[13]
إنَّ هناك أبعاداً كثيرةً في الحجّ لازال لم تتحقق ومنها البُعد السياسي. ولو تحقق جزءٌ مما يعد به الحج في توحيد الأمة كما هو المفترض لتحقَّق للمسلمين كثيرٌ من المنجزات على كافة الصعد السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. فالبُعد السياسي للحج من أكثر الأبعاد المهجورة المغفولة، وقد عمل الجناة وما زالوا يعملون على هجرانه، يساعدهم في ذلك علماء البلاط و وعاظ السلاطين. وهذا لا يشكل بحد ذاته حجة للمسلمين أن يتقاعسوا عن الإيفاء بمتطلبات الحج، فعلى الأقل هناك قضايا مشتركة مهمة يعاني منه جميع المسلمين، يمكن أن تطرح من خلال تجمعات الحج، ويكمن أن يجدوا لها حلولاً من خلال التشاور، وينقلون تلك الحلول إلى بلدانهم.
الحج و وحدة المسلمين:
إنّ الوحدة هي الكفيلة تحفظ كيان الامّة وتماسكها، وترسيخ وجودها، وتثبيت أقدامها.. وبأنّ التوحّد والترابط، والتآلف والتماسك، هي مصدر القوّة والغلبة، ومنبع القدرة والمنعة.. وأنّ القوّة أمر ضروري لحفظ الشرائع والمبادئ.. والوحدة مصدر قوّة، وفي الحج نجد هذه القوة حيث أنّ الحجّ ليس مجرّد فريضة تهذّب النفس وتعصم السلوك بل هو أيضاً عنوان للأُخوّة الإسلامية العامة عبر التاريخ حول مسألتي العبودية لله، واجتناب الطاغوت، وذلك بشتّی الأساليب التي تتناسق فيما بينها لتؤكد هذا المضمون الوحدوي العظيم في الحجّ، وهو خطّ جميع الأنبياء.
وقد تابعت الثورة الإسلامية هذا الخط وأکَّدت على لزوم إعادة الدور الحقيقي للشعائر الإسلامية، كصلاة الجمعة، والحج، باعتبارهما من أكبر المجالات المحققة للإحساس بضرورة الوحدة في هذه الأمة .
إنّ الحج فريضة إلهية لها أبعاد توحيدية كبيرة، وهي مؤتمر كبير يجمع المسلمين من كلّ الأقطار، متحدة نحو قبلة واحدة، في طاعة إله واحد مستنين بسنة الرسول الأكرم9. لقد تحول الحج عبر العصور المتلاحقة ومن خلال سعي الأعداء إلى فريضة عادية لا تحمل في عمقها الأبعاد السياسية التي أرادها الله تعالى ليستفيد منها المسلمون، وقد نجح العدوّ لسنين طويلة في أن ينسي الناس هذه الأبعاد العظيمة لهذه الواقعة المهمة والاستثنائية من عبادات المسلمين السياسية، ولقدأدرك الإمام الخميني= خطر هذه المسألة فحاول أن يعيد إلى الحج بُعده السياسي لاسيما بإعلانه أنّ البراءة من قوى الشرك والكفر العالمية ركن من أركان الحج ولابدّ أن تؤدّى ليكون الحجّ حجّاً حقيقياً، إستناداً إلی قوله تعالی: (وَأَذَانٌ مّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحـَجّ الأكْبَرِ أَنّ اللهَ بَرِيَءٌ مّنَ الْمـُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ).[14]
وكان الإمام الخميني= يعتقد بأن البَراءَة في الآية المذكورة أعلاها لا تختصّ بمشركي الجزيرة بل إنَّها تشمل البراءة من مشركي العالم كلّه، الموجودين في عصر الرسالة ومن بعدهم إلى يوم القيامة، ولذا أمر أن تقام مراسم البراءَةَ في کلّ عام من موسم الحج، وکان من خلال بياناته السنوية التي كان يوجّهها إلى الحجاج في موسم الحجّ یؤکّد على وجوب اهتمام المسلمين بالأمور السياسية للعالم الإسلامي، واعتبار إعلان البراءة من المشركين ركناً من أركان الحج.
وبالتدريج اتخذ مؤتمر الحج العظيم شكله الحقيقي وصارت سيرة البراءة تقام سنوياً بمشاركة عشـرات الآلاف من الحجاج الإيرانيين والمسلمين الثوريين من البلدان الأخرى، يردّدون خلالها شعارات تطالب بإعلان البراءة من الإستکبار العالمي خصوصاً امريکا وإسرائيل باعتبارهما من أهم مصاديق البارزة للشرك والكفر العالمي، وتدعو المسلمين إلى الاتحاد، واستمر سماحة الإمام الخامنئي+ علی هذا النهج في ندائه لحجاج بيت الله الحرام في موسم الحج من کلّ عام لإحياء الحج الإبراهيمي.
البُعد الاجتماعي للحج:
إنَّ أهم ما تفتقده المجتمعات الإسلامية الرفق، الأمان والتوحد في العقيدة الضامنة لسعادة الدارين الدنيا والآخرة، ومن مهام الحج؛ تحقيق الأمان في العلاقات الاجتماعية، وتوفير فرصة نموذجية للرفق بين الناس، وتوحيد صفوفهم وتوثيق عرى الوحدة بينهم وفي هذا المعنی يقول الإمام الخميني= «يجب أن نعلم أنّ إحدى الحکم الاجتماعية لهذا التجمع العظيم من جميع أنحاء العالم؛ توثيق عرى الوحدة بين أتباع نبي الإسلام، والقران الكريم في مقابل طواغيت العالم».[15]
ويتحقق البُعد الاجتماعي في الحجّ من خلال ما يلي:
- التحرّر من الأنا والتخلص من سلطان الشهوات:من خلال السلوك الجمعي في المسيرة الإيمانية إلى الله تعالى ابتداءً من الميقات، فلا ميزة لأحد على أحد، بلون أو ملبس أو منصب أو أي من ميزات اعتادوها الناس في حياتهم، فإنّ أكثر ما يثير المتاعب بين الناس، هو التصادم الذي يحدث بين الذوات والأنانيات، وعندما تذوب الذات وتنصهر، يخلص الإنسان من طغيان الأنا ولقاءاته السلبية مع الآخرين. وتفرض مناسك الحج أحكاماً تخلص الإنسان من سلطان الهوى والشهوات، وهي مسألة في غاية الأهمية، إضافة إلی منسك رجم الشيطان، باعتباره رمز الشهوات.
- الانصهار في الجماعة: فبعد أن انسلخ الإنسان عن ذاته، وجد نفسه فجأة في وسط حشد بشـري كبير، لا يمتاز بعضهم عن بعض، ولا يكاد يفرّق بينهم شيء، بنداء واحد، وتوجه واحد، وإلى الطواف حول مركز واحد، ثم تتوجه هذه الجموع الموحَّدة من الحجاج لرجم الشياطين؛ ويقول الإمام الخمينى=في ذلك: «يجب طرد الشياطين الكبری والصغری والوسطی عن حرم الإسلام المقدس ويجب قطع أيادي الشياطين عن الكعبة،... ».[16]
دور الحج في التطوّر الثقافي:
عندما يکون بيت الله الحرام علَمَاً ورايةً للإسلام کما عبَّر عنه علي بن أبي طالب7 إذ يقول: «جعله الله سبحانه وتعالی للإسلام علماً».[17] وعند مايکون ترك الحجّ كفراً لا محالة، حيث يقول الرسول الأكرم9 مخاطباً علياً 7: «يا علي تارك الحجّ وهو مستطيع كافر».[18] ويستدل بالقرآن لتأكيد ذلك: (وَللهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنّ الله غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ).[19] ولا يكتفي بذلك بل يوضّح أكثر حيث يقول: «يا على من سوّف الحجّ حتّى يموت بعثة الله يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً»،[20] فهنا يتّضح دور الحج في تغذية الإيمان والارتقاء الثقافي والعلمي للمسلمين أكثر من أي مكان آخر، وكأن بالحجّ وهو يمثّل دورة تعليميّة في الدين، حيث لا يصل المسلمون إلی حقيقة الإيمان إلّا بدخول تلك الدورة على الأقل مرة واحدة في حياتهم.[21]
ويوصي الإمام علي بن الحسين7 ـ وهو أحد المسارعين إلى حجّ بيت الله الحرام ـ أصحابه قائلاً: «حجّوا واعتمروا... يصلح إيمانكم». [22]
وحين يسأل هشام بن عبدالملك الإمام الصادق7 عن حکمة الحج، يجيب الإمامA عند ذكره لحكمة الحجّ قائلاً: «فجعل الاجتماع من الشـرق والغرب ليتعارفوا... ولتعرف آثار رسول الله9، وتعرف أخباره ويذكر ولا ينسى، ولو كان قوم يتكلّون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح وعميت الأخبار ولم تقفوا على ذلك فذلك علّة الحجّ».[23]
إنَّ الحجّ بحقّ رجوع إلى التوحيد وتاريخ حماة هذه الفريضة، آدم وإبراهيم وإسماعيل وصولاً إلی الإسلام ونبيّه9، وصدام متواصل بين الإيمان من جهة والكفر والنفاق من جهة أخرى، وببقاء الكعبة شامخة سيظلّ هذا التأريخ متجسداً وعاكساً للتوحيد وعلماً ومعلماً نشأت عنه حقائق الدين؛ فيخلد بذلك التوحيد وثقافته ويحيا حياةً أبدية.
إنّ الحجّ تعليم عمليّ لثقافة المساواة والأخوّة والتعاون نحو الخير ومصلحة المسلمین، وهو فرصة ذهبية للتبليغ ونشر الثقافة الإسلامية الغنية في طبقاتٍ واسعةٍ من المسلمين حيث يبثّ عامل القوة في المجتمعات الإسلامية والذي له دور فاعل وأساسيّ.
ولا ريب في أنّ المقدمات الأولية للذهاب إلی الحجّ تتمثل بتعلّم الكثير من المسائل الإسلامية والتفقّه الابتدائي، وهي أرضية مناسبة تتيح لعلماء الإسلام إرشاد جموع غفيرة من المسلمين، ونشـر الثقافة الإسلامية وإشاعة التفقّه في الدين. وبالتأكيد فإنّ روحانية الحج هي نفسها عامل مهم يهیئ القلوب لتعلّم الحقائق والمعارف الدينيّة للإسلام.
يقول الإمام علي بن موسى الرضا7 مخاطباً الفضل بن شاذان:[24] «إنما أمروا بالحج لعلّة الوفادة إلی الله..... مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمةG إلی كلِّ صقعٍ وناحيةٍ كما قال الله عزوجل: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ)».[25]
ولا تقتصر نعمة وبركة نشر المعارف والثقافة الإسلامية في مراسم الحج على المسلمين القادمين من أقصى البقاع أو أقربها، ذلك أن كلاً من هؤلاء المسلمين سينقل معه تلك الثقافة وما تعلمه إلى بلده ويعمل على نشرها هناك وبثّها في أواسط المسلمين كافّة، وعلى هذا يتخذ دور الحج أبعاداً أوسع وخصوصاً بتكرار عملية الحجّ كلّ عام، ويجعل من الدين أقوى آصرة تلم المسلمين وتضمن خلود الإسلام.
وقد وردت هذه الحقيقة في حديث قصير وبليغ للإمام علي7 حيث يقول: «فرض الله... والحجّ توقية للدين».[26] والإمام الصادق7 يصرِّح بهذه الحقيقة إذ يقول: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة».[27]
إنَّ النمو الثقافي هو الهدف الذي ينشده الإسلام في مناسك الحجّ البهيّة، ويقوّي هذه الأرضية ويعزّز الحقيقة القائلة: إنَّ جميع البشر على الرغم من الاختلاف في اللون والبشرة والعنصـر واللغة والميزات الإقليمية والتأريخية والطبقية وغيرها يتمتّعون بفطرة واحدة، وإنّ هذه الفطرة متساوية عند كلّ البشر، والتي تمنح الثقافة الإنسانية وترسمها بصورة عامّة وشمولية تامّة لماهية الإنسان.
وأثناء المسيرة التي تقطعها مناسك الحج تتحرّر الثقافات الجامدة، وتخرج عن نطاق العادات والسنن القومية والإقليمية ودائرة الهوية الوطنية، وتنتمي إلى الهوية الإسلامية الجامعة.
ويدرك الإنسان في الحجّ أصالة البنية التحتية للثقافة الإنسانية، التي هي نفسها الثقافة التوحيدية الإبراهيمية الخالصة دون أن يفقد الإنسان أياً من القيم الثقافية والعادات والتقاليد الخاصّة به، فيما يتعلّق بالمسائل والأشكال التي تؤلف حياته الطبيعية، مهما كانت جنسيته وقوميته.
والحقّ أنَّ الحج دورة تعليمية تتيح انتقال الثقافات، والتعرّف على الثقافة الإنسانية الفطرية للحصول على هوية ثقافية إسلامية مشتركة، فتتمسك الملايين بتلك الشجرة الطيبة الثابتة، وتأکل من ثمارها اليانعة إذ يقول تعالی:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ٭ تتُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). [28]
وختاماً لهذا المقال و في نهاية بحثنا الموجز نأتي باقتراح نرجو أن ينال رضا الحاضرين في المؤتمر:
أولاً- ينبغي أن تقام مناسك الحج بطريقة يتمّ بواسطتها تواصل الشعوب الإسلامية، وبث الروابط فيما بين الثقافات والتراث والهويّات الوطنية على أساسٍ من التفاهم المنطقي وتتهيأ الأرضية المناسبة للتعاون والمشاركة الثقافية؛ والسياسية لتقوية وتعزيز التعرّف على الثقافة والهوية الإسلامية، على أساس المعايير والموازين الأصلية والمصالح المشتركة، فيزول بذلك كلّ جهل وتعصب، ويتحرّر عموم المسلمين من القيود التي فرضها الاستعمار الغربي باسم الثقافة الوطنية، بدل إحياء الثقافة الإسلامية الأصلية المشتركة بين المسلمين.
ثانياً- ينبغي أن تبدأ مراسم الحج باستئصال جذور الثقافة الاستعمارية، والارتباط الثقافي للشعوب الإسلامية بالغرب والشرق وكلّ المصادر التي تمّت بصلة إلى الاستعمار والاستثمار، حيث إنّ الحج رجوع وعود عقلاني إلى الإسلام الأصيل، وتعليم لإصلاح الإيمان ومعرفة لآثار وتراث الإسلام و رسوله9 وتذكرة للتفكير التوحيدي الفطري. لذا یجب على الحاجّ تجريد فكره وروحه وعقله ونفسه عن الثقافات غيرالتوحيدية، والارتباطات الثقافية التي تبعده عن الله ورسوله9 والتي تجذبه نحو خدمة المصالح الغربية والشرقية.
وکلّ ما يمکن أن نقوم به معاً هولأجل أن تتحقق الأمَّة الواحدة التي أرادها الله أن تکون خير الأمم، أخرجت للناس في قوله تعالی: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمـَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ).[29]
[1]. سورة الحج: 27- 28.
[2]. قال الباقر7: بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية... . وسائل الشيعة1: 7و8، أصول الكافي1: 315.
[3]. جواهر الكلام17: 214.
[4]. تحرير الوسيلة1: 370، وسائل الشيعة8: 19و21.
[5]. سورة الحج: 27،28.
[6]. سورة المائدة: 97.
[7]. سورة سبأ: 46.
[8]. من لا يحضره الفقيه2: 359، علل الشرايع: 57.
[9]. سنن ابن ماجة، المناسك5، سنن النسائي، الحج: 4.
[10]. سنن ابن ماجة، المناسك: 44.
[11]. صحيح البخاري، كتاب الجهاد: 62.
[12]. مسند أحمد بن حنبل5: 200.
[13]. أبعاد الحج في كلام الإمام الخميني=: 42 (نشر جمعية المعارف الإسلامية، ط1، بيروت-1422هـ).
[14]. سورة التوبة:3 .
[15].أبعاد الحج في كلام الإمام الخميني=:27 (نشر جمعية المعارف الإسلامية، ط1، بيروت-1422هـ).
[16]. أبعاد الحج في كلام الإمام الخميني=: 29 .
[17]. نهج البلاغة، الخطبة1.
[18]. من لا يحضره الفقيه2: 335، الخصال 2: 61.
[19]. سورة آل عمران: 97.
[20]. بحار الأنوار74: 59، وسائل الشيعة8: 21.
[21]. المحجّة البيضاء2: 145.
[22]. وسائل الشيعة8: 21.
[23]. علل الشرائع: 405، الحديث6.
[24]. عيون أخبار الرضا: 236.
[25]. سورة التوبة: 123.
[26]. نهج البلاغة، المواعظ والحكم، رقم 244.
[27]. الكافي4: 271، الحديث4.
[28]. سورة إبراهيم: 24- 25.
[29]. سورة آل عمران: 110.
دور الحج في تحقق الصحوةالاسلامية كما يراه الامام الخميني
ان الصحوةالاسلامية التي تخيم اليوم علي معظم البلدان الاسلامية، في اطار تحرك شعبي مدروس، داعية المسلمين في كل مكان للمطالبة بسيادة الاسلام، ما هيإلاّ انعكاساً للنهضة الفكرية التي أوجدتها الثورة الاسلامية فيايران علي صعيد العالمين العربي والاسلامي علي حد سواء. وان الصحوة الاسلامية التي انطلقت بالتزامن مع عصر الاستعمار و الهجوم الغربي الشامل علي العالم الاسلامي، و اقترنت بافكار اشخاص امثال السيد جمال الدين الاسد آبادي(الافغاني)، كانت تقتصر علي حلقات محدودة، ولهذا لم تتمكن من العمل بمثابة ظاهرة مهيمنة مطلقاً. غير أن انتصار الثورة الاسلامية فيايران بقيادة الامام الخميني (قدس سره)، شكّل منعطفاً في تاريخ الصحوة الاسلامية، حيث استطاعت أن تضخ دماء جديدة في جسد الحركات الاسلامية والنهضات الشعبية.
إذ أن الامام الخميني كان يتطلع الي الاهداف العالمية والدولية للثورة الاسلامية غداة انتصارها، وحاول تسخير كل الطاقات والامكانات لتجسيد الحضارة الاسلامية في مواجهة الحضارة الغربية الاستكبارية.وفي هذه الاثناء طرح الامام تعريفاً جديداً (للحج)، وعمل علي احياء الحج الابراهيميفي اجواء خلاقة للفكر الديني. إذ حرص سماحته من خلال نداءاته و خطاباته بمناسبة الحج - التي كانت الصحوة الاسلامية تشكل السمة البارزة لها - علي تغيير الانطباع العام وتصور العالم الاسلامي حول الحج، ومن خلال تقديم تفسير سياسي و اجتماعي للحج، حاول سماحته تسخير الطاقات الفريدة الكامن في هذه الفريضة الالهية لتصب لصالح الصحوة الاسلامية. و لعلّ من أبرز سمات رؤية الامام الخميني لموضوع الحج، شموليتها وعدم اقتصارها علي الابعاد الفقهية والمناسكية والفردية والاخلاقية.
الاطار الفكري والأسس النظرية
للتعرف علي الدوافع التيدعت الامام الخميني للتأكيد علي فهم جديد لأبعاد الدين و دوره السياسي و الاجتماعي، وأن يعتبر سماحته بصفته محي الحج الابراهيمي، يستحسن الوقوف قليلاً عند الموضوعات التي مهدت الي ذلك. وعليه فان هذا المقال يرتكز الي عدد من الأسس النظرية التيتحاول تبرير تلك التوجهات:
اولاً- احياء الامام الخميني للفكر الديني
خلال مسيرته في احياء الفكر الدينيحرص الامام الخميني علي تهذيب وتنقية الاصول التي كانت قد امتزجت بمرور الوقت بالخرافات والاساطير والتصورات الواهية و غير الحقيقية. إذ حرص الامام الخميني من خلال تسليط الضوء علي الابعاد الحقيقية للاسلام، أن يلفت انظار المسلمين الي أن الاسلام وفضلاً عن ابعاده التعبدية، يشكل مصدراً قوياًللاستلهام والتحرك في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وعلي الرغم من تأكيد الامام الخميني، في محاولة التصدي لتوجهات التنمية الغربية التيتتمحور حول الاستيراد وتغيير المناخ المحلي، علي الارضية اللازمة لبلورة الانطباع العام ازاء اهمية فكرة التجديد، إلا أن سماحته كان ينظر الي انجازات التكنولوجيا الغربية بمعزل عن الجانب الايديولوجي، و يلفت الانظار الي اهمية التخلي عن الأسس المادية التي تعتمدها، و الاستعانة بها بمثابة وسيلة لبلورة آفاق الحضارة الاسلامية المنشودة.
فمن وجهة نظر الامام الخميني أن السياسة ليست بمعزل عن الدين، بل أن (الاسلام كلّه سياسة)، وأن محاولة فصل الدين عن السياسية من جملة المخططات الاستعمارية. و يؤمن الامام أن ثمة تعامل متبادل بين الدين والسياسة (تأثير وتأثر).
وفي ضوء الرؤيةالخمينية، أن الحج ونظراً لما يتسم به من ابعاد اخلاقية وسياسية واجتماعية واقتصادية، يحظي بمكانة خاصة علي المستوي الشخصي والوطني والدولي، ولهذا يمكن اعتبار سماحته بأنه المحي للحج الابراهيمي.
ثانياً- الامام الخميني والنظام الدولي
علي الرغم من أن الامام الخميني بدأ نضاله ضد النظام الشاهنشاهي من منطلق المرجعية الدينيةو فيضوء الفكر السياسي والعرفاني للتشيع، غير أن مسيرته النضالية لم تكن أسيرة النظرة الوطنية او المذهبية الضيقة، بل كان يتطلع الي العالم الاسلامي بأسره، وكان يسعي الي احياء الفكر الاسلامي الاصيل ومحاولة التهميد للحضارة الاسلامية المنشودة. ومن هذا المنطلق حرص الامام منذ الايام الاولي لانطلق نهضته ، علي لفت انظار المسلمين الي فلسطين والقدس الشريف، وكانت لديه آراء و مواقف حول القضايا الدولية، و كانت اهتماماته تتعدي قضايا العالم الاسلامي. وبوحي من هذه التوجهات استطاع الامام أن يلفت الانظار الي الاسلام بمثابة قوة دولية واعدة. وأن أحد أبرز الاسباب التي لعبت دوراً بارزاً في هذا المجال، يكمن فيأن سماحته باعتباره عارفاً مخلصاً صادقاً، كان يخاطب فطرة الانسان مما ساعده في تصدير النداء الالهيالي شعوب العالم.
لقد تحققت الثورة الاسلامية فيضوء عدد من المبادئ السياسية والثقافية و المعرفية. ولهذا أوجد انتصار الثورة نوعاً من الاصطفاف الجديد بين ايران وبقية الدول. لقد كان الامام الخميني في خلاف مستمر مع القوي الاستعمارية، وحاول التصدي للنظام الدولي السائد. وانطلاقاً من أن احد المبادئ الاسلامية علي الصعيد الدوليالذيينص علي تقدم المبادئ الدينيةعلي المبادئ الدولية، أيدّ الامام الخميني محاولة اقتحام وكر التجسس الاميركيفيطهران خلافاًللاعراف الدولية، واصدر فتواه بارتداد سلمان رشدي عن الاسلام. كما دعا سماحته الي إرساء نظم جديد داخل البلاد ومن ثم علي صعيد العالم الاسلامي. ويعتبر هذا النظم بالنسبة للعالم الاسلامي، بمثابة نظماً عالمياً شاملاً يتخذ من الاحكام الالهية منطلقاً للبرامج الاجتماعية و السياسية بما يشكل تحدياً لمشروعية النظام العالمي السائد، وبالتالي تهديد هيمنة الاستكبار الدولي ومصالحه. وقد حرص الامام خلال مواقفه الدولية نظير رسالته الي الزعيم الروسي غورباتشوف،والحكم بارتداد سلمان رشدي، علي الأخذ بنظر الاعتبار تجسيد مفهوم الامة الاسلامية بعيداً عن التوجهات الوطنيةو المذهبية.
دور الحج في الصحوةالاسلامية
1- نشر الوعيوالتنوير
يعتبر الحج اكبر تجمع سنوي للمسلمين من مختلف انحاء العالم. و أن تشكيل هذا الحشد المبارك يضع تحت تصرف العالم الاسلامي قوة كبري يمكن استغلالها للتوعية والتنوير بنحو أفضل حيال قضايا العالم الاسلامي و التحديات التي تواجهه. ومما يذكر في هذا الصدد أن نبي الاسلام (ص) والائمة الاطهار(ع)، حاولوا علي الدوام منذ اليوم الاول لتشريع الحج في الاسلام، الاستفادة من الحج بمثابة منطلقاً لنشر معارف الدين واطلاع المسلمين علي ما يجري من حولهم.
وأن أحد أبرز الادوار التي يضطلع بها الحج في مجال الصحوة الاسلامية، التعريف بالاسلام الحقيقي، الاسلام الذي حاول المستعمرون حصره في جانبه العبادي الفردي ، وتجريده من بعده السياسي والاجتماعي. وبعد قرون، وفي ظل تعزيز الجوانب السياسية والاجتماعية للاسلام، تحولت الصحوة الاسلامية الي تحرك فاعل و شامل. وعليه فأن أبرز عوامل الصحوة الاسلامية يكمن في عودة المسلمين الي الاسلام المحمدي الاصيل، الاسلام الذي يتمتع المسلمون في ظلاله بنظام حكم قوي ومستقل و متساميسواء من الناحية العلمية والسياسية والاقتصادية والثقافية.. الاسلام الذيتقترن فيه السياسة بالدين، لازماً وملزوماً.. الاسلام الذيتشكل فيه المعنويات والاخلاق اساس المجتمع و السمة الأبرز لأفراده. و ان النتيجة الطبيعة لهذا الاسلام، صلابة المجتمع وحيويته علي الدوام بحيث لا تجد فيه مكان للتقاعس والاهمال و اللامبالاة و الغفلة. وبناء علي ذلك فان تعرف المسلمين علي الاسلام الحقيقي يؤدي الي الصحوةالاسلامية بشكل تلقائي ، وأن بوسع الحج توفير مثل هذه الفرصة علي أحسن وجه وبأفضل نحو.
وإذ يري الامام (قدس سره) أن جهل المسلمين بأبعاد الدين الاسلامي، يشكل التحدي الأكبر للمجتمع الاسلامي، فأنه يؤكد في نداءاته الي حجاج بيت الله الحرام علي هذه الملاحظة موضحاً:
العيد السعيد و المبارك هو فيالحقيقة اليوم الذي يتحرر فيه المسلمون، في ظل وعيهم و يقظتهم و تعهد و التزام علماءالاسلام، من تسلط وهيمنة الظلمة و الناهبين الدوليين، وأن هذا الهدف الهام لايتحقق إلاّ اذا تمكنا من توعية الشعوب الرازحة تحت الظلم و اطلاعها علي احكام وتعاليم الاسلام .. و أية فرصة اسمي و افضل من مؤتمر الحج العظيم الذيهيأه الله تعالي للمسلمين.
وفي هذا السياق يعتبر الحج من اهم الاحكام الاسلامية، الذي تم حصره في ابعاده المناسكية علي الرغم من اهمية و فاعلية ابعاده السياسيةوالاجتماعية. و عليه ينبغي احياء الحج باعتباره احد اكثر العبادات الاسلامية التي تختزن الجانب السياسي.
وفي النداء الذي اصدره الامام (قدس سره) بمناسبة المجزرة الدامية التي ارتكبها النظام السعوديبحق الحجاج في مكة المكرمة، يستنكر سماحته بشدة الافكار التي تدنت بالحج الي مستو مناسك جماعية مجردة و سفرة سياحية، في الوقت الذييلفت فيه الانظار الي اهمية الابعاد السياسية والاجتماعية للحج فيالنضال ضد اعداء الاسلام، وفي تعزيز وترسيخ تضامن المسلمين وتوحيد صفوفهم.
الامام الخميني يري ثمة تفسيراً سياسياً لمناسك الحج ، ويقرنها بمفاهيم و دلالات نظير:مقارعة شياطين و اصنام و طواغيت العصر، فضلاً عن تعاضد المسلمين و تضامنهم و تلاحمهم.
وفي ضوء ذلك يري الامام (قدس سره) أن احد مسؤوليات المسلمين الكبري تكمن في إدراك حقيقة الحج، ولماذا ينبغي علي الدوام تكريس جانباً من امكاناتنا المادية و المعنوية لأداء هذه الفريضة.
واضافة الي ذلك يؤكد الامام الخميني علي ضرورة تداول ومناقشة قضايا العالم الاسلامي خلال موسم الحج، من أجل تدعيم هوية المسلمين الدولية (الامة الواحدة)،ونفوذ الصحوة الاسلامية الي مرافق حياتنا العملية فضلاً عن ابعادها السياسية.
ومن وجهة نظر الامام الخميني (قدس سره)، أن الجانب الهام الذييتسم به هذا التجمع الحاشد هو، تبادل
المعلومات حول الاوضاع التي شهدتها بلاد المسلمين خلال عام كامل، والتفكير معاً للبحث عن حلول لمشكلات المسلمين والحد من معاناتهم، وأن الاجتماع الاسلامي المليوني الحاشد في الحجار إنما هو من أجل ذلك، اضافة الي مناسكه التعبدية.
2- البراءة من المشركين، الخطوة الاولي في مسيرة النضال
ان معرفة العدو والاحاطة بمخططاته، تشكل الخطوة الاولي في مسيرة مواجهته والتصدي له. ولهذا يعتبر ذلك من أبرز ابعاد الصحوة الاسلامية. ومن هنا نجد ثمة تأكيد في رؤيةالامام الخميني للصحوةالاسلامية علي مفهوم (الضدية) و(الآخر)، الذييلفت الانظار الي دور الاستعمار والاستكبار في عدائهما للعالم الاسلامي.
ويمكن اعتبار الصحوةالاسلامية بمثابة ردة فعل إزاء علاقات الغرب الاستعمارية مع العالم الاسلامي، التيصادرت سيادة واستقلال وعزة وكرامة الدول الاسلامية. وبعبارة أخري، أن الاستعمار استبدل طبيعة العلاقة بين المسلمين و الغرب، من علاقة بين لاعبين متساويين، الي علاقة بين سيد و تابع.
ويؤمن الامام (قدس سره) بأن اعداء الاسلام يشكلون عاملاًهاماً في تخلف المسلمين، ذلك أنهم ومن خلال بث الخلافات وإثارة الفرقة بين المسلمين،وعمالة الحكام و الانظمة، يعملون علي نهب موارد وثروات البلدان الاسلامية، و لهذا يطالب سماحته حجاج بيت الله بفضح اساليب و ممارسات اعداء الاسلام خلال هذا المؤتمر الاسلاميالحاشد.
و يري الامام (قدس سره) أن البراءة من المشركين تضطلع بمكانة خاصة في تحقق الحج الحقيقي والصحوة الاسلامية، ويقول سماحته: لاشك أن الحج الخالي من الروح والتحرك والثورة، الحج الخالي من البراءة،الحج الفاقد للوحدة، والحج الذي لا يقود للقضاء علي الكفر والشرك، لا يعتبر حجاً.
ورغم أن البراءة من المشركين تعتبر مبدأ دائماً وخالداً، شرّعه الله تعالي من أجل ايضاح نهج الاسلام والمسلمين السياسي حيال معارضي التوحيد ومنتهكي الحقوق الانسانية والمشروعة للمسلمين،. غير أن البراءةمن المسلمين من وجهة نظر الامام الخميني (قدس سره) في كل عصر، تتطلب مظاهر واساليب و برامج خاصةبها. وأن الامام الخميني لم يحصر البعد الاجتماعي للحج والبراءة من المشركين بأسلوب محدد وخاص، بل أن هاجسه الاكبر وتأكيده الرئيسي يتمحور حول المضمون العميق للحج، و الاستفادة المثلي منه من خلال الارتكاز الي التوحيد الاصيل و اجتناب جميع مظاهر الشرك والاعتماد علي غير الله. ان نفس هذا الامر استطاع أن يشكل مصدراً لبركات كثيرة في المجتمعات الاسلامية، وأن تتظافر الجهود وتتكاتف للحفاظ علي التراث والحضارة الاسلامية.
و لتوضيح طبيعة العلاقة بين الصحوة الاسلامية والبراءةمن المشركين، لابد من القول أن مراسيم اعلان البراءةمن المشركين في الحج، تعد بمثابة اعلاناً و انطلاقة للنضال المستلهم من الصحوة الاسلامية، بحيث لا يمكن توقع وجود مثل هذه الاجواء وهذا التحرك في المجتمعات الاسلامية بغياب الصحوة الاسلامية. ان هذه الصحوة تنطلق من ارض الوحي – التيانطلق منها النضال ضد الطاغوت وتحطيم الصنام – ويقوم المسلمون المشاركون في مؤتمر الحج العظيم بتعميمها في مختلف انحاء المجتمعات الاسلامية.
ان رؤية الامام الخميني للبراءةمن المشركين، هيروح الصحوة الاسلامية التي تعرب عن اعتراضها ضد خداع و مكر الاستعمار واعداء الاسلام ومحاولتهم إغفال المجتمعات الاسلامية. وفي هذا الصدد يقول سماحته في احد نداءاته الي حجاج بيت الله الحرام: ان صرخة البراءة من المشركين و الكافرين اليوم، هي صرخة تذمر من ظلم الظالمين، وصرخة أمة ضاقت ذرعاً باعتداءات الشرق و الغرب وفي مقدمتهم اميركا و أذنابها، ونهب وطنها ومواردها وثرواتها... ان صرخة براءتنا صرخة أمة يكمن لها كل الكفر و الاستكبار يترقبون موتها، وباتت كل السهام والحراب تستهدف القرآن الكريم والعترة الطاهرة.
نظريةالعدو المشترك والصحوة الاسلامية
ان نظريةالعدو المشترك، تشير بوضوح الي مدي العلاقة بين البراءة من المشركين والصحوة الاسلامية. أن الصحوة الاسلامية بأمس الحاجة الي تضامن و وحدة المسلمين كي يتسني لها الاستمرار وتحقيق اهدافها علي المستوي البعيد. ولا بد لها في هذا المسير، التخلي عن التوجهات القومية والعنصرية، وأن تتخذ من الاسلام محوراً للتحرك والنهضة. ويعتبر وجود العدو المشترك احد الدوافع لتوحيد الصفوف وتعزيز انسجام الجبهة الداخلية،ذلك أن جانباً من الهوية يكتسب معناه في ظل التناقض والضدية. أن جانباً من وجودنا رهن تميزنا عن الآخرين.
وأن الكثير من الاصطفافات الدولية و الحضارية في العصر الحاضر يمكن التعرف عليه عن هذا الطريق. ففيمرحلة الحرب الباردة ان الكثير من السياسات و المشاريع الاقتصادية و الدولية الاميركية كانت بدافع المواجهة مع الاتحاد السوفيتي. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي و غياب العدو المشترك، اصيبت اميركا بالتخبط و فقدان الهدفية فيسياستها الخارجية، وعانت الكثير من الضغوط من أجل تبرير سلوكها و نفقاتها العسكرية. غير أن تحركات اشخاص تنظيمات امثال صدام والقاعدة، اوجدت لها ذريعة جيدةفي متابعة سياستها بالتخويف من الاسلام و تشويه صورته لدي الرأي العام، وتحت شعار مكافحة الارهاب حاولت تصوير الاسلام بمثابة عدوها الرئيسي في الساحة الدولية. وفي هذا السياق ظهرت نظرية (نهاية التاريخ) لفوكوياما، و(صراع الحضارات) لـ هانتينغون. وان البراءة من المشركين في الحج تحمل رسالة الي المسلمين مفادها أنه لابد من الاتحاد حول محور التوحيد والكعبة رغم كل الخلافات، وأن ينظر الجميع الي الكفر والكافرين باعتبارهم عدوهم المشترك.
3- توثيق أواصر التضامن
الامام الخميني يعتبر الحج أحد الوسائل والاماكن لتحقق التضامن في العالم الاسلامي، وينظر الي التعاضد والتضامن باعتباره احد العدوافع الهامة التيتقف وراء تشريع الحج، ويدعو سماحته الحجاج للاهتمام بهذا الجانب ويحذرهم من إثارة الخلافات والتفرقة. وفي هذا الصدد يري ثمة مسؤولية هامة تقع علي عاتق علماء الدين والمفكرين في العالم الاسلامي.
الصحوة الاسلامية عبارة عن تحرك سياسيواجتماعي كبير و واسع لن يحقق النتائج العملية المرجوة من دون دعم ومساندة شاملة من كافة الشعوب الاسلامية. ولهذا يعتبر الحج فرصة فريدة بالنسبة للعالم الاسلامي لتعزيز تضامن المسلمين وبلورة قوتهم واقتدارهم. وأن بوسع الحج تعزيز تضامن المسلمين علي طريق الصحوة الاسلامية من جهتين:
الاولي – توثيق الهوية الحضارية
تعتبر الهوية الحضارة تجسيداً لمعرفة الانسان و وعيه العميق للحضارة التي ينتسب اليها. ولا معني للصحوة الاسلامية من دون الالتفات الي الهوية الحضارية.
أن أية خطوة يقدم عليها المسلمون لنشر الثقافة الاسلامية والتصدي للثقافة الغربية والحكام المأجورين، إنما تستهدف احياء الحضارة الاسلامية انطلاقاً من الهوية المدنية التي ينتسبون اليها، وإلاّفلا يوجد اي دافع لتغيير الوضع السائد. ولهذا فان ثمة علاقة متبادلة بين الهوية الحضارية والصحوة الاسلامية. فالصحوة الاسلامية تنطلق أولاً بوحي من الهوية الحضارية. ومن ثم، وإثر تحقق النتائج المرجوة،تعمل علي بلورة وتدعيم الهويةالحضارية. وبهذا الصدد يقول الامام الخميني (قدس سره):
من جملة الامور التي ينبغي للحجاج المحترمين التنبه اليها، هو أن التواجد في هذه المشاهد المشرفة والاماكن المقدسة، ومع الأخذ بالاعتبار الظروف الصعبة والشاقة التيأحاطت ببعثة الرسول (ص)، يعرّفنا بمسؤولياتنا اكثر فأكثر تجاه صيانة مكاسب ومنجزات هذه النهضة وهذه الرسالة الالهية.
الثانية – انتفاء الانتماء العرقيفيالحج
التشتت الجغرافي والثقافي للعالم الاسلامي، يمكن أن يشكل عقبة في طريق العثور علي الهوية المشتركة وتضامن العالم الاسلامي. وفضلاً عن ذلك فان العلاقة بين مبادئ الثقافة الاسلامية والوطنية بالنسبة للدول الاسلامية، شكّلت علي الدوام أحد أبحاث علم الاجتماع البارزة بشأن العالم الاسلامي، التي تضطلع بدور مؤثر للغاية بالنسبة للمناخ السياسيو الاجتماعي الخاص بالدول الاسلامية. و نلاحظ ذلك ايضاً لدي دراسة مسيرة الصحوة الاسلامية في العالم الاسلامي، ونري أنه عندما يصبح التوجه القوميمدعاة لأيديولوجية النهضات، تبرز ثمة عقبة رئيسية في مسار الصحوةالاسلامية. ولكن حينما يكون الاسلام اساساً للتحرك السياسيوالاجتماعي، سوف تمضيالصحوة الاسلامية في مسارها التكاملي وتشكل تحدياً حقيقياً للقوي الاستعمارية.
والحج مناسبة في ذات الوقت الذي تجسد فيه الحضور الفاعل للشعوب والثقافات الاسلامية،فأنها تعبر بصدق عن غاية التآخي و الوحدة. وفيالحج يؤديجميع زائري بيت الله مناسك واحدةفيمكان وزمان واحد، حتي الثياب التي يرتدونها أثناء اداء هذه المناسك تكون واحدة، حتي لا يبقي ايأثر للتباين والاختلاف. وأن الفارق الوحيد الذي يميزهم يكمن فيالخلقة، الذي يراه الله تعالي وسيلة للتعارف فيما بينهم. وبهذا النحو يتعلم المسلمون فيالحج كيفية ذوبان الانتماء القومي في ظل الايمان بالله والتقوي، وان يتخذوا من الاسلام محوراً للتقارب والوحدة.
4- الابعاد العرفانية للحج والصحوة الاسلامية
الحج ذو ابعاد عرفانية عميقة للغاية، وان المؤمنين يؤدون الي جوار بيت الله الحرام اعمالاً عرفانية كثيرة. و الامام الخميني كان يهتم بهذا الجانب كثيراً. وأن احد ابرز سمات الابعاد العرفانية للحج، أنها تنسجم وتتناغم مع الأبعاد السياسية. وفيحراك الصحوةالاسلامية ثمة عامل قويجداً وفاعل باستطاعته أن يقود النهضة لتحقيق اهدافها، يكمن فيالايمان والتدين الذي يرتقي بالمستوي السياسي والاجتماعي للمجتمع. وهكذا يخلق العرفان حماسة خالدة ويجنب النهضة المخاطر والانحراف. و مما يذكر في هذا الصدد أن الامام الخميني يدعو المسلمين – في نداءاته الي حجاج بيت الله الحرام- الي الاهتمام بهذه الابعاد اثناء ادائهم لمناسك الحج، واتخاذ ابراهيم الخليل (عليه السلام) اسوة وقدوة فيتصديهم للشرك والطاغوت والاستعمار.
ومن هنا ندرك أن عرفان الامام الخميني(قدس سره) ذو بعد سياسي. إذ أننا نري سماحته يطرح فهماً سياسياً لأبرز المفاهيم العرفانية نظير التوحيد، يتمحور حول رفض الطاغوت و محاولة التصدي له. وأن بوسعنا التعرف علي مدي التناغم والانسجام بين البعد السياسي والعرفانيفي شخصية الامام الخميني (قدس سره)، وذلك من خلال رؤية سماحته الي الحج:
(ان المراتب المعنوية للحج، التيتعتبر رصيداً للحياة الخالدة وتقرّب الانسان الي أفق التوحيد والتنزيه، لن تتحقق ما لم يتم اداء المناسك العبادية للحج بشكل سليم وبما يليق حتي في أدق التفاصيل... وأن البعد السياسي والاجتماعي للحج لن يتحقق ما لم يتجسد البعد المعنوي والالهي عملياً...).
وأن هذا الأمر يكتسب ابعاداً اعمق بالالتفات الي الابعاد السياسية لمناسك الحج. و الامام الخميني (قدس سره) يفهم التلبيةوالطواف والرمي و الهدي، في منطق توحيدي يتحور حول البيعة مع الله ورفض الشرك والطاغوت، ويعتبر ابراهيم الخليل (عليه السلام) مؤسس الحج، المحطم للاصنام في التاريخ، ويؤمن (قدس سره) بأن يضع الزائر لبيت الله قدمه في موطئ قدم النبيابراهيم (عليه السلام)، وبناءً علي ذلك اداء الحج الابراهيمييكون علي هذا الأساس. وبعبارة أخري، أن معنوية الحج تنبع من مناسك الحج، المناسك التي في ذات الوقت التيتجسد الجانب العبادي، تتسم ببعدها السياسي. ان الايمان والمعنوية اللذين يتجليان بأفضل صورة خلال مناسك الحج، يؤثران في الصحوةالاسلامية من جانبين:
الاول- أن انطلاق الصحوة الاسلامية وليد اهتمام المسلمين بالدين والايمان . و لا شك أن الصحوة الاسلامية لامعني لها بالنسبة لعديمي الايمان وغير العابئين بالاسلام. ولهذا ينبغي تقوية الالتزام الديني لدي افراد المجتمع قبل كل شيء، كييتسني للمؤمنين النهوض وانطلاق الصحوة الاسلامية.
وفينداءه الي حجاج بيت الله الحرام، يوضح الامام الخميني (قدس سره) دور الايمان في النضال وفيحراك الصحوةالاسلامية قائلاً: ... واذا ما تم اهمال ونسيان الجوانب المعنوية، فلا تتصوروا أن بامكانكم التحرر من براثن شيطان النفس. فطالما بقيتم فيأسر الذات واهوائكم النفسانية، لن تتمكنوا من الجهاد في سبيل الله والدفاع عن حريم الله...
الثاني – لو افترضنا أن تحرك الصحوة الاسلامية انطلق بايحاء من التوجهات السياسية، غير أن مواصلة النهضة واستمرارها لا يتسني بمعزل عن الايمان واهمال الجوانب الاخلاقية والمعنوية. وحول دور الايمان في تحقيق النصر في هذا النضال وهذه المواجهة، يقول الامام الخميني في ندائه الي حجاج بيت الله الحرام موضحاً:
يجب أن يكون التاريخ عبرّة لنا. و نحن عندما نتصفح التاريخ نري ثمة احداثاً واجهت الاسلام والمسلمين، وأن النصر كان حليف المسلمين كلما كانت قوة الايمان حاضرة وكان الناس والمسلمون يتحركون بقوة الايمان. ومتي ما كان الهدف تحقيق آمال دنيوية كان النصر يهرب منهم.
5- انتشار الصحوةفي العالم الاسلامي
ان احدي السمات البارزة للحج هيأن مندوبين من انحاء العالم الاسلامي يجتمعون كل عام الي جوار بيت الله الحرام. وبعد عودة هؤلاء الاشخاص الي بلدانهم فأنهم يحملون معهم رسالة الحج، وان بامكانهم عن هذا الطريق نشر المكاسب السياسية والثقافية وحتي المعنوية والخلاقية للحج في مختلف انحاءالعالم الاسلامي. وأن هذا يلفت الي بعد آخر من ابعاد الحج في تحقيق الصحوةالاسلامية. وان الامام الخميني وضمن إيمانه بأن الحج يختزن طاقات ضخمة بالنسبة للصحوةالاسلامية، يري بأنه يمتلك امكانات كبيرة في مجال انتقال الصحوةالاسلامية وانتشارها في الدول الاسلامية وايجاد حراك فاعل ومؤثر في العالم الاسلامي.
ومما يذكر فيهذا الصدد، أن الامام يعتبر فياحد نداءاته الي حجاج بيت الله الحرام، ضمن توضيح الابعاد السياسية للحج، أن تصدير الصحوةالاسلامية من جملة المعطيات السياسية للحج، حيث يقول: يعتبر البعد السياسي لمناسك الحج العظيمة من اكثر الابعاد المنسية والمهجورة والمغفول عنها... إذ أن بوسع الاشخاص، كل فيمدينته وموطنه، أن يعمل علي توعية المسلمين والمظلومين فيالعالم بالابعاد السياسية للحج، وحث المظلومين علي النهوض ورفض الضغوط المتزايدة للظالمين الذين يزعمون الدفاع عن الاسلام.
الامام الخميني (قدس سره) يعتبر الثورة الاسلامية فيايران، نموذجاً بارزاً للصحوة الاسلامية، ومع الأخذ بالاعتبار رؤيته بالنسبة لتصدير الثورة الي العالم الاسلامي والدول الأخري، يري في الحج فرصة قيمة لتصدير الثورة الاسلامية، لأن تصدير الثورة من وجهة نظر سماحته إنما هو تصدير للصحوة الاسلامية. وفي هذا الصدد يقول سماحته في نداء الي حجاج بيت الله الحرام:
(اننا نريد أن تنتقل هذه الصحوة التيحدثت في ايران، لتعم جميع الدول... أن مفهوم تصدير ثورتنا هو أن تصحو وتفيق جميع الشعوب، وجميع الحكومات، وأن ينقذوا أنفسهم من هذه المعاناة، من الرزوح في الاسر وتحت الهيمنة، والحد من نهب مواردهم وثرواتهم والتخلص من الفقر والحرمان الذي يخيم علي حياتهم).
الامام الخميني وضمن إشارته الي الاعلام المغرض للاعداء ومحاولة تشويه مفهوم تصدير الثورة، يدعو في نداءاته الحجاج الايرانيين الي نقل نداء الثورة الي حجاج الدول الأخري، وأن يطلبوا منهم نقل هذا النداءالي شعوبهم، من أجل إتساع امواج الصحوةالاسلامية وانتشارها اكثر فأكثر.
وفي نداءآخر، يري الامام أن أحد أبرز وأهم المسؤوليات الملقاة علي عاتق الحجاج الايرانيين، تتمثل فيتصدير الثورة وإزالة ومحو الصورة المشوهة التييحملها بعض حجاج الدول الأخري عن الثورة، ويعتبر الذي يتخلف عن اداء ذلك يرتكب ذنباً كبيراً.
وبناء علي الرؤية الخمينية، أن تصدير الثورة من خلال موسم الحج، لايقع علي عاتق الحجاج فقط، بل أن علماء الاسلام والمفكرين يضطلعون بمسؤولية هامة في هذا الصدد، كييتسني توضيح مبادئ واهداف الثورة بنحو أفضل، واحباط مؤامرات اعداء الاسلام، والمساهمة في تصدير الصحوة الاسلامية عن هذا الطريق.
النتيجة
انطلاقاً من رؤيته الشمولية للدين، لم يعمل الامام الخميني فقط علي اخراج العرفان من العزلة والانزواء علي الصعيد الفردي، بل جعل منه منطلقاً للنضال والثورة. وان هذا النموذج الواعي والمتقدم الذي يهيمن علي الفكر الاصلاحي والاحياء الديني للامام الخميني، يتجلي بوضوح خلال موسم الحج. وقد تصدي سماحته بقوة للفكر الذي يحاول حصر الحج في ابعاده الفردية واقتصاره علي الجانب الاخلاقي، وحرص لأن يجعل من الحج منطلقاً للنضال ضد الطاغوت، و مدعاة لصحوة المسلمين ويقظتهم. ومن خلال نداءاته الي المسلمين فيأيام الحج، وضمن تأكيده علي أمور نظير البراءة من المشركين، حاول الامام الخمينياقناع المسلمين بالتخلي عن حالة الانبهار أمام الغرب، والعودة الي مرحلة الرقي والتسامي الحضاري.
الحجّ اخلاص العبودية للّه تعالي
الحج هجرة إلي الله تعالي بترك الأنا، والحج عبودية لله بهجر الطغيان والتبعية للطواغيت، والحج توحيد للكلمة بالاجتماع علي كلمة التوحيد، والحج قوة للموحدين باللجوء إلي الله والتوكل عليه، والحج تلبية لنداء (وأذن...) ولا لبيك بغير البراءة من الغير المستكبر
الحج أكبر تظاهرة للمسلمين يعلنون فيها الولاء لله والعداء لأعدائه، فيه تتجلي (أن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)، فلا لأمريكا و لا لصنائعها ولا للسائرين وراءها خوفا أو طمعا من الحول والقوة شيئا فالقوة لله جميعا والعزة لله جميعا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي عصرنا قد أحيا الإمام الخميني (قدس سره) الحج الابراهيمي، وبعث الروح في أبعاده المختلفة حتي صارت الفريضة صرخة تهز عروش المستكبيرن كل عام، وعلي نهجه يكمل المسيرة خلفه الإمام الخامنئي (دام ظله) ليبقي الحج إبراهيميا محمديا علويا يمهد للحج الأكبر حيث الظهور لولي الله الأعظم والفرج للبشرية جمعاء فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملأها المستكبرون وتابعوهم من الطواغيت والعملاء وطلاب الدنيا ظلما وجورا
وفي هذا العدد تخصص آفاق تالحضارة الاسلامية ملفها للحج كما جاء في أحاديث الأمامين الخميني (قدس سره) والخامنئي (دام ظله) عسي أن يكون فيه تذكرة تعيها إذن واعية
الحج في احاديث الامام الخميني قدّس سرّه
اعملوا للاستقلال واقتلاع جذور الاستعمار
اليوم، حيث نشبت براثن الاستعمار الخبيثه بسبب تهاون و تساهل الشعوب الإسلامية في أعماق الأرض المترامية لأمّة القرآن، لتنهب جميع الثروات الوطنية والخيرات الطائلة، ولتنشر الثقافة الاستعمارية المسمومة في أعماق قري وقصبات العالم الإسلامي، ولتقضي علي ثقافة القرآن، وتجنّد الشباب افواجا في خدمة الأجانب والمستعمرين، و تطلع علينا كلّ يوم بنغمة جددية وبأسماء خادعة تظلّل بها شبابنا في مثل هذه الظروف علكيم يا أبناء الامة الأعزاء! المجتمعين لأداء مناسك الحج في أرض الوحي هذه، أن تستثمروا الفرصة وتفكّروا في الحلّ، وأن تتبادلوا وجهات النظر وتتفاهموا لحلّ مسائل المسلمين المستعصية.
واعلموا أنّ هذا الاجتماع الكبير الذي يعقد سنويا، بأمرالله تعالي، في هذه الأرض المقدسة، يفرض علكيم أنتم المسلمون أن تبذلوا الجهود علي طريق الأهداف الإسلامية المقدسة، ومقاصد الشريعة المطهرة السّامية، وعلي طريق تقدم المسلمين وتعاليهم واتحاد المجمتع الإسلامي وتلاحمه، لتشترك أفكاركم وعزائمكم علي طريق الاستقلال واقتلاع جذور سرطان الاستعمار.
اسمعوا للشعوب
اسمعوا مشاكل الشعوب المسلمة من لسان أهل كل بلد، ولا تؤلوا جهدا في اتخاذ أي اجراء لحلّ مشاكلهم.
علي أهالي كل بَلد أن يشرحوا في هذا الاجتماع المقدس مشاكل شعبهم للمسلمين...
فكّروا في أمر الفقراء والمساكين في العالم الإسلامي.
انصروا فلسطين
إبحثوا عن سبيل لتحرير أرض فلسطين الاسلامية من براثن الصهيونية العدو اللدود للإسلام والإنسانية
لا تغفلوا عن مساعدة الرجال المضحيّن الذين يناضلون علي طريق تحرير فلسطين وعن التعاون معهم.
واجب العلماء
علي العلماء المشاركين في هذا الاجتماع، من أيّ بلد كانوا، أن يصدروا بعد تبادل وجهات النظر بيانات صريحة واضحة لايقاظ المسلمين وان يوزّعوها في مهبط الوحي بين أبناء الأمّة الإسلاميّة، ثم ينشروها في بلدانهم بعد عودتهم.
وعلي العلماء أيضا أن يطالبوا زعماء البلدان الإسلامية بوضع الإسلام نصب أعينهم، و يتجنَّبوا الاختلافات، و يبحثوا عن علاج للتخلص من مخالب الاستعمار.
علي الحكام العودة للإسلام
ولو أنّ زعماء البلدان الإسلامية نبذوا الاختلافات الداخلية وتفهموا أهداف الاسلام السامية، واتّجهوانحوها، لما أصبحوا بهذه الحالة أسري ذليلين بيد الإستعمار.
ان اختلافاتهم، هي التي خلقت مشكلة فلسطين، وتحول دون حلّها فلو أنّ سبعمائة مليون مسلم، بأرضهم الغنية المترامية الاطراف، يمتلكون وعيا سياسيا، وكانوا متّحدين منتظمين في صفّ واحد، لما أمكن للدول الاستعمارية الكبري أن تنفذ إلي بلدانهم، فما بالك بحفنة من اليهود من عملاء الاستعمار...
أنا أشدّ علي يد أبناء الأمَّة الإسلاميّة، وأحرار العالم علي طريق قطع جذور الاستعمار والمستعمرين، واستقلال البلدان الإسلامية وتحطيم قيود الأسر وأسأل الله تعالي أن يدفع عنا شرّ الأنظمة المتجبّرة وأذناب الاستعمار القذرين، وأسئله أن يتقبل منكم أعمالكم ومناسككم.
إشارات عرفانية
والآن، ونحن علي أعتاب فريضة الحج المباركة، من اللازم أن يكون لنا توجه للأبعاد العرفانية والروحية والاجتماعية والسياسية والثقافية لهذه الفريضة، عسي أن يكون ذلك باعثا علي اتخاذ خطوات فعّالة أخري.
كثير من الاخوة الملتزمين تحدّثوا عن هذه الموضوعات، لهذا فانّي اكتفي باشارة عابرة الي بعض أبعاد (هذه الفريضة) لعلّها تكون تذكرة.
لمّا كانت هذه المناسك العجيبة من أول الإحرام والتلبية حتي آخر المناسك تنطوي علي اشارات عرفانية وروحية لا يتيسر الحديث عنها بتفصيل في هذا المقال، أكتفي ببعض إشارات التلبيات:
التلبيات المكرّرة تكونِ حقيقة من أولئك الذين سمعوا نداء الله فأجبوا دعوته سبحانه باسمه الجامع. المسألة مسألة الحضور في المحضر (الإلهي)، و مشاهدة جمال المحبوب وكأن الملبي قد ذابت ذاته في هذا المحضر فيكرِر تلبية (لبيك اللهم لبيك)، و يتبع ذلك سلب الشريك (لبيك لا شريك لك لبيك)... سلب الشريك بالمعني المطلق، وأهل الله يعلمون أن هذا السلب للشريك لا يقتصر علي الإلوهية، وإن كان سلب الشريك في (الالوهية) يشمل في نظر أهل المعرفة جميع المراتب حتي فناء العالم وتحوي (التلبية) جميع الفقرات الاحتياطية والإستحبابية، ففيها تخصيص الحمد بالله والنعمة به وتنفي عنه (مرّة أخري) الشريك (إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك) وهذه عند أهل المعرفة غاية التوحيد، وتعني أنّ كل حمد ونعمة في عالم الوجود إنما هو حمدالله ونعمة الله سبحانه بدون شريك ويجري هذا الموضوع والهدف الأعلي في كلّ موقف ومشعر وعمل وحركة وسكون، وخلافه الشرك بالمعني الأعمّ.
تعارف المسلمين
إنّ الحجّ يمثل أفضل مكان لتعارف الشعوب الإسلاميّة، حيث يتعرّف المسلمون علي اخوانهم وأخواتهم في الدين من شتّي أنحاء العالم، و يلتقون مع بعضهم في البيت الذي تتعلّق به كلّ المجتمعات الاسلامية من أتباع ابراهيم (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلي كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق) الحج/ 27
وبنبذهم ما يمايزهم من اللون والقومية والأصل، يعودون الي أرضهم و بيتهم الأول وبمراعاتهم للأخلاق الإسلامية الكريمة، و تجنّبهم للجدال ومظاهر الزينة، يجسّدون صفاء الأخوة الاسلاميّة ومظهر وحدة الأمّة المحمديّة...
تجهزوا من مركز تحطيم الأصنام لتحطيم الاصنام الكبري
أنتم يا حجاج بيت الله الحرام، (يامن) و فدتم من أطراف العالم وأكنافه علي بيت الله مركز التوحيد و مهبط الوحي ومقام ابراهيم و محمد الرجلين العظيمين الثائرين علي المستكبرين، و سارعتم للوصول الي المواقف الكريمة التي كانت في عصر الوحي أرضا يابسة وهضابا جافة، غير أنّها كانت مهبط ملائكة الله ومحلا لهجوم جنود الله، و لتوقف أنبياء الله وعباد الله الصالحين!! اعرفوا هذه المشاعر الكبري وتجهّزوا من مركز تحطيم الأصنام لتحطيم الأصنام الكبري التي ظهرت علي شكل قوي شيطانية و(علي شكل) غزاة يمتصوّن الدماء و لا تخشوا هذه القوي الفارغة من الايمان، وبالإتكال علي الله العظيم و في هذه المواقف الكريمة اعقدوا بينكم ميثاق الاتحاد والاتفاق أمام جنود الشرك و الشيطنة، واحذروا من التفرّق والتنازع (...ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم...) الأنفال/46
أساس عظمة الأمة
ريح الايمان والاسلام، التي هي أساس النصر والقوة، تزول بالتنازع والتشرذم المنسجم مع الأهواء النفسية، والمخالف لأحكام الله تعالي والاجتماع علي الحق وتوحيد الكملة وكلمة التوحيد (عناصر تشكل) أساس عظمة الأمة الاسلامية وتؤدي إلي الإنتصار.
لا تتحق الأبعاد السياسية للحج الا بأبعاده المعنوية
إنّ المراتب المعنوية للحج هي رأس مال الحياة الخالدة، وهي التي تقرّب الانسان من أفق التوحيد والتنزيه، و لن نحصل عليها ما لم نطبق أحكام و قوانين الحج العبادية بشكل صحيح وحسن وحرفا بحرف، و اذا ما دفنتم في عالم النسيان الجهات المعنوية، فلا تظنوا أنكم قادرون علي التخلص والتحرر من مخالب شيطان النفس و ما دمتم في أسر وقيد ذواتكم وأهوائكم النفسانية، فلن تستطيعوا جهادا في سبيل الله ودفاعا عن حرماته تعالي.
علي الحجاج المحترمين والعلماء المعظّمين مسؤولي قوافل الحجاج أن يصرفوا وقتهم، و يكون كل همهم تعليم وتعلم مناسك الحج.
إعلموا جميعا أن البعد السياسي والاجتماعي للحج لا يتحقق الا بعد أن يتحقق البعد المعنوي الإلهي.
إن كلمة (لبيك) التي تتلفظون بها هي استجابة كبيرة وعميقة لدعوة الحق تعالي، وبها تنفون صفة الشرك بجميع مراتبها، و عليكم أن تشعروا بذلك انفسكم وبها تهاجرون بأنفسكم التي هي منشأ الشرك الكبير نحو الباري جلّ وعلا. وعندئذ تنالون أجركم وهو علي الله تعالي حتي وان أدرككم الموت في هجرتكم هذه.
في المواقيت الإلهية والمقامات المقدّسة، في جوار بيت الله المليء بالبركات، راعوا آداب الحضور في الساحة المقدّسة للعلي العظيم، وحرّروا قلوبكم أيّها الحجّاج الأعزاء من جميع الارتباطات المتعلّقة بغير الله، وأخرجوا من قلوبكم غير حبّ الله و نوّروها بأنوار التحليات الإلهية، حتي تكون الأعمال والمناسك في سيرها إلي الله مليئة بمضمون الحج الابراهيمي وبعده بالحجّ المحمدي، وبمقدار تخفيف الحمل من أفعال الطبيعة يسلم الجميع من أوزار المني والمنية، وبحمل ثقل معرفة الحق وعشق المحبوب تعودون إلي أوطانكم، و تجلبون للأصدقاء هدايا النعم الإلهية الأزلية بدل الهدايا المادية الفانية، و بقبضات مليئة بالقيم الإنسانية الإسلامية التي بعث لأجلها الأنبياء العظام من إبراهيم خليل الله إلي محمد حبيب الله صلّي الله عليهم وآلهم أجمعين، تلتحقون بالرفاق عشاق الشهادة. هذه القيم و الدوافع التي تحرر الانسان من أسر النفس الامارة بالسوء، و تنجي من الارتباط بالشرق و الغرب، و توصل إلي شجرة الزيتون المباركة اللاشرقية و اللاغربية.
الحج سفر إلي الله لا إلي الدنيا
يا حجاج بيت الله الحرام! انتبهوا إلي أن السفر إلي الحج ليس سفرا للتجارة، و ليس سفرا لتحصيل أمور الدنيا، إنما هو سفر إلي الله. أنتم ذاهبون إلي بيت الله الحرام، فأتموا كل الامور و الاعمال المطلوبة منكم بطريقة إلهية. إنّ سفر كم الذي يبدأ من حين التهيّؤ هو وفادة إالي الله، سفر الي الله تعالي و كما أن الانبياء (عليهم السلام) و العظماء من ديننا مسافرون الي الله في جميع أحوالهم و أوقات حياتهم، ولم يتخلّفوا خطوة واحدة عن أي شي ء في برنامج الوصول الي الله، أنتم. ايضا يجب أن يكون سفر كم الي الله تعالي، ففي الميقات الذي تذهبون اليه تلبون فيه نداء الله، و تقولون لبيك اللهم الدعوة، معاذالله أن تقوموا بعمل لا يرضاه الله تبارك و تعالي.
أنا لا أريدكم و لا اقبلكم اذ كنتم غير اسلاميين. معاذ الله أن تجعلوا هذا السفر سفرا للتجارة أو أن يكون ميدانا تبحثون فيه الامور و المسائل التجارية فيما بينكم.
أيها السادة أهل العلم، أيتها القوافل، يا رؤساء القوافل، يا سائر الحجاج، هذا السفر سفر الي الله و ليس سفرا الي الدنيا، فلا تلوّثوه بها.
ان أهم الامور في جميع العبادات هو الاخلاص في العمل. و اذا قام شخص لا سمح الله بعمل ما لاجل التظاهر به امام الاخرين، و عرض عمله الجيد أمامهم، فان عمله يصبح باطلا. ولينتبه الحجاج المحترمون وليواظبوا علي عدم اشراك غير الله في أعمالهم بأن تكون لوجهه الكريم فقط.
ان الجهات المعنوية للحج كثيرة والمهم فيها أن يعرف الحاج الي أين يذهب و دعوة من يلبّي؟ و أنه ضيف من؟ و ما هي آداب هذه الضيافة؟
و ليعلم أن الغرور و النظرة الذاتية لا يجتمعان مع حب الله و طلبه، بل يتناقضان مع حب الله و الهجرة اليه، و بالتالي تكونان سببا لنقص معنويات الحج و نقض أجره و ثوابه. و اذا ما اكتسب الانسان الحاج معنويات الحج و أجره و ثوابه و قطف ثمار مناسكه، و اذا ما تحققت لبيك صادقة و مقرونة بنداء الحق تعالي، حينها ينتصر الانسان في جميع الميادين السياسية و الاجتماعية والثقافية و حتي العسكرية، و مثل هذا الانسان لن يعرف الهزيمة.
الهي اجعل جزءا من هذا السير و السلوك المعنوي واجعل الهجرة الإلهية من نصيبنا جميعا.
ليلتفت أولئك الذين يذهبون الي الحج أن لا يخلطوا لحظة واحدة حجّهم بالمعاصي. ينبغي أن يكون كلّ شي ء اسلاميا و كل شي ء عبادة، لتكن المظاهرات عبادة، ولتكن الشعارات عبادية، خالية من المعصية، لتكن علي النحو الذي أراده الله، و أن لا يفعل كلّ واحد منكم ما يريد، و أن يقول يكون كلامنا و فعلنا و كل شي ء طبق برنامج اسلامي صحيح و أن لا نغفل عنه أبدا.
مكة و المدينة مسرح نهضة الاسلام
من النقاط المهمة التي ينبغي علي الحجاج الكرام الالتفات اليها أن مكة المكرمة و المشاهد المشرفة هي أساس الاحداث الكبيرة لنهضة الانبياء و الاسلام و رسالة النبي الاكرم (صلي الله عليه و آله) و هي مكان نزل فيه الانبياء و جبريل الامين، هذا المكان الذي يذكرنا بالمصائب والصعوبات، التي تحملها النبي الاكرم (صلي الله عليه و آله) في سبيل الاسلام و البشرية لسنين طويلة و أن التواجد في هذه المشاهد المشرقة و الاماكن المقدسة لهو من الاهمية بمكان. و اذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الشروط الصعبة لبعثة النبي عرفنا أكثر مسؤولية الحفاظ علي انجازات هذه النهضة و هذه الرسالة الالهية، و كم عاني النبي الاكرم (صلي الله عليه و آله) و أئمة الهدي (عليهم السلام) من الغربة لاجل دين الحق و ازهاق الباطل. لقد استقاموا و وقفوا ولم يهابوا أو يجزعوا علي كثرة التهم و الاهانات التي كالتها ألسنة امثال أبي لهب و أبي جهل و أبي سفيان. وفي نفس الوقت استمروا و أكملوا طريقهم مع وجود الحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب، ولم يستسلموا و لم يهنوا، و من بعدها تحمّلوا الهجرة و الغربة و مراراتها و آلامها في سبيل دعوة الحق، و تبليغ رسالة الله، و تواجدوا في الحروب المتتالية و غير المتكافئة. و رغم المؤامرات و مع كثرة المنافقين، قاموا بهداية و ارشاد الناس بهمّة عالية و صلبة حيث شهدت صخور و حصي مكّة والمدينة و صحاريها و جبالها و أزقتها و أسواقها آثار تبليغ رسالتهم.
و اذا ما رفعنا الستار و كشفنا النقاب عن سرّ و رمز تحقق، (فاستقم كما أمرت). لعرف و علم زوّار بيت الله الحرام كم سعي رسول الله (صلي الله عليه و آله) لاجل هدايتنا و حصل المسلمين علي الجنة، و كم أن مسؤولية أتباعه ثقيلة، و يقينا أن حجم الظلم و العذاب و الصعوبات التي مرت علي أئمتنا كانت أكبر و أكثر بمراتب من مشاكلنا و آلامنا نحن، مع أن الشعب في ايران قدم الشهداء و خاصة ابان الحرب المفروضة و أثناء أحداث الثورة المباركة، و عاني الكثير من الصعوبات و الالام، و تحمل الظلم الكبير و قدم الشباب الاعزاء في سبيل الله.
ان الكعبة المعظّمة هي المركز الاوحد لتحطيم الاصنام، لقد رفع نداء التوحيد من الكعبة ابراهيم الخليل في أول الزمان، و سيرفعه حبيب الله ولده المهدي العزيز الموعود. (روحي فداه) في آخر الزمان، و سيبقي مرتفعا. قال الله تعالي لخليله ابراهيم: (و أذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا و علي كل ضامر يأتين من كل فج عميق)
عودة الحياة للمساجد
... بيت الله الحرام أوّل بيت بني للناس، هو بيت للجميع، الجميع سواسية هناك. فأهل البادية، و سكّان الصحاري، الذين يحملون بيوتهم علي أكتافهم، متساوون مع العاكفين في الكعبة و سكّان المدن، و رعايا الدول.
هذا البيت شيّد للناس و لاجل نهضتهم و منافعهم.
انّ المسجد الحرام و المساجد الاخري في زمان رسول الله الاكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) كانت مراكز عسكرية و سياسية و اجتماعية) و لم يكن مسجد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) لاجل الامور العبادية فقط كالصلاة ... بل كانت المسائل السياسية هي الاغلب، حيث كانت الامور التي تتعلق بارسال الرجال الي الحرب و تعبئة الناس انّما تبدأ من المسجد في أي وقت يحتاجون فيه لذلك.
لاتخضعوا لغير الله
ان الطواف حول الكعبة المشرّقة يعني أنّ الانسان لن يطوف لغير الله. ورجم العقبات هو رجم شياطين الانس و الجن، و أنتم عندما ترجمون عاهدوا الله أن تقتلعوا شياطين الانس والقوي العظمي من البلاد الاسلامية. اليوم كلّ العالم الاسلامي أسير بيد أمريكا، احملوا من الله رسالة الي مسلمي القارات المختلفة للعالم الاسلامي رسالة أن لا تخضعوا لغير الله و لا تكونوا عبيدا لاحد.
لقد وفقتم أنتم لزيارة البيت الذي جعله الله قياما للناس و جعله الله لاجل جميع البشر و تفضيل قائلاً: (انّ أوّل بيت وضع للنّاس للذي ببكّة) و هذا دليل علي أنّ اللّه تبارك و تعالي دعا العالم كلّه الي الاسلام، و جعل هذا البيت لجميع العالم منذ زمن البعثة و حتّي النهاية.
هذا بيت للنّاس، ولا توجد أولوية لاحد علي أحد، أو لمجموعة علي أخري، أو لطائفة علي أخري، الجميع بشر، الموجودون في جميع أنحاء الدنيا في مشارق الارض و مغاربها، مكلّفون أن يصبحوا مسلمين، و أن يجتمعوا ويزوروا هذا البيت الذي جعله الله للنّاس.
لبيك اللهم لبيك ... لا لجميع الاصنام
عندما تلفظون لبيك اللهمّ لبّيك قولوا: لا، لجميع الاصنام، و اصرخوا: لا، لكلّ الطواغيت الكبار والصغار.
وأثناء الطواف في حرم الله حيث يتجلّي العشق الالهي، أخلوا قلوبكم من الاخرين، وطهروا أرواحكم من أي خوف لغير الله. وفي موازاة العشق الالهي، تبرأوا من الاصنام الكبيرة والصغيرة و الطواغيت و عملائهم و أزلامهم، حيث انّ الله تعالي و محبيه تبرّأوا منهم، و انّ جميع أحرار العالم بريئون منهم.
و حين تلمسون الحجر الاسود أعقدوا البيعة مع الله أن تكونوا أعداء لاعداء الله و رسوله والصالحين و الاحرار، و مطيعين و عبيدا له، أينما كنتم و كيفما كنتم. لا تحنوا رؤوسكم و اطردوا الخوف من قلوبكم، و اعلموا أن أعداء الله و علي رأسهم الشيطان الاكبر جبناء ، و ان كانوا متفوّقين في قتل البشر و في جرائمهم و جناياتهم.
أثناء سعيكم بين الصفا والمروة اسعوا سعي من يريد الوصول الي المحبوب، حتي اذا ما وجدتموه هانت كل الامور الدنيوية، و تنتهي كل الشكوك و الترددات، و تزول كل المخاوف والحبائل الشيطانية والارتباطات القلبية المادية، و تزهر الحرية، و تنكسر القيود الشيطانية و الطاغوتية التي أسرت عبادالله.
اطمئنوا لوعد اقامة حكم المستضعفين
سيروا الي المشعر الحرام و عرفات و أنتم في حالة احساس و عرفان، و كونوا في أي موقف مطمئني القلب لوعد الله الحقّ باقامة حكم المستضعفين. و بسكون و هدوء فكّروا بآيات الله الحقّ، و فكّروا بنجاة المحرومين و المستضعفين من براثن الاستكبار العالمي، واطلبوا من الحقّ تعالي في تلك المواقف الكريمة تحقيق سبل النجاة. بعد ذلك عندما تذهبون الي مني اُطلبوا هناك أن تتحقّق الامال الحقّة حيث التضحية هناك بأثمن وأحب شي ء في طريق المحبوب المطلق، واعلموا أنه ما لم تتجاوزوا هذه الرغبات، التي أعلاها حبّ النفس و حبّ الدنيا التّابع لها، فسوف لن تصلوا الي المحبوب المطلق. و في هذا الحال ارجموا الشيطان، واطردوا الشيطان من أنفسكم، و كرروا رجم الشيطان في مواقع مختلفة بناء علي الاوامر الالهي ء لدفع شر الشياطين و أبنائهم عنكم.
ان هذا السفر الالهي الذي تذهبون اليه، و ترجمون فيه الشيطان، و اذا ما كنتم لا سمح الله من جنود الشيطان سترجمون أنفسكم أيضا. يجب أن تكونوا فيه رحمانيين، و أن تصبحوا رحِمانيين، حتي يكون رجمكم رجم أتباع الرحمن، و جنوده للشياطين، و أنتم تقفون في تلك المواقف و المواضع الكريمة، معاذ الله أن يتلوث و قوفكم بشي ء خلاف الشرع، أو يتلوّث بالمعصية، ففضلا عن اراقة ماء الوجه أمام الله تسقط كرامة الاسلام في الدنيا. اليوم كرامة الاسلام شامخة بوجودكم، أنتم الذين تذهبون جماعات جماعات الي تلك المواقف الكريمة، ويشاهدكم سائر المسلمين من شتي بقاع الدنيا.
الحج دستور علمي للجهاد
علي الحجّاج و الزوار الاعزاء أن يتوجهوا من الكعبة، و هي أفضل و أقدس بقاع الحبّ و الجهاد، نحو كعبة أسمي كما هو سيد الشهداء الامام «أبي عبدالله الحسين (عليه السلام)» حيث توجّه من احرام الحجّ الي احرام الجهاد، و من طواف الكعبة الي طواف صاحب البيت، و من الوضوء بزمزم الي غسل الشهادة، و بهذا تُبدَّل الامة الي أمّة ذات بنيان مرصوص لا تعرف الهزيمة. ولن تجرأ لا القوي الشرقية و لا الغربية علي مواجهتها.
ولا شك في أنّ روح الحج و نداءه، لا يمكن أن يكون غير هذا، حيث أن المسلمين يستلهمون من الحج الدستور العلمي للجهاد ضد النفس و الهوي، و النهج لمقارعة الكفر والشرك.
علي أية حال، انّ اعلان البراءة في الحج تجديد لميثاق النضال، و هو تمرين لاعداد صفوف المجاهدين، و مواصلة الصراع ضد الكفر والشرك و عبدة الاوثان.
كما أنّه لا ينحصر برفع الشعارات، بل انه منطلق علني لاعلان النضال، و تنظيم صفوف جنود الرحمن في مواجهة جنود الشيطان و المتأسين بابليس. لهذا فالحج من مبادي التوحيد الاولي.
اذا لم يعلن ألمسلمون براءتهم من أعداء الله، في بيت الله، فاين اذن يعلنون عن ذلك؟
و اذا لم يكن الحرم والكعبة والمسجد والمحراب، معقلا و سندا لجنود الله، وللمدافعين عن الحرم و حرمة الانبياء، فاين اذن يكمن مأمنهم و ملجاهم؟
و بكلمة واحدة، انّ اعلان البراءة يمثل المرحلة الاولي للنضال، و انّ مواصلة المراحل الاخري هي من واجبنا، و أنّ أداءها في كل عصر و زمان، يختلف باختلاف الاساليب والبرامج الخاصة بذلك العصر والزمان، و لابد من أن نري ما الذي نتمكن من عمله في عصر كعصرنا، الذي عرض فيه زعماء الكفر و الشرك كل وجود التوحيد للخطر، وجعلوا من المظاهر القومية، والثقافية، والدينية أهوائهم و شهواتهم الخاصة؟!
هل ينبغي ملازمة البيوت، والاكتفاء بالتحصيلات، و بالتالي، القاء روح العجز و الخنوع في قلوب المسلمين، والحيلولة دون وصول المجتمع الي الاخلاص، الذي هو غاية الكمال و نهاية الامال؟
الحج والحياة الكريمة
الحج هو نداء لايجاد و بناء المجتمع البعيد عن الرذائل المادية والمعنوية. الحج و مناسكه هو تجلّ عظيم لحياة كريمة و مجتمع متكامل في هذه الدنيا. و من ذلك المكان و من ذلك الموقع الذي يتواصل فيه مجتمع المسلمين من اي قوميه كانوا، و يصبحوا يدا واحدة، ينطلق أداء هذه الفريضة المباركة، التي يجب أن يكون أداؤها و جوهرها توحيديا ابراهيميا محمديا. انّ الحج هو ساحة عرض و مرآة صادقة للاستعدادت و القابليات المادية و المعنوية للمسلمين، الحج كالقرآن يستفيد منه المجتمع. فالمفكرون و العارفون بالآم الامة الاسلامية اذا ما فتحوا قلوبهم، ولم يهابوا الغوص عن قرب في أحكامه و سياساته الاجتماعية، سيصطادون الكثير من صدف هذا البحر، جواهر الهداية و الرشد والحكمة و الحرية، و سيرتوون الي الابد من زلال حكمته و معارفه، ولكن ماذا نفعل؟ و أقولها بألم و حزن: ان الحج أصبح مهجورا كالقرآن و بنفس النسبة التي اختفي فيها هذا الكتاب كتاب الحياة و الكمال و الجمال بسبب حجب النفس التي صنعناها بأيدينا، و دفنا هذا الكنز، كنز أسرار الخلق، فكذلك الحج أصبح أسير هذا القدر، قدر أن الملايين من المسلمين يجتمعون كلّ سنة و يضعون أقدامهم محل قدم محمد و ابراهيم و اسماعيل و هاجر و لا يوجد أحد يسأل ماذا فعل ابراهيم(ع) و محمد(ص)؟ ما هو هدفهما؟ ماذا طلبا منّا؟ و هذا ما لانفكر فيه!
من المسلّم أن حجا دون معرفة ووعي و دون روح و دون حركة و نهوض، و حجا دون براءة، و حجا دون وحدة، و حجا لا ينتج هدما للكفر و الشرك، ليس حجا. و خلاصة الامر أنه يجب علي جميع المسلمين السعي لاجل تجديد حياة الحج و القرآن و اعادتهما ثانية الي ساحة حياتهم، و علي المحققين المؤمنين بالاسلام أن يبينوا التفاسير الصحيحة و الواقعية لفلسفة الحج، ويرموا في البحر كلّ نسيج خرافات و ادعاءات علماء البلاط.
و انني اُوصي جميع العلماء المحترمين و الكتاب والمتحدّثين الملتزمين أن يوضّحوا لجميع المسلمين و خاصة الحجاج منهم أهداف هذه الفريضة المقدسة... كما أني أوصيهم بتعليم الحجاج مناسك الحج و كيفية أدائها بشكلها الصحيح حتي يكون عملهم خاليا من الاخطاء ، و عدم الاكتفاء بأننا أدينا الفريضة و أنجزنا الواجب كيفما كان، فانّ الاخطاء في هذه الفريضة تترك آثارا و اشكالات علي صحتها قد تكلفهم وقتا وجهدا مضاعفا لتصحيحها.
ضحوا بأنفسكم و اعزائكم وأقيموا دين الله
أقدم التهاني و التبريكات الخالصة لجميع المسلمين في العالم بمناسبة حلول عيد الاضحي المبارك. هذا العيد الذي يذكر الناس الواعين بمذبح الفداء الابراهيمي، هذا المذبح الذي قدم درس الفداء و الجهاد في سبيل الله تعالي لابناء آدم و أصفياء و أولياء الله، هذا العمل بعمق أبعاده التوحيدية و السياسية لا يستطيع ادراكه غير الانبياء العظام و الاولياء الكرام و خاصة عباد الله. هذا أبو التوحيد و محطّم أصنام العالم، علّمنا و البشرية جمعاء أنّ التضحية في سبيل الله و قبل أن تكون ذات بعد توحيدي و عبادي، تمتلك أبعادا سياسية وقيما اجتماعية، علمنا و جميع الناس كيف نقدّم أعزّ ثمرات حياتنا في سبيل الله، لذا فاني أناشدكم: ضحّوا بأنفسكم و أعزّائكم و أقيموا دين الله و العدل الالهي.
لقد عرفنا نحن ذرية آدم أنّ مكّة و مني أماكن لنشر التوحيد و نفي الشرك، الذي من مصاديقه التعلّق بالنفس و الاعزاء.
لقد تعلّم أبناء آدم من هذه الاماكن الجهاد في سبيل الله فعليكم أن تعلموا العالم قيمة الفداء والتضحية، وقولوا له، انّه في سبيل الله و اقامة العدل الالهي و قطع أيادي المشركين في هذا الزمان، يجب أن يخلد الحق بتمامه ببذل أيّ شي ء حتي ولو كان مثل اسماعيل. انّ ابراهيم و اسماعيل و ولده العزيز سيد الانبياء محمد المصطفي (صلي الله عليه و آله) محطمو الاصنام و معلمو البشرية أنّه يجب تحطيم كل الاصنام و الاوثان كيفما تكون. و أنّ الكعبة، أم القري علي امتدادها وسعتها و حتّي آخر نقطة من الارض، و حتّي آخر يوم في العالم يجب أن تطهّر من دنس الاصنام، أي صنم كان و كيفما كان أكان هياكل أو شمسا أو قمرا أو حيوانا و انسانا آو صنما و هل هناك أسوا و أخطر من الطواغيت علي امتداد التاريخ، من زمن آدم صفي الله حتّي ابراهيم خليل الله، الي محمد حبيب الله (صلي الله عليه و آله) حتّي آخر الزمان الذي يظهر فيه امامنا المهدي الموعود ليحطم آخر الاصنام و يطلق نداء التوحيد من الكعبة. أو ليست القوي الكبري في زماننا أصناما كبيرة سيطرت علي العالم ودعته لعبادتها و فرضت نفسها عليه بالقوة و التزوير؟! ... انّ الكعبة المعظّمة هي المركز الاوحد لتحطيم هذه الاصنام و تطهير هذه البقاع من كلّ أنواعها. قال الله تعالي: (... و طهّر بيتي للطائفين و القائمين و الركّع السجود)
كونوا يدا قرآنية واحدة
أيّها الحجاج. احملوا من ربّكم نداء الي شعوبكم الا تعبدوا غير الله، و أن لا تخضعوا لغيره.
الاسلام دين عبادته سياسة و سياسته عبادة.
الحج الخالي من الروح والحركة و القيام والبراءة والوحدة والحج العاجز عن هدم صروح الكفر والشرك، ليس هذا حجا.
انّ صرخة البراءة من المشركين في مواسم الحج هي صرخة سياسية. عبادية قد أمر بها رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و ليست مختصةً بزمان خاص، و ان انقرض المشركون من الحجاز، فنهضة الناس ليست مختصة بزمان بل هي دستور كلّ زمان و مكان، و في هذا التجمع البشري العام سنويا تعد من جملة العبادات المهمّة الخالدة الي الابد.
الحج هجرة الي الله
انّ حجّاج بيت الحرام، الذين يتحررون من قفص البدن و قيود الدنيا، و يهاجرون الي الله و رسوله، حيث يصبح البيت القلب، و لا شي ء فيه غير المحبوب الحقيقي، بل لا شي ء غيره في الداخل و الخارج. يجب أن يعلموا أن الحج الابراهيمي المحمدي صلوات الله عليهما و آلهما، مهجور و غريب منذ سنين طويلة سواء من الناحية المعنوية و العرفانية أم من الناحية السياسية و الاجتماعية، و يجب علي الحجّاج الاعزّاء من سائر الدول الاسلامية أن يعيدوا الكعبة و بيت الله من غربتهما و بجميع أبعادهما ...
انّ هذا المؤتمر الذي ينقعد بدعوة من ابراهيم و محمد و آلهما، و يقصد اليه من كلّ زوايا الدنيا، و من كلّ فجّ عميق للاجتماع فيه، لاجل منافع النّاس و القيام بالقسط ، و للاستمرار بتحطيم الاصنام التي بدأ بتحطيمها ابراهيم و محمد، و طواغيت فرعون التي محاها موسي ...
انّ فريضة الحجّ التي هي لبيك بحقّ، و هجرة الي الله انّما هي ببركة ابراهيم و محمد صلوات الله عليهما و آلهمآ بمعني «لا» لجميع الاصنام و الطواغيت و الشياطين و أبنائهم.
عبادات الاسلام تلائم سياساته
(كثير من الاحكام العبادية تصدر عنها معطيات اجتماعية و سياسية، فعبادات الاسلام عادة تلائم سياساته و تدابيره الاجتماعية.
و اجتماع الحجّ يؤدّي بالاضافة الي ما له من آثار خلفية و عاطفية الي نتائج و آثار سياسية. استحدث الاسلام هذه الاجتماعات و ندب الناس اليها، و ألزمهم ببعضها حتي تعمّ المعرفة الدينية و العواطف الاخوية، و يتمّ التعرف بين الناس، و تنضج الافكار و تنمو و تتلاقح، و تبحث المشاكل السياسية و الاجتماعية و حلولها.
في الدول غير الاسلامية تنفق الملايين من ثروة البلاد و ميزانيتها من أجل عقد مثل هذه الاجتماعات، و اذا انعقدت فهي في الغالب صورية شكلية تفتقر الي عنصر الصفاء و حسن النيّة، والاخاء المهيمن علي الناس في اجتماعاتهم الاسلامية، و لا تؤدّي بالتالي الي النتائج المثمرة التي تؤدي اليها اجتماعاتنا الاسلامية.
وضع الاسلام حوافز و دوافع باطنيّة تجعل الذهاب الي الحجّ من أغلي أماني الحياة، و تحمل المرء تلقائيا الي حضور الجماعة و الجمعة والعيد بكلّ سرور و بهجة. فما علينا الا أن نعتبر هذه الاجتماعات فرصا ذهبية لخدمة المبدأ والعقيدة لنبيّن فيها العقائد و الاحكام و الانظمة علي رؤوس الاشهاد و في أكبر عدد من الناس.
علينا أن نستثمر موسم الحجّ و نجني منه أطيب الثمار في الدعوة الي الوحدة و الدعوة الي تحكيم الاسلام في النّاس كافّة، علينا أن نبحث مشاكلنا و نستمدّ حلولها من الاسلام. علينا أن نسعي لتحرير فلسطين و غيرها.
فالمسلمون الاوائل كانوا يجنون من جماعاتهم و جمعاتهم و مواقف حجّهم أحسن الثمار).(1)
الحج في أحاديث الامام الخامنئي
الحج نعمة الهية
قال الله الحكيم: (و اذ قال ابراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمنا واجنُبني و بنيّ أن نعبد الاصنام ربّ انهنّ أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فانّه منّي و من عصاني فانّك غفور رحيم).
أطل علينا موسم الحجّ، و ملات نغمة التلبية المتصاعدة من قلوب المشتاقين حرم الامن الالهي، و هرعت الشعوب الاسلامية من أرجاء المعمورة الي ميعاد الذكر و الاستغفار و القيام والاتحاد، و تلاقي الاخوة المتباعدون ... أتوجّه الي الله العزيز الحكيم شاكرا خاضعا، و أحمده حمدا عظيما عظم صفاته الحسني، وأثني عليه سبحانه ثناءا واسعا، سعة بحار رحمته، أن وفّق المسلمين المشتاقين مرّةً أخري لاداء هذه الفريضة، و أعلا جلّ شأنه. بذلك رايةَ العزّة والعظمة علي رؤوس المسلمين في بيته الامن، واستضاف الحجاج الايرانيين أيضا علي مائدة الرحمة و العظمة.
انّ الانسان ليعجز عن و صف هذه النعمة الكبري و قدرها و ان أوتي فصاحة اللسان و قوّة البيان. و لعل الله سبحانه ينير قلوبكم المضيئة المشتاقة فتتجلّي فيها تلك الحقيقة المستغنية عن وسائط القول والكلام.
أيّها الاخوة و الاخوات مَنَّ أي بلد كنتم و الي أي شعب انتميتم انّ ما يهمّني أن أقوله لكم هو أنّ الحج نعمة الهيّة من بها الله سبحانه علي الاجيال المسلمة. و شكر هذه النعمة و معرفة قدرها يزيدها، والكفران بها ونكران قدرها يسلبها من المسلمين، و هو العذاب الالهي الشديد: (ولئن كفرتم انّ عذابي لشديد).
واعلموا أنّ سلب نعمة الحجّ ليس في عدم توجّه المسلمين لاداء هذه الفريضة، بل في حرمان المسلمين من منافعه التي لاتحصي، و زيادة هذه النعمة ليس في زيادة عدد الحجاج كلّ عام، بل في استثمار منافعه: (ليشهدوا منافع لهم).
الحج الصحيح
جدير بنا أن نفكّر جيّدا، هل العالم الاسلامي استطاع أن يستثمر منافع الحج؟ و ما هي هذه المنافع أساسا؟
الحج الصحيح يستطيع أن يحدث تغييرا في المحتوي الداخلي لكلّ فرد من أفراد المسلمين. يستطيع أن يغرس في نفوسهم روح التوحيد، و الارتباط بالله، و الاعتماد عليه، و روح الرفض لكلّ الاصنام الداخلية و الخارجية في وجود الكائن البشري، هذه الاصنام المتمثلة في الاهواء والشهوات الدنيئة، والقوي الطاغية المسيطرة. الحج يستطيع أن يرسخ الاحساس بالقدرة والاعتماد علي النفس والفلاح والتضحية. و مثل هذا التحوّل يستطيع أن يصنع من كلّ انسان موجودا لا يعرف الفشل ولا ينثني أمام التهديد و لا يضعف أمام التطميع.
والحجّ الصحيح يستطيع أن يصنع من الاشلاء الممزّقة لجسد الامة الاسلامية كيانا واحدا فاعلا مقتدرا، و أن يجعل هذه الاجزاء المتفرقة تتعارف و تتبادل الحديث عن الامال و الالام، والتطورات والاحيتاجات المتقابلة، والتجارب المستحصلة.
ولو أنّ الحجّ وضع ضمن اطار برنامج يتوخّي هذه الاهداف والنتائج و تتضافر عليه جهود الحكومات والعلماء، و أصحاب الرأي و الكلمة في العالم الاسلامي، لعاد علي الامة الاسلامية بعطاء ثرّ آ لا يمكن مقارنته بأي عطاء آخر في دنيا الاسلام. كما يمكن القول بكل ثقة: انّ هذا التكليف الالهي وحده، لو استثمر استثمارا صحيحا كما أرادته الشريعةُ الاسلامية، لاستطاع بعد مدة غير طويلة أن يبلغ بالامة الاسلامية ما يليق بها من عزة و منعة.
لابد من أن نذعن بمرارة الي أنّ الفاصلة كبيرة بين الشكل الحالي الاداء هذه الفريضة الالهية والشكل المطلوب. الامام الراحل العظيم بذل جهودا فعّالة في هذا السبيل، و وضع نصب أعين الامة الاسلامية تصويرا واضحا عن الحجّ الابراهيمي، حجّ العظمة والعزة، حجّ الرفض و التحوّل. و كان طرح هذا التصوّر بحد ذاته مبعث بركات وافرة في العالم الاسلامي. غير أنّ نشر هذه الفكرة و هذا المنهج العملي بين جميع الشعوب المسلمة بحاجة الي جهود مخلصة ينهض بها علماء الدين، و وعي و تعاون يبديه حكام كلّ البلدان الاسلامية، و آمل أن تكون هذه المهمة الحساسة موضع اهتمامهم و عملهم.
الحج شعائر
(و أذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالا و علي كلّ ضامر يأتين من كلّ فج عميق) الحج / 27.
أقبل شهر ذي الحجه الحرام بكلّ ما يحمله من عطاء أبدي للأمة الاسلامية.
حمدالله. سبحانه علي ما أنعم به من هدية خالدة و ينبوع دفّاق، يستطيع المسلمون أن يتزودوا منهما كلّ سنة بقدر همتهم و بقدر معرفتهم.
المصالح والمنافع التي أودعها العلم الالهي و الحكمة الالهية في فريضة الحج تبلغ من السعة و التنوع بحيث لا يري لها شبيه في فريضة اسلامية أخري. الذكر والحضور المعنوي، ووعي الانسان المسلم لنفسه في خلوته مع الله، و غسل القلب من صدا الذنب و الغفلة، و احساس الحضور في المجموع، واستشعار وحدة كلّ مسلم مع جميع الامة المسلمة و تحسس القدرة المنبثقة عن عظمة جماعة المسلمين، و سعي كلّ فرد لان يبرأ من أسقامه و أمراضة المعنوية، أي الذنوب، ثم البحث والسعي لمعرفة ما يعاني منه جسد الامة المسلمة من آلام و جراحات عميقة، و معرفة دوائها و علاجها، و مواساة الشعوب المسلمة التي تشكل أعضاء هذا الجسد العظيم كل ذلك قد أودع في الحجّ ... في تركيب أعماله و مناسكه المختلفة.
القرآن يطلق علي أعمال الحجّ اسم «الشعائر» و هذا يعني أنها لاتنحصر في أعمال فردية و تكاليف شخصية، بل آنهامعالم تثير شعور الانسان و تفتح معرفته علي ما ترمز له تلك المعالم و تدل عليه. و وراء هذه المعالم يقف التوحيد، أي رفض كلّ القوي التي تهيمن بشكل من الاشكال علي جسم الانسان و روحه، و ترسيخ الحاكمية الالهية المطلقة علي كل الوجود، و بعبارة واضحة و مألوفة: حاكمية النظام الاسلامي و القوانين الاسلامية علي الحياة الفردية والاجتماعية للمسلمين.
اجتنبوا الرجس من الاوثان
... في آيات الحج نري القرآن يدعو الجميع الي البراءة من أوثان المشركين:
و هذه الاوثان كانت يوما تلك الاوثان المنتصبة في الكعبة، لكنها اليوم و دائما، تلك القوي التي تمسك دون حقّ بزمام الحاكمية علي نظام حياة البشر، و تتجلّي اليوم بوضوح أكثر في قدرة الاستكبار و قدرة أمريكا الشيطانية، و قدرة ثقافة الغرب، والفساد و التحلل المفروض علي البلدان و الشعوب المسلمة. واضح آن أذناب الحكومات المهزوزة و مأجوريها يصرون علي أنّ الاوثان ليست الا «منات» و «لات» و «هبل»، التي سحقت و خطمت تحت أقدام جيش رسول الله (صلي الله عليه و آله) في الفتح الاسلامي الظافر.
هدف وعاظ السلاطين هؤلاء أن يفرغوا الحج كما يصرّحون هم بذلك من أي محتوي سياسي ... غافلين أن هذا التجمع المليوني الاسلامي من كلّ حدب و صوب، في بقعة معينة و في زمان معين، ينطوي بنفسه علي أكبر مضمون سياسي، انه استعراض للامة الاسلامية تذوب فيه الاختلافات العنصرية و اللغوية والجغرافية والتاريخية، وينبثق من «كلّ» واحد.
هؤلاء و أسيادهم يلفّقون كلّ ألوان الاكاذيب و الخداع و الاباطيل من أجل أن لا يعي المسلمون حقيقة هذا التجمع الكبير، و أن لا يستشعروا الروح الجماعية فيه... ولكي يضيقوا الساحة علي الداعين الي الوحدة، والمنادين بالبراءة من أئمة الشرك.
ايران الاسلام أرادت أن تقوم بأقل عمل. ان لم يكن بأكبر عمل. يتناسب مع موضوع الحج، و هو دعوة المسلمين الي الإتحاد، و تبادل الاخبار بين الشعوب، و اعلان النفرة والبراءة من أئمة الشرك و الفساد. و كل من يجابه هذه الاهداف السامية القيمة، فهو مهما قال، فقد قال زورا. والقرآن يقول: (... واجتنبوا قول الزّور) الحج / 30
(قول الزور) هو ذلك الحديث الباطل الذي يسي ء الي الجمهورية الاسلامية، لان الجمهورية الاسلامية رفضت حاكمية دولة الصهاينة علي فلسطين الاسلامية، وردّت كلّ تسوية تقوم بها حفنة من الفاسدين المطرودين مع الغاصبين، وأدانت التدخّل الاميركي الاستيلائي في البلدان العربية، واستنكرت خيانة بعض حكّام العالم الاسلامي لشعوبهم المسلمة ارضاء لامريكا والصهيونية، ودعت المسلمين الي معرفة قوتهم الكبري التي لا تقوي أية قوة كبري اليوم أن تقف بوجهها، و قررت أن المعرفة الاسلامية و أحكام الشريعة قادرة علي ادارة البلدان الاسلامية، و حذّرت من غارة الثقافة الغربية علي البلدان الاسلامية، متمثلة ... و بعبارة موجزة أصرت علي اتّباع القرآن.
اغتنموا فرصة الحج
... واذ وفّق الله سبحانه جمعا من السعداء الذين توافدوا من كلّ فجّ عميق لينالوا حظّهم من الايام المعلومات و حج بيت الله الحرام، فاني أتضرّع و أبتهل الي الله سبحانه و تعالي أن يكون حجّهم مقبولا مأجورا، أن ينعم بمنافعه علي كلّ الامة المسلمة، وأتقدّم ضمنا بتوصيات الي الاخوة و الاخوات بما يلي:
1 اغتنموا هذه الفرضة لبناء النفس و الانابة و التضرّع، و خذوا منها زادكم المعنوي لجميع عمركم.
2 اسألوا الله سبحانه أن يفرّج عن المسلمين مشاكلهم الكبري، و كرروا هذا الطلب مرّات و مرّات في أدعيتكم و مناجاتكم.
3 اغتنموا كلّ فرصة للتعرّف علي المسلمين الوافدين من جميع أرجاء العالم، واستفيدوا ممّا في مجريات حياتهم من جوانب سلبية أو ايجابية. و علي المسلمين، غير الايرانيين خاصة، أن يسمعوا حقائق و قضايا ايران الاسلام من لسان اخوتهم الايرانيين، ليميزوا الصحيح عن غير الصحيح ممّا سمعوه بشأنهم من الاعلام العالمي.
وليسعوا اليوم و دائما أن يستوعبوا تعاليم الامام الراحل العظيم الامام الخميني رضوان الله تعالي عليه بشأن ما يرتبط بمسائل المسلمين، و أن يتعرّفوا عن قرب، و بشكل أفضل، علي هذا المصلح الكبير في تأريخ الاسلام.
4 انقلوا كلّ معلوماتكم و اطلاعاتكم الصحيحة عن وضع الامّة الاسلامية، أو عن بلدكم الي المسلمين القادمين من البلدان الاخري.
5 في حديثكم مع اخوانكم المسلمين، من أَي صقع كانوا، ركّزوا علي مسألة «الامة الاسلامية» والنظرة الشمولية التوحيدية للعالم الاسلامي، ولتتجاوز أفكاركم و أفكار من تحاورونه اطار الحدود الجغرافية والعنصرية والعقائدية والحزبية و أمثالها، وارتفعوا الي مستوي هموم الاسلام والمسلمين.
6 ذكّروا مخاطبيكم دائما بما أنعم الله به علي المسلمين من نفوس تزيد علي المليار، وبلدان تبلغ العشرات، و من ثروات مادية و معنوية ضخمة، وتراث عظيم ثقافي و حضاري و ديني و أخلاقي.
7 حطموا اسطورة قدرة الغرب التي لا تقهر! خصوصا أمريكا. هذه الاسطورة التي يحاول الاستكبار العالمي دائما أن يلقيها في أذهان المسلمين عن طريق تهويل قوّته. و ذكّروا أنفسكم و ذكّروا المسلمين الاخرين أنّ قوّة المعسكر الشيوعي، التي كانت تبدو أنها لا تقهر، قد تحطمت منذ قريب أمام أعين هذا الجيل، وأصبحت أثرا بعد عين ... القوي المتعملقة الحالية، و منها قوّة أميركا، هي الاخري من الممكن أن تنهار بالسهولة نفسها و ينقطع أثرها.
8 ذكّروا علماء الدين و المثقّفين في البلدان المسلمة بمسؤولياتهم الكبري الثقيلة دائما، وذكّروا الاخرين أيضا بذلك.
9 انطلاقا من واجب النصيحة لائمة المسلمين، ذكّروا زعماء البلدان المسلمة بمسؤولياتهم تجاه الامة المسلمة، وتجاه اقامة وحدة المسلمين و الابتعاد عن القوي الاستكبارية ... ذكّروهم بضرورة التوجه الي شعوبهم و الاعتماد عليها، و احلال الرابطة الحسنة بين الشعوب والحكّام. واطلبوا من الله سبحانه اصلاح أمورهم.
10 كونوا مهتمين دائما أن مسؤولية الزعماء لا تعني رفع المسؤولية عن كلّ فرد من أفراد الشعوب المسلمة، فكل أبناء الامة يستطيعون أن يكون لهم دور فاعل في كل هذه الاهداف الكبري.
آمل من الله بفضله، وبدعاء وليّ الله الاعظم المهدي المنتظر (أرواحنا فداه و عجّل الله تعالي فرجه) أن يمنّ بحج مقبول علي الحجّاج المحترمين، و برحمة واسعة و نعمة سابغة علي الامة الاسلامية و آحاد المسلمين.
الحج توحيد لكلمة المسلمين
قال الله الحكيم: و اذ بوّأنا لابراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا و طهّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود.
شاءت الارادة الالهية النافذة أن تجمع المؤمنين مرّة أخري في منبثق التوحيد، و مشهد رحمة ربّ العالمين و فضله، وحول محور كعبة القلوب، و في ساحة قبلة أرواح المسلمين في العالم ... فتفوّق النداء المكوتي: (وأذّن في الناس بالحجّ) علي كلّ الفواصل الطبيعية منها والمفتعلة المفروضة بين الاخوة المسلمين، و دفع مجاميع القلوب النابضة بالايمان و الامال المشتركة نحو مركز التوحد و وحدة الامة. منذ سنوات طوال سعت يد الجهل و العناد الي أن تفصل الاسرة الاسلامية الكبري عن حضورها العقائدي، و عن روابطها الايمانية.
ولكن فريضة الحجّ السنوية تؤدّي دورها في تغذية الاسرة العريقة الاصيلة بدرس التوحيد والوحدة ... و في كلّ سنة تنفتح أزاهير جديدة، تزيد عمّا مضي، مبشّرة بعودة ربيع الايمان، والحياة في ظل الدين، والتالف و التوادد بين المسلمين ... و محبطة عمل الاعداء و ما كانوا يأفكون.
انّها لمعجزة الحجّ أن نري الوشائج الفكرية و العاطفية و الايمانية بين الشعوب المسلمة لمّا تنقطع أبدا، و أن التفاعل بين هذه الشعوب يزداد باطراد رغم كلّ النزاعات و الصراعات التي تختلقها و تبثها حكوماتها وأعداؤها.
من أسرار الحج
أسرار الحج و رموزه أكثر من أن يحتويها مقال، غير أن بينها ثلاث خصائص بارزة تستطيع كلّ عين مستقصية أن تتعرّفها في أول نظرة:
الاولي: أن الحج هو الفريضة الوحيدة التي دعا ربّ العالمين الي أدائها جميع المسلمين من استطاع اليه سبيلا و من أرجاء العالم كافة، وصوب نقطة واحدة، و في أيام معلومات، ليربط بينهم في ألوان من السعي والحركة والسكون والقيام والقعود.
(ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفرواالله ان الله غفور رحيم)
الثانية: أن الهدف الاسمي في هذا العمل الجماعي والعلني والقلبي والنفسي هو ذكر الله:
(ويذكروا اسم الله في أيام معلومات علي ما رزقهم من بهيمة الانعام فكلوا منها و أطعموا البائس الفقير)
الثالثة: أن الحج يعرض علي شاشته المضيئة البيّنة تصويرا كاملا لحياة الانسان الموحّد. و بعمل رمزي يلقن المسلمين درس الحياة المتحركة الهادفة. منذ ورود الميقات و حضور ساحة الاحرام و التلبية والتروك حتي الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا و المروة، والوقوف في محشر عرفات والمشعر و ما فيهما من ذكر و تضرّع و تعارف، و حتي وصول مني و أضحيتها و رمي جمارها و حلقها، ثم العودة الي الطواف والسعي ... يتلقّي المسلم فيها جميعا دروسا واضحة بينة في الحركة الهادفة و الجماعية والعارفة في ساحة التوحيد، و علي درب الحياة و حول محور «الله» سبحانه.
الحياة في منهج الحج سير دائم بل صيرورة مستمرة نحو الله. والحج هو الدرس العملي الحي البنّاء الذي ان و عيناه يرسم لنّا طريق حياتنا في صورة عملية مشرقة.
العالم الاسلامي عرضة لتهديدين
الحجّ ... هذا الينبوغ الفياض بالتقوي والمعنوية والخير والبركة، يتدفّق بعطائه كلّ عام و الي الابد علي العالم الاسلامي، و علي كلّ مسلم موفّق لاداء هذه الفريضة المباركة، فينال كلّ فرد و كلّ جماعة من عطائه بقدر الوسع و القابليّة.
عطاء هذا الينبوع الفيّاض لايقتصر علي حجّاج بيت الله الحرام، اذ لو عرفت هذه الفريضة العظيمة و جري العمل بها بشكل صحيح، فان كل الافراد والشعوب في جميع أرجاء العالم سينعمون ببركاتها.
الافراد والجماعات البشرية يتعرضون للكوارث والمصائب والالام من جانبين. الاول: من داخل أنفسهم، و منشأ ذلك الضعف البشري والاهواء الجامحة والشكوك وجدب الايمان والخصال المخرّبة. والثاني: الاعداء الخارجيون. فهم النكد لحياة الافراد والجماعات بسبب طغيانهم و أطماعهم و عدوانهم و وحشيتهم، وهم البلاء الداهي بسبب حروبهم و ظلمهم و تجبّرهم و تعنّتهم.
العالم الاسلامي بأفراده و شعوبه كان دائما عرضة لهذين التهديدين، و هو اليوم مهدّد أكثر من ذي قبل، فمن جانب نري اشاعة الفساد في البلدان الاسلامية وفق خطة مدروسة وضعها الاعداء، و نري فرض الثقافة الغربية. بمساعدة بعض الانظمة العميلة. علي مظاهر الحياة بدءا من السلوك الفردي و حتي تخطيط المدن و الحياة العامة والصحافة و غيرها، هذا من جانب، و من جانب آخر نشاهد الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية علي بعض الشعوب المسلمة، والمذابح الوحشية في لبنان و فلسطين والبوسنة و كشمير و افغانستان ... و كلها شواهد بارزة علي هذين التهديدين في أجوائنا الاسلامية.
الحجّ، هو تلك الهدية الالهية، والرحمة التي لا ينضب معينها، به يستطيع المسلمون أن يتخلصوا الي الابد من نكد العيش و مرارته، و من مرض الانحراف ولوثته، و بمساعدة هذا الذخر الابدي يستطيعون تحصين أنفسهم في كل زمان من هاتين الكارثتين.
ما في الحج من عناصر التقوي و الذكر و حضور القلب والخشوع و التوجه الي الله سبحانه و تعالي هي كفيلة بمواجهة التهديد الاول، و ما فيه من عناصر التجمع والتوحد و الاحساس بعظمة الامة الاسلامية الكبري و قدرتها علي ساحة الحج هي كفيلة بمقابلة.
التهديد الثاني:
كلما قوي هذان الجانبان في الحج ازدادت حصانة و مقاومة الافراد والمجتمعات الاسلامية ازاء هذين التهديدين، و متي ما ضعف او زال أحدهما أوكلاهما فان الامة الاسلامية بافرادها و شعوبها و بلدانهاتصبح أكثر عرضة للكوارث والمحن.
في نصّ القرآن الكريم، و في نصوص الشريعة الاسلامية المقدسة تصريح بكلا الجانبين بحيث لا يبقي مجال للشك لكل ذي عين و قلب و انصاف. مافرضه الله سبحانه في قوله: (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) البقرة / 200 جاء الي جانبه فريضة أخري حيث يقول سبحانه: (و أذان من الله و رسوله الي الناس يوم الحج الاكبر أن الله بري ء من المشركين و رسوله) التوبه / 3.
و اتساقا مع قول الحكيم جلّت قدرته: (لن ينال الله لحومها و لا دماؤها ولكن يناله التقوي منكم كذلك سخرها لكم لتكبّروا الله علي ما هداكم و بشّر المحسنين)
الحج / 37، نزل قول اللطيف سبحانه: (ليشهدوا منافع لهم) الحج / 28.
كل توصية و اعلام و سعي لتضعيف واحد من هذين الجانبين او ابعاده انّما هو مجابهة مع آيات القران الكريم و تعاليمه.
ليس ثمة خسارة للامة الاسلامية أفدح من أن تتعرّض تعاليم الاسلام و توجيهاته، برصيدها الحياتي للمسلمين و جميع البشرية، لغفلة و جهل الزعماء الدينيين و السياسيين، و أن يحال بينها و بين أن يتزود من عطائها الناس جميعا.
الحج جزء من هذا الرصيد الحياتي الدائم، و علي كل المسلمين أن يتعمقوا في معرفته و يزدادوا انتهالا من زاده.
الحج التوحيدي
... انّ الحديث عن الحجّ أمر عظيم، خاصّة عن قدراته. لو ادي كما فرضه الله. علي معالجة الامراض الاساسية وازالة بؤر التخلف. و هذا العلاج لا يأتي دفعة واحدة، الا أنّ اجتماعا مليونيا، علي مرّ السنين، من الرجال و النساء الوافدين من كلّ فج عميق، في بقعة واحدة، و علي صعيد أعمال متناسقة مليئة بالمعاني، و تحت لواء التوحيد العظيم، و في أجواء عبقة بذكريات صدر الاسلام من بدر وأحد، و صعيد زيارة مسجد لا تزال جدرانه تعيد الي الاسماع صدي التلاوة القرآنية العطرة منطلقة من حنجرة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و لا يزال نداء تكبير المجاهدين في صدر الاسلام يموج في أجوائه، كلّ ذلك في جوّ مفعم بالذكر و الاستشعار و مناجاة الله عزّ و جلّ، جوّ ينتشل الانسان من ضعفه و ذاتيتة واعوجاجه ليرفعه الي معدن المجد و العظمة و قدرة رب العالمين ... كلّ ذلك كاف في أن يكون بلسما شافيا يبعث القوّة في أن يكون بلسما شافيا يبعث القوّة في القلوب و الرفعة في الهمم، والصلابة في الارادة، و الاعتماد في النفوس، والسعة في الافق، والسرعة في تحقق الامال، والاتحاد بين الاخوة. و يجعل الهوان في الشيطان، والضعف في كيده.
نعم، الحجّ الصحيح و الكامل ... الحجّ التوحيدي ... الحجّ حين يكون منطق حبّ الله و حبّ المؤمنين و البراءة من الشياطين، و من الاصنام والمشركين ... يعمل أولا علي وقف اتّساع دائرة مشاكل الامّة الاسلامية، ثمّ يستأصل هذه المشاكل، و يعود علي الاسلام بالعزّة، و علي حياة المسلمين بالازدهار، و علي البلدان الاسلامية بالاستقلال والتحرر من شرّالطامعين. واستنادا الي هذا الفهم الصحيح للحجّ، وضعت هذه الفريضة، بعد انتصار الثورة الاسلامية الكبري، في رأس قائمة اهتمامات الجمهورية الاسلامية علي الساحة الدولية، و ركّزت هذه الدولة المباركة علي تقريب الحجّ مما كان عليه في صدر الاسلام، و ذلك بالمواءمة بين الجانب السياسي الالهي لهذه الفريضة و هو مظهر عزة الحي القيوم و قدرته، والجانب العبادي، و هو مظهر غفران الربّ و رحمته، ولتجسيد هذا الاقتران أحيت شعيرة البراءة من المشركين ثانية في الحجّ، و هي تواصل العمل بهذا الواجب الاسلامي رغم كلّ المعوّقات السياسية، و رغم كلّ المضايقات الناشئة عن دوافع غير اسلامية.
الجمهورية الاسلامية باعتبارها النظام الذي أثبت قدرة الاسلام علي ادارة المجتمعات البشرية الكبري، و رغم كلّ ما شاع تجاه هذه القدرة من تشكيك و اعلام مضادّ خلال القرن الاخير، تنظر الي الحجّ، لا كوسيلة لتكريس الذات، بل باعتباره ساحة توعية المسلمين، و غرس روح التقوي و الايمان و الاندفاع نحو تطبيق الشريعة الاسلامية، و نحو تحقيق العزّة و الاستقلال في نفوسهم.
انّ أولئك الذين يرفضون روح الحركة و النظرة الشمولية في الحج انّما يرفضون في الواقع عزّة المسلمين و استقلالهم و نجاتهم من براثن الاستكبار و الصهونية، كلّ فتوي و رأي في مجال هذا الرفض انّما هو حكم بغير ما أنزل الله، صادر علي أغلب الظن عن جهل بحقائق العالم و عن انعدام البصر و البصيرة في أمور المسلمين.
كلّ مطلع علي ما تعانيه الشعوب المسلمة اليوم من وضع مرهق و من سيطرة أمريكية متجبّرة عليهم.
كلّ من يعلم بما يرتكبه الصهاينة من جرائم، و مايحيكونه من مؤامرات خفية ضد البلدان الاسلامية.
كلّ من يحسّ بخطر انتشار هذه الغدّة السرطانية الخبيثة في الاجهزة الاقتصادية والسياسية لدول المنطقة.
كلّ من يشاهد ما يعيشه الشعب الفلسطيني من وضع متأزّم في مخيّمات الغربة، و من احتلال الجلادين لارض هذا الشعب.
كلّ من يعلم بما يجري في جنوب لبنان و في مناطقه المحتلة بيد الصهاينة و في أراضية المعرضة دائما للهجوم.
كلّ من سمع بالمآسي المفجعة في لبنان حيث الصهاينة بدعم حكومة امريكا يقصفون بين فترة و أخري هذا البلد من الجو والارض والبحر، و يقتلون بشكل جماعي الاطفال والنساء والمدنيين.
كلّ من يطّلع علي أوضاع البوسنة و أفعانستان و كشمير و تاجيكستان والشيشان.
كلّ من يدري بما تدبره أمريكا الطاغية والصهونية عدوة البشرية من مؤامرات متواصلة و أعمال عدوانية ضدّ الجمهورية الاسلامية التي تمثل اليوم مظهر حاكمية القرآن و الاسلام.
نعم ... من يعلم كلَّ هذه الحائق و هو يتحلّي بغيرة اسلامية و يحس بمسؤولية دينيّة، لا يتردد في الحكم علي أن تضييع رصيد الحج العظيم، و فقدان هذا السند الالهي المستحكم للاسلام والمسلمين خسارة لا تعوض و ذنب لا يغتفر.
انّ ما تعانيه الدول الاسلامية من ضعف، و ما يوجد بينها من تمزّق مؤلم حقيقة لا يمكن كتمانها أو انكارها. العالم العربي دفع بنفسه اليوم الي حالة لا يستطيع معها مع الاسف أن يدخل ساحة الحرب حتي ليوم واحد مع العدو الغاصب لاراضيه، الذي أضحي ضحية جرائم الكيان الصهيوني الغاصب.
نحن نري المعدّات الحربية الجوّية و معدّات الدفاع الجوي المشتراة بأثمان خيالية من مصانع الغرب تملا مستودعات هذه البدان، بينما تقصف طائرات الصهاينة بسهولة بيوت الشعب العربي اللبناني، و تهدم عليهم منازلهم، و لا تستطيع أية واحدة من هذه الدول أن تقطع الطريق أمام هذا القصف الوحشي و تمنعه.
هذه الحقائق المرّة لو أضفت لها ما تمارسه القوي الاستكبارية من نفوذ سياسي، و من هجوم دون مانع للسيطرة الثقافية التامّة علي كثير من هذه البلدان، و ما تشهده الساحة من مصائب فادحة تنذر بالخطر، فانّها كافية لكلّ ضمير حي و عقل سليم أن يتوصّل الي أن البلدان الاسلامية والشعوب الاسلامية والعينة الانسانية المجتمعة حول الكعبة المشرفة، والمواقف المباركة في أرض الوحي بحاجة أكثر من أي وقت مضي الي معني الحجّ و روحه وقوّته المودعة فيه، ولا بدّ لها من أن تستثمر عطاءه.
هذا هو حديثنا عن الحجّ و هذا هدف دعوتنا الي احياء الحج و سائر شعائر الاسلام الحياتية.
الحج مشهد لعظمة الأمّة
بيت الله الحرام هذه الايام يستضيف مرة أخري سيول القلوب المتلهفة المشتاقة، التي هوت الي كعبة الامال من كلّ فجّ عميق. حيث الملايين تستشعر الوحدة والوئام في ظل عبودية الله الواحد القهّار و حيث العيون التي تسخو بدموعها و هي تقف علي ربوع النبي الاعظم (صلي الله عليه و آله) و أولياء الله (عليهم السلام) والمجاهدين والعظام في تاريخ الاسلام و حيث الارواح تصفو و تشرق في ظلّ معنوية بيت الله الحرام و حريم تربة المصطفي عليه و علي آله آلاف التحية والسلام و حيث الايدي المتضرعة التي تسوق قوافل حاجتها و رجائها الي ساحة الغني العزيز، و حيث المهمومون الذين يقفون علي باب الحكيم ليجدوا علاج هموم العالم الاسلامي، وليجدوا من يحمل مثل همومهم من أرجاء المعمورة، و حيث الضعفاء الذين يحسّون هناك بالقدرة والعظمة.
في هذه الايام تعرض الامة الاسلامية العظيمة مشهدا من أبهتها و عظمتها أمام أعين من لم يعرف قدرها، فتزيد المحبين أملا و الاعداء خوفا، في هذه الايام تهطل أمطار الرحمة والحكمة علي العطشي، فتنتعش القلوب الكئيبة، و تتفتح العقول الراكدة.
نعم، هذه الايام هي للعالم الاسلامي و الامة الاسلامية أيام عيد و أيام ميعاد، و جدير بالمسلمين في كل أرجاء الارض، و خاصة حجاج بيت الله الحرام، أن يغتنموها بقضاء ساعات و أوقات في التعبد والتعقل، و أن يعود من ظفر بفرصة الحج والزيارة الي دياره بيد مملوءة برحمة الله و حكمته، مستقبله و مستقبل الامة الاسلامية.
من بين الفرائض الدينية، يعد الحج أكبر فريضة تجمع الجانبين الفردي و الاجتماعي بشكل واضح جلي.
الحج في جانبه الفردي
الهدف في الجانب الفردي التزكية والوصول الي حالة الصفاء والاشراق والتحرر من الزخارف المادية التافهة، والخلوة مع الذات المعنوية، والانس بالله تعالي، والذكر و التضرع والتوسّل الي الحقّ سبحانه ليجد الانسان طريقه الي العبودية، ويسير علي هذا الطريق الي العبودية، و يسير علي هذا الطريق الذي هو صراط الله المستقيم نحو الكمال.
تنوع الفرص والاختيارات في هذا الجانب كثير بحيث لو أراد شخص أن يجتازها بتوجه و تدبر فانه ينال دون شك أعظم العطاء : فرصة الاحرام والتلبية، فرصة الطواف والصلاة، فرصة السعي والهرولة، فرصة الوقوف في عرفات والمشعر، فرصة الرمي و التضحية، و فرصة ذكر الله، تشكل كلها جوا زاخرا بالروح والحياة يمتدّ علي جميع هذه المراحل. مجموع هذه الفرص يمكن أن يوفّر لكل فرد دورة قصيرة من الرياضة الشرعية، و تمرينا علي الزهد والسلم والحلم، و خصالا خلقية حميدة أخري.
الحج في جانبه الاجتماعي
في الجانب الاجتماعي، الحج من بين جميع الفرائض الاسلامية فريضة فريدة لانه مظهر قوّة الامة الاسلامية و عزّتها و اتحادها، ولا ترقي اليه أية فريضة أخري في قدرته علي تلقين الافراد دروسا و عبرا بشأن الامة الاسلامية والعالم الاسلامي، و علي تقريبهم روحا و واقعا من القدرة والعزّة والوحدة. و شلّ هذا الجانب من الحج انّما هو غلق نبع يفيض علي المسلمين بمنافع لا يمكن تحققها من أية وسيلة أخري.
الاقتدار الوطني في المجتمعات البشرية مفتاح النجاح والتطور، والوسيلة اللازمة لتحقيق الحياة الطيبة لأفراد المجتمع. والمقصود بالاقتدار الوطني أن يتمتع المجتمع والبلد بالاخلاق والعلم والثروة والنظام السياسي الفاعل والارادة الشعبية. صحيح أن المجتمعات المقتدرة ان افتقدت التوجيه والارشاد والعدالة فستكون علومها و ثرواتها عاملا علي طغيانها، و علي زوال أخلاقها و ارادتها، و علي دفعها نحو الانحطاط، كما تظهر اليوم أمارات ذلك الاقتدار سيجعل كثيرا من الانحدار في أمريكا و نظائرها، غير أن فقدان ذلك في الانحطاط الاخلاقي والسياسي، و سيسلب الشعوب دنياها و آخرتها و علمها و أخلاقها و كلّ شي ء لديها. من هنا فان تعاليم الاسلام السياسية و الاجتماعية تتّجه جمعيا نحو اعتلاء الامة الاسلامية سلّم الاقتدار والسيادة في الحقول العلمية و الاخلاقية والسياسية والروحية والمادية. واليوم فانّ المخلصين الواعين من قادة شعوب العالم يسعون الي استثمار كلّ الامكانيات والطاقات المتاحة لتصعيد اقتدار شعوبهم.
الامة الاسلامية الكبري مع وجود عددها و عدتها تفتقد العزة والاقتدار علي الساحة العالمية. كيف يمكن أن تستعيد عزّتها و قدرتها اللائقة بها؟ هذا السؤال يجب أن يتردد علي الالسنة و في الاذهان لدي كلّ المسلمين، خاصة القادة والمسؤولين والعلماء والمثقفين والشخصيات الاسلامية، و أن يجدوا للاجابة عنه.
الحج معرفة جامعة
حلّ موسم الحجّ و هو يحمل بشائر أكبر لقاء سنوي للمسلمين، و جدير بقلوب آلاف المشتاقين الذين نالوا فيض اللقاء في هذا الموسم أن تخفق و تنتفض لاعداد نفسها، و جدير بالملايين من المسلمين الراجين الذين لم يُدرجوا هذا العام في قائمة النائلين لهذا الفضل أن يملاوا قلوبهم و أذهانهم بشذي و عبير استذكار كل لحظات أيام السعداء و يدعوا لهم و لانفسهم، ليعيش كلّ المسلمين العارفين خلال أيام الحج مع الحج و شعائره و آيات جلاله و جماله.
فريضة الحجّ كلّ عام تشكل حادثة كبري من حقها أن تستقطب في تلك الايام المعلومات الافكار و الاهتمامات و العقول و المشاعر في جميع أرجاء العالم الاسلامي، و أن يعيش المسلمون معها، و يفكروا فيها كل بحسب موقعه الروحي والفكري والسياسي، و من الطبيعي أن الذين نالوا فيض الحج يحتلون مركز هذا التكليف و التوقع. و اذا كانت أبدانهم و أرواحهم و أفكارهم و مساعيهم ممزوجة بالحج و بركاته و آثاره، فالاجدر أن يحصلو علي أكثر ما يمكن من العطاء المعنوي والروحي والفردي والاجتماعي لهذه الفريضة، و سيحصلون باذن الله علي ذلك.
بركات الحجّ و ان كانت تستوعب كلّ جوانب الحياة البشرية، و يعمّ مطر رحمتها جميع المجالات ابتداء من خلوة القلب والفكر، و مرورا بساحات السياسة و الاجتماع و عزّة المسلمين و تعاون الشعوب المسلمة، فتثرها و تحييها و تبث فيها نشاط الحياة. ولكن قد يمكن القول: انّ مفتاح كلّ هذا هو «المعرفة» و أولي هدايا الحج. لمن أراد أن يبصر الحقيقة و يستثمر ما ألهمه الله من قدرة علي فهم «الظواهر» هي المعرفة المتكاملة، التي ينفرد بها الحج، و لا يحصل عليها المسلمون عادة الا من هذه الفريضة، و لا تستطيع أية ظاهرة دينية أخري أن تقدم للامة الاسلامية تلك المنظومة الكاملة من المعارف كما يقدمها الحج، و من هذه المنظومة المتكاملة من المعارف:
معرفة الذات علي الصعيد الفردي، و معرفة الذات علي صعيد الانتماء للامة الاسلامية العظمي، و معرفة النموذج الموجود في الحج من تلك الامة الواحدة، و معرفة عظمة الله و رحمته، و معرفة العدو ...
البلاد الاسلامية بين عمالة الحكام و غفلة الشعوب و خوف العلماء
أيّها الحجاج الكرام ... امتنا الاسلامية تمتلك اليوم أكثر مصادر النفط التي تعد بدون مبالغة شريان حياة الحضارة العالمية الراهنة، و هي اليوم موجودة في أرض العالم الاسلامي، أكثر المناطق استراتيجية في العالم و تحت تصرّفكم كما أن القسم الاعظم من المصادر الارضية الضرورية لبناء العالم في الحاضر و المستقبل تتوفر في بلدان المسلمين، كما أنّ أكبر الاسواق الاستهلاكية لمصنوعات البلدان التي فرضت نفسها علي المسلمين تكون في بلدانكم، هذا و أن ثقافة المسلمين الغنية العريقة و علومهم و معارفهم شكلت الدفعة الاولي لاعتلاء الغربيين ذروة صرح علوم العالم المعاصر، فللمسلمين حقّ الحياة علي علوم الغرب و حضارته .
و مع كلّ ذلك لا يمتلك المسلمون اليوم علي الساحة العالمية و في معترك السياسة الدولية أي دور في اتخاذ القرارات الكبري و في تعيين النظام الدولي، وأفظع من ذلك فانّ كثيرا من البلدان الاسلامية تنهج في سياستها الوطنية منهجا ذليلاً تابعا وتخضع لاحدي البلدان المستكبرة المتعنتة ... حكوماتها عملة، و ضعيفة النفس، و شعوبها مضطهدة أو مغفلة، و علماؤها و مثقفوها مصابون بالخوف والتغافل، و بحبّ البطر والراحة ... و كانت النتيجة أن تبددت ثروات الامة الاسلامية، و أصبح تعيين مكانتهم السياسية باشارة القوي المستكبرة، و أن لا يحسب لعددهم و عدتهم حساب، و أن تحرم الامة الاسلامية من قسم عظيم من امكاناتها، و أن يستفيد أعداء الاسلام والمسلمين، من تلك الامكانات للاضرار بالاسلام والمسلمين بينما كان ينبغي أن تستفيد الامة الاسلامية الكبري من كلّ ما تمتلكه من طاقات لا ستحصال ما تستحقه من عزّة و اقتدار.
انّ الاوضاع الراهنة للعالم الاسلامي والحوادث والمحن التي أذاقت المسلمين القهر و المرارة، كمأساة فلسطين المغتصبة و افغانستان و غيرها ... و وضع الاقليات المسلمة في بعض البلدان الاوربية ... كلها شواهد ناطقة علي هذه الحقيقة المرّة...
فعليكم أيها الحجاج الكرام أن تجعلوا فريضة الحج مؤتمرا تتداولون فيه تلك المشاكل و المحن، وتتدارسون فيه أفضل السبل لحلّها و لتوعية شعوبكم بكل ذلك.
فالامة الاسلامية الكبري تعد أكبر سند للعالم الاسلامي و أن الشعوب المسلمة بوحدتها و تلاحمها و تفاهمها و بما فيها من ثروات طبيعية و خيرات كثيرة ... تذيب قلب كل مستكبر و تصم اذنه و تقصهم ظهره و الحج هذه الفريضة المباركة، يعرض لنا مظهرا جميلا و نموذجا رائعا لهذا السند العظيم.
الحج و معرفة الاعداء
معرفة عظمة الله و رحمته في الحجّ تعني التأمّل في رفع قواعد هذا البيت الذي هو بيت الله و هو في الوقت نفسه بيت الناس أيضا. (انّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا و هدي للعالمين) آل عمران / 69
انّه البقعة التي يتّجه اليها الانسان الخاشع المتبتّل، و أنّه أيضا محلّ تجلّي عظمة الدين الالهي. خليط من العظمة و الصفاء والبساطة، ذكري أوّل نداء للتوحيد و محطّ لتحقّق وحدة الكلمة، يحمل آثار أقدم المجاهدين في صدر اسلام الذين جاهدوا فيه و هم غرباء، و هاجروا منه و هم مظلومون، و عادوا اليه و هم فاتحون أعزاء، و طهّروه من رجس جاهلية العرب، ثم هو المعطّر بشذي المتهجدين هو محلّ سجود العابدين، و مهوي قلوب الشاكرين، انّ مطلع فجر الاسلام في البلاد ومشرق طلوع المهدي الموعود في الخاتمة، هو ملجأ القلوب المضطربة و محطّ آمال النفوس المتبرّمة.
تشريع فريضة الحجّ و ترتيب مناسكه يحمل دلائل العظمة و يحمل آيات الرحمة أيضا. بهذه المعرفة تستيقظ القلوب و بمشاهدة الكعبة المشرّفة والمسجد الحرام بوعي يعود التائهون الي الصراط المستقيم ...
معرفة العدو حصيلة كلّ هذه الالوان من «المعرفة» و مكملة للنفوس و بدونها يكون قلب المسلم و ذهنه بدون أسوار ضد الغزاة والخونة.
انّ أعمال الحجّ، و منها رمي الجمار تجسيد للمعرفة و مقارعة العدو. والنبي الاكرم (صلي الله عليه و آله) رفع الاذان في الحج، و تليت آيات لبراءة في موسم الحجّ بلسان أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). ولو أنّ الامة الاسلامية تخلصت يوما من وجود جحافل الاعداء وأمكن حدوث ذلك فانّ البراءة ستفقد تمبررها ولكن مع وجود الاعداء و عدوانهم الحالي فان الغفلة عن العدو و اهمال البراءة منه خطا كبير و خسارة فادخة.
الحج تجسيد للجهاد المسلم
هذه المناسبة الخالدة التي يقدم الحجيج علي أدائها، تشكّل بنفسها مجموعة ناطقة معبّرة طافحة بالذكر والنشاط المعنوي والداخلي في اطار حركة و سعي و تنسيق بناء جماعي.
انّ الحج بتعاليمه المفعمة بالاسرار والرموز، و بمظاهره الرائعة الجامعة بين العظمة والتذلل، والاقتدار والتواضع، و الحركة الداخليّة و الخارجيّة. تجسيد لجهاد الانسان المسلم في مجالي النفس والعالم باتّجاه تحقيق الحياة الانسانيّة الطيّبة، و تدريب للحاج علي واجباتة الكبري في الحياة.
انّ المجتمعات البشريّة المختلفة و هي تعاني اليوم من فراغ روحي و ضياع و حيرة من مآس و ويلات اجتماعية و فردية فرضها طواغيت الثروة و القوة علي الساحة العالمية. تحتاج الي الاسلام و الي تعاليمه و دروسه الكبري. و انّ الدعوة الاسلامية لتجعل عناصر الاستقطاب والنفوذ و الامل، ليس فقط للشعوب التي تحترق بنيران الفقر و الاستضعاف، بل و بنفس القدر للشعوب التي تتخبّط في مستنقعات الفراغ والحيرة والفقر الروحي في البلدان الثريّة المتطورة. و ما تذكره الاحصائيات و الدراسات من تزايد التوجّه الي الاسلام بين فئات الشباب و بين كلّ الرافضين لخواء الحياة المادية في البلدان الغربية المتطورة، دليل علي هذا الاستقطاب والنفوذ.
المسلمون بتفهمهم لهذه الثروة الكبري و منحها ما يناسبها من وعي، سيكونون قادرين علي أن يخلقوا تحولا حقيقيا في حياتهم، و أن ينقذوا البلدان الاسلامية ممّا تعانيه اليوم من ضعف و تبعية و تخلّف و انحطاط.
نداء التوحيد والوحدة
قال الله الحكيم: (انّ هذه امتكم امة واحدة و أنا ربكم فاعبدون) الانبياء / 92
يعود مرة أخري موسم الحج، و يعود معه المشهد الاستعراضي العظيم المدهش المفعم بالحركة والنشاط في قاعدة الوحي والنبوة. أمواج بشرية هادرة من الشعوب الاسلامية تتحرك من كل حدب و صوب لتصب في البحر الكبير، ولتجسد تعايش الامة الواحدة تحت لواء التوحيد. مشاعر مترابطة تجمع هذه الكتل البشرية، تفصح عن آمال هذه الامة الاسلامية العظيمة و آلامها و تطلعاتها و قدراتها.
ساحة الحج تستضيف الان أناسا من ايران و العراق، من فلسطين و لبنان، من شبه القارة و شمال أفريقيا، من تركيا و البوسنة، و من أرجاء آسيا و اروبا. هذه الافئدة المشتاقة تستطيع أن تتحدث عما تحمله قلوب الامة الاسلامية، و انما الحج من أجل هذا التقارب و التجاوب بين المسلمين من جميع أرجاء العالم.
الرباط المقدس الذي يشدّ كلّ هذه القلوب هو نفسه النداء الذي انطلق لاول مرّة من هذه الارض، و ملا الخافقين طولا و عرضا و امتدّ علي كل مساحة التاريخ ... انه نداء التوحيد والوحدة، توحيد الله و وحدة الامة. التوحيد: رفض الوهية الطواغيت والمستكبرين و جبابرة الثروة والقوة. الوحدة: مظهر عزّة المسلمين و قدرتهم ...
العالم الاسلامي يحسّ بهبوب نسيم الصحوة الاسلامية علي وجهه المرهق الملتهب. و يري مظاهر ذلك في كل بقاع العالم الاسلامي خاصة في ايران العزّة والجهاد، وكذلك في فلسطين و لبنان. نور الامل يملا قلوب الشباب في كل مكان، و طلاسم تحكّم الغرب و اهانته و تحقيره للشعوب قد انفضّت. و هذه الفرصة لم تتوفر مجانا، بل بتضحية آلاف الارواج الطاهرة علي هذا الطريق. و ما نستقبله من درب هو أيضا صعب طويل، لكنه مفعم باليقين و خال من أي شك و ترديد.
الشعب الفلسطيني أخذ علي عاتقه اليوم السهم الاكبر من مسؤولية شقّ هذا الطريق والسير عليه. و علي الجميع أن يعاضدوا هذا الشعب المظلوم والشجاع و المتيقظ. الشعوب الاخري تستطيع بمناصرتها الشعب الفلسطيني البطل أن تفي بسهمها في مواصلة هذا الطريق.
الحرب النفسية المعادية
العدو المستكبر الذي يري في الصحوة الاسلامية تهديدا لاطماعه و مصالحه العدوانية، عمد الي أهم ما في يده من سلاح لمواجهة هذا المدّ المتصاعد، و هو سلاح الحرب النفسية: استعراض العضلات، و سيشهد المستقبل ممارسة آلاف الادوات والاساليب الاعلامية الاخري ... كلّ ذلك من أجل بثّ اليأس في قلوب المسلمين من مستقبلهم، و بالتالي دعوتهم الي مستقبل منسجم مع أهدافه الخبيثة. هذه الحرب الثقافية و النفسية منذ بداية عصر الاستعمار حتي الان كانت أمضي أسلحة الغرب في فرض سيطرته علي البلدان الاسلامية. و كانت هذه السهام السامة تستهدف بالدرجة الاولي النخب والمثقّفين ثم سائر الجماهير. و مواجهة هذه الدسيسة انما يكون بالاعراض عن ثقافة الغرب المتهكمة المفروضة.
الثقافة الغربية يجب غربلتها حتي يؤخذ منها ما كان مفيدا، و يلفظ من الفكر والعمل ما كان منها مضرا و مخربا و مفسدا.
والحكم في هذه الغربلة الكبري الثقافة الاسلامية و ما يقدمه القرآن والسنة من فكر معطاء و ضاء و موجه. هذا فصل أساسي من النضال الشامل الواعد الذي ينههض به علماء الدين والمثقفون و السياسيون المخلصون في جميع أرجاء العالم.
علي آمل أن يستطيع حجّ هذا العالم ترسيخ و تقوية عزم الجميع علي مواصلة هذا الطريق المبارك الكريم.(2)
قائد الثورة: بعض التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي لا تستحق الرد مطلقًا
رأى قائد الثورة الإسلامية صباح اليوم (السبت) 17/5/2025، في لقائه مع جمعٍ من المعلّمين، أنّ من الضروري رسم صورة لائقة للمعلّم، وأن يُنشأ في الرأي العام تصوّرٌ جذّاب، نابض بالحيوية، ومحبَّب عنه، مؤكداً أنّ ذلك يتطلّب عملاً فنياً وإعلامياً من المؤسّسات المسؤولة.
وأشار سماحته إلى تصريحات الرئيس الأمريكي خلال زيارته الأخيرة إلى المنطقة، وقال: «بعض هذه التصريحات التي أُدلي بها أثناء زيارة الرئيس الأمريكي إلى المنطقة، لا تستحق الرد مطلقًا، إذ بلغ مستوى الكلام حدّ الخزي لقائله والعار للشعب الأمريكي».
ووصف الإمام الخامنئي كلام ترامب بشأن رغبته في استخدام القوة من أجل السلام بالكذب، وأضاف: «لقد استخدم الرئيس الأمريكي، والمسؤولون الأمريكيون، والحكومات الأمريكية، القوة لارتكاب مجازر إبادة في غزة، ولإشعال الحروب حيثما استطاعوا، وكذلك لدعم مرتزقتهم».
ورأى سماحته أنّه يمكن استخدام القوة لإرساء السلام والأمن، وقال: «نعم، يمكن استخدام القوة من أجل تحقيق الأمن والسلام؛ ولهذا السبب سنواصل تعزيز قوتنا وقوة بلادنا، يوماً بعد يوم».
وأشار قائد الثورة الإسلامية إلى تصريح سابق للرئيس الأمريكي زعم فيه أنّ بلدان المنطقة لا تستطيع الاستمرار في حياتها لعشرة أيام بدون أمريكا، وتابع قائلاً: «وما زال حتى الآن يقدّم النموذج نفسه لهؤلاء، في علاقاته، وسلوكه، ومقترحاته، ويسعى إلى فرضه عليهم. ومن المؤكّد أن هذا النموذج مصيره الفشل. وبإرادة شعوب المنطقة، لا بدّ لأمريكا أن تغادر هذه المنطقة، وستغادر حتماً».
كما عدّ سماحته الكيان الصهيوني بؤرةَ الفساد وسببَ الحروب والخلافات في المنطقة، وأكّد قائلاً: «لا بدّ من استئصال الكيان الصهيوني، الذي يُعدّ الغدّة السرطانية الخطِرة والمُهلكة في غربي آسيا، وسيُستأصل حتماً».
وفي جانب آخر من كلمته، وصف الإمام الخامنئي مبادئ الجمهورية الإسلامية ومنظومتها القِيَميّة، التي تقوم عليها حركتها في هذه المنطقة المليئة بالتحديات، بأنها مبادئ واضحة ومحددة، وأضاف: «لا يمكن مقارنة إيران اليوم بإيران الأمس؛ فقد حقّقت إيران العزيزة، بفضل الله وتوفيقه، وعلى رغم أنوف الأعداء، وخلافاً لإرادتهم، تقدّماً كبيراً. وسيرى شبابنا في المستقبل، من خلال تعاونهم ومشاركتهم، أنّ هذا البلد سيتقدّم أضعاف ما هو عليه اليوم».
وفي جزء آخر من كلمته، شدّد قائد الثورة الإسلامية على ضرورة أن يكون هيكل التربية والتعليم موجَّهًا نحو تربية التلاميذ علميًّا وثقافيًّا وإيمانيًّا، مشيرًا إلى وجوب مواصلة إعداد خريطة طريق للتربية والتعليم، وقال: «يجب أن يتولّى إعداد الهيكل الجديد للتربية والتعليم أشخاصٌ ماهرون، مجرَّبون، متمسّكون بالدين واستقلال البلاد، لكي يُربَّى الشباب والناشئة، وفق هذا الهيكل الجديد، على العِلم، والإيمان، وحبّ إيران، وحبّ العمل والمثابرة، والأمل بالمستقبل».
وأشار الإمام الخامنئي إلى أهمية الكتب الدراسية، مذكّرًا بتوصياته السابقة، واصفًا إدراج موضوعات مثل أسماء العلماء المسلمين أو صفحات من وثائق وكر التجسس في الكتب الدراسية بأنه ضروري، لكنه غير كافٍ، وأضاف: «ينبغي أن يكون الكتاب الدراسي، من حيث المضمون، ممتعًا وجذّابًا، بحيث تُقدَّم فيه الموضوعات العلمية الثقيلة بلغة مبسّطة وعذبة تصل إلى ذهن الطالب بسهولة».
وفي سياق حديثه عن أهمية العدالة التعليمية، أكّد سماحته أنّ هذه المسألة «لطالما كانت موضع تأكيد»، مشيرًا إلى أنّ العدالة التعليمية لا تعني إهمال أصحاب المواهب المتفوّقة، وأنّ الاهتمام بمؤسسات مثل "المنظمة الوطنية لتنمية المواهب اللامعة" ودعم الشباب الموهوبين لتحقيق قفزات نوعية أكبر لا يُخالف العدالة، بل هو عَيْن العدالة التعليمية.
كما تطرّق الإمام الخامنئي إلى مسألة إهمال المعاونية التربوية وإلغائها سابقًا، وأعرب عن سروره للاهتمام الجيّد بهذا المجال اليوم، مشدّدًا على ضرورة متابعة شؤونه بأفضل صورة ممكنة.
ما هو دور السمع في تكامل الإنسان؟
تُعدّ حاسّة السمع إحدى أهمّ الطرائق والوسائل التي يتلقّى الإنسان فيها المعرفة حيث يستمع إلى الكلام ثمّ يستيقن.
قال الله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾[1].
يقول الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "أيّها السائل، استمع ثمّ استفهم ثمّ استيقن ثمّ استعمل"[2].
الاستماع أوّلاً ثمّ الإدراك ثمّ الاعتقاد، وبعد ذلك التطبيق والعمل.
ومن هذا النصّ نفهم أنّ مفتاح الباب الذي يفضي إلى المعرفة والعلم هو السمع ولذا يمكن القول إنّ القوّة السمعيّة تمثّل الحسّ الاجتماعيّ العامّ وبالتالي فهي أشرف من القوّة البصريّة.
وقد ورد في خصوص شهر رمضان تأكيد اجتناب ما لا يجوز سماعه، عن رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "وغضّوا ... عمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم"[3].
السمع السيّء
بيّن الروايات والأحاديث نوعين من الاستماع، سيّْ وحسن، فينبغي تعويد الأذن على حسن الاستماع، ومنعها عن سوء الاستماع. يقول أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): "عوّد أذنك حسن الاستماع، ولا تصغِ إلى ما لا يزيد في صلاحك"[4].
فالأوّل، وهو السمع السيّء، ونذكر من مصاديقه:
أ- سماع الغيبة: عن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام):: "سامع الغيبة أحد المغتابين"[5].
ب- سماع الهجر من القول: عن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "سامع هجر القول شريك القائل"[6].
ج- سماع الغناء: قال رجل للإمام جعفر الصادق (عليه السلام): إنّ لي جيراناً، ولهم جوارٍ يتفيّئن ويضربن بالعود، فربّما دخلت المخرج فأطيل الجلوس استماعاً منّي لهنّ... فقال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "تالله أنت! أما سمعت الله عزّ وجلّ يقول: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾[7],[8].
د- سماع كلّ محرّم: عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "فرض على السمع أن يتنزّه عن الاستماع إلى ما حرم الله، أن يعرض عمّا لا يحلّ له، ممّا نهى الله عزّ وجلّ عنه، والإصغاء إلى ما أسخط الله عزّ وجلّ، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾[9],[10].
هـ- استماع اللغو: قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾[11].
و- أن لا يتتبّع ما لا يعلمه ولا يعنيه: قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾[12].
فينبغي للمكلّف أن يكرم نفسه وسمعه، بأن لا يستمع إلى ما حرّمه الله تعالى، وأن يكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾[13].
السمع الحسن
أمّا النوع الثاني من السمع، فهو النوع الحسن، والذي يجب تعزيزه والاهتمام به، ومن مصاديقه:
أ- السمع الواعي: عن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "إذا لم تكن عالماً ناطقاً، فكن مستمعاً واعياً"[14].
ب- سماع الكلام الحسن: عن الإمام علي زين العابدين (عليه السلام): "لكلّ شيء فاكهة، وفاكهة السمع الكلام الحسن"[15].
ج- سماع الذكر: عن الإمام (عليّ عليه السلام): "سامع ذكر الله ذاكر"[16].
د- سماع الصلاح: عن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "عوّد أذنك حسن الاستماع، ولا تصغِ إلى ما لا يزيد في صلاحك"[17].
نزّه سمعك عن الغناء
الغناء هو ترجيع الصوت على الوجه المناسب لمجالس اللهو، وهو من المعاصي ويُحرّم على المغني والمستمع، وأمّا الموسيقى فهي العزف على آلاتها، فإن كانت بالشكل المتعارف في مجالس اللهو والعصيان، فهي محرّمة على عازفها وعلى مستمعها أيضاً.
فالغناء من المحرّمات التي جاء بها الكتاب، يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾[18].
وفي الرواية عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام): "الغناء ممّا وعد الله عليه النار"، وتلا هذه الآية[19].
وفي رواية أخرى عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "الغناء يورث النفاق، ويعقب الفقر"[20].
كما أنّه يُحرّم الاستماع للغناء فإنّه لا يجوز الحضور في مجلس الغناء والموسيقى المطربة اللهويّة المناسبة لمجالس اللهو والعصيان، إذا أدّى ذلك للاستماع إليها أو إلى تأييدها.
أثر الغناء على القلب
للاستماع إلى الغناء أثر كبير في القلب الذي يهمّ السالكين إلى الله تعالى أن يبقى أبيضَ ناصعاً غير ملوّث بأكدار المعاصي.
عن الرسول الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): "إيّاكم واستماع المعازف والغناء، فإنّهما ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل"[21].
والبقل مع وجود الماء ينمو بسرعة كبيرة جدّاً، وكذلك النفاق في القلب الذي يدخل فيه الغناء فإنّه ينبت فيه النفاق بسرعة كبيرة أيضاً.
[1] القرآن الكريم، سورة الملك، الآية 23.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 456.
[3] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج7، ص227.
[4] التميميّ الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص 457.
[5] المصدر نفسه، ص 400.
[6] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 284.
[7] القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية 36.
[8] الفيض الكاشاني، محمّد بن مرتضى، تفسير الصافي، تحقيق وتصحيح حسين الأعلميّ، مكتبه الصدر، إيران - طهران، 1415ه، لا.ط، ج 3، ص 192.
[9] القرآن الكريم، سورة النساء، الآية 140.
[10] راجع: الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 35.
[11] القرآن الكريم، سورة القصص، الآية 55.
[12] القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية 36.
[13] القرآن الكريم، سورة الفرقان، الآية 72.
[14] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 136.
[15] الحلواني، حسين بن محمّد بن حسن بن نصر، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، تحقيق وتصحيح ونشر مدرسة الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، إيران - قمّ، 1408ه، ط1، ص 71.
[16] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 283.
[17] التميميّ الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص 457.
[18] القرآن الكريم، سورة لقمان، الآية 6.
[19] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج17، ص 305.
[20] الشيخ الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، الخصال، مصدر سابق، ج1، ص24.
[21] المتقي الهندي، كنز العمال، ج15، ص221.
الشهوات نقيض الهمّة العالية
إذا كانت همّة المرء هي جناحيه اللذَيْن يطير بهما، فإنّ شهوته وخلوده إلى الشهوات والغرائز هي التي تضع المرء وتحطّ من قدره، فعن عليّ عليه السلام قال: "ما رفع امرأً كهمَّته ولا وضعه كشهوته"[1].
فالمؤمن الرساليّ لا سيّما العامل المتصدّي لإدارة الشأن العامّ ينبغي أن يصرف همته فيما بين يديه من أعمال وأن لا تكون ساحة العمل ساحة لشهوات التسلية وتمضية الوقت والزيارات العبثية واللهو والمشاركة في جلسات النيل من هذا وغيبة ذاك السخرية من آخر.
وعليه فعلوُّ الهمَّة سيف ذو حدّين، فكما يمكن استغلالها في الطاعة والعبادة وإتقان الأعمال فإنه يمكن استغلالها في المعصية والبعد عن الله، ولذلك اهتمّت النصوص الشريفة ببيان ما ينبغي طلبه بعلوّ الهمّة:
أ- التقرّب إلى الله: فعن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "واصرفوا همتكم بالتقرّب إلى الله"[2].
وفي دعاء للإمام علي السجّاد (عليه السلام): "فقد انقطعت إليك همتي. وفي دعاء آخر وهَبْ لي.......همةً متصلة بك"[3].
ب- بناء الآخرة: فعن الإمام محمد الباقر (عليه السلام): "ولتكن همّتك لما بعد الموت"[4].
ج- تزكية النفس وإصلاح الناس: فعن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "إن سمَتْ همتّك لإصلاح الناس فابدأ بنفسك، وإنّ تعاطيك إصلاح غيرك وأنت فاسد أكبر عيب"[5].
نعم فلا يمكن أن يكون المرء جزءاً من المشكلة ويقدّم نفسه على أنه جزءٌ من الحلّ، فالإنسان الفاسد لا يمكنه أن يكون جزءاً من إصلاح الناس، فالعالم الفاسد أو الحاكم الظالم أو الأستاذ الفاشل أو المربي السيِّئ أو أصحاب المقامات العليا في السلطة، فإنّ كلّ هؤلاء لا يمكن أن يرقوا بالمجتمع في معارج الكمال ما لم يصلحوا أنفسهم أوّلاً.
بناء الهمة العالية
والهمّة العالية ليست أمراً، بل يعمل المرء على اكتسابه وتحصيله عبر عوامل عديدة أهمها:
أ- أن يعي الإنسان الدور الذي أناطه الله به وأنه خليفة الله في أرضه، وأنّ التقصير في هذا الأمر هو خيانة للرسالة.
ب- تعويد النفس على الفضائل ومكارم الأخلاق من الشجاعة والإقدام والصبر والثبات والجدّ والاجتهاد والتواضع و....
ج- صحبة أولي الهمم العالية وعدم مجالسة الأفراد المتثاقلين ومثبطي العزائم، فقد ورد عن رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله) وسلم: "إنّ من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشرّ".[6]
ومن أهمّ الساحات التي ينبغي أن يتجلّى فيها علوّ الهمّة هي المشاركة الفعّالة في التغيير السياسي والاجتماعي من إعلاء الصوت والاستنكار الميداني ومواجهة الظلم ورفع الفساد بكافّة الوسائل المتاحة.
وعلوّ الهمّة يتطلّب من الإنسان السعي والمثابرة والجدّ والسهر وعدم الاستسلام للخطأ والإيمان القوي بما يقوم به، ولعلّ من أبرز الأمثلة والمصاديق اليوم ما استطاعت المقاومة أن تحقّقه من إنجازات وانتصارات بفضل ثبات مجاهديها وعلوّ همّتهم وإصرارهم على إلحاق الهزيمة بالعدوّ رغم كلّ التفاوت في العدّة والعتاد.
[1] عيون الحكم والمواعظ، ص484.
[2] ميزان الحكمة، ج4، ص3469.
[3] الصحيفة السجادية (ابطحي)، الإمام زين العابدين عليه السلام، ص412.
[4] حاشية مجمع الفائدة والبرهان، الوحيد البهبهاني، ص24.
[5] ميزان الحكمة، ج3، ص2206.
[6] الخير والبركة في الكتاب والسنة، محمد الريشهري – ص 77